الأزجال الأندلسية
العدد 44 - أدب شعبي
تطمح هذه الدراسة إلى إقامة معرفة بعاِلمين كبيرين في مجال الدراسات الأندلسية، الأول ينتصر للمدرسة العربية في إطار اشتغالها بالتراث الأندلسي(الأندلسيات)، والثاني يستند إلى مرجعيات غربية تؤطرها رؤى وتصورات وزوايا نظر استعرابية إيبيرية .الأول هو العلامة المغربي الدكتور محمد بنشريفة عميد الدراسات الأندلسية، والثاني الدكتور إميليو غارثيا غوميث Emilio García Gómez عميد الدراسات الاستعرابية الإسبانية وشيخها في العصر الحديث.
وتجسيدا لما قاما به من أدوار علمية كبرى ورائدة في مجال خدمة التراث الأندلسي في تجلياته المتعددة وتمظهراته المتنوعة ستنصرف هذه الدراسة إلى إبراز حجم مساهماتهما العلمية الوازنة في مبحث علمي مخصوص ومحدد ألا وهو مبحث الأزجال الأندلسية.
إذ بين العلامة الدكتور محمد بنشريفة والمستعرب الإسباني غارثيا غوميث علامات تقاطع وتماه كبيرة وبارزة، ونقط التقاء عديدة متنوعة تقربهما أكثر مما تبعدهما، وتجمعهما أكبر مما تفرقهما، فكلاهما فارسُ في ميدانه، ربان عميق الغور في لجة محيطه، بعيد المرامي والغايات، وكلاهما سافر إلى أرض الكنانة «مصر» قصد تعميق دراسته في الآداب العربية ولغتها وفنونها، ورسم خطوط مشروعه العلمي المستقبلي في مجال حضارة إسبانيا الإسلامية في العصر الوسيط، الأول اتصل بالمرحوم الدكتور عبد العزيز الأهواني والثاني اتصل بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وشيخ العرب أحمد زكي باشا.
كما تجمعهما أواصر العلم والانتماء المعرفي والعلمي لقلعة الأندلس المنيعة، وتربط بينهما علاقات ووشائج علمية وإنسانية متينة وعميقة تمتد في الزمان والمكان. يقول العلامة الأستاذ بنشريفة عن هذه العلاقة: «كان بين الأستاذ الكبير إميليو غرثية غومث وبيني صداقة دامت أربعين عاما، فقد عرفته في سنة 1962 عندما كان سفيرا في بيروت، وكنت حينئذ مبعوثا إلى مركز اليونسكو الإقليمي لتدريب كبار موظفي وزارات التعليم في العالم العربي الموجود مقره في بيروت حيث قضيت سنة كاملة، ولما رجع إلى مدريد كنت أراه عند ورودي عليها، ثم جمعتنا دورتي أكاديمية المملكة المغربية منذ إنشائها سنة 1980 فكنا نلتقي في المغرب خلال دورتي الأكاديمية كل سنة وفي مدريد كلما زرتها ، وقد رشحني لعضوية الأكاديمية الملكية للتاريخ التي وافقَت عليها في اجتماعها يوم 25 يونيو 1982، ولما توفي أهديت إلى روحه كتابي عن ابن لبال الشريشي الذي صدر بعد وفاته»1.
وكلاهما أيضا اشتغل بالدراسات الأندلسية، فاهتما بمباحث أندلسية عديدة كالشعر الأندلسي الفصيح والأمثال الفصيحة منها والعامية والأدب والتاريخ والأعلام الأندلسية وفن الأزجال.
وكلاهما حقق عيون التراث الأندلسي وأخرجها إلى حيز الوجود ومنحها قوة التداول العلمي والثقافي من جديد في عصرنا الحديث، بعد أن كانت حبيسة رفوف المكتبات الخاصة والعامة داخل المغرب وبإسبانيا. وكلاهما يعد امتدادا لأستاذه، وفيا لآرائه وأفكاره يتعهدها بالعناية والاهتمام اللازمين ويطورها في بحوثه ودراساته، فالعلامة محمد بنشريفة كان وفيا للدكتور عبد العزيز الأهواني في العناية بمجال الأدب الشعبي مثل دراساته لأمثال العامة والأزجال، على غرار أستاذه في عنايته الشديدة بمباحث أمثال العامة و«الزجل في الأندلس»، بينما ظل غارثيا غوميث وفيا لأستاذه خوليان ريبيرا إي طاراغو Julián Ribera y Tarragó في اشتغاله بقضايا الأزجال الأندلسية كذلك، وما يتصل بها من إشكالات علمية ومعرفية شائكة وملتبسة، لاسيما أزجال ابن قزمان ولغتها ومفرداتها الرومانثية. فإلى المستعرب خوليان ريبيرا يرجع الفضل في إثارة هذا الموضوع الشائك المعقد، حيث اعتمد غوميث في انطلاقة مشروعه لترجمة أزجال ابن قزمان إلى الإسبانية على أفكار أستاذه» فعن ريبيرا الوجه غير العادي، والشخصية الكبيرة، البلنسي الجذاب أخذ غوميث الإحساس الإيقاعي الشعري الموسيقي، ومن هذا المنطلق كان معجبا بأستاذه الذي لا ينبغي أن ننسى مجادلته حول ديوان ابن قزمان Cancionero de Aben Cuzmān، وعرضه الجريء بالأكاديمية الملكية الإسبانية، حيث أضحى هذا العرض نقطة انطلاق لأعمال مهمة ودراسات عظيمة لتلميذه غوميث فيما بعد عن الموشح والزجل التي ضمنها كتابيه المشهورين «الخرجات الرومانثية في إطار موشحاتها العربية» «Las Jarchas Romances de la serie árabe en su marco»، و«كل ما يتعلق بابن قزمان» «Todo Ben Quzmān». وكلاهما أيضا درس الأزجال الأندلسية، فالأول درسها في علاقتها بأمثال العامة، فألف في ذلك أطروحته لنيل درجة الدكتوراه حول أمثال العامة في الأندلس، بينما الثاني تناولها في ارتباطها بالموشحات والخرجة واللغة الرومانثية التي كتبت بها .وكلاهما اهتم بالأمثال الأندلسية الفصيحة منها والعامية، تجلى هذا الاهتمام عند محمد بنشريفة في دراسته وتحقيقه لكتاب «أمثال العوام في الأندلس» لأبي يحيى عبيد الله بن أحمد الزجالي، في حين بحث غوميث عنهما في أعمال ابن عاصم، وابن ليون الألميري، وابن عبد ربه في عقده الفريد...وهكذا.
إلا أن هناك علامات فارقة بينهما، ولكنها قليلة يسيرة وغير مؤثرة في توافقهما العلمي والمعرفي والمنهجي فمثلا يمثل الدكتور محمد بنشريفة التصور العربي النزيه والمتبصر في مسألة دراسة هذه الفنون الأدبية الشعبية المستحدثة في الأندلس وذلك وفق منظور علمي موضوعي يرى في مسألة نشأتها وازدهارها بالأندلس ثمرة تفاعل بين العاميات الأندلسية ونتيجة حتمية لمستوى الانصهار الكبير بين الثقافتين والحضارتين واللغتين المتجاورتين: العربية واللاتينية، بينما يجسد غارثيا غوميث تلك التصورات والرؤى الاستعرابية التي ترى بأن منشأ هذه الفنون، ظهورها وتطورها بالأندلس إنما يعود إلى أصول وعوامل ذات خصوصيات إسبانية مسيحية وإيبيرية.
نؤسس في ضوء ما سبقت الإشارة إليه أنه ليس الغرض من عقد هذه المقارنة بين الرجلين هو بيان نقط الاختلاف والائتلاف بينهما، وإنما القصد من ورائها هو الاقتراب أكثر من عوالمهما الغنية المتنوعة في انفتاحهما على تجليات التراث الأندلسي وتناولهما لمباحثه المتعددة .وسنحاول الاقتراب أكثر من أعمالهما التي تناولت الأزجال الأندلسية فقط أفقا للبحث والدراسة والتأمل ومجالا للكشف والتدبر، دون الإشارة إلى موضوع الأزجال المغربية، لأن ذلك سيكون خروجا عما رسمناه سلفا من حدود لموضوعنا الذي يتمثل فيما هو أندلسي فقط.
محمد بنشريفة ودراسة الأزجال الأندلسية
يعد الدكتور محمد بنشريفة أحد أعمدة الثقافة الأندلسية ومنارتها في العالمين العربي والإسلامي، فهو عميدها، وأحد المدافعين الكبار عن فنونها الشعبية المستحدثة بأرض الأندلس دون منازع، وَسِمَها بعلامات بارزة في مختلف إنجازاته وكتاباته ومؤلفاته الكثيرة والغنية والمتنوعة .
والحقيقة أنه يصعب على الدارس تصنيف مشروعه العلمي ضمن مجال أو حقل معرفي معين فهو يأبى على التصنيف لتنوعه وتشعب قضاياه التي تناولها بالدرس والبحث والتحليل، إذ يتوزع بين حقول ومباحث علمية عديدة ومتنوعة، بين التحقيق والتوثيق وبين الدراسات المنوغرافية لأعلام الثقافة والأدب الأندلسيين المغربيين، وبين مباحث في الفنون الأدبية الكلاسيكية منها، والمستحدثة كالأزجال وأمثال العامة، واللهجات الأندلسية .
إن الجهد العلمي الذي بدله العلامة محمد بنشريفة في دراسته للأزجال الأندلسية جهد كبير ، إذ يمكن اعتباره محاولة أولى مبكرة في إطار اشتغاله بهذا المبحث الأدبي الصعب في الآداب الأندلسية لبلورة تصور علمي دقيق عن لون من ألوان الثقافة العامية بالأندلس، (الأمثال والأزجال) كما تعكسه مؤلفاته وأعماله، فهي تنم عن استقراء، وتمعن في حفريات هذا اللون الأدبي الجديد الذي ظهر في الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس). ولعل أوسع وأهم مؤلفاته التي تناولت هذين الفنين بالدراسة والتحليل الوازنين كتابه الضخم الذي يتألف من خمسة أجزاء بعنوان: «تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب» منشورات وزارة الثقافة، سنة 2006.
فأهمية هذا الكتاب لا تكمن فقط في إفراده بالدراسة والتحليل لهذين الفنين بشكل مسهب ومفصل، وإنما أيضا في جمع كل ما يمت بصلة بالموضوع، وبملاحظات الباحثين المهتمين بهذين الفنين. بل إن الكتاب لا يقف عند حدود تجميع مادة موضوعه فحسب، وإنما يورد ترجمات إسبانية وفرنسية لبعض نصوصهما التي كانت مدار اشتغال ودراسة مستعربين أو مستشرقين غربيين. فقد مكنه اهتمامه الواسع ودرايته العميقة بقضايا هذين الفنين من رصد كل ما يتعلق بهما، ليس فقط في الثقافة الأندلسية وإنما أيضا في ثقافتنا المغربية التي أغفلها باحثون تناولوا نفس المحاور والمباحث المشتركة، وذلك بحكم الطابع الشمولي والعميق الذي تميز به هذا الكتاب الأكاديمي المتميز والشامل لموضوعه .وتميز به صاحبه من غزارة الإنتاج وتنوعه ، ووضوح أفكاره ومقاصده وغاياته .
ولا مراء في أن البناء المنهجي لهذا المؤلف قد اتسم بصفة المعالجة الدقيقة لموضوعه، مع ملاءمة الأجوبة للإشكالات المطروحة واستخلاص النتائج.
وانطلاقا من وعيه أيضا بمبدأ عدم نقاء الجنس الأدبي ، أو وجود جنس أدبي خالص، فإنه عند دراسته ومقاربته للأزجال والأمثال لم يتناولهما كمبحث علمي منفصل أو مستقل، وإنما كان يعي بمسألة التداخل بينهما، بحيث لا يمكن في تصوره المنهجي دراسة الأزجال بمعزل عن الأمثال. لذا فإن الجديد في منهجه ورؤيته هو المزج بين سائر أصناف الأدب التي أمكنه الوقف عليها وتطويرها، بغية الإلمام بتفاصيلها، وتقديم أوفى لصورها عبر استعراض أكبر قدر ممكن من المعلومات عنها.كما أنه لا يقارب موضوعه إلا انطلاقا من مجموعة من الخطوات المنهجية الدقيقة تنبئ عن خبرة المتمرس بمجالات البحث الأكاديمي الرصين، ولا يقدم تصورا واحد مبتسرا وقاصرا، بل يقابل بين كثير من التصورات فيما بينها تقابل العالم العارف بحدود مادته، والخبير بأفق اشتغالها.
ولاشك أن الدارس المدقق للمشروع العلمي للدكتور محمد بنشريفة في دراسته للأزجال بشكل عام سيلحظ أنه قدم مادة علمية غزيرة وناذرة عن الأزجال، لا تقف أهميتها عند تقديم المادة وتحقيقها فقط، وإنما سيجده قد ساهم أيضا في تحديد سماتها البنائية والمضمونية والجمالية والوثائقية، انطلاقا من إبرازه تفاعل هذه المادة مع محيطها السياسي والثقافي والاجتماعي المتنوع. وهو عمل رائد ومجهود كبير لا شك في ذلك.
إلا أن هناك ملاحظة جوهرية نريد الإدلاء بها في هذا السياق وهي أنه من خلال متابعتنا لمستوى عنايته بالأزجال الأندلسية سجلنا بأنها لا تشكل حيزا كبيرا من اهتماماته العلمية إذا ما قيست بأختها المغربية، إلا أن هذه القلة لا تقدح في أهمية التناول الرائد لنماذجها الموجودة والمتاحة في مؤلفاته أو في المستوى الرفيع والشامل الذي تم به دراستها، فمن خلال المادة العلمية الموجودة عن هذه الأزجال الأندلسية وضع محمد بنشريفة مساهمة علمية هامة في سبيل بلورة تصور ناضج وشامل للقضايا التاريخية والتوثيقية والجمالية المتعلقة بهذه الأزجال.
كما ينبني تناوله لقضايا الأزجال الأندلسية على تصور نظري ينطلق من اعتبار أن هناك علاقة جدلية تناغمية بينها وبين الأمثال الأندلسية، فدراسة الأمثال تستدعي بالضرورة العناية كذلك بالأزجال، ويستشهد بأمثلة من أزجال ابن قزمان ومدغليس وابن تاجيتا للورقي وغيرهم . يقول محمد بنشريفة في نفس السياق «وإذا كان الشعر الأندلسي الفصيح قد اشتمل –كما رأينا – على بعض أمثال العامة في الأندلس، فإن من الطبيعي أن تكون الأزجال أكثر منه اشتمالا عليها، وأن يكون صدى الأمثال فيها أقوى رجعا، وأوضح ترديدا، وذلك لأن الزجالين يصدرون في أزجالهم عن اللغة العامية، ومنها يستخدمون ألفاظهم، ويستمدون معانيهم، ويستوحون أخيلتهم وينتزعون تشبيهاتهم، كما أنهم كانوا أكثر احتكاكا بالعامة من شعراء الفصحى، وأقوى منهم انتباها إلى ما يدور على ألسنتهم، وقد وجدنا طائفة من الأمثال في أزجال ابن قزمان ومدغليس من زجالي القرن السادس وعند ابن تاجيتا للورقي وأبي زيد الحداد البكازور، والصوفي أبي الحسن الششتري من زجالي القرن السابع، ولولا مجموع أمثال الزجالي لما استبانت هذه الأمثال في أزجالهم»3.
لذا فمقاربته لمباحث الأزجال الأندلسية تتخذ طابعا حركيا يمتد في الزمان والمكان، فهي لا تقتصر على حقبة زمنية أندلسية واحدة، أو زجال واحد بعينه ، وإنما تشمل لوحات فنية متنوعة لكل من إمام الزجالين بالأندلس ابن قزمان ومدغليس، والقيسي، أبي عبد الله اللوشي، ولسان الدين بن الخطيب، والفقيه عمر المالقي. وهكذا عني بابن قزمان والتعريف بأصوله ونسبه، مع الحديث عن المناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي عاش فيه وساهم في بلورة معالم الإبداع لديه وهو عصر المرابطين، مع ذكره لبعض الظواهر التيمية التي اتسمت بها أزجاله، كالتركيز على مظاهر الحياة العامة والبسيطة التي يحياها عامة الشعب والناس. وقد ركز في معرض ذلك على زجل الزلاقة «فقد قاله ابن قزمان في ذكرى هذه المعركة التي وقعت قبل أن يولد، وجاء تذكره إياها في سياق مدح أمير المسلمين علي بن يوسف واستقباله. ويشتمل هذا الزجل الذي هو أطول أزجال ابن قزمان على مدح علي بن يوسف بن تاشفين ومدح والده وذكر معركة الزلاقة»4.
اهتم أيضا بزجال أندلسي آخر هو مدغليس فقد أظهر العلامة عنايته بهذا الزجال الذي أتى تاريخيا بعد ابن قزمان، ويعتبر خليفة له. فوقف على دلالة أصله ولقبه وبعض أزجاله، ومدى معارضته لبعض أزجال ابن قزمان في الصياغة وفي الأغراض حيث « أن موضوعات مدغليس كموضوعات ابن قزمان تشتمل على مدائح وغزليات وخمريات»5.
كما أظهر عنايته بأزجال القيسي لاسيما زجله الذي نظمه في حصار مدينة ألمرية6، مبرزا أهميته في رصد حيثيات هذا الحصار وظروفه، «فهو يسجل فشل حملة عسكرية وإخفاق حصار بري وبحري، وذلك أنه في سنة 709ه/1309م اجتمع فرناند الرابع ملك قشتالة وخايمي الثاني ملك أراغون وقررا القيام بحملة مشتركة لمحاصرة الجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وسبتة وألمرية، وكانت في الواقع حملة صليبية»7.
ثم أورد زجلا للسان الدين بن الخطيب بعنوان: «افرحوا وطيبوا»، عرض فيه ملابسات نظمه التي كانت «بمناسبة رجوع السلطان محمد الخامس النصري الملقب بالغني بالله إلى ملكه بعد ثلاث سنوات قضاها لاجئا إلى البلاط المريني وعاشت غرناطة خلاله فترة مضطربة»8.
بعد ذلك يختم هذا الجزء بالحديث عن أزجال الفقيه عمر المالقي، معتبرا إياه «أشهر زجال أندلسي في القرن التاسع الهجري...المالقي ميلادا ومنشئا الغرناطي سكنا عرف به معاصره أبويحيى ابن عاصم في الربض الأريض»9.
إن قراءته للأزجال الأندلسية وما يحيط بها من إشكالات كبرى مرتبطة بخصوصيات هذا الفن تتأسس على قناعات علمية ومعرفية، تبين أسلوبه المتميز في سبر أغوار هذه النصوص، وتتأسس على منطق الإلمام والدراية بكل ما يقرب دلالات النص الزجلي من القارئ بمعرفة صاحبه وتاريخ نظمه، وهي تنسجم مع توجهه النظري العام الذي يجعل من مفردات التراث الأندلسي وحدة متماسكة لا يمكن الفصل بين عناصرها ، فالتخريج يقود إلى التحقيق، والتحقيق يقود إلى الدراسة، وهكذا، مع تقديم قراءات وازنة وموضوعية للأزجال، سعيا نحو كتابة تاريخ لهذه الفنون كتابة صحيحة.
محمد بنشريفة واحد من أهم أساتذة اللغة العربية الذين حققوا التراث الأندلسي، وساهموا في بناء حوار الثقافتين المغربية الإسبانية .
لقد اتسم عمله بخاصيتين غير منفصلتين في دراسة الأندلس وحضارته، الخاصية الأولى هي تحقيقه لأمثال العوام، وكانت البداية التي قادته إلى الانشغال بعدة مباحث علمية أخرى لاحقة، أهمها الأزجال. والخاصية الثانية هي انفتاحه على مختلف أشكال وأنواع الثقافة الأندلسية والمغربية، وهو إنجاز علمي كبير يتجاوز من خلاله الباحث مستويات الرؤى الضيقة ليقيم حوارا منفتحا وشاملا مع كافة تجليات التراث الأندلسي والمغربي.
غوميث والشعر الأندلسي المستحدث (الزجل نموذجا)
لا أظن أن هناك مستعربا سيتجدد عنه الحديث بشأن مسألة ترجمة الأزجال الأندلسية ومكوناتها في الثقافة العالمية كما هو الحال بالنسبة إلى إميليو غارثيا غوميث. وليس منبع هذا الحديث من كونه قد طرق هذا الموضوع بعمق ودقة وإسهاب فقط، وإنما مصدر هذه العناية يرجع بالأساس إلى كونه قد جسد بحق صورة الباحث المتمكن في مجاله العلمي، والمترجم الصبور الذي كرس أزيد من أربعين سنة من حياته، في سبيل الكشف عن الإشكالات الكبرى الملتبسة التي كان يطرحها موضوع هذا الفن الأندلسي ، وما يكتنفه من تعقيدات وغموض حول أصوله وامتداداته وحول أمور نشأته وروافده وتأثيره، وما يتصل به من مكونات إيقاعية ولغوية (رومانثية) وتيمية.
ومن الواضح أن خبرته الطويلة في ترجمة الشعر وتمرسه بأصول نقله إلى لغته الإسبانية قد مكناه من إعادة الاعتبار والاهتمام لكثير من الأزجال بعد عزوف الباحثين والدارسين عنها وقلة العناية بها، نظرا لما تمثله من صعوبة في الترجمة،
وبذلك ظلت مسألة ترجمة هذا الفن في حياة غوميث تشكل تحديا معرفيا مستمرا، ومسؤولية علمية كبرى في نقل هذه النصوص بهذا الحجم الكبير من الصعوبات، فكان غوميث يحاول معها أن يركب الصعب والمستحيل، ليكسب رهانات الموضوع بكل ما أوتي من كفاءة ومقدرة وموهبة فنية وعلمية نادرة، ومن إصرار على هزم الغموض والعراقيل التي يخلقها هذا الموضوع.
ويمكن اعتبار هذا الاقتراب من عالمها بمثابة بداية انطلاقة رسمية واعية نحو إنتاج المعرفة والإلمام اللازمين بهذه الفنون الإبداعية (الأزجال والموشحات) التي كانت تقع في المرتبة الثانية من سلم الثقافة الفنية الأندلسية الرسمية للدولة التي كانت تنتصر أولا لكل ما هو رسمي عربي فصيح وتشجع عليه. ولهذا اتجه نظره إلى الاعتماد على مرجعيات خارج الثقافة الرسمية السائدة، كديوان ابن قزمان مثلا .
ولعل اهتمام غوميث بهذه النماذج هو انتصار في حد ذاته للثقافة الشعبية التي تمثل في تصوره نموذجا للإنسان الإسباني المسيحي الذي كان يعيش في دوامة المجتمع الإسلامي الأندلسي بكل تجلياته وتناقضاته وصوره المختلفة، أي أنها تمثل صورة الحياة في مجتمع إسبانيا العصر الوسيط بمختلف طبقاته الاجتماعية البسيطة والمتواضعة، وصوت الشارع النابض بالحياة وحركاتها وما يعج به من واقعية عارية، و«هو أدب كان ينتج خارج المؤسسة الرسمية سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية. وهو بذلك يقع بعيدا عن الرعاية والاحتضان، بل ويجري العمل على نبذه واستبعاده من دائرة الضوء، وقد تسلط عليه الرقابة والمنع إذا ما بدا عليه أنه يتجاوز الخطوط الحمراء المنبه عليها، ولما كانت الأجناس الأدبية هي نفسها صنيعة المؤسسة الرسمية فإنها تعتبر هذا الأدب كائنا منبوذا ومهمشا، لعدم انضباطه لتوجيهاتها واختراقه لبنياتها الموجهة من طرف التقرير الأدبي المتعارف عليه. ولعل الميزة الأساسية لهذا النوع من الإنتاج الأدبي هو كونه يخترق المألوف في التفكير والتعبير وينتهك الطابوات الأخلاقية والاجتماعية ويتجاوز الحدود مع المقدس والمحظور ويخترق الردهات المحرمة للمسكوت عنه»10.
ثم إننا إذا ما وضعنا طبيعة اهتمامات غوميث بفن الزجل الأندلسي في سياقها التاريخي المبكر فسيتضح لنا أن بداية احتكاكه به كانت مع انطلاقة صدور مجلة الأندلس بدراسة نقدية له حول عمل الباحث التشيكي الأصل الأمريكي الجنسية نيكل Nykl عن ابن قزمان11 سنة 1933. لكن وقتها كان احتكاكا أوليا استئناسا فقط، كأي باحث في مراحل مشروعه الأولي الذي يريد أن يكتشف حدود مجاله العلمي.
ولتأسيس هذه الرؤية عنده تجاه الثقافة الشعرية المستحدثة بالأندلس فقد اتجه إلى الاعتماد على مرجعية فنية مقصودة ومحددة ومضبوطة وهي الأزجال لاسيما منها أزجال ابن قزمان استنادا إلى معطيات جديدة مهمة، تدعمها ما اكْتُشِفَ أخيرا من مخطوطات نادرة مثل ديوان ابن قزمان.
ويمكن اعتبار هذه الإبداعات المستحدثة بالأندلس نصوصا مضادة، خصوصا في وجهها الزجلي، حيث تقع في الضفة الأخرى المقابلة فنيا للنصوص العريقة الكلاسيكية الرسمية. لكنها لا ترقى إلى مستواها، وهي نصوص فنية تتجلى فيها كثيرا من الانزياحات المتنوعة: الاجتماعية والتيمية والفنية والإيقاعية واللغوية. وكأنها تؤسس لنفسها مكانا تحت شمس إسبانيا الإسلامية آنذاك، وتريد أن تمثل بحق وبواقعية ثقافة ولغة الحياة اليومية، والحيوية التي تعيشها قطاعات اجتماعية واسعة من المجتمع الأندلسي وقتها، وتخلق لنفسها صوتا مستقلا مقابلا للثقافة الرسمية التي كانت تتربع عرش قلوب الحكام المسلمين وتستحوذ على عنايتهم وتشجيعهم، وهي بذلك تصنع لنفسها حضورها المشروع في خضم صراع الثقافتين: الرسمية والهامشية، واستقلالها الذاتي النابع في اعتقاد غوميث - ومن معه من المستعربين المحدثين – من إسبانية رؤاها وتصوراتها وأدوات إبداعها وطرائق تناولها للأشياء والموضوعات.
وغوميث نفسه باهتمامه بهذه الفنون المستحدثة في إسبانيا العصر الوسيط إنما كان ينادي أو يؤسس لرؤية علمية تستند إلى الدعوة للاهتمام بكل ما هو إسباني الموطن والمنشأ والمادة والموضوع.
إذن توضح المعطيات السابقة أننا لسنا أمام مترجم يترجم فقط نصوصا شعرية إرضاء لذوقه الفني والأدبي الخاص، وإنما نحن أمام مترجم عالِم بحدود ومجالات اشتغاله، يريد من وراء هذه الترجمات أن يعيد الاعتبار لنصوص شعرية كانت هامشية إلى حد ما، وغير معترف بها قديما في الدوائر الفنية الرسمية، ولهذا يتبين لنا كثيرا من علامات الجهد العلمي عنده في سبيل تحقيق ذلك.
ولذلك يمكن القول إنها ترجمات تتواصل أكثر مع نصوص شعرية نبتت في واقع اتسم بتحولات شديدة التجدد والتغيير عما ألفه العرب الخلص الذين عاشوا في شبه الجزيرة العربية وقدسوا نمط القصيدة التقليدية بعتاقتها وجزالتها وصرامة بنيتها الإيقاعية العروضية.
فإذا نحن قمنا بعملية إحصاء لمستويات اهتمام غوميث بالشعر الأندلسي عامة، فإننا سنجد بأن أغلبها يقع حول ترجمة هذا الفن، حيث يشكل في تصوره وجها من أوجه إبراز الشخصية الإسبانية القديمة في بعدها الإبداعي، وليس إبداعا بسيطا، بل هو إبداع مهم، هو إبداع للإيقاع الشعري الجديد. ووجه من أوجه فرض الذات الفنية الجديدة في دوامة الجدل الأدبي بين الثقافتين المضادتين، بين ثقافة رسمية قديمة، وثقافة أخرى تشق طريقها حديثا، وتتخذ صورا عديدة، وتبتكر لنفسها حضورا متميزا في الحياة اليومية، وتتواصل مع شريحة عريضة من الناس، وعلى نطاق واسع.
العناية بعالَم ابن قزمان طموح علمي واعد لدراسة الأزجال الأندلسية
يبدو لنا من الوهلة الأولى أن غوميث قد اضطلع بمهمة شاقة وصعبة عندما قرر أن يترجم أزجال ابن قزمان إلى الإسبانية، فهي ليست بمهمة سهلة يسيرة وهينة، نظرا لكونه قد اختار واحدا من أكبر شعراء إسبانيا الإسلامية صعوبة وتمنعا على المطاوعة والفهم والترجمة، وأكثرهم إثارة للجدل بشعره، وما يتصل به من إشكالات تتعلق بالأصول والامتدادات وباللغة التي نظم بها والعروض والإيقاع وطريقة الصياغة. وصعوبته تكمن أساسا في كونه شعرا شعبيا عاميا تمتزج فيه جميع اللهجات العامية الرومانثية Romance النابعة من الحياة والإنسان والمجتمع في إسبانيا العصر الوسيط، إذ «حاول كثير من المستشرقين في إسبانيا وسائر أوروبا منذئذ فهمه، ولكنهم لم يفهموه إلا فهما جزئيا، لأن لغة الشاعر تستلزم معرفة خاصة بالنحو ومفردات اللغة التي استعملها. إلى أن كان عام 1933 فأخرج العالم التشيكي أ.ر. نيكل نتائج أبحاثه عن ابن قزمان، ونشر شعره ونقله بحروف لاتينية مع ترجمة جزئية بالإسبانية. ولقد أضر هذا النشر بالشاعر أكثر مما نفعه، ذلك أن نشر نيكل تحتوي على أغلاط كبيرة كثيرة ترددت بطبيعة الحال في ترجمته. لكن المستشرق12 الفرنسي كولان وهو المتخصص الوحيد في لغة ابن قزمان وفنه الشعري انتقد هذا النشر انتقادا صارما مقبولا، وهيأ للنشر منذ بضع سنين جميع أزجال مخطوط «لِينِنْغْرادْ» منقولة إلى حروف لاتينية وفق قاعدة ثابتة، وقد سار على ضرورة الانتباه إلى حروف المد والعلة الفاصلة كما ظهرت في اللهجات العربية الأندلسية، وسار على ضرورة التوفيق بينها وبين نظام الزجل الشعري»13.
كما أن غوميث نفسه لم يتردد في الاعتراف بأن عملا مثل هذا عن عالَم ابن قزمان الإبداعي لا يخفى على العارف بحدوده وخباياه ما يقتضيه من جهود كبرى14 في سبيل الوصول إلى تكوين وبلورة معرفة قريبة من مملكة ابن قزمان الشعرية، والحصول على ترجمة تنقل أكبر قدر ممكن من عناصر الجدة والطرافة والابتكار في شعره خاصة وفي شعر الأزجال الأندلسية عامة، خصوصا إذا علمنا بأن مصادر البحث في هذا المجال قليلة جدا، ثم إن هذا القليل لا يفي بالغرض والحاجة المطلوبين والضروريين.
فمعلوم أن ابن قزمان قد طرح الشعر العربي الكلاسيكي جانبا ونظم أشعاره بطريقة جديدة متطورة، واستخدم اللهجة الرومانثية استخداما جديدا وثوريا موفقا، تمكن من خلال ذلك أن ينقل كل ما كان يجيش به نبض الشارع من أصوات وتيارات مختلفة ومتناقضة، وما تلهج به الحياة اليومية لساكنة الأندلس لاسيما في طبقاتها العامة البسيطة.
ولهذا كان غوميث يترجم نصوصا غير يسيرة أو سهلة مطواعة، بل كانت نصوصا صعبة خصوصا في شقيها الإيقاعي واللغوي.
فركوب ابن قزمان فن الزجل بهذه الكثافة اللغوية الجديدة والإيقاعات الصوتية الخفيفة الغريبة على الذوق العربي الذي ألف واعتاد الأوزان الخليلية المجلجلة والصارمة، كان كل ذلك يزيد من عبء غوميث ومن صعوبة مهمته العلمية الملقاة على عاتقه.
وقد لا نغالي في قولنا إذا قلنا إن مشكلة الأوزان واللهجة العامية اللتين تنهض عليهما معظم أزجال ابن قزمان يتطلبان دراسات وافية لوحدهما، فهما من التعقيد بحيث يصعب تناولهما بنوع من البساطة وسرعة الاستنتاج، وتكمن صعوبة هذه الأزجال في أن الغالبية العظمى من أوزانها ذات إيقاع نبري بارز لا عهد للتراث العروضي القديم به الذي يتأسس بشكل واضح على الإيقاع المقطعي. كما أننا نجد اللغة التي نظمت بها معقدة وشائكة يصعب على المترجم المبتدئ اقتحام عوالمها بسهولة ويسر.
وبالتالي فإن التعامل مع عالم ابن قزمان الزجلي نقلا ودراسة وترجمة وتحقيقا يتطلب الاعتماد على ثقافة واسعة وعلى إدراك دقيق للبنى الصوتية والإيقاعية ، وعلى معرفة عميقة بخصائص اللهجة الرومانثية وأبعادها الدلالية، فهو مطلب غير يسير أو في متناول كل باحث. وهذه الخاصية بالذات هي التي أتاحت لغوميث المترجم والمحقق والدارس مساحة واسعة من الحركة داخل هذا الفضاء حيث استطاع من خلالها إظهار مقدرته على الإبداع المجدد في ترجمة هذه الأزجال وتقريب دلالاتها وأبعادها ونماذجها المتنوعة والمتعددة.
وقد لا نكون مجازفين إذا اعتبرنا أن بداية ارتباطه بعالم ابن قزمان تعود إلى الثلاثينات من القرن الماضي، فقد تولد هذا الارتباط مع انطلاقة غوميث نحو ترجمة الشعر عامة، لكنه لم يتناول الموضوع15 بنوع من العمق والاستمرارية والامتداد، فلم يصغ أسئلته عن ابن قزمان خارج هذا الإطار، لكنه ظل مشدودا إلى كل ما يرتبط بابن قزمان مع التعبير في الوقت نفسه عن عمق وعيه بالإشكالات التي يطرحها الشعر العربي المستحدث بإسبانيا الإسلامية في صوره وأبعاده ومظاهره المتنوعة المعقدة، حتى أضحى موضوع البحث في أزجال ابن قزمان «واحدا من الموضوعات الأكثر حبا وقربا إلى نفسية غوميث منذ أن نشر سنة 1933 مقالا رائعا عن ابن قزمان في مجلة زائد ناقص «Cruz y Raya» بعنوان: «ابن قزمان صوت في الشارع» وتابع غوميث طرق هذا الموضوع بمقالات متفرقة إلى أن فاجأنا في سنة 1972 بكتابه الضخم القيم كل ما يتعلق بابن قزمان «Todo Ben Quzmān» في ثلاثة مجلدات كبيرة»16.
والطريف العجيب في ترجمات غوميث التي تناولت عالم ابن قزمان الشعري أنها لم تكن تتناوله كأفق مستقل منعزل، بل تعاملت معه في سياق الأفكار التي تنتمي مرجعيا إلى المنظومة الإسبانية الغربية.
وكان المستعرب الإسباني المحدث خوليان ريبيرا إي طاراغو أول من لفت الانتباه إلى دراسة وترجمة هذا الفن، وأشار إلى إمكانية التوصل بواسطته إلى معرفة العناصر الأولى لنشأة وظهور الإيقاعات الإسبانية المبكرة وتطورها، ومن ثم معرفة أوجه التأثير التي خضعت لها الإيقاعات الأوروبية من جراء ذلك، أي عن طريق قانون التأثر والتأثير، حيث أذاع رأيه في ذلك «منذ سنة 1912، فقد لاحظ التوافق في أبنية المقاطع، وفي القافية المتكررة في أواخره، وقال إن التوافق الملحوظ بين الآثار المبتكرة من الشعر الشعبي العربي الأندلسي وبين أغاني التروبادور في أكيتانيا وبروفانس في العصر الوسيط لا يمكن أن يفسر على أنه محض صدفة. وانتقل ريبيرا من ذلك إلى دراسة المؤثرات المتبادلة بين شعر الملاحم الفرنسي، وشعر الملاحم القشتالي، وذهب إلى رأي جريء واضح: وهو أن النظام الشعري الغنائي الذي ابتدعه كفيف قبره والذي شهره بعد ابن قزمان بعبقريته هو المفتاح السري الذي يفسر مقومات الأشكال الشعرية في النظم الشعرية الغنائية التي عرفها العالم الوسيط المتحضر»17.
ولهذا فقد تأثر غوميث كثيرا بآراء أستاذه ريبيرا في تناوله لمثل هذه المواضيع، وكذا في الميولات والاهتمامات العلمية المشتركة في المباحث الأدبية واللغوية والإيقاعية، إنه استمرار رائع ومتين لمدرسة متينة في البحث الاستعرابي الحديث لعلماء نذروا حياتهم ووهبوا جهودهم العلمية لخدمة ثقافة إسبانيا الإسلامية في تجلياتها المتنوعة والغنية. فكانت ترجمات غوميث ودراساته لهذين الفنين(الزجل والموشح) استمرارا وتتمة لدراسة أستاذه الممهدة لذلك.
ولا شك إذن أن أبرز ما يميز أعمال غوميث في هذا المجال عن بقية الدارسين والمترجمين كنيكل وكولان وبروفنصال، هو أنه استفاد منهم وصحح بعض أفكارهم وآرائهم في الموضوع وأضاف إليها أخرى جديدة بحكم مواكبته الطويلة لمستجدات هذا المبحث ولإشكالاته التي يطرحها.
«كل ما يتعلق بابن قزمان» ثمرة طيبة
لمجهود علمي في مقاربة فن الزجل بالأندلس
كانت هذه الإنجازات منذ سنة 1961 بمثابة مقدمة لسلسلة أو لمشروع طويل وواع من الدراسات وفيض هائل من الأعمال حول هذا الموضوع، وهكذا وابتداء من تلك السنة سيشرع غوميث في الاهتمام الرسمي والجاد بالزجل حيث سيتابع ترجماته في ضوء قناعته بعمق الإشكال الذي يطرحه الزجل الأندلسي عامة وأزجال ابن قزمان بشكل خاص. ويمكن اعتبار كتابه «كل ما يتعلق بابن قزمان»Todo Ben Quzmān بمثابة خلاصات لنتائج طيبة لأغلب إنجازاته وأعماله التي عالجت الموضوع من قريب أو من بعيد؛ فحاول بذلك إثبات كفاءته في ترجمة هذا النوع العسير من الشعر العامي، فكان هذا الكتاب أهم ما ختم به أبحاثه في مجال الحفريات حول الأزجال بصفة عامة حيث وصل إلى الحلقات الأخيرة من تفكيره وتأملاته وأفقه العلمي الذي غذاه بكل جديد طيلة مسيرته العلمية حول فن الزجل.
واللافت للانتباه أن من يقرأ بتأن وبعمق هذه الأشعار القزمانية سيجد فيها كثافة دلالية، ليس مصدرها لغته الشعرية الحية فقط، بل الرؤيا العامة أيضا للحياة ولواقع الإنسان الأندلسي البسيط بكل تفاصيلهما وصراعاتهما، حيث نقل كل ذلك بذكاء ليس من شرفات القصور وغرفها وإنما من ساحات المجتمع والشارع والحياة العامة. ولهذا أطلق غوميث على أول إنجاز علمي عن ابن قزمان عنوان: «ابن قزمان صوت من الشارع» «Aben Quzmān, una voz en la calle».
وخلافا للأدب الرسمي الذي كان يكتب بالعربية الفصحى كان الشعر الزجلي الشعبي في إسبانيا الإسلامية خصوصا عند ابن قزمان يستخدم لغة التخاطب اليومي، ويتناقل بالرواية الشفوية، كما كان إنشاد النص الشعري في الحياة العامة يكسبه بنية فضائية تنافس بعده الدلالي.
ولهذا يرى كثير من المستعربين المحدثين18 أن إبداع الشاعر والمغني الأوروبيين في العصر الوسيط كان امتدادا فنيا وشعريا وجماليا لما كان ينهض به ابن قزمان وغيره من الشعراء الزجالين الجوالين في إسبانيا الإسلامية آنذاك. فابن قزمان كان شاعرا منشدا ومتجولا، وغوميث نفسه يقول عن البنى الإيقاعية لأزجال ابن قزمان: «إن عَروض ابن قزمان موسيقاه وموسيقاه عروضه»19. فأزجاله تخاطب العقل والأذن معا فكان يرتاد الأسواق والساحات والأماكن العمومية . وإذا كان الشعر الكلاسيكي الأندلسي يحترم قواعد اللغة الفصحى ولا يتمرد عليها، وفي احترامه لها امتثال للسائد الرسمي في الدولة وفي المجتمع وفي الثقافة، فإن الشعر العامي الزجلي كان شعر الثورة الفنية على ما هو سائد ورسمي، حيث تتحول عنده هذه الثورة إلى نوع من العزوف والانصراف التدريجي عن هياكلها اللغوية والصوتية والإيقاعية والاشتقاقية الرسمية، وخرق لنظامها بتوليد أنظمة لغوية ونحوية وصوتية بديلة، غير متداولة ومعروفة في الثقافة الرسمية.
وانطلاقا من هذه المعطيات يتضح أن غوميث لم يستطع أن يتخلص من تراث ابن قزمان، الذي كرس حضورا بارزا في أعماله غوميث الكثيرة، وإليه في الحقيقة يعود الفضل في ترجمة الديوان كله وفي إقامة الدراسة عليه، كما يرجع الفضل أيضا إلى أستاذه ريبيرا، إذ منذ أن اهتم بديوان ابن قزمان في بداية القرن الماضي لم تنقطع العناية بفن الزجل والبحث في مكوناته ومعطياته داخل إسبانيا وخارجها.
والجميل في ترجمات غوميث أنها لا تتخذ صبغة ثابتة ونهائية بل هي رغم دقتها وعمقها في تحول وبحث مستمرين عن الجودة والكمال المنشودين، إذ كان يعيد في بعض الأحيان ترجمة بعض أشعار ابن قزمان كان قد نقلها إلى الإسبانية سابقا، فيعيد ترجمتها مرة ثانية ومن جديد «مِثْلَما حدث للزجل رقم 10 في ديوان ابن قزمان ص: 56–59 من المجلد الأول من طبعة غارثيا غوميث سنة 1972، وكان قد نشر ترجمة له من قبل في مجلة «المعتمد، شعر ونثر» المغربية»20، يقول غوميث عن ذلك: «ولنقدم نموذجا للزجل هو ما أسميه «زجل التصغيرات» وهو من أشهر ما نظمه ابن قزمان، وليس من الأزجال المفرطة الطول، وقد قمت بترجمته شعرا مع المحافظة على بنيته وإيقاعه الأصلي، وترجمته هنا تختلف عن ترجمة سابقة قمت بها من قبل21. غير أن ترجمتي الحالية تختلف عن ترجمتي السابقة فقد صححتها بفضل بعض المعلومات التي أفادني بها جورج كولان وليفي بروفنصال، وهناك ترجمة نثرية أوردتها في كتابي «خمسة شعراء مسلمين» في الفصل الخاص بابن قزمان»22.
ولكن لماذا كان يسلك هذا المسلك؟
كان يسلكه لاعتبارات شتى أهمها :
عثوره على بعض المعطيات التي تضيء الموضوع أو بفضل ظهور مستجدات تغني إنجازاته وتزيدها وضوحا ودقة وعمقا، وكذا توصله بمعلومات زوده بها بعض زملائه من العلماء المشتغلين في نفس الميدان.
أنها كانت ترجمة نثرية غير شعرية وكانت في بداية حياته العلمية المبكرة، قبل أن يمتلك خبرة وتراكما وتمرسا واحترافية في هذا المجال.
ويستطيع المتتبع لإنجازاته في هذا المجال أن يلاحظ وبيسر السمة البارزة فيها وهي تلك النظرة التمجيدية للشعر القزماني، مما يدل على أن غوميث كان ميالا منذ البداية إلى هذا النوع الجديد من الشعر، مع إيلائه المزيد من الاهتمام والتتبع اللازمين ، فأضحت جل23 عنايته بعد سنة 1961 مركزة على هذين الفنين الشعريين المستحدثين (الموشح/الزجل) بشكل دفعه إلى العزوف بعض الشيء عن ترجمة النصوص الشعرية الكلاسيكية، فظل حينها يفك مغالق فن الزجل ويحل مشاكله وقضاياه المستعصية التي علقت به وكانت سبب انصراف العلماء عن مدارسته وترجمة نصوصه وتحليلها.
ولهذا ففي كتابه الضخم «كل ما يتعلق بابن قزمان» سيوضح بشاعرية وبإحساس القارئ المتذوق لهذه الأزجال، وبقلم العالم الماهر الخبير الذي خابر الميدان منذ خمس عشرة سنة بسلسلة متنوعة من الدراسات والترجمات، سيوضح فيها كثيرا من الحقائق حول عالم ابن قزمان الشعري، وسيفك كثيرا من الألغاز المرتبطة بإيقاعاته وعروضه ولغته ومواضيعه.
«الكَالْكو ريتْمِكو» أو نحو تقنية بديلية
في ترجمة الشعر الأندلسي المستحدث
وربما كان أبرز وأهم ما يميز تعامله مع هذا الفن (الزجل) على مستوى الترجمة هو توظيفه لطريقة أو لتقنية مغايرة عما ألفناه في أعماله السابقة أثناء ترجمته للشعر الأندلسي الكلاسيكي، وهذه التقنية فريدة من نوعها أطلق عليها إميليو غارثيا غوميث مصطلح «الكَالْكو ريتْمِكو» «Calco Rítmico».
فهل أراد غوميث باستخدامه لهذه التقنية الارتفاع أسلوبيا ومنهجيا وفنيا بمستوى ترجمة الشعر الزجلي كما فعل عندما انتقل أثناء ترجمته للشعر الكلاسيكي من أسلوب الترجمة النثرية إلى الترجمة الشعرية؟
هل قصد بذلك الارتقاء بهذه الترجمة إلى حد المطابقة التامة مع النص الأصلي، أم كانت هناك أهداف ونوايا أخرى مضمرة؟
وما هي القضايا الأساسية التي يمكن أن نستخلصها من أعماله وإنجازاته في ترجمة نصوصهما؟
في الحقيقة هناك أولا مسألة في غاية الأهمية والتي تعتبر أكثر اتصالا بموضوعنا وهي أن اختياره لهذا الفن ونقل نصوصه إلى الإسبانية جاء لتدعيم نظريته حول إسبانية إيقاعه ولغته وطريقة تناوله للأغراض الشعرية، وأن هذا التراث الشعري المستحدث في إسبانيا الإسلامية – في تصوره - فيه من العناصر الكثيرة ما ينتمي إلى المنظومة الجمالية الإسبانية في مظاهرها الأولى المبكرة.
وبالتالي وأثناء اعتماده طريقة «Calco Rítmico» في ترجمة نصوص هذا الفن، فإنه لم يكن يفعل – في نظره – أكثر من أنه يعيد هذه النصوص إلى أصولها الحقيقية (أصول إسبانية)، لذلك نراه يورد أدلة وسياقات حضارية وأخرى تاريخية فنية مبررة لذلك.
فكان دائما يحاول أن يختار في هذا الفن نصوصا ذات ظلال ثقافية وفنية تنتمي مرجعيا إلى حياة المسيحيين وإبداعاتهم، أو لأن أصحابها في تصوره إسبان يصدرون عن واقع إسباني ويتناولون معطيات تنتمي فنيا وتصورا إلى حياة المسيحيين وأساليب تفكيرهم وتعبيرهم عن واقعهم بشكل عام.
ولتحقيق تصوره في إسبانية هذا الفن توسل بتقنية Calco Rítmico في الترجمة التي جاءت معتمدة على ما يلي:
استخدام الكتابة اللاتينية عند النقل الخطي الكاليغرافي للنصوص الزجلية العربية، أي أنه أورد أزجال ابن قزمان مكتوبة بالرسم وبالحرف اللاتينيين وليس بخطها العربي الأصلي الذي وردت به في مظانها.
التزامه بعدد أبيات الأزجال وترتيبها بعد كتابتها بالحروف اللاتينية، وتقيده بكل ما ورد في الأصل مع مقابل لها بالإسبانية في الصفحة المقابلة، ليوصل بالقارئ الإسباني إلى الإدراك في النهاية بأن التشابه في الإيقاع قائم بين النصين (نص الزجل العربي وترجمته بالإسبانية)، وأن ليس هناك اختلافات جوهرية بينهما، لكنها اختلافات بسيطة حدثت بفعل عوامل تطور هذا الأصل القديم إلى ما نجده الآن في الإيقاع الإسباني الحديث، مما يسهل مقارنة الترجمة الإسبانية بالأصل العربي.
وللخلوص إلى نتيجة أساسية حاسمة وهي أن هذا التوافق أو التشابه الحاصل بين إيقاع الزجل وإيقاع الشعر الإسباني عامة لا يمكن تفسيره إلا بحقيقة واحدة تبدو وجيهة ومنطقية عنده ومن منطلقاته وتصوراته، وهي أن الإيقاع الإسباني إنما هو امتداد واستمرار فني وصوتي متطور للإيقاع الأندلسي الذي هو بدوره تأثر بمعطيات أو روافد تنتمي إلى جذور إسبانية إيبيرية غير عربية كانت موجودة قديما بإسبانيا، واستمرت جنبا إلى جنب مع الإيقاع العربي الخليلي، وإن لم تأخذ حظها من العناية والاهتمام الضروريين نظرا لسيادة الثقافة الرسمية آنذاك التي كانت ترعاها الدولة الإسلامية الرسمية بالأندلس، وترى في بقائها واستمرارها وازدهارها استمرارا وبقاء وازدهارا لسيادتها وسلطانها في تلك المرحلة.
إذن ففي هذه التقنية (Calco Rítmico) لا يستلهم غوميث الشكل الهندسي الخطي الذي كتب بهما النصان (النص العربي وترجمته) وكلاهما كتب بأحرف لاتينية لأغراض علمية خالصة، وإنما يعمد إلى ذلك لإعطاء صورة عن التماهي الموجود بينهما إيقاعيا وخطيا، وليؤكد بأن هذا شعرالزجل له إيقاع أو بنية صوتية عروضية نبرية كالإيقاع الإسباني وليست بنية مقطعية كعروض الخليل العربي الذي نظمت به كافة النصوص الشعرية الكلاسيكية، كما أن في نصوصهما «تدوير» وهي طريقة مخالفة للأسلوب الشعري العربي المتين الذي تنتهي فيه الفكرة أو المعنى مع نهاية كل بيت، عكس ما نجده مثلا في الزجل الذي تمتد معانيه إلى أبيات موالية لاحقة .
ومن هنا يتضح في تصوره الفرق بين الشعر العربي العمودي الفصيح وشعر الزجل الذي هو أقرب في كل هذا إلى الشعر الإسباني منه إلى الشعر العربي الكلاسيكي، إذ أن الشعر العربي يفضل وحدة البيت ويقرنها بوحدة معناه ويكره التدوير، ويمجه الذوق العربي الأصيل ويعتبره عجزا من الشاعر لعدم قدرته على احتواء معانيه في بيت واحد لا يتعداه، فغوميث في سعيه المستمر هذا ومن خلال اعتماده على هذه التقنية في الترجمة كان يحرص كل الحرص على إيجاد الصلات أو عناصر الائتلاف بين إيقاع الزجل والموشح وبين الإيقاع الإسباني، فقد حاول من خلال أعماله التي تناولت هذا الفن بالدراسة أو بالترجمة إثبات درجات التشابه ومستويات التماهي الحاصلة بين الإيقاعين معا.
ومن ثم فليس غريبا أن توجه جهوده الكبرى في الترجمة إلى نصوص من هذا الفن(الزجل) بعينه وأن يتابع إنجازاته العلمية في ضوء قناعته وتصوراته بأنه إسباني وليس عربيا.
وقد ساعده نفوذه العلمي وعلاقته وطاقته التي لا تعرف الكلل والملل في العثور على نصوص مؤيدة لتصوراته ورؤاه حول أصول وامتدادات هذا الفن في الأندلس، فكان يعمل على سبر أغوارها وتقليبها من جميع أوجهها لاقتناص منها كل ما يريد، وما يزكي منطلقاته المستبطنة سلفا عن الموضوع.
فظل في أغلب مراحل حياته العلمية يبحث عن كل جديد منها كما كان يغتنم كل فرصة أو مناسبة ليعلن عن صحة أفكاره ومصداقيتها، ووجاهة النتائج التي يتوصل إليها في هذا الباب. ومن ثم كان يضع فرضياته التي كانت محكومة بنتائج معروفة سلفا، وبطريقة مسبقة حتما عن الموضوع المطروح، فيبحث لها عن مستند أو دليل مرجعي علمي، أو فني، أو تاريخي، أو اجتماعي يؤيد ما بناه حول هذين الفنين من قناعات.
ولهذا فغوميث كان يمارس في بعض الأحيان الترجمة الإسقاطية، خصوصا عند ترجمته أو دراسته لهذا الفن، فهو ينطلق من مسلمات نضجت سابقا عنده فيبحث لها في هذا الفن عما يزكيها، وهذا ما كان ينعكس على أعماله في بعض مظاهرها، بحيث تصبح هذه التصورات هي التي تقود أعماله وإنجازاته وتسيرها نحو النتيجة التي هي مرسومة سلفا ومنذ البداية دون أن ينطلق في كل ذلك من هذا الفن وينتهي إليه.
ولهذا اهتم كثيرا بهذا المبحث (مبحث ترجمة الزجل) وأولاه معظم جهوده العلمية، ولم يسخر ولو ربع هذه الجهود مثلا لخدمة العروض العربي الكلاسيكي، إلا في مناسبات قليلة جدا، حينما تطرق إلى الإيقاع الكلاسيكي كما نَظَّرَ له التيفاشي، لا لشيء إلا لكي يؤكد نظريته في إسبانية إيقاعات الزجل.
وحتى طريقة Calco Rítmico التي اعتمدها في نقل نصوصه لم يلتجأ إليها إلا لأنها تحافظ بصورة أمينة على عروض وإيقاعات هذا الفن أثناء عملية الترجمة، وتتيح إمكانات أكبر لمعرفة مكوناته الجوهرية، حتى بعد أن يخضع لعملية الترجمة والنقل من اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية، وذلك لأهداف كما قلنا كامنة في تصوراته مسبقا وهي تأكيده على التشابه الكبير بين الإيقاع الإسباني وإيقاعهما، وهي طريقة دقيقة توسل بها غوميث من أجل البحث عن أصول وجذور وامتدادات العروض الإسباني الإيبيري عموما الذي نما - في اعتقاده – مع الموشحات والأزجال باعتبارهما نماذجه وتجلياته الأولى المبكرة.
ونحن لا نشك إذن في دقة ترجمات غوميث لهذين الفنين أو لفنون شعرية أندلسية أخرى، أو نطعن في جودتها أو كفاءتها وعمقها فهذه أمور وحقائق مسلم بها من قبل كبار العلماء والباحثين في العالم، وإنما نشك في أنه كان موضوعيا نزيها وأنه كان ينجزها بدون خلفيات أو منطلقات أو رؤى مخالفة لما هو سائد في التصورات والقناعات العربية، بل إن هذه الخلفيات تظل تسيره وتؤطر أعماله وتوجهها مثل كيف يختار؟ وماذا يختار؟ وما هي المباحث أو النصوص التي تشكل الأولوية وتستحوذ على اهتمامه قبل غيرها؟
تركيب
وبناء على ما سبق فإننا نقر هنا بضرورة عدم الانسياق الكلي والمطلق وراء الأفكار التي تنادي بأن غوميث كان يدرس التراث الشعري الأندلسي بتجرد وبرؤى موضوعية وبدون خلفيات أو قناعات مسبقة توجهه وتؤطر أعماله من وجهة نظرها، ومن منطلقاتها المحكومة مسبقا بنتائج معروفة.
فكل ذلك يؤكد لنا عدم براءة أهداف الترجمة عنده وعدم موضوعيتها إزاء هذا التراث رغم دقتها وعمقها وبلاغتها وكفاءتها، فغوميث لم يكن عمله خالصا لوجه هذا التراث وإنما كانت هناك بواعث وملابسات ترتبط بالذات الإسبانية في سعيها إلى البحث عن أجزائها الثقافية والحضارية والتاريخية الكامنة في هذا التراث العربي الأندلسي.
وهذا التصور فرض عليه اللجوء من وجهة نظر انتقائية اختيارية إلى ترجمة نصوص لم يكن له بد من اللجوء إليها لولا توفرها على مختلف المعلومات الهامة المحيطة بثقافة إسبانيا العصر الوسيط في شتى تمظهراتها وتلويناتها حتى تكون منسجمة مع ما كان يطرحه ويبتغيه فيها.
حقيقة أنه تعامل مع التراث الأندلسي في شموليته ومباحثه المختلفة، ولكنه كان يركز بشكل أساسي واستراتيجي على ما كان يتوفر فيه من معطيات تنتمي مرجعيا إلى المنظومة الحضارية والثقافية الإسبانية.
وبذلك كان غوميث يصدر عن رؤى غربية في كثير من آرائه حول تمجيد الذات الإسبانية في جوانبها المشرقة في مرحلة العصر الوسيط .
إن غوميث وغيره من المستعربين الإسبان المحدثين أمثال خوليان ريبيرا وآنخل غونثالث بالنثيا وميغيل آسين بلاثيوس وغيرهم ينطلقون في تعاملهم مع التراث الأندلسي من مسألة «المركزية الإسبانية» في مقابل «المركزية الأوروبية»، ومن مسألة تضخيم الذات الإسبانية بإرجاع كل شيء تأثرت به دول أوروبا إلى التراث الأندلسي، هذا التراث الذي هو - حسب تصورهم - في عمقه وأصوله وامتداداته ثقافة إسبانية في تجلياتها القديمة المبكرة، بناها إسبان مسلمون بتفكير وعقلية إسبانيين محليين لكن بلغة عربية.
وبالتالي فإن تأثر هذه البلدان الأوروبية بشتى أنواع المعرفة والآداب والفنون الأندلسية إنما هو في بعده وجوهره تأثر بالمعرفة والآداب والفنون الإسبانية القديمة للعصر الوسيط. هذا التصور نجده بحدة بالغة الخطورة عند آنخل غونثالث بالينثيا حينما يقول: «وفي كل الحالات عندما نتذكر التراث الذي أضافه الإسبان المسلمون إلى الحضارة الأوروبية، نشعر بالزهو لأن هؤلاء الذين خلفوا لنا هذه الروائع الفنية من الزجل والموشحات والنظريات الفلسفية التي تربى عليها المفكرون الغربيون وكتب العلم والطب التي أسهمت في أن تجعل من الحياة الإنسانية شيئا أجمل وأفضل، والذين بلغوا القمة بالحضارة على أيامهم، وجعلوا من إسبانيا أرقى دول أوروبا ثقافة. هؤلاء كانوا أجدادنا، من جنسنا وليس عدلا أن نجردهم من إسبانيتهم لمجرد أنهم كانوا مسلمين»24.
ومن هنا تتجلى الأهداف الإستراتيجية والمركزية التي ينبني عليها الاستعراب الإسباني الحديث عامة في رد كل إبداع أو فن أو تيار علمي أو فكري ظهر بإسبانيا إلى جذور إسبانية لاتينية قديمة.
بينما اتصفت إنجازات العلامة محمد بنشريفة في تناولها للأزجال الأندلسية كأفق للدراسة والبحث والتحليل بالنزاهة والموضوعية، حيث سعى من خلالها إلى وضع أسس علمية قائمة على تصورات ورؤى لا تلغي الأثر الإسباني الإيبيري في هذه النشأة ، كما لا تنتصر بشكل مطلق وأحادي الجانب للتصورات العربية، وإنما تحتكم إلى منطق التاريخ والتـفاعل الثقافي والحضاري بين التراثين: التراث العربي /الإسلامي والمسيحي الإيبيري الذي أضحى من ثمراته نشوء هذه الفنون الشعرية المستحدثة بإسبانيا الإسلامية وتطورها.
الهوامش
1 - بنشريفة محمد ، «تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب» منشورات وزارة الثقافة سنة 2006 ، الجزء الأول ، ص:573 .
2 - Vallvé Bermejo, J. “Don Emilio García Gómez, conde de los Alixares” Cairo, 1998. P 335
3 - بنشريفة محمد، «تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب» منشورات وزارة الثقافة، الجزء الأول، ص:179
4 - نفسه، الجزء الخامس ، ص: 13- 14 .
5 - نفسه، الجزء الخامس ، ص: 30 .
6 - نفسه، الجزء الخامس، من ص: 43 إلى ص: 51 .
7 - نفسه، الجزء الخامس، ص: 45 .
8 - نفسه، ص: 158 .
9 - نفسه، الجزء الخامس، ص: 167 .
10 - بحراوي حسن، «أدب محمد شكري: من الهامشية إلى المركزية»، الملحق الثقافي لجريدة العلم المغربية، السبت 14 يونيو 2003، ص: 3.
11 - García Gómez, E."Ibn Quzmān editado por Nykl". Al-Andalus. Vol. I Fasc: II (1933) Págs.: 453-456.
12 - انظر بروفنصال، «أدب الأندلس وتاريخها»، ترجمة إلى العربية شعير محمد عبد الهادي وراجعه العبادي عبد الحميد، الطبعة الأميرية، القاهرة 1951، القسم الفرنسي من الكتاب، ص: 31.
13 - المرجع السابق، القسم العربي منه، ص: 27.
14 - García Gómez. E. Todo Ben Quzmān. Madrid, (Prólogo)
15 - García Gómez, E. "Aben Guzmān, una voz en la callé (siglo XII)", Cruz y Raya. (1933)
16 - Vallvé Bermejo, J. "Don Emilio García Gómez, conde de los Alixares" Cairo, 1998. p: 340.
17 - بروفنصال، «أدب الأندلس وتاريخها» ترجمة إلى العربية شعيرة محمد عبد الهادي، القاهرة 1951، ص: 45 – 46.
18 - أمثال ريبيرا، وبروفنصال ومنندث بيدال وغيرهم.
19 - Gibert Soledad. "Sobre el (Todo Ben Quzmān) de García Gómez" Al-Andalus. Vol. XXXVII. Fasc: I. (1972). p :234
20 - García Gómez, E. "El zéjel X de Ibn Quzmān" Al-Motamid, 12. Larache. 1948.
21 - انظر مكي محمود علي، «ثلاث دراسات عن الشعر الأندلسي»، ص: 77.
22 - نفسه، ص: 98 ( الهامش).
23 - لم نقل هنا «كل عنايته بهذين الفنين» أو انصرافه المطلق إليهما، وإنما أوردنا كلمة «جل»، لأنه ترجم في أثناء ذلك نماذج من الشعر الأندلسي الكلاسيكي، فواكب العمليتين معا وفي نفس الوقت، وإن كان اهتمامه آنذاك بالزجل والموشح أكثر وأبرز.
24 - مكي الطاهر أحمد، دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة دار المعارف ، القاهرة الطبعة الثالثة 1987 .
الصور
https://i.ytimg.com/vi/3762QKS110k/maxresdefault.jpg
http://3.bp.blogspot.com/-ThPtp1cWZKA/VBqUV8iumrI/AAAAAAAAFSw/6KVPapMtJZk/s1600/La%2BVisita%2Bdel%2Bpntor%2Ba%2BDamas%2C%2BSiria..jpg