فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الرقص مسردُ الجسد

العدد 44 - لوحة الغلاف
الرقص مسردُ الجسد
مملكة البحرين

قبل أعوام قلائل، صدر كتاب للباحثة البريطانية (أنجيلا سايني) تحت عنوان «أمة من العباقرة»، تصف فيه الأمة الهندية، التي أضحت علومها تفرض هيمنتها على العالم. وبالتصرف في هذا العنوان، يمكنُ أن نقول، بأن الهند «تاريخ من الثقافات العبقرية» ذلك لأنها واحدةٌ من أقدم الحضارات الإنسانية، إلى جانب كونها محور من محاور «العصر المحوري»، كما أطلق عليه الفيلسوف الألماني (كارل ياسبرس).

وبعيداً عن الحديث عن العصر المحوري، الذي نوردُ ذكرهُ للدلالة على جذرية وأهمية الثقافة الهندية، فإن الهند وعلى مر العصور، أثرت في العديد من ثقافات العالم بمختلف تفاصيل ثقافتها الروحية، والفكرية، والفنية، وحتى الذوقية، بيد أناّ بصدد الحديث عن جانب من جوانب هذه الثقافة العظيمة، وركن من أركانها الرئيسة، وهو الفن الموسيقي والأداء الحركي المتمثل في الرقص، موضوع الغلاف الخلفي لهذا العدد.

فككل الجزئيات النابعة من ثقافات الشعوب، لا تختلفُ الموسيقى وفنون الرقص، عن كونها ذات اتصالات دينية، أو شعائرية، ففي الحالة الهندية، يؤكدُ المؤرخ (آرثر بشام) صاحبُ «أعجوبة الهند»، أن الآثار الفنية في الهند القديمة «كلها تقريباً ذات طبيعة دينية، أو على الأقل أقيمت لغايات دينية»، وهذا ما أشار لهُ (ويل ديورانت) في موسوعته «قصة الحضارة»، باعتبار الموسيقى الهندية، مرتبطة بالترانيم (الفيدية)، التي نظمت لتُنشد، كما يقول، مبيناً «لم يكن في الطقوس القديمة فرق بين الشعر والغناء، والموسيقى والرقص»، بل أن الرقص خلال الشطر الأعظم من التاريخ الهندي، مثل «لوناً من ألوان العبادة»، فكان بمثابة محاكاة للكون، لا بل أن إلهاً كـ (شيفا)، وهو واحدٌ من أهم الآلهة الكبار في الديانة الهندوسية، ويعني اسمهُ (المُغني)، هو إلهُ رقص، ورقصتهُ «ترمزُ لحركة العالم نفسها»، كما يؤكد (ديورانت).

وبالعودة إلى التآويل الجذرية التي تحاول استفهام مصادر الأشياء لدى الشعوب، يتبينُ إن منبع الحاجة إلى الفنون المرتبطة بالذوق والحس الجمالي في الثقافة الهندية، إنساني كما نفهم من الأسطورة التي تشير إلى أن البشر توسلوا كبير الآلهة، الإله (براهما)، بعد أن فرغ من خلق العالم، ليوفر لهم شيئاً من التسلية، فأفضى الإله بكل أسرار الفنون إلى حكيمٍ يدعى (بهاراتا)، وبدوره نقلها هذا الحكيم إلى البشر، عبر كتابه (ناتيا شاسترا) المخصص لوصف فنون الأداء، وكان من بين هذه الفنون فن الرقص، إذ ما يزال الراقصون الهنود يرقصونها وفق قواعد هذا الحكيم، كما يؤكد (بشام).

ويتخذُ الرقص في الفكر الهندي فلسفتهُ الخاصة، فهو ليس حركة جسمانية منسقة وحسب، «كل حركة للإصبع الصغيرة أو الحاجب ذات دلالة، ويجب التحكم بها تحكماً كاملاً»، كما يبين (بشام)، مضيفاً «تصنف الوضعيات والإيماءات بالتفاصيل، (ذكر بهاراتا وحده) 13 وضعية للرأس، و36 وضعية للعيون، و9 للرقبة، و37 لليد، و10 للجسد»، هذا بالإضافة للنصوص اللاحقة التي اضافت على هذه الوضعيات والإيماءات التي تمثلُ «كل واحدةٍ منها عاطفة أو شيئاً محدداً»، كما يقول (بشام)، وبذلك فضمن هذه المنظومة المؤسسة على أسس «يمكن للراقص أن يحكي قصة كاملة سهلة الفهم على المشاهد الذي يعرف التقاليد»، من حركة الجسد وإيماءاته التي تمثلُ لغةً قائمة بذاتها.

إذاً فالرقص الهندي يقوم بذاته مقام اللغة الرمزية القادرة على أن تعبر عن خبايا الذات، وتستخرج ما في مكنوناتها من عواطف وأحاسيس، فالجسد بكل تفاصيله يتحول إلى مسرد ينطقُ بالترانيم والصلوات، ويحكي الأساطير والحكايات.

أعداد المجلة