في السرديات الثقافيّة الشعبيّة العربيّة
العدد 44 - التصدير
يعرف المشتغلون في مجال الدراسات الثقافيّة cultural studies انهيار الحواجز والحدود بين مصطلحي«الثقافات الشعبيّة» و«الثقافات النخبوية الرفيعة» عالميًا؛ فقد أورد الناقد الثقافيّ جون ستوري John Storey في كتابه المهم «النظرية الثقافيّة والثقافة الشعبيّة» Cultural Theory and Popular Culture An Introduction بعض الأمثلة الدالة على التمازج بين الثقافات على اختلاف أنواعها ومسارات تحولها من رفيعة إلى رائجة أو العكس. فعلى سبيل المثال، يُنظر إلى ويليام شكسبير الآن على أنَّه يمثل الثقافة النخبوية «في حين أنَّ أعماله المسرحيّة كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر تُعد إلى حد كبير جزءًا من المسرح الشعبي، والأمر نفسه ينطبق على أعمال المسرحيّ الإنكليزيّ تشارلز ديكنز. في الثلاثين من يوليو عام 1991 قدّم التينور الأوبرالي لوتشيانو بافاروتي حفلاً موسيقيًا مجانيًا في هايد بارك لندن، وحضر الحفل مائة ألف شخص، وقد تصدّر خبر هذا الحدث الموسيقي الكبير الصحف البريطانية الشعبية «التابلويد» tabloid. وقد نقلت صحيفة الصن The Sun عن امرأة قولها: «لاأستطيع تحمل الذهاب إلى دور الأوبرا الفاخرة بأزياء أنيقة ودفع مائة جنيه للمقعد».
لاحظتُ من خلال ترددي على بعض العروض الأوبرالية والمسرحية في عدد من العواصم الأوروبية التي زرتها ذلك الحرص الكبير على إضفاء مسحة من الثقافات الشعبية حتى على العروض التي ظلَّت إلى أمد طويل تنتمي إلى النخبوي ثقافيًا، كما لاحظتُ أيضًا ذلك الحرص على إضفاء عنصر التنوع الثقافي في توليفة مدهشة لثقافات شعوب عدة من العالم. وعربيًا ينبغي علينا مواكبة كونية الثقافات الشعبية وتلك التحولات الكبرى التي جرت في وظائف الأجناس الأدبية ثقافيًا بين الشعبويّ والنخبويّ. لقدتنبّه المفكر العربيّ محمد عابد الجابريّ في كتابه«العقل السياسيّ العربيّ» إلى ضرورة العناية بالمتخيّل العربيّ الإسلاميّ ومنه الثقافة الشعبيّة العربيّة باعتبارها مكوِّنًا رئيسًا في شخصية الإنسان العربيّ وتكوينه بعد أن كان الجابريّ قد أقصى هذا المكوِّن في كتابه الأول«تكوين العقل العربيّ» بوصفه مكوِّنًا لاعقلانيًا ولامنطقيًا.
من واقع اشتغالي الأكاديمي لاحظتُ قلة المقاربات الثقافية فيما يخص السرديات الشعبية العربية؛ إذ انشغلت معظم هذه المقاربات بالبنيوية المغلقة أو التطبيقات المنهجية الشكلانية المحدودة التي تجاوزها الدرس الثقافي، وقليل من هذه المقاربات هي التي استطاعت الكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة الحاكمة للنوع السردي الشعبي العربي رغم أهمية المتخيّل العربي وخطورته. وهنا أدعو إلى ضرورة تأسيس وحدات بحثية في الجامعات العربية وفي المؤسسات الثقافية العربية الرسمية وغير الرسمية تُخصص بوصفها مختبرات للسرديات الشعبية الثقافية. وبإمكان هذه المختبرات السردية الثقافية الشعبية أن تصدر عن استراتيجية ثقافية للتعاون فيما بينها وللتعاون كذلك مع أقسام مماثلة في كبريات الجامعات الغربية والعالمية المهتمة بالدراسات الثقافية. إنَّ من شأن مثل هذا التعاون أن يخلق إضافة عربية حقيقية في مجال تطوير الدراسات الثقافية الشعبية عالميًا، وأن يعرِّف العالم كله منهجيًا بالمتخيّل العربي والثقافات الشعبية العربية بوصفها نتاجًا مهمًا يصدر عن هذا المتخيّل. وبالإمكان كذلك إنجاز موسوعة ثقافية عربية تفاعلية فيما يخص السرديات الشعبية العربية تمهيدًا لدرسها ثقافيًا؛ وبالإمكان أيضًا إنشاء متاحف سردية شعبية تفاعلية تكون نواة مساعدة للمختبرات السردية الثقافية الشعبية العربية. وختامًا العالم كله الآن في تحولات ثقافية كبرى والثقافات الشعبية ليس مستحاثات أثرية توضع في المتحف بغرض الفرجة والتسلية لقد كانت ولاتزال مؤثرة لذلك لابدَّ لنا من تأسيس جيل جديد من الباحثين العرب يشتغلون في مقاربات منهجية رصينة على السرديات الشعبية العربية من منظور ثقافي.