فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الفولكلور.. شكل خاص من أشكال الإبداع - بيتر بوغا تيريف / رومان ياكوبسون

العدد 45 - أدب شعبي
الفولكلور..  شكل خاص من أشكال الإبداع - بيتر بوغا تيريف / رومان ياكوبسون
كاتب من الأردن

ترجمة الكاتب

أهم ما يميز النصف الثاني من القرن التاسع عشر - تغلّب الاتجاهات الحديثة في الفكر العلمي على فتور الفكر النظري الواقعي الساذج وعدم اكتماله. فقد انشغل ممثلو هذه الاتجاهات في حقل العلوم الإنسانية بجمع المادة وبحث المهمات الاختصاصية الملموسة، وافتقدوا الميل إلى إعادة النظر في المقدمات الفلسفية. ولهذا، كان من الطبيعي أن يتخلفوا فيما يتعلق بالمبادئ النظرية، ومع ذلك اتسع انتشار الواقعية الساذجة، واشتد في أحيان أخرى حتى مطلع هذا القرن (القرن العشرون).

ولما كانت النظرة الفلسفية للواقعية الساذجة مخالفة جداً للأبحاث العصرية (في أحسن الأحوال هناك، حيث لم تصبح بعد تعاليم تلقينية أو دوغما لا تدحض)، فإن ثمة عدة صيغ كاملة تبدو نتيجة مباشرة لمقدمات العلم الفلسفية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما تزال تسكن حقول العلم المختلفة حول الثقافة كحصاة مهرّبة أو رواسب تعيق تطور العلم.

المنتج النمطي للواقعية الساذجة هو مقولة النحويين الشباب المنتشرة بشكل واسع، التي ترى أن اللغة الفردية هي اللغة الفعلية الوحيدة. هذه المقولة تثبت في نهاية الأمر أن لغة إنسان معين في لحظة معينة هي واقع فعلي، وما عدا ذلك ـ يبقى تجريدات علمية نظرية. إذن فليس غريباً لهذه الدرجة على الاتجاهات المعاصرة في علم اللغة أن تصبح هذه المقولة أحد الأركان الأساسية في نظرية النحويين الشباب.

يعرف علم اللغة الحديث إلى جانب الفعل القولي الفردي المنعزل «parole» وفق مصطلح دي سوسيور، مصطلحاً آخر «langue»، يعني: «مجمل المواضعات التي ثقفتها جماعة معينة كي تضمن الفهم المشترك للكلام». ويمكن لأي متكلم في هذه المنظومة التقليدية البينيّة أن يدرج بعض التبدلات الأحادية التي تُؤوَّل كانزياحات فردية عن اللغة «parole»، وفي حدود العلاقة مع الأخيرة فقط. وتغدو هذه الانتحاءات من حقائق اللغة بعد أن تتقبلها الجماعة (حامل اللغة)، وتوافق عليها، وبعد أن تقرها كلغة متداولة، وهنا يحدث التباين بين التغيرات اللغوية والأخطاء الفردية في الكلام، أو ما يسمى (سقطات)، التي تنتج عن الانحرافات الفردية أو التأثر الشديد أو نشوة المتحدث الانفعالية الجمالية من جانب آخر.

إذا تناولنا هذا الاستحداث اللغوي أو ذاك؛ فإننا نستخلص حالات تتجلى فيها التغيرات اللغوية بفضل إشاعتها اجتماعياً، وتعميم الأخطاء الفردية (السقطات) في الكلام، والحماسة الفردية أو تشوهات التعابير الجمالية. وتنبع التغيرات اللغوية بطريقة أخرى أيضاً، وذلك حينما تأتي نتيجة حتمية ومنطقية لما يجري في اللغة من تبدلات تتجسد مباشرة في «langue» (التطور الذاتي في البيولوجيا). لكن، مهما كانت ملابسات التغيرات اللغوية، فنحن نستطيع الحديث عن «ولادة» التشكيلات اللغوية من تلك اللحظة التي تصبح فيها حقيقة اجتماعية، يعني عندما تستوعبها الجماعة اللغوية وتتقنها.

لنفترض أن أحد أفراد الجماعة أنشأ تعبيراً ما بطريقة فردية. إذا كان هذا التعبير شفوياً، ولم يتقبل الجمهور هذا العمل الذي ابتدعه الفرد لسبب أو لآخر، ولم يُستوعب من قبل أعضاء الجماعة الآخرين – فإنه محكوم عليه بالاندثار والفناء.

ما ينقذ أي استحداث جديد هو الصدفة، كأن يدوّن من قبل أحد المهتمين بالتجديدات، حينئذٍ ينتقل من مجال الإبداع الشفوي إلى مجال الأدب المكتوب.

ونسوق هنا ما حدث مع شاعر فرنسي من ستينات القرن التاسع عشر، كان يسمّي نفسه الكونت دي لوتريامون، وهو مثال نموذجي لما يدعى «الشعراء الملاعين» «poêts maudits»، يعني المرفوضين من معاصريهم والمسكوت عنهم وغير المعترف بهم. أصدر هذا الشاعر كتيباً صغيراً لم يجد أي اهتمام ولم يلتفت إليه أحد، ولم يكن له أي حضور، مثله مثل بقية أعمال الشاعر، التي ظلت حبيسة الأدراج. كان عمره حينما وافاه الأجل لا يزيد على 24سنة. مرت عشرات السنين. ظهر بعدها في الأدب ما يسمى الاتجاه السيريالي، حيث وجدت أشعار لوتريامون بعض الأصداء في هذه الحركة. استعاد لوتريامون اعتباره: أخذت تصدر أعماله بشكل واسع، وشرعوا يمجدونه كشاعر كبير، وذي تأثير عظيم. ولكن، ماذا كان يمكن أن يحصل مع لوتريامون، لو أنه كان مؤلف أعمال شعرية شفوية؟ فإن أشعاره كانت ستزول بلا آثر مع موته.

أوردنا هنا مثالاً لحالة متطرفة. العمل هنا تم رفضه كلياً. لكن يمكن أن يقتصر عدم التقبل وعدم الاعتراف على بعض الملامح الجزئية والخواص الشكلية، أو على بعض الأغراض. في هذه الحالات، فإن الحاضنة تقوم بتحوير العمل وفق منوالها، وكل ما تم رفضه من قبل البيئة المحيطة لم يحظ بالبقاء كحقيقة فولكلورية، يخرج من الاستعمال ويفنى.

إحدى بطلات رواية غونشاروف «الهوة السحيقة» اندفعت لتعرف نهاية الحبكة قبل أن تبدأ بالقراءة. لنفترض أن القارئ الجماهيري فعل ذلك في لحظة ما. يمكنه أثناء القراءة أن يستبعد كمثال وصف الطبيعة، الذي يعتقد أنه يعيقه ويعتبره حجر عثرة. لكن مهما شوه القارئ الرواية، ومهما تعارض معمارها مع متطلبات المدارس الأدبية في عصر ما، ومهما كان تلقى الرواية من الآخرين، فإنها تبقى كاملة وغير ناقصة في كينونتها الحيوية، يأتي يوم ما وزمن ما يُعيد الاعتبار لبعض الملامح التي لم يعترف بها من قبل.

لكن لنجرب نقل هذه الحقائق إلى مجال الفولكلور: لنفترض أن الجمهور يتطلب أن يكون الحل في البداية، نجد أن أي سرد فولكلوري يخضع حتماً لشكل البناء، الذي نعثر عليه في سردية تولستوي «موت إيفان إيليتش»، إذ يسبق فك اللغز بداية السرد. إذا لم يعجب الجماعة وصف الطبيعة، فإنه يُحذف من تلاوين الفولكلور وهكذا. وبكلمة واحدة، يحتفظ الفولكلور بالأشكال التي تبدو مفيدة وظيفياً للجماعة. وهنا نتفهم إمكانية استبدال إحدى وظائف الشكل بأخرى. عندما يفقد الشكل وظيفته يتلاشى في الفولكلور، بينما في العمل الأدبي يظل يحتفظ بوجوده وطاقته الكامنة.

وثمة مثال آخر من التاريخ الأدبي: ما يسمى من الأدباء بـ«الرفقاء الخالدين»، الذين تؤوَّل أعمالهم بأشكال متباينة عبر العصور من قبل الاتجاهات المختلفة، كل يؤوِّل وفق رؤيته وبشكل جديد. إن بعض خصوصيات هؤلاء الأدباء، التي كانت تعتبر غريبة غير مفهومة وغير ضرورية وغير مقبولة من المعاصرين، تحظى فيما بعد بتقييم عالٍ، وتبدو فجأة ذات أهمية كبيرة، يعني تصبح عوامل أدبية مثمرة. وهذا لا يحدث إلا في حقل الأدب. ماذا كان يمكن أن يحدث على سبيل المثال لإبداع ليسكوف الشعري الشفوي، المترافق بإبداع قولي «في غير زمانه»، الذي أضحى بعد عشرات السنين فقط عاملاً فاعلاً في إبداع ريميزوف وما بعده من الكتاب الروس؟ كان يمكن لبيئة ليسكوف أن تطهِّر إبداعه من الكلام الوحشي. وبكلمة واحدة، أن ما يسمى مفهوم التقاليد الأدبية تختلف بصورة عميقة عن مفهوم التقاليد الفولكلورية. في مجال الفولكلور إمكانية إعادة بعثها غير ممكنة، في حين أن حقائق الأدب الغارقة في القدم تظهر ثانية وتغدو حقائق فاعلة. وهذا ينطبق على الأساليب في كلتا الحالتين.

مما قيل أعلاه يبدو بوضوح أن وجود العمل الفولكلوري يفترض وجود جماعة تتقنه وتقره. وعند دراسة الفولكلور يجب الأخذ بعين الاعتبار الرقابة التمهيدية للجماعة كعامل رئيس. ونحن نستخدم بوعي تعبير «تمهيدي» لأن الحديث عند النظر في حقائق الفولكلور لا يدور على اللحظات التي تسبق الظهور، ولا عن «الأحمال» أو الوجود الجنيني، وإنما عن «ولادة» الحقائق الفولكلورية كما هي وعن مصيرها المستقبلي.

يدافع دارسو الفولكلور، لاسيما السلاف منهم، الذين يمتلكون أغنى مادة فولكلورية في أوروبا عن الفكرة القائلة: أن ليس ثمة فوارق بين الإبداع الشفوي والأدب، حيث أننا في الحالتين نتعامل معهما كنتاجات إبداع فردي غير مشكوك بها. تعود نشأة هذه الحالة لتأثير الواقعية الساذجة: حيث لم يُقدم لنا الإبداع الجماعي في أي تجربة واضحة. ولهذا، علينا أن نفترض وجود مبدع فردي ما، ويعتبر فسيفولد ميللر النحوي النمطي في اللغة كما في علم الفولكلور أن الإبداع الجماعي للجماهير وهم، لأنه افترض أن التجربة الإنسانية لم ترصد مثل هذا الإبداع قط. وهنا، بدون شك يجد تأثير المحيط اليومي جلاء له. ليس الإبداع الشعبي، وإنما الأدب المكتوب يبدو لنا شيئاً عادياً وشكلاً إبداعياً معروفاً جداً. وهكذا، فإن التصورات الاعتيادية تتكاثف مركزياً في حقل الفولكلور. وعليه، تعتبر لحظة ولادة العمل الأدبي هي لحظة ترسيخه على الورق من قبل المؤلف، وفي مقابل ذلك فإن اللحظة التي يتموضع فيها العمل الشفوي لأول مرة، يعني يُؤدى من قبل المؤلف، يؤول كلحظة الولادة، مع أنه في الواقع يصبح حقيقة فولكلورية من لحظة قبوله من قبل الجماعة وحسب.

أنصار مقولة الطابع الفردي لإبداع الفولكلور يميلون إلى وضع مؤلِّف مجهول بدلاً من الجماعة. على سبيل المثال في أحد القيادات المعروفة في الإبداع الروسي الشفوي جاء فيها ما يلي: «بهذا الشكل، يتضح أنه وحتى في الأغنية الأنشودة الطقسية، إذا كنا لا نعرف من هو منشئ الطقس، ومن كان أول من أنشأ الأنشودة الأولى، فإن هذا لا يتعارض مع الإبداع الفردي، ولكنه يقول أن الطقس قديم جداً بحيث أننا لا نستطيع أن نشير إلى مؤلفه، ليست ملابسات النشأة القديمة هي المرتبطة بشدة بطقس الأغنية، ولكن في أنه نشأ في بيئة لا تهتم بشخصية المؤلف، ولهذا لم يتم الاحتفاظ بذكره. وبهذه الصورة فإن فكرة الإبداع الجماعي، هنا لا أساس لها». هنا لم يتم الانتباه إلى أن الطقس بدون قبول الجماعة له غير ممكن، وأن هذه عبارة عن contradictio in adjecto وحتى لو كان في منبع هذا الطقس أو ذاك نفحة فردية، فإن الطريق منه إلى الطقس بعيدة جداً، كما هو حال الطريق من الانحراف الفردي في الكلام إلى التغيير في اللغة.

ما قيل حول الطقس (أو حول نشأة أعمال الإبداع الشفوي) يمكن أن نستعمله عند النظر في تطور الطقس (وعليه في مسألة التطور في الفولكلور عامة). ما هو مقبول في اللسانيات حول التباين بين تغير المعيار اللغوي والانزياح الفردي عنه، التباين الذي لا يقتصر على الدلالة الكمية، وإنما هو دلالة مبدئية نوعية، هذا ما يزال غريباً وبعيداً جداً عن الفولكلور.

أحد أهم المعايير الأساسية في الاختلاف بين الفولكلور والأدب هو مفهوم كينونة الإبداع الفني نفسه.

الرابطة في الفولكلور بين العمل من جانب وتموضعه، يعني ما يسمى بروايات هذا العمل لدى أدائه من قبل مختلف فئات الناس من جانب آخر، مماثل تماماً للعلاقة بين parole وLangue. النتاج الفولكلوري مثله مثل اللغة Langue ليس شخصياً، ويتواجد كطاقة احتمالية وحسب، إنه مركب من أعراف ودوافع معروفة، ومجرى التقاليد الفعالة حيث يقوم المؤدون بتوشية الإبداع الفردي بالزخرفات، كما يفعل منتجوparole بخصوص Langue، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن المغنين لا ينشدون النص المثبت، وإنما يقومون بإعادة إنتاجه ثانية. وبقدر ما تستجيب هذه التشكيلات الجديدة /الفردية في اللغة (كما هو الحال في الفولكلور) لمتطلبات الجماعة، وتتبارى مع التطور المنطقي للغة Langue (ووفق ذلك الفولكلور)، بقدر ما تعمٍّر اجتماعياً وتصبح حقائق لغة (بما يتفق وعناصر المنتج الفولكلوري).

العمل الأدبي متموضع، وهو يتواجد بشكل ملموس مستقلاً عن القارئ، وكل قارئ يليه يتوجه مباشرة إلى هذا العمل. وهذا ليس درب الأثر الفولكلوري من مؤدٍ لمؤدٍ آخر، وإنما الطريق من العمل إلى المؤدي، ويمكن حقاً أن يؤخذ التأويل الذي يسبق المؤدين بالاعتبار، لكنه أحد العناصر المكونة لتلقي العمل، وهو ليس المنبع الواحد كما في الفولكلور. لا ينبغي مطابقة دور المؤدي في العمل الفولكلوري بأي شكل لا بدور القارئ ولا بدور القارئ التالي، ولا بدور المؤلف. فمن وجهة نظر مؤدي العمل الفولكلوري تعتبر هذه الأعمال من حقائق اللغة Langue، يعني أنها خارج النطاق الشخصي، تتواجد مستقلة عن المؤدي، حتى ولو كانت تسمح بالتشويه وإدخال مادة إبداعية جديدة أو ذات أهمية وخلطها بالحقيقية. أما ما يخص مؤلف العمل الأدبي فإن هذه هي حقائق parole؛ إنها ليست معطاة مسبقاً، وإنما هي من عطاء التجسيد الفردي. ما هو معطى هو مركب الأعمال الفنية الفاعلة في اللحظة الراهنة، التي على أرضيتها، يعني على أرضية التمثيل الفولكلوري لها، ينشأ العمل الفني الجديد (في هذه الحالة هو أحد هذه الأشكال التي تُستوعب، وأشكال أخرى تتشكل، وثالثة يستغنى عنها).

الاختلاف البائن بين الفولكلور والأدب في أن الأول يتصف بالاعتماد على اللغة Langue، أما الثاني فيتجه إلى الكلام parole، ووفق بوتيبنيا الذي قدم توصيفاً عادلاً لمجال الفولكلور، فإن المنشئ نفسه هنا لا يملك الحق أو الأسس لاعتبار هذا العمل من صنيعه، ولا اعتبار أعمال الآخرين من الدائرة نفسها غريبة عنه. إن الدور الرقابي الذي تقوم به الجماعة متباين في الأدب وفي الفولكلور – كما ذكرنا أعلاه. في الأخير تحمل الرقابة طابعاً أوامرياً، وهي مقدمة ضرورية لنشأة الأعمال الفنية. الكاتب بدرجة أو بأخرى يوجه اهتمامه ويتفهم متطلبات البيئة، حتى ولو أنه لم يتكيف بشكل ما معها، أما ما يتصف به الفولكلور فهو التأثير الصارم للرقابة، والإنتاج يغيب في هذه الحالة. العمل الفني لا تحدده الرقابة مسبقاً ولا يخلو نهائياً منها، إنها تقريبية – جزء منها صحيح وجزء آخر غير صحيح- تأخذ بالاعتبار المتطلبات، وبعض حاجات الجمهور لا تؤخذ بالاعتبار أبداً.

العلاقة بين الأدب ومستهلكيه يجد مثيلاً قريباً وموازياً له في مجال الاقتصاد، لا سيما فيما يسمى «إنتاج الوفرة»، بينما يقترب الفولكلور من «الإنتاج حسب الطلب».

عدم التطابق بين متطلبات الوسط والعمل الأدبي يمكن أن تكون نتيجته الإخفاق، أو يكون اختلافاً متعمداً مقصوداً من قبل المؤلف في سعيه لإرضاء متطلبات الوسط، وتهذيبه أدبياً، هذه المحاولة من الكاتب للتأثير على الترويج يمكن أن تؤدي إلى الفشل أو أن تكون غير ناضجة. الرقابة لا تتنازل، بين معاييرها والعمل يندلع التناقض، البعض يميل إلى تمثيل نفسه كمبدع فولكلور على غرار «الأديب» ومثيله، إلا أن هذا التشبيه غير دقيق. في مقابل «الأديب» فإن «منشئ الفولكلور» لا يبني - حسب ملاحظة أنيشكوف الدقيقة - «أي بيئة جديدة»، وأي نية لتشكيل بيئة جديدة غريبة عنه بشكل كامل: السيطرة التامة للرقابة المسبقة التي تدين أي نزاع للعمل مع الرقابة غير مثمر، وهذا يكوّن نمطاً خاصاً من المشاركين في الإبداع الشعري، ويضطر الشخص للتخلي عن أي تعدٍ للتغلب على الرقابة.

في فهم الفولكلور كإبداع فردي بلغ اتجاه استبعاد الحدود بين تاريخ الأدب وتاريخ الفولكلور أوجه. ونحن نفترض، من إدراكنا لما قيل أعلاه، أن هذه الأطروحة ينبغي أن تتعرض لإعادة نظر أساسية. لكن، هل إعادة النظر هذه عليها أن تعيد الاعتبار للتصور الرومانسي، الذي انتقده بشدة ممثلو وجهة النظر المذكورة؟ لا شك. في وصف التباين بين الإبداع الشعري الشفوي والأدب، الذي طرحه منظرو الرومانسية، نجد عدداً من الآراء الصائبة، كان الرومانسيون على حق بقدر ما أكدوا على الطابع الجماعي للإبداع الشعري الشفوي، ومقارنته باللغة. لكن إلى جانب هذا الطرح الصحيح في التصور الرومانسي، نعثر على تأكيدات لا يسندها النقد العلمي الحديث.

قبل كل شيء أعاد الرومانسيون تقييم أصالة الفولكلور وألفته الطبيعية، وقد أظهرت أعمال الأجيال المتعاقبة الدور العظيم في الفولكلور للظاهرة التي تسمى في الإتنوغرافيا الألمانية المعاصرة «الذخيرة الثقافية الهابطة» «gesunkenes kulturgut». من الممكن أن يحدث هنا اشتباه نتيجة الاعتراف بالمكانة المهمة أو حتى الاستثنائية التي تشغلها هذه الذخيرة في الاستعراض الشعبي، بأن يتقلص دور الإبداع الجماعي في الفولكلور. بينما الأمر ليس كذلك. الأعمال الفنية التي يستدينها الشعر الشعبي من الفئات الجماعية العليا، يمكن أن تكون بذاتها نتاجاً نمطياً لمبادرة شخصية وإبداع فردي. في حين أن التساؤل الخاص حول منابع العمل الفولكلوري يقع خارج علم الفولكلور من حيث الجوهر. فأي تساؤل حول تنوع المصادر يغدو قضية في حالة ما إذا تمت دراسة هذه المنابع من وجهة نظر تلك المنظومة التي جرى دمج هذه المنابع فيها. ما يهم علم الفولكلور ليس النشأة اللافولكلورية وكينونة المنابع، وإنما وظيفة الأخذ والانتقاء وانتقال المادة المستقرضة. ووفق هذه النظرة فإن الطرح المعروف «الشعب لا ينتج، وإنما يعيد الإنتاج، يفقد حدّته، لأننا نفقد الحق في وضع حد فاصل لا يمكن تجاوزه بين الإنتاج وإعادة الإنتاج، واعتبار الأخير غير مكتمل إلى درجة ما. لا تعني إعادة الإنتاج الاستقراض السلبي، وبهذا المعنى لا يكون بين موليير الذي أعاد تركيب التمثيليات القديمة، والشعب طبق تعبير ناؤومان «ein kunstlied zersingt» أي اختلاف مبدئي. التغير الذي يطرأ على ما يسمى الفن التذكاري والإنتاج في ما يسمى بالبدائي هو عمل إبداعي أيضاً.

المقاربة الإبداعية تتجلى هنا في اختيار العمل المأخوذ منه، كما في تكييفه لخبرات الآخرين. وتصبح الأشكال الأدبية الراسخة بعد انتقالها إلى الفولكلور مادة تخضع للتشكّل. وعلى خلفية البيئة الشعرية الأخرى والتقاليد المغايرة، والعلاقة الأخرى بالقيم الفنية، يجري تأويل العمل بشكل جديد، وحتى ذلك العرض الشكلي، الذي يبدو من الوهلة الأولى أنه ظل ثابتاً عند الاستقراض، لا ينبغي النظر إليه كنظير لصورته الأولى: في هذه الأشكال الفنية يتم، وفق عبارة دارس الأدب الروسي تينيانوف، نقل الوظائف من وجهة النظر الوظيفية، التي بدونها لا يمكن فهم حقائق الفن، فإن العمل الشعري خارج نطاق الفولكلور، وكذلك العمل المتبنّى من الفولكلور هما حقائق مختلفة قطعاً.

إن سيرة قصيدة بوشكن «الفارس» هي مثال ساطع على كيفيّة تبدل وظيفة الأشكال الفنية، التي تتسرب من الفولكلور إلى الأدب، ومرة ثانية – من الأدب إلى الفولكلور.

السرد الفولكلوري النمطي عن صدام الرجل البسيط مع عالم الغيب (مركز ثقل السرد يقع على عاتق وصف الشيطنة) تمت صياغته من قبل بوشكن بواسطة سيكولوجية الشخوص الفاعلة والبواعث النفسية لأفعالها في عدد من اللوحات الأجناسية. كما تم تصوير البطل الرئيس (الفارس)، وجدْل الخرافات الشعبية وتجسيدها من قبله بصيغة تهكمية. الحكاية التي استخدمها بوشكن – ذات منشأ شعبي، لكن فولكلوريتها تتلخص في إعادة الشاعر تصنيعها إبداعياً، حيث تحولت إلى أداة فنية، وأضحت – كما يقال – علامة لافتة.

لهجة الحكّاء الشعبي التي لا ذوق فيها كانت مادة حافزة لبوشكن ليصوغ قصيدته. عادت قصيدة بوشكن إلى الفولكور، وانضمت إلى عدة وجوهٍ شائعة في المسرح الشعبي الروسي لعروض «القيصر ماكسيمليان».

هذه الاقتباسات وغيرها من الأدب تساعد على شيوع الأحداث الموضوعة، وهي تنتمي إلى أعمال التمثيل الإضافي المتنوع التي يؤديها بطل الحدث، الفارس. وتتماشى ادعاءات الفارس اليائسة وروح الجماليات الهزلية، مثلها مثل التجسيد الفكاهي للشيطنة. وهذا يعني أن الميل إلى المفارقة الرومانسية يدل على أن سخرية بوشكن لا يجمعها سوى القليل مع آلاعيب «القيصر ماكسيمليان» التهريجية، التي تتشابه وهذه القصيدة. وحتى في الحالات التي تعرضت فيها قصيدة بوشكن لتغيرات بسيطة، فقد جرى تأويلها من قبل الجمهور الذي تربى على الفولكلور بصورة فريدة جداً، لا سيما عند أدائها من قبل ممثل شعبي، وعلى خلفية ما يحيط به من أدوار. وفي حالات أخرى تتجلى إعادة تشكيل الوظائف مباشرة في الشكل: يتصف أسلوب بوشكن الحواري العامي في قصيدته بالمرونة، حيث ينتقل ببساطة إلى شعر حكائي فولكلوري، ويبقى من القصيدة نفسها المخطط السياقي الفاقد للحوافز، الذي يندمج بعدد من النكات الهزلية النمطية والكلام المبطن.

إذا تشابكت مصائر الأدب والإبداع الشعري الشفوي، وكانت تأثيراتهما متبادلة شديدة ودائمة، وكان الفولكلور يتجه غالباً إلى مادة الأدب، فإننا رغم ذلك كله ليس لنا حق تجاهل الحدود المبدئية بين الإبداع الشعري الشعبي والأدب لمصلحة وجهة النظر الجينية.

إلى جانب مسألة الأصالة الجينية للفولكلور ثمة خطأ حيوي آخر في التوصيف الرومانسي، وهي الأطروحة القائلة بأن الشعب الذي لم يتوزع في طبقات، أي الشخصية الجماعية في نفَس واحدة ورؤية واحدة، يعنى الطائفة المتراصة التي لا تعرف أي تعابير فردية للنشاط الإنساني، يمكن أن تكون صانعة للفولكلور وذاتاً جماعية للإبداع. هذه العلاقة الراسخة بين الإبداع الجماعي و«الجماعة الثقافية البدائية» نعثر عليها في وقتنا الراهن عند ناؤومان ومدرسته، الذين يلتقون مع الرومانسيين في عدة مسائل، يقول ناؤومان: «لا فردية هنا. لا ينبغي التخوف من الاقتباس من عالم الحيوان للتشبيه: في الواقع هذا يمنحنا مقارنة قريبة. الفن الشعبي الحقيقي- هو فن جماعي، وهو لا يختلف كثيراً عن عش السنونو، وأقراص العسل وصدفات الحلزون المبشّرة، كلها أعمال من صناعة الفن الجماعي الحقيقي». ويستمر بالقول: «إنها جميعاً محتضنة بحركة واحدة، إنها تحمل ثقافة جماعية – فهي جميعها مشحونة بالنوايا المتكافئة والأفكار المتكافئة». في هذا التصور يكمن خطر أي استخلاص متسرع ومباشر من التجلي الاجتماعي إلى التجربة النفسية، مثال ذلك الانتقال من صفات الأشكال اللغوية إلى أشكال التفكير (هذه المماثلة اكتشف خطرها بإتقان أنطون مارتي). وهذا ما نرصده في الإتنوغرافيا: الهيمنة اللامحدودة للتفكير الجماعي ليست مقدمة ضرورية للإبداع الجماعي، مع أن هذا التفكير ينتج التربة الملائمة لازدهار الإبداع الجماعي التام.

ليس غريباً عن الثقافة الزاخرة بالروح الفردية ملامح الإبداع الجماعي. ويكفي أن نتذكر التشكيلات المعاصرة المنتشرة في دوائر الألغاز وعن النميمة والإشاعات المماثلة للخرافات، وعن الخزعبلات والأساطير، وعن الموضة والرسميات.

وثمة كلمة تقال إن اختصاص الإتنوغرافيا الروس، الذين استقصوا قرى منطقة موسكو، قدموا معطيات كثيرة عن ارتباط العرض الفولكلوري الحياتي والثري بالتباين الاجتماعي والاقتصادي والأيديولوجي والمعيشي المتنوع للفلاحين.

وجود الإبداع الشعري الشفوي (وعليه الأدب) يمكن تفسيره وظيفياً إلى درجة ما، ولا يقتصر على الناحية النفسية. لنقارن على سبيل المثال تعايش الإبداع الشفوي والكتابي في الوقت نفسه، في الأوساط الروسية المتعلمة في القرنين السادس عشر والسابع عشر: الإبداع الكتابي أنجز مهمات ثقافية محددة، أما الإبداع الشفوي فقام بمهمات أخرى مختلفة. في ظروف المدينة القائمة على «إنتاج الوفرة» من الطبيعي أن يكون الأدب هو الغالب على الفولكلور - «الإنتاج وفق الطلب». الإبداع الفردي كحقيقة اجتماعية غريب عن هموم القرية البطركية كإنتاج في سبيل الوفرة والرواج.

قبول مسألة الفولكلور كإبداع شعبي يضع علم الفولكلور أمام عدد من المهمات الملموسة. إن انتقال المناهج والمفاهيم التي جرى الحصول عليها أثناء المادة التاريخية /الأدبية إلى حقل علم الفولكلور كثيراً ما يفضي إلى وهن تحليل الأشكال الفنية الفولكلورية، لا سيما خفض التقييم للتباين الملحوظ بين النص الأدبي وتسجيل العمل الفولكلوري، وهذا بدوره يشوه بلا محالة هذا العمل، وينقله من معيار إلى آخر مختلف.

قد يكون الحديث عن الأشكال المتماثلة فيما يخص الفولكلور والأدب من ازدواجية المعنى. فعلى سبيل المثال مفهوم بيت الشعر، المفهوم الذي يبدو لأول نظرة أنه يحمل دلالة واحدة في الأدب كما في الفولكلور، لكن في الواقع هما يختلفان بعمق في العلاقة الوظيفية. يعتبر مارسيل جوس الباحث الماهر في الألفاظ الإيقاعية الشفوية (style oral rythmique) أن التباين مهم جداً بقدر أهمية مفاهيم «القصيد» و«الشعر» التي ينبغي أن تظل حكراً على الأدب، بينما فيما يخص الإبداع الشفوي يستخدم جوس في مقابل ذلك، «المخطط الإيقاعي»، و«اللفظ الشفوي» حتى يتجنب اجتياح المفاهيم العادية ذات المضمون الأدبي لمفاهيم الفولكلور. ويكشف بمهارة عالية الوظيفة الاستذكارية لهذه «المخططات الإيقاعية».

يؤول جوس اللفظ الإيقاعي الشفوي في «milieu des recitateurs encore spontanes». على الشكل التالي: «لنتصور اللغة في جملتين مقفيتين، أو ثلاث جمل، وفي أربعة أو خمسة أنماط من المخططات الإيقاعية المثبتة بدقة، التي يجري نقلها بدون إخلال بالتقليد الشفوي: فإن الابتكار الشخصي ينحصر في استخدام هذه المخططات الإيقاعية والإكليشيهات التعبيرية كنموذج، وإنشاء مخططات أخرى نظائر لها، معنىً وانسجاماً.. وفي تقارب الموضوع إن أمكن ذلك». نجد هنا وصفاً محكماً للعلاقة بين التقليد والارتجال، بين اللغة والكلام langue parole في الإبداع الشعري والشفوي. ويأتي القصيد والمقطع والبنية كدعامة صلبة للتقليد من جانب، ووسيلة فاعلة في تقنية الارتجال من جانب آخر، «وهذان الجانبان مرتبطان ببعضهما».

يتعين أن يشاد تصنيف الأشكال الفولكلورية مستقلاً عن تصنيف أشكال الأدب. إحدى أهم مهمات اللغة وضع تصنيف فونولوجي (صوتي) وآخر مورفولوجي (صرفي). وغدا من الواضح وجود قوانين بنيوية شمولية لا تزعزعها أي لغة: وبدا أن تنوع البنى الفونولوجية والمورفولوجية محدود، ويمكن حصره في عدد ضيق نسبياً، وذلك لأن تنوع أشكال الإبداع الفولكلوري فقير إلى حد ما. تتيح طبيعة الكلام parole مضاعفة تنوع التغيرات بشكل أوسع مما يحدث في اللغة langue. ويمكن مقابلة تأكيدات علم اللغة المقارن هذه بتنوع السياقات التي يشهدها الأدب من جانب، وبضيق عدد سياقات الحكايات في الفولكلور من جانب آخر. هذا الحصر لا يمكن تفسيره بعمومية المنابع ولا بالمرجعية النفسية أو الملابسات الخارجية الواحدة. تنبع السياقات المتشابهة على أساس قوانين المعمار الشعري العامة: هذه القوانين، مثلها مثل القوانين البنيوية للغة ذات تنوع منخفض وحذر في الإبداع الجماعي، مما هو في الإبداع الفردي.

المهمة المرحلية لعلم الفولكلور التزامني هي توصيف منظومة الأشكال الفنية، التي تشكل الأدوار الفاعلة لجماعة معينة – القرية، المجموعة الإثنية، الدائرة المحيطة. حينئذ يؤخذ بالاعتبار نواتج الأشكال في المنظومة وتراتبها، والتباين بين الأشكال المنتجة، وتلك التي فقدت فاعليتها، وما شابه ذلك. وطبق الدور الفولكلوري التمثيلي يتم إظهار المجموعات الإثنية والجغرافية، وكذلك المجموعات وفق الجنس (ذكر أم أنثى)، والعمر (أطفال، شباب، عجائز) والمهن (راعي، صياد، جندي، قرصان وغيرها).

بقدر ما تنتج المجموعات المهنية المذكورة أعمالاً فولكلورية لنفسها، فإن هذه السلاسل الفولكلورية يمكن تنظيمها حسب اللغات المهنية المخصوصة، وثمة أدوار فولكلورية تعود لمجموعة مهنية محددة، ولكنها مخصصة لمستهلكين بعيدين عن هذه المجموعة، وفي هذه الحالة يعتبر الإبداع الشفوي إحدى علامات المجموعة المهنية. على سبيل المثال تؤدى غالبية الأشعار الروحية الروسية من قبل هواة عابرين، أو مشردين متجولين الذين غالباً ما يتوحدون في مجموعات رفاقية متخصصة. أداء الأشعار الروحية – أحد مصادر رزقهم. هذا المثال على الانفصام التام بين المنتجين والمستهلكين وبين أقصى الحالات المناقضة، وذلك حينما تكون الجماعة كلها منتجة ومستهلكة في الوقت ذاته (للأمثال والألغاز والحزازير والشاستوشكا والأجناس المعروفة للأغاني الطقوسية وغير الطقوسية) هناك عدد من الأنماط البينية. ويحدث أن تحتكر مجموعة من الأفراد والموهوبين في بيئة محددة بشكل أو بآخر إنتاج لون فولكلوري معين (على سبيل المثال الحكايات). هؤلاء ليسوا اختصاصيين، والإبداع الشعري بالنسبة لهم ليس انشغالهم الأساس ومصدر رزقهم؛ هؤلاء مجرد هواة يشتغلون بالشعر في أوقات فراغهم، ولا يوجد هنا مطابقة تامة بين المنتج والمستهلك، ولا انفصام تام، الحدود متذبذبة. هناك أناس يمارسون دورين، دور الحكّائين ودور المستمعين، ومن السهل على المنتج الهاوي أن يصبح مستهلكاً وعلى العكس.

يظل الإبداع الشعري الشفوي جماعياً حتى في حالة التباعد بين المنتج والمستهلك، لكن الجماعة تتسم هنا بملامح مميزة. عندما تتواجد مجموعة منتجين وتكون «الرقابة المسبقة» متحررة من المستهلك أكثر مما هو في حالة المنتج والمستهلك، عندها تأخذ الرقابة مصالح الإنتاج والاستهلاك على قدم المساواة.

من طبيعة الإنتاج الشعري الشفوي أن يخرج تحت ظرف واحد فقط عن حدود الفولكلور، ويتوقف عن أن يكون إبداعاً جماعياً، وذلك في حالة وجود فريق متوائم من المختصين الذين يمتلكون تقاليد مهنية راسخة، ويتعاملون بحماس مع الأعمال الشعرية، ويسعون بكل قواهم إلى الاحتفاظ بها بدون أي تغيير يذكر. وهذا ممكن بشكل أو بآخر وتشهد عليه عدة أمثلة تاريخية. هكذا تنفلت عن طريق الكهنة وعبر العصور أناشيد الفيدا- من فم لفم، أو وفق المصطلح البوذي عبر «السلال» المتنقلة. جميع القوى كانت موجهة كي لا يتم تحريف هذه النصوص، والابتعاد عن الإدخالات التي لا أهمية لها، وهذا ما حدث. هناك حيث دور الجماعة يقتصر على المحافظة على عدم كسر قانون العمل الشعري تُلغى الرقابة الإبداعية، وكذلك الارتجال، وليس ثمة من إبداع جماعي.

كمثال عابر للأشكال البينية للإبداع الشعري الشفوي يمكن أن نتذكر الإبداع الشفوي في الأدب. فعلى سبيل المثال فإن نشاط المؤلفين المجهولين ونسّاخي القرون الوسطى، وقبل أن يغدو هذه النشاط خارج مجال الأدب، فهو يتسم ببعض الملامح التي بفضلها يقترب ولو جزئياً من الإبداع الشفوي: اتجه الناسخ إلى إعادة نسخ العمل الذي سبق ونسخه كمادة خاضعة لإعادة التصنيع وما شابه ذلك. ومهما بلغت الظواهر المتنقلة التي تقف على الحدود بين الإنتاج الفردي والإنتاج الجماعي، فإننا لن نسلك فصل السوفسطائي الذي أوجع رأسه في مسألة كم من الذريرات عليه أن يفرز من كومة الذرات لكي لا تسمى كومة.

يوجد بين هذين الحقلين الثقافيين الجارين المحبوبين دائماً مناطق بينية وأخرى انتقالية. لكن هذا الأمر لا يتيح لنا رفض وجود نمطين مختلفين مع فاعلية الفصل بينهما.

أتاح ذلك الزمن الذي جرى فيه تقريب علم الفولكلور من تاريخ الأدب حلّ عدة مسائل ذات طابع جيني، لكن فك ارتباط هذين المساقين، وتثبيت استقلال علم الفولكلور يسهّل – كما يبدو- دراسة وظائف الفولكلور واكتشاف أسسه وخواصه البنيوية.

إضاءات من المترجم:

* هذا البحث المشترك نشر لأول مرة سنة 1929 باللغة الألمانية، وصدر عام 1966 باللغة الفرنسية ضمن مؤلفات ياكبسون، وترجم لأكثر من لغة من بينها: الإيطالية والهنغارية وغيرهما. وقد تكون هذه الترجمة الكاملة هي الأولى لهذه الدراسة في اللغة العربية (الترجمة من اللغة الروسية مباشرة وهي مهداة إلى الزميل الباحث نايف نوايسة تقديراً لجهده في حقل التراث الشعبي).

* بوغاتيريف، بيتر (1893 – 1971): عالم روسي مختص في الأدب الشعبي، وأستاذ مادة الفولكلور في جامعة موسكو. له عدة مؤلفات فردية وأخرى مشتركة، لا سيما في التراث الشفوي الروسي القديم.

* ياكبسون، رومان (1896 - 1982): روسي المولد يهودي الأصل. مغترب وتائه بين العواصم، يجمع كعالم لغوي وأدبي بين الثقافتين الروسية والأمريكية. من رواد المدرسة الشكلية الروسية في عشرينات القرن الماضي. كان عضواً فعالاً في عدد من الحلقات الأدبية في موسكو وبراغ ونيويورك، وهو من أبرز مؤسسي ما يسمى بالبنيوية، التي أفادت من الشكلانية الروسية وكانت امتداداً لها. اشتغل في حقل البوطيقا الروسية والسلافية، وله مؤلفات متنوعة في مجال النقد والدراسات اللسانية وغيرها.

* دي سوسيور، فردينان (1857 – 1913): عالم سويسري ذو شهرة واسعة، اشتغل في حقل اللسانيات، وهو أحد أهم علماء اللغة في العالم، ويعتبره البنيويون رائداً في وضع أسس الاتجاه البنيوي في الدراسات الأدبية واللغوية الحديثة. كتب في مساقات لسانية ولغوية، وكان من أوائل من ميّز بين اللغة والكلام.

* لوتيريامون (1846 - 1870): كاتب وشاعر فرنسي، ذو توجه رومانسي، يعتبر من المبشرين بالرمزية والسيريالية. اسمه الحقيقي إيزيدور لوسين ديوكاس.

* غونتشاروف (1812 – 1891): كاتب وروائي روسي. اهتم بنظرية وتاريخ الأدب، وبالفن التشكيلي وفن العمارة، إلى جانب اتقانه للروسية والفرنسية. كتب في مجلة «المعاصر» ونشر فيها روايته «سيرة عادية»، التي لقيت رواجاً واسعاً واهتماماً كبيراً من النقاد، وحظي باهتمام الناقد الروسي الكبير بيلينسكي. من مؤلفاته «الهاوية» و«سيرة عادية» وأشهرها «أوبلوموف»، التي أضحى بطلها رمزاً متداولاً في الأدبيات الروسية. وكتب فيها دوبرولوبوف مقالته المدهشة «ما هي الأوبلوموفية» التي ما تزال تحتفظ بدلالتها ومغازيها حتى اليوم، ويستشهد بها كبار المفكرين والأدباء.

* ليسكوف، نيكولاي (1831 - 1895): كاتب روسي مشهور، بدأ حياته بالعمل في الصحافة ومتابعة قضايا المجتمع وحياة الناس العاديين. وكان أول عمل أدبي له 1863، حيث نشر روايته «القضية الخامدة» وبعدها تابع مشواره الإبداعي في «السخرية اللاذعة» و«الجوال المدهش». حظيت أعماله ومسيرته الأدبية باهتمام القراء والنقاد، وكان واسع الانتشار في الأوساط الأدبية والاجتماعية في زمانه.

* ريميزوف، الكسي (1877 - 1957): ولد في موسكو ومات في باريس بعد حياة حافلة بالأعمال الإبداعية والدراسات الميثولوجية. اهتم بالبحث في الأساطير والحكايات الشعبية والأسفار الدينية المخطوطة، له محاولات مهمة في ترميم اللغة الروسية الأصلية القديمة ما قبل بطرس الأول.

* ميللر/فسيفولد (1848 - 1913): عالم لغة روسي كان رأس المدرسة التاريخية، مستشرق وأكاديمي، تلميذ العالم الروسي الكبير بوصلايف. اشتغل على الملاحم الروسية القديمة والملاحم الفارسية التي قال أنها تنقلت في اتجاه القفقاس وعبرت إلى روسيا.

* بوتيبنيا، الكسندر (1835 - 1891) عالم لغة روسي/أكراني. اهتم بالشعر وطبيعته وشاعريته، تأثر بالديمقراطيين الروس. أهم مؤلفاته الخالدة «الفكر واللغة»، التي توصل فيها إلى وجود تبدلات تاريخية في طبيعة التفكير اللغوي للشعوب والإنسانية جمعاء.

* موليير (1622 - 1673): كاتب درامي ومسرحي فرنسي معروف، مؤلف الكوميديا الراقية، ترجمت أعماله لشتى اللغات العالمية، كما جرى تمثيل أعماله في المسارح العالمية الكبرى.

* بوشكين، الكسندر (1799 - 1837) شاعر روسيا الأكبر، الذي يعتبره الروس شكسبير روسيا. كتب الشعر في الرابعة عشرة من عمره، واستمر يمنح وطنه الكبير من الأشعار العذبة والدراما المدهشة إلى أن قتل في مبارزة فردية، فبكته بلاده بألم وحسرة وودعته بأسى بالغ. له إلى جانب الشعر الغنائي الجذاب، عدد من الأعمال المسرحية والدرامية، من أهمها: «ابنة القبطان»، «الفارس البرونزي»، «يفغيني أنيغن» وغيرها من المبدعات اللافتة.

* جوس مارسيل: باحث لغوي فرنسي، وضع عدداً من الدراسات في بوطيقا الشعر وجماليات الكلمة، كما عالج بعض إشكاليات المفردة الإيقاعية الشفوية.

* تينيانوف، يوري (1894 - 1943) من مؤسسي المدرسة الشكلية الروسية، يجيد الفرنسية وعمل مترجماً فيها، أستاذ تاريخ الفن والأدب في معهد الدراسات التاريخية من (1921 - 1930)، كتب الرواية والبحث العلمي، كما عالج أعمال عدد من الأدباء الروس لا سيما «مصيبة العقل» للأديب الروسي غريبوييدوف، وبعض أعمال بوشكن وغيره. أحد أكبر علماء اللغة، ترجمت بعض أعماله إلى لغات عدة.

الصور

- www.wikipedia.org

أعداد المجلة