فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
66

المعرفة الاجتماعية الثقافية: آليات إنتاجها

العدد 45 - آفاق
المعرفة الاجتماعية الثقافية:  آليات إنتاجها
كاتب من المغرب

تقديم

سنتطرق في هذه الورقة إلى نسق المعرفة الاجتماعية/ الثقافية الذي يعد جزءا من البنية التصورية لدى البشر، وقالب من الأقوال غير اللغوية التي تساعدنا على فهم وتحليل العديد من الظواهر الواردة في الثقافة الشعبية. وسنتبنى في هذه الورقة مقاربة توبي وكوسميدس التي تقر بوجود تعالق بين مختلف الحقول المعرفية تحت ما سمي بنظرية صورية للمعرفة.

وسنناقش هنا المقولات الثقافية والمقولات الأنطولوجية والمقولات المعرفية، مع الإشارة إلى التداخل الحاصل بين الثقافة والتعلم، والثقافة بالفرد، متسائلين عن الجهة التي تخلق الثقافة، هل الفرد هو من ينتج الثقافة أم أن الثقافة هي من تنتج الفرد؟

كما سنقارن بين القدرة المعرفية والمعرفة الاجتماعية، مبرزين أوليات المعرفة الاجتماعية/ الثقافية التي نجد في مقدمتها الشخص وعلاقته بالمجال الاجتماعي والفيزيائي، والأنساق الإدراكية الحسية التي تشمل قالب الوجه وقالب الصوت. كما سنتناول أهم العلاقات التصورية الاجتماعية كتصور القرابة وعضوية الجماعة والسيطرة التي سنوضح أنها تبنى بشكل أفقي في العالم الاجتماعي الحيواني، أما العالم الاجتماعي البشري فتبنى فيه بشكل هرمي كعلاقة الأب بالإبن ورب العمل بالعامل.

المقولات الثقافية والمقولات التصورية

أدت التطورات الأخيرة في كل من العلوم العصبية والعلوم المعرفية وعلم النفس واللسانيات والإناسة الاجتماعية، إلى الحسم في طبيعة الظواهر التي تدرسها العلوم الاجتماعية والإنسانية وعلاقتها بباقي العلوم.

وقد أدى هذا الأمر ميلاد نموذج معرفي يسميه توبي وكوسميدس(1992) بالنموذج السببي المندمج لقيامه على اندماج المعرفة العلمية وعدم استقلالها1. ويسعى هذا النموذج إلى خلق جو من التعاون بين جميع الحقول المعرفية، ويرجع هذا الارتباط في نظر الباحثين إلى البعد التعاوني الجوهري الذي يكشف لنا الترابطات السببية الطبيعية التي تمكننا من اندماج حقول معرفية مختلفة في إطار نظرية صورية شاملة للمعرفة.

المقولات الأنطولوجية

تعبر المقولات الأنطولوجية عن الثقافة المادية وغير المادية كما هي موجودة في العالم الخارجي، أي التعبير عن الأشياء الوجودية كما يتصورها البشر، من خلال تجاربه ومعارفه القبلية عن الثقافة أو من خلال تحيزه الوراثي.

المقولات الثقافية

ترصد لنا المقولات الثقافية العناصر المتداخلة في عملي الفهم وتمثيل الأشياء في ثقافة معينة، كما تساهم هذه المقولات في إعطاء صورة عن حدود العناصر الثقافية القابلة للقراءة.

المقولات المعرفية

تتمثل المقولات المعرفية في تلك المقولات المستمدة من عنصري التجربة والواقع والعالم الفيزيائي.

في الفصل بين العلوم

لقد ظلت العلوم الإنسانية والاجتماعية لمدة طويلة بمنأى عن بناء تصور اندماجي للمعرفة العلمية، فرغم اعتماد مجموعة من العلماء الاجتماعيين على عدد من وسائل علماء الطبيعة وممارساتهم كالقياس الكمي، والتجريب، والنمذجة الرياضية، الخ. وقد كانوا ميالين إلى إهمال المبدأ المركزي القائم على كون المعرفة العلمية السليمة ينبغي أن تكون مختلفة الأجزاء، أي أن المجالات العلمية المختلفة يجب أن تكون متكاملة، وأن تشكل أجزاء من نفس النسق المعرفي الواسع.

مما لا شك فيه أن العلوم الاجتماعية مالت وبشكل خاص علم الاجتماع والأناسة إلى الانعزال كما فعل عالم الاجتماع دوركهايم الذي اعتبر أن الظواهر الاجتماعية لا يمكن تفسيرها إلا على أساس ظواهر اجتماعية أخرى. والأمر نفسه مع بواس ولوفي في علم الأناسة الذين اعتبروا أن الظواهر الثقافية لا يمكن تفسيرها إلا انطلاقا من ظواهر ثقافية أخرى.

ويعد توبي وكوسميدس (1992) في علم الاجتماع المعيار، أحد العلماء الذين أقروا بترابط وتداخل العلوم بعضها ببعض، وقد شكلت هذه النظرة الإطار الثقافي لتنظيم علم النفس والعلوم الاجتماعية، وكان من نتائج هذا النموذج عدم الاهتمام بالروابط السببية بخصوص الظواهر الاجتماعية2.

بين الثقافة والتعلم

ينطلق النموذج المعيار في دراسته للظواهر الإنسانية والثقافية من عدة مبادئ، نركز على مبدأين هما:

إذا كانت الكائنات غير البشرية تتحدد خصائصها انطلاقا مما هو إحيائي، فإن السلوك البشري تحدده الثقافة باعتبارها نظاما مستقلا من الرموز والقيم. ولكون الثقافات متحررة من القيود الأحيائية، فإنه يمكن أن تختلف فيما بينها بشكل عشوائي غير متناهي.

يولد البشر غير مزودين بشيء ماعدا بعض ردود الفعل غير الإرادية، وقدرة واحدة على التعلم بكونه عملية عامة صالحة لجميع الأعراض ولكل مجالات المعرفة، ويتعلم الأفراد ثقافتهم عن طريق التنميط والثواب والعقاب والقدوة.

ويمكن صياغة شكل صوري لعملية التعلم، وهل يتدخل ما هو فطري بما هو بيئي مع ماهو وراثي، في عملية التعلم.

انطلاقا من التمثيل الصوري أعلاه، نرى أن هناك تعقدا للذهن البشري، الذي يعد السبب المباشر لكل أنواع الإحساس، والتعلم والسلوك، فالتعلم ليس بديلا للفطرة، لكن بدون الآلية الفطرية لا يمكن للتعلم أن يحدث.

نستنتج من خلال ما سبق أن بعض آليات التعلم مصممة بصورة مقصورة على تعلم اللغة، وليست لتعلم الثقافة أو السلوك الرمزي عموما3.

بين الثقافة والفرد

يذهب النموذج المعيار إلى تبني افتراض قاعدي مفاده أن صغار بني البشر، أينما كانوا يتشابهون، لكن كبارهم أينما وجدوا يختلفون اختلافا عميقا في السلوك والتنظيم الذهني. وبما أن الثابت أي العدة الأحيائية البشرية لدى الأطفال لا يمكنه أن يفسر المتغير«أي التباينات الحاصلة عبر الجماعات في التنظيم الذهني أو الاجتماعي عند الكبار»، فإن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تكون العامل القاعدي في التنظيم الذهني لدى الكبار من الناس، وفي بنيتهم الاجتماعية وثقافتهم وتحولهم التاريخي.

وبما أن هذا التنظيم الذهني الحاصل لدى الكبار غائب عند الصغار، فما عليهم سوى أن يكتسبوه من مصدر خارج عنهم، يرتبط بالعالم الاجتماعي الذي يتمظهر في سلوك أعضاء الجماعة المحلية وتمثلاتهم الثقافية والاجتماعية. وهي تمثلات تقولب الفرد وتسبقه وتقع خارجه، فالذهن لا يخلقها، بل هي التي تنتج الذهن.

ومن ثمة، نستنتج أن أساس الحياة البشرية وتشكلها يتم بكيفية معقدة وغنية، ويسمى هذا الجوهر بـــ«الثقافة» والذي يوصف بأوصاف متعددة منها السلوك، العادات والتقاليد، العلاقات الاجتماعية، المعرفة، التنظيم الاجتماعي، الأدوار الاجتماعية، العوالم القصدية. ورغم الاختلاف، فإن علماء الاجتماع المعيار يتفقون على أن هناك سببية تحول الطفل من صفحة بيضاء إلى كائن بشري ثقافي تام، يعد خارجا عن الفرد4.

من ينتج الثقافة؟

يهدف النموذج المعيار إلى البحث في المبدأ الهام الثاني، الذي يتجلى في الإجابة عن السؤال القاعدي، إذا كانت الثقافة تخلق الفرد، فمن يخلق الثقافة؟ وتأتي أهمية هذا السؤال من خلال ارتباطه «بحجة التصميم» أو تفسير «التصميم المعقد». فالحياة البشرية منظمة بصورة معقدة وغنية، أو أن الثقافات البشرية لها معنى، وبالتالي تحتاج إلى التساؤل عن تصميمها. وإذا كانت الثقافة ذات تنظيم معقد وذات معنى في حياة البشر الاجتماعية/ الثقافية، فمن صانع هذا التنظيم؟ بمعنى آخر، من مولد هذا التنظيم المعقد والدال في الشؤون البشرية؟

يذهب أصحاب النموذج المعيار إلى أن صانع الثقافة ليس «الفرد» أي في الطبيعة البشرية أو المجال النفسي المتطور الذي لا يتجلى سوى في الحالة الأولى التي يولد عليها الطفل مزودا باستعدادات أولية. وما دام اتجاه العملية السببية يسير من العالم الخارجي إلى داخل «الفرد»، فإن الاتجاه الذي يمكن أن نبحث فيه عن مصدر لتنظيم واضح أنه يتجلى في العالم الاجتماعي الذي يقع خارج «الفرد».

يرى أصحاب هذا النموذج أن مولد هذا التنظيم المعقد والدال في الحياة البشرية ما هو سوى مجموعة من العمليات التي تتمظهر محدداتها في الجماعة. ويعتبر هذا المستوى الاجتماعي/ الثقافي منفصلا ومستقلا وعلة ذاته.

ينفي النموذج المعيار أن يكون «للطبيعة البشرية» أو الهندسة المتطورة للذهن البشري أي دور ملحوظ في توليد وبناء التنظيم الدال على الحياة البشرية، ويجرد هذا المفهوم من أي محتوى جوهري، ويعد بنية الذهن البشري مجرد مستقبل «للقدرة على الثقافة» بل لعل ما يقود النسق ويعطيه تنظيمه الوظيفي هو الدخل البيئي أو المحيطي.

وبناء على ما سبق، يمكن أن نجمل أثر النموذج المعيار في تطور التصورات الحديثة للثقافة ودورها في الحياة البشرية، في الافتراضات والعناصر التالية:

تحدد الجماعات البشرية نمطيا باعتبارها صاحبة ثقافة معينة «خاصة» تقوم على عناصر مشتركة من ممارسات سلوكية ومعتقدات وأنساق من التمثيلات، والرموز الدالة، وتعتبر الثقافات محدودة إلى هذا الحد أو ذاك، رغم أن بعض العناصر الثقافية يمكن أن تتجاوز الحدود. وتعمل الجماعة من أجل الحفاظ على هذه العناصر المشتركة وتنقلها من جيل إلى جيل، وهذا ما يفسر الائتلاف داخل الجماعة والاختلاف بين الجماعات.

يتم الحفاظ ونقل الثقافة عبر عملية التعلم وتنشئة الفرد الاجتماعية الذي يعتبر متقبلا سلبيا للثقافة التي تزوده بكل محتواه الذهني المنظم وهو محتوى ثقافي لا يستقي خاصيته من الطبيعة البشرية «الأحيائية» أو أي تصميم نفسي موروث، وإنما من المحيط الاجتماعي الثقافي الذي يعد المولد الأصلي للتنظيم الذهني والاجتماعي لدى بني البشر، أما الجانب النفسي فهو ذلك الصندوق الأسود في عملية التعلم يضمن القدرة على الثقافة5.

في نسق المعرفة الاجتماعية/ الثقافية

انطلاقا مما سبق ذكره، يبدو أن هناك دلائل قوية على وجود قالب معرفي في الذهن يتعلق بالمعرفة الاجتماعية/ الثقافية أو «القدرة على الثقافة» بل يشكل إلى حد كبير نسقا فرعيا داخل نسق البنية التصورية. وهو قالب مختص في تكوين صورة مندمجة عن الذات في المجتمع، ويبنى بالتأليف بين دخل محيطي وأساس فطري لاكتساب الثقافة، ويقدم إمكانات كافية تسمح بالاختلاف بين الثقافات دون أن تسمح بالتنوع الاعتباطي أو الفوضوي، فهو أساس يقوم على عدد محدود من البنيات والمبادئ التي تسمح لنا بإدراك عدد لا محدود من الأوضاع الاجتماعية والظواهر الثقافية المتجددة والتعامل معها بشكل ملائم إلى هذا الحد أو ذاك.

1) المعرفة الاجتماعية والقدرة المعرفية:

تلعب المعرفة الاجتماعية دورا مهما في تفسير الطبيعة البشرية، فنحن بنو البشر لدينا القدرة على الفهم والتفاعل والاندماج داخل المجتمع في سياق ثقافة ومؤسسة اجتماعية. ويجد هذا المجال مبرره في سياق بيولوجي أوسع، إذ يوجد قالب من القوالب الذهنية، مخصص لمعالجة المعرفة الاجتماعية/ الثقافية. وذلك عن طريق كيفية تعامل جميع الكائنات مع بعضها البعض، وكيفية فهمها وتفاعلها مع ذوات أخرى مؤطرة بالطريقة نفسها.

فالمعرفة الاجتماعية لا تتحقق عند البشر فحسب، بل حتى في المجتمعات الحيوانية أيضا، ونجد هذا الأمر عند الشمبانزي والنمل.

ومن هنا، يمكن أن نطرح السؤال التالي: لماذا يجب علينا خلق قدرة معرفية بالنسبة للتفاعل الاجتماعي؟ أم أنه ليست لدينا نفس القدرة من التفاعل مع الآخرين (أو تم بناؤها من قبل) الثقافة؟ الرد هو أن كل كائن حي له القدرة على التفاعل مع الآخرين، فإنه لابد أن يتم هذا التفاعل داخل الذهن/ الدماغ. لكن الصخور والنباتات لا تملك تفاعلا اجتماعيا. غير أن الأسماك والقطط والشمبانزي لا تملك نفس نمط التفاعل الاجتماعي، بالقدر الذي نجده عند بني البشر، حتى ولو تطلب الأمر أن يتم تحديد تفاعلنا الاجتماعي من خلال الثقافة، ويمكن أن نطرح هنا سؤالين مهمين، هما6:

ماهي ميزة المعرفة الاجتماعية الإنسانية، بحيث يمكن تخزينها ومعالجتها داخل الذهن/ الدماغ البشري؟

ما الذي يجعل أذهاننا/ عقولنا عرضة للتأثر بالثقافة، وما الذي يجعل أذهان/ عقول القطط والشمبانزي عدم عرضتهم للتأثر بالثقافة حتى في حالة تعرضهم لنطاق واسع من الثقافة الإنسانية؟

2) بعض أوليات المعرفة الاجتماعية/ الثقافية:

تقوم المعرفة الاجتماعية/ الثقافية على عدد من الأنساق المركزية والأنساق الفرعية تغذي مضمونها وتخدم وظيفتها في تحليل ما لا حصر له من ظواهر التفاعل الاجتماعي والثقافي وتنظمه.

ومن أبرز هذه الأنساق هناك أنساق ذات طابع إدراكي وحركي ترتبط بتخصصات دماغية في الإدراك الاجتماعي، وأنساق ذات طابع تصوري تنتمي إلى البنية التصورية.

الشخص بين المجال الاجتماعي والفيزيائي

قبل مناقشة هذا الموضوع، لابد من طرح السؤال التالي: كيف يتم ترجمة المعرفة الاجتماعية في بيئة الذهن الوظيفية؟

بالنسبة للمجال الفيزيائي، يضم تصور الفضاء للأجسام المادية، ثلاثة أبعاد هي: الحركة داخل الفضاء، والقوة المطبقة على الأجسام بين بعضها البعض، فالأجسام المادية، مثل، الصخور والأشجار، والأجسام الحية، مثل، النمل والفئران والنمور. هذه الكائنات لنا أن نتنبأ بحركتها، وربما ذلك راجع إلى وجود الرغبات، النوايا، المشاعر، وهذا يعود أيضا إلى حيوية وفهم المواقف بشكل مقصود (وهذا معنى ما ورد في دونيت 1987).

ويعد الشخص من الكيانات القاعدية في المجال الاجتماعي بالنسبة للأفراد الذين يمكن لهم أن يكونوا علاقات اجتماعية. هذا المجال يرمز العلاقات والأعمال بين الأشخاص، بالإضافة إلى أمور أخرى، كدور الشخص ومسؤوليته داخل المجتمع، وهناك موضوعات أخرى، تخضع لقيود أخلاقية.

ورغم ذلك، لا يمكن أن نفصل بين المجالين، بل هناك علاقة التوازي بين المجال الفيزيائي والاجتماعي، فالمجال الاجتماعي ليس موضع حركة فيزيائية بين كائنين ليس بينهما اتصال، إذ لابد من وجود فضاءات متوسطية بين الناس.

وإلى حد ما يمكن اعتبار المجال الاجتماعي ذا مفاهيم متقاربة، نسميها «الأبعاد الاجتماعية»، مثل: القرابة، عضوية الجماعة، التراتبية، المنافسة، درجة الألفة والحميمية...الخ. وهناك مفاهيم أخرى، مثل: القوة والإجبار، وأحيانا يتم استغلال القوة والتهديد بها، وأحيانا أخرى ليس كذلك.

ويتجلى حضور المجال الاجتماعي والفيزيائي بشكل كبير في التصور الشعبي الثقافي، كما في التقسيم الشعبي بين الجسد والروح7.

ترتبط هوية الشخص في المجال الاجتماعي، بمجموعة من الملاحظات التي تظهر في كل المجالات الثقافية، أولا: الاعتقاد السائد بأن هناك كائنات خارقة للعادة، مثل: الكيانات الروحية، الأشباح، الآلهة، والنفوس التي تعيش في الأرواح يبير (2001). كل هذه الكائنات تفتقر إلى هيئات مادية محددة، ولديها علاقات اجتماعية مع الناس ومع بعضها البعض.

ومن هنا فهذه الكائنات توجد في المجال الاجتماعي وليس الفضائي. ثانيا: ليس هناك أي عائق في تصور الأشخاص القادمين بهيئات وصور مختلفة، من خلال التناسج، التحول، أو تحول الجسم. ثالثا: نحن أحيانا في الأحلام نتعرف على أشخاص يتشابهون مع أشخاص في الواقع «كأن نرى عائشة بدت وكأنها فاطمة». رابعا: ملازمة معاناة الفرد مع أحلامه (كولترت 2005، ماسكي، لنكدن).

وزيادة عن ذلك، فبعض الأعمال الفيزيائية، كالأكل والشرب، لها دلالتها من تلقاء نفسها، لكن البعض الآخر، مثل، الأعياد الدينية والأعراس والتصافح بالأيدي، يكتسي دلالته من خلال المعرفة الاجتماعية، باعتباره رمزا لهذه الأعمال. ويمكن أن يستعمل اللباس أو أسلوب الكلام للدلالة على أدوار اجتماعية معينة (البدلة العسكرية، أعلام الدول). وحتى الأعمال الاجتماعية المتعلقة، مثلا: بإخراج الجن من الأجساد، يتطلب أعمالا فيزيائية، وتسمى هذه الأعمال سحرا أو طقوسا. ومن هنا تتحول الأعمال الفيزيائية إلى أعمال اجتماعية، لأن تأويلها يتم من خلال المعرفة الاجتماعية.

وبالنظر، إذن، إلى أهمية تعيين الأشخاص في المجال الفيزيائي والاجتماعي، توجد مجموعة من القوالب المتخصصة، تمكننا من التمييز الدقيق واستخلاص المعلومات الضرورية الخاصة بهذا المجال، ومن هذه القوالب الواردة في تحليل المعلومات المتصلة بالتفاعل الاجتماعي، العناصر التالية:

3) الأنساق الإدراكية والحركية:

أ) قالب الوجه

يشكل تخصصا فرعيا داخل النسق البصري، يوجد في منطقة خاصة بالدماغ ويملك مساره التطوري الخاص به، والأشخاص الذين يعانون من إصابة في هذه المنطقة تكون قدرتهم ضعيفة أو منعدمة في تعرف الوجوه وتمييزها، لكن لم يفقدوا المقاصد العامة للمعرفة الفضائية.

- الخصائص التعبيرية في الوجه:

تخصص يقع داخل النسق البصري، يعنى بالتقاط الخصائص الانفعالية في تعابير وجوه الآخرين وحركاتهم وأوضاع أجسادهم. وهو تخصص حساس يمكننا من قراءة التعبير الانفعالي مهما كانت إشاراته مختزلة8.

 

فالناس يصدرون باستمرار إشارات تعبيرية انفعالية سواء عن وعي أو عن غير وعي، وهو الغالب، ولإنتاج مثل هذه الإشارات يجب أن تكون هناك أنشطة دماغية تحول التعبير الانفعالي إلى بنيات حسية كالابتسام وتقطيب الوجه وهز الحواجب، وبعض الإصابات الدماغية تورث لدى ضحاياها مظاهر انفعالية «مسطحة» وعجزا تاما عن إظهارها.

ب) قالب الصوت:

تخصص فرعي داخل النسق السمعي، وهناك قوالب أخرى في هذا النسق تعنى بتحليل الإشارات اللغوية، لكن نسق تعرف الصوت يعنى بتحليل الإشارات الصوتية المتصلة بهوية الشخص المتكلم، أي بمن هو، ومعلوم أن هناك أفرادا لا يتعرفون شخصا معينا عند رؤيته إلا إذا تكلم.

- الخصائص التعبيرية الانفعالية في الصوت:

يقع داخل النسق السمعي، يعنى بتحليل نغمات الصوت المعبرة عن حالة الشخص الانفعالية، إذا من مستلزمات الفهم الاجتماعي، تعرف هل الشخص متعاطف أو متوجس أو مندهش أو خائف، إلى غير ذلك من الخصائص التعبيرية الانفعالية في نغمة الصوت التي يملك بصددها صغار بني البشر حساسية ظاهرة في سن مبكرة.

في العلاقات التصورية الاجتماعية

توجد علاقات تصورية أولية أكثر تجريدا تكمن خلف فهمنا للعلاقات والتفاعلات الاجتماعية، وهي مظاهر معرفية لا تتعلق بالأنساق الإدراكية والحركية، وليس لها ارتباط متخصص، بل هي عناصر تأليفية تتضمنها البنية التصورية وتتصل بخصوصية مجال التنظيم الاجتماعي/ الثقافي. ومن أبرز هذه العلاقات التصورية القاعدية: تصور القرابة، وتصور )عضوية الجماعة)، والسيطرة.

1) القرابة:

نفترض أن القرابة من أكثر التصورات وضوحا، في جل الثقافات، بحيث نجد أن كل فرد له علاقة خاصة مع الأبوين والأبناء والزوجة والإخوة، وتوجد أوجه عديدة من هذه العلاقة تنبثق أساسا من إرث الثدييات، (بحيث يتم الاعتناء بالصغير داخل الأسرة لمدة محددة بالنسبة للأم). وساهمت نظرية التطور في جعل بناء التصورات والسلوكات ممكنا وإيجابيا9.

يعتبر الإنسان أكثر تطورا من الثدييات الأخرى، لكون القرابة في العالم البشري تتسع إلى نطاق أوسع لتصل إلى القبيلة، ونعثر في العديد من الثقافات على عادات وحقوق وواجبات متطورة حسب درجة القرابة، فنجد مثلا: زنا المحارم مرفوض في جل الثقافات، لكن انتشار هذه الظاهرة يختلف من ثقافة إلى أخرى، وهناك من يعمل على جعلها شيئا عاديا وهناك من يحرمها.

وعلى الرغم من وجود تصورات قاعدية داخل القرابة القريبة، فإننا لا نجدها داخل القرابة البعيدة، لذلك يتم الاعتماد على شخص يخبرنا بأن فلان من العائلة القريبة، ونشعر بشكل فطري أن رابط داخل هذه القرابة. كأن يكتشف الطفل المتبنى أبويه، لوجود علاقة بيولوجية بينهما.

2) عضوية الجماعة:

إضافة إلى تصور القرابة، نجد تصورا اجتماعيا آخر، يتعلق بعضوية الجماعة، التي نعثر عليها في عالم الطيور والثدييات، ومن الشائع أنه حتى في حالة انتمائهم إلى نفس الجماعة، فإنهم يتحدون على نفس العدو. هذا النوع غير التطوري الرابط الاجتماعي فيه لا يقوم على المصلحة، بل على معرفة الآخر بالآخر. ماذا يقصد بهذا؟ يعني أن المقاس الوحيد هو الحكم على الفرد هل هو من الجماعة أم لا، وبذلك سيكون عدوا، ولكي ينضم إلى الجماعة يحتاج إلى وقت طويل، زيادة على ذلك، العديد من المجتمعات الهرمية، مثل: قرود الشانبانزي، فإنها تدافع عن مكان تجمعها ضد جماعة أخرى، علما أن المكان ليس حكرا على مجموعة معينة10.

وفي القرابة، نجد أن هناك تصورات هرمية داخل عضوية الجماعة التي تعنى بالعلاقات البشرية، حيث يتم الامتداد من الفرد إلى الجماعة الكبيرة «من دائرة صغيرة إلى دائرة كبيرة»، ويتم التمييز بينهما على أساس العرف والدين، التراتبية الاجتماعية، الهيمنة، الجنسية.

3) السيطرة:

يقصد بالسيطرة علاقة بين فردين «المسيطِر والمسيطر عليه» في مسائل، مثل: الأكل والغريزة الجنسية، وغالبا ما يرتبط تصور السيطرة داخل المجتمع الحيواني بالعنف والعدوانية والبنية الجسمانية ويرث الذكور مركزا عاليا من لدن أمهاتهم، هذا يعني أن السيطرة ليست إدراكية بل تقوم أيضا على أساس التصور.

وتبنى السيطرة في العالم الاجتماعي الحيواني، بشكل أفقي، بحيث إذا كان «س» يسيطر على «ب» و»ب» يسيطر على «ج»، فإن «س» تسيطر على «ج»، وتتسم السيطرة في المجتمع الحيواني بالثبات، لكن المسيطر عليهم، يسعون دائما إلى مواجهة الصعوبات بهدف تحقيق مراتب متقدمة داخل مجتمعهم.

وإذا تأملنا السيطرة في المجتمع البشري، مثل: علاقة الأب بالابن وعلاقة الأستاذ بالتلميذ ورب العمل بالعامل، فإنها تكون هرمية وليست أفقية، وأوجه التشابه في السيطرة بين المجتمع الحيواني والبشري، هي صفة الثبات، والملاحظ أن هذه العلاقات لا تولد مع الإنسان بل يتم اكتسابها عن طريق معرفة من يهيمن على من؟ وتحت أي ظرف؟

أما الرئيسات، فهي تفهم شيئا خاصا بالعلاقات الاجتماعية، وتختار على نحو انتقائي أفراد تحالفاتها، وتنتقي من له السيطرة على خصم محتمل11.

وسبق وأن أكدنا بأن القرابة وعضوية الجماعة والسيطرة، ليست لها صفة إدراكية فحسب، بل تصورية كذلك، فنحن نتصورها عبارة عن ذوات فاعلة داخل المجتمع لأنه من الصعب فهم هذه الحقيقة التي تبدو طبيعية وبديهية، فغياب هذه التصورات يجعلنا أمام عالم فوضوي وغير منظم، بل حتى ملامح الناس لن تكون لها أي معنى، وبذلك سنكون فقط أمام تجمعات لا معنى لها وليس مجتمعات لها مؤسسات اجتماعية.

ونلاحظ أن تحقق هذه التصورات لا يرتبط بحجم الذهن، وذلك لوجود مجموعة من الحيوانات لها قدرة ذهنية محدودة ومع ذلك، تعتمد التصورات نفسها، ونجد أن هناك بنية مشتركة بين الإنسان والحيوان، فمهما كانت قوة الذهن البشري لن تتجاوز المفاهيم السابقة.

وتؤكد هذه المعطيات بأن القرابة لا تقوم فقط على الإدراك، بل حتى على التصور، وذلك لكون إدراكنا لتصور القرابة، يدفعنا إلى إدراك ماهيتها اتجاه شخص ما من القرابة مثلا: فإننا لا نشعر فقط بصفة مغايرة، بل نتصرف تصرفا خاصا.

إن هذه الأنماط الثلاثة من العلاقات وما يرتبط بها من تصورات لا تقل أهمية كالملكية(باختلاق حقوقها عبر الثقافات)، وتمايز الأدوار الاجتماعية، ووجود طقوس منظمة تبرز الانتماء إلى الجماعة أو تمثلها، تشكل بنيات تصورية كلية عالية التجريد تزودنا بها هندستنا الذهنية المعرفية، لتمكيننا من تنظيم علاقاتنا بالآخرين وتعاملنا معهم وما يجب أن ننتظره منهم.

فعلى أساسها نتعلم معرفة الأقرباء والجماعات التي ننتمي إليها، ومن لا ينتمي، ومن هو المسيطر والمسيطر عليه، وفي أي سياق، كما نتعلم الكيفيات التي ترمز بها هذه العلاقات داخل ثقافاتنا الخاصة التي رغم ما يبدو عليه تنوعنا من اتساع وغنى، إلا أنه ليس تنوعا اعتباطيا، بل هو مجموعة من الاختيارات أو البرامترات الممكنة التي تسمح بتحقيقها عدتنا الأحيائية باعتبارنا بشر12.

خلاصة

نستنتج من خلال ما سبق أن المعرفة الاجتماعية/ الثقافية لدى بني البشر، تعتبر إلى حد ما جزءا من البنية التصورية، وتضم هذه المعرفة أوليات تصورية كالشخص والأنساق الإدراكية والحركية، وتربط بينهما علاقات تصورية اجتماعية كالقرابة وعضوية الجماعة والسيطرة.

وعموما فإننا نسعى من وراء هذا العمل تقديم أرضية مشتركة لمجالات البحث التقليدي المتعدد في دراسة المعرفة، والتي لا تقتصر فقط على الدلالة اللغوية للظواهر الثقافية الشعبية، بل تهتم بالذريعيات والفهم الإدراكي والمعرفة المجسدة والتفكير والتخطيط والمعرفة الاجتماعية/ الثقافية.

الهوامش

1 - أنظر توبي وكوسميدس(1992)، ص. 21.

2 - أنظر توبي وكوسميدس(1975)، ص.75

3 - بينكر(1994)، صص.110 - 113.

4 - غاليم (2008)، ص.1.

5 - المرجع نفسه، ص.3.

6 - جاكندوف (2007)، ص ص 145 - 146.

7 - جاكندوف (1972) وبلوم (2004) وغاليم (1999)، ص.160 - 163.

8 - جاكندوف (1997) وغاليم (2008)، ص ص.5 - 6.

9 - تجدر الإشارة هنا إلى أنساق القرابة الخاصة بالبشر والأدوار الاجتماعية لا يمكن اكتسابها إلا بمساعدة اللغة.

10 - جاكندوف (1994)، ص ص 112 - 113.

11 - طوماسليلو(2006)، ص 33.

12 - جاكندوف (1994)، ص 212.

المراجع العربية

* ستيفن، بينكر( 1994) الغريزة اللغوية - كيف يبدع العقل اللغة، ترجمة، حمزة بن قبلان المزيني، دار المريخ، الرياض، المملكة العربية السعودية.

* غاليم، محمد (1999) المعنى والتوافق، مبادئ لتأصيل البحث الدلالي العربي، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، الرباط، المغرب.

* غاليم، محمد (2008) «أي منهج لدراسة الظواهر الإنسانية والثقافية؟»، مجلة الثقافة الشعبية، السنة الأولى، العدد الثالث، المنامة، البحرين.

* ميشال، طوماسيلو (1999) الثقافة والمعرفة البشرية، دراسة مقارنة بين أطفال البشر والرئيسات، ترجمة، شوقي جلال، مجلة عالم الفكر، الكويت.

المراجع الأجنبية

* Jackendoff, Ray 1994 Patterns in the Mind. New York: Basic Books.

* Jackendoff, Ray 2007 Language, Consciousness, Culture, Essays on Mental Structure, MIT, Press.

* Jackendoff, Ray, Paul Bloom, and Karen Wynn, eds. (1999) Language, logic, and concepts: Essays in honor of John Macnamara. Cambridge, Mass.: MIT ,Press.

* Tooby, and Cosmides,1992 “ The Psychological Fondation of Culture” in: Barkaw Cosmides and Boody(eds): Oxford University. Press.

* Jackendoff, Ray ;1997a. The Architecture of the Language Faculty. Cambridge, Mass.: MIT Press.

* Jackendoff, Ray (1972). Semantic Interpretation in Generative Grammar. Cambridge, Mass.: MIT Pres

الصور

1 ,2 - https://www.freepik.com/

3 - https://socialworkdegreeguide.azureedge.net/wp-content/uploads/2014/10/influential-social-workers-e1412775247650.jpg

4 - http://sites.psu.edu/

reshmajblog/wp-content/uploads/sites/885/2012/11/emotions2.jpg

أعداد المجلة