أثر ثقافتي البادية والمدينة على حرفة ومنتجات السدو التقليدية في الكويت
العدد 43 - ثقافة مادية
مما لا شك فيه أن المنسوجات بمكوناتها المادية، وتركيباتها النسيجية، وتنوعاتها الفنية والتصميمية يمكن أن تعبر عن علوم، وخبرات، ومهارات صانعيها. كذلك يمكن إعتبار المنسوجات على إختلاف أنواعها وإستخداماتها دلائل واقعية لمستويات التطور والتحضر في مختلف الحضارات والمجتمعات.
من هنا يمكن القول بأن المنسوجات على اختلاف أنواعها، وأحجامها، وأشكالها، ووظائفها تعتبر مؤشرات عملية وبراهين حقيقية تدل على مستوى الإتقان الحرفي، والتقدم التقني، والإبداع الفني لمنتجيها. وبما أن «السدو» يدخل في طبيعته ضمن المنسوجات اليدوية التقليدية التي برعت في حياكتها نساء القبائل البدوية في الكويت، لذلك فإنه من المهم البحث بتعمق في طبيعة العوامل التي أسست لوجوده، وساهمت في بقائه على مر السنين.
يعتبر كل من صوف الأغنام، وشعر الماعز، ووبر الجمال المواد الأساسية لحياكة مختلف منسوجات السدو. وإذا ما رجعنا إلى الاستشهاد بما جاء في القرآن الكريم في الآية رقم (80) من سورة النحل حول الانتفاع العملي بالأنعام (الإبل، والأغنام، والماعز، والأبقار)، نجد أن المولى جل وعلا قد أشار إلى ذلك بقوله في محكم التنزيل: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِين}. لذلك يمكن القول بأن الإنسان قد عرف المنسوجات منذ أمد بعيد، واستخدم في منسوجاته الصوف، والشعر، والوبر، ضمن المواد الأولية للنسيج للوصول إلى مبتغاه، وسد احتياجاته الضرورية من ملبس، ومسكن (بيت الشعر)، ومختلف عناصر تأثيث بيت الشعر، وأنواع الأمتعة المستعملة في البادية.
ونظرا لانتقال الإنسان من حياة البداوة والبادية إلى حياة التمدن والمدينة أو العكس بالعكس، نجد أن ثقافة منطقة سكناه يمكن أن تترك بصمات واضحة ومحددة على حياته، وسلوكياته، وممارساته، وعلومه، وخبراته الحياتية. من هنا نجد أنه من المهم أن يتم التوجه لدراسة آثار معيشة سكان بادية الكويت في البادية أولا، ثم انتقال معظمهم للعيش في مختلف مدن وضواحي الكويت على حرفة ومنتجات السدو التقليدية. إن حرفة السدو مرت بمراحل مختلفة أفرزت خلالها منتجات متنوعة ذات صفات ومميزات متنوعة ومتباينة. هذا بالطبع يدعو لإثارة العديد من الأسئلة والاستفسارات حول طبيعة ومدى تأثر حرفة ومنتجات السدو التقليدية بكل من ثقافتي البادية والمدينة.
1 - أسئلة البحث:
من خلال التفكير في موضوع هذه الدراسة، تبرز أسئلة عديدة وهامة ذات إرتباط بماضي، وحاضر، ومستقبل حرفة ومنتجات السدو في الكويت، من أهم هذه الأسئلة ما يأتي:
ما هي أسباب ظهور واستمرار ممارسة حرفة السدو عند سكان البادية من أهل الكويت؟
ما علاقة ثقافة البادية بحرفة ومنتجات السدو في الكويت؟
هل أثرت ثقافة المدينة على حرفة ومنتجات السدو؟ وكيف ذلك؟
أي ثقافة يتوقع أن يكون لها التأثير الأكبر على حرفة ومنتجات السدو في السنوات القادمة؟ ولماذا؟
هل يمكن التوفيق بي ثقافتي البادية والمدينة لدعم وتطوير حرفة ومنتجات السدو؟
أهداف البحث
سوف يتم من خلال هذا الدراسة محاولة تحقيق الأهداف التالية:
تعريف الثقافة والعوامل التي تؤثر فيها.
مقارنة ثقافة البادية بثقافة المدينة.
دراسة آثار ثقافتي البادية والمدينة على حرفة ومنتجات السدو في دولة الكويت.
منهجية البحث
تعتمد هذه الدراسة في تحقيقها على المنهج الاستقرائي القائم على إستقاء الكثير من المعلومات من ناسجات السدو البدويات المتمرسات اللاتي تم مقابلتهن، وتدوين إجاباتهن المتعلقة بتحقيق أهداف هذه الدراسة. كذلك، تم مراجعة الأدبيات المتوفرة، وذات العلاقة بموضوع الدراسة، بالإضافة إلى الملاحظات الشخصية للباحث الذي عمل كمستشار للنسيج في الجمعية التعاونية الحرفية للسدو خلال الفترة ما بين عام 1998م وحتى أواخر عام 2015م.
مصطلحات البحث: معانيها اللغوية وتعاريفها كتوطئة للدخول في موضوع البحث، من المهم جدا أن نتناول بالشرح والتوضيح للمعاني اللغوية العربية لمصطلحات هذا البحث وتعريف كل منها، بهدف فهم معانيها اللغوية، وأبعادها المعنوية.
1 - الثقافة:
كلمة «الثقافة» في اللغة العربية تعني الحذاقة والفهم، فإذا قيل: زيد رجل «ثَقِفْ» ، فهذا يعني أن زيد رجل حاذق وفطن، وإذا قيل: عمرو رجل «مُثَقّفْ»، فهذا يعني أن عمرو رجل معتدل في عقله وفهمه (ابن منظور، الطبعة 3، 1993؛ الجوهري، الطبعة 4، 1987م؛ القزويني الرازي، 1979م؛ الفيروزآبادي، الطبعة 8، 2005م).
أما «الثقافة» (Culture) فقد عرفت لأول مرة من قبل عالم الإنثروبولوجي البريطاني إدوارد تيلور (1832م - 1917م) حيث قال: «الثقافة أو الحضارة بمعناها الإناسي (الإنساني) الأوسع، هي ذلك الكل المركب المعقد الذي يشمل المعرفة، والعقيدة، والفن، والأخلاق، والقانون، والعادات، وكل ما يمكن أن يكتسبه الإنسان كعضو في المجتمع» (Tylor, 1871). أما بالنسبة لعلاقة الثقافة بالإنسان والمجتمعات الإنسانية، فإن يشوتي (2005) بعد قيامه بدراسة مقارنة بين الثقافة والحضارة والأيديولوجيا يرى أن الثقافة بمعناها الشامل: «تبدو كعالم أو ككون ذهني، أخلاقي، معنوي، رمزي، مشترك بين أناس متعددين يستطيعون التواصل عبره، وبفضله يعترفون بعلاقاتهم، وبمصالحهم المشتركة، بإختلافاتهم وتعارضاتهم، ويحسون منفردين أو مجتمعين أنهم أعضاء في كيان واحد يتجاوزهم جميعا، هذا الكيان يسمى بـ (الفئة أو الجماعة أو المجتمع)». كذلك فإن ما يميز الثقافة أنها «تتصل بالواقع الآني للقوم، وإن كان هذا الواقع يستند إلى عمق تاريخي، ذلك أن تاريخية الثقافة هي من تاريخية الجماعة المتصلة بها. إن الثقافة بهذا المعنى تعبير عن الجماعة، حتى أن البعض ذهب إلى القول بأنها نمط معيشة الجماعة لا أقل ولا أكثر» (يشوتي، 2005). هذا يعني أن للثقافة وظيفة اجتماعية تهتم بالتقريب والتآلف، في إطار جماعة واحدة أو خاصة، بين العديد من الناس.
وبما أن الثقافة إنسانية المنشأ، فإنه يمكن القول بأنها شاركت بشكل أو آخر في التأثير على إنسانية الإنسان. ونظرا لجنوح الإنسان في أغلب الأحيان للاستعانة بالرموز المختلفة للدلالة على بعض مفاهيمه، ومعارفه، وسلوكياته تجاه الذات والآخرين، نجد أن العلاقة الرمزية قد توطدت مع الثقافة وأصبحت الرموز أحد أدوات التعبير عن نوعية ومستوى الثقافة الفعالة. هذا ما سيتم تناوله لاحقا في هذه الدراسة حول علاقة كل من ثقافة البادية وثقافة المدينة بحرفة ومنتجات السدو التقليدية في الكويت.
2 - الحضارة:
«الحِضَارة» في اللغة العربية تعني الإقامة في «الحَضَر»، و الرجل «الحَضِر» هو الذي الرجل الذي يسكن في الحَضَر (ابن منظور، الطبعة 3، 1993; الجوهري، الطبعة 4، 1987م; القزويني الرازي، 1979م؛ الفيروزآبادي، الطبعة 8، 2005م)، وقد قالها الأصمعي بفتح الحاء «الحَضَارة» (القزويني الرازي، 1979م).
أما تعريف الحضارة (Civilization) فقد جاء عند عالم الإنثربولوجيا البريطاني إدوارد تيلور (1832م- 1917م) متماثلا مع تعريف الثقافة. ولكن بعد فك التماثل بينهما، يمكن القول: أن «الحضارة تتولد من ثقافة معينة، ولكنها تتعدى هذه الثقافة، وتتجاوزها زمانيا ومكانيا، ولا ترتبط بمجتمع معين بل يمكن أن تتعداه لتشمل منطقة جغرافية بكاملها (قارة مثلا). والحضارة ذات طابع تاريخي، وتراكمي، بمعنى أنها قد لا تلازم المجتمع. وهي تستمر عبر التراكمات الثقافية والآثار على أنواعها بينما يكون المجتمع قد إندثر» (يشوتي، 2005).
3 - البادية والبدو والبداوة:
كلمة «البادية» جاءت من البادي وهو الشيء الظاهر، وهي أيضا «اسم للأرض التي لا حَضَرَ فيها» (ابن منظور، الطبعة 3، 1993؛ الجوهري، الطبعة 4، 1987م; القزويني الرازي، 1979م; الفيروزآبادي، الطبعة 8، 2005م)، وفي مثل هذا يقال للأرض الصحراوية المنبسطة بـ «البَادِيَة» لأنها أرض مكشوفة. من هنا جاء كلمة «البَدْو» وهم سكان البادية، ومنها اشتقت كلمة «البَداوَةُ»، وجميعها مشتقات في مجملها خلاف «الحَضَرْ». وإذا قيل: «تَبَادى» الرجل، فذلك يعني أنه تشبه بأهل البادية (الجوهري، الطبعة 4، 1987م). وفي «البدو» يقول ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع الأول: «العرب أبعد الناس عن الصنائع. إنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري» (ابن خلدون، 2004).
أما بالنسبة لتحديد طبيعة البادية وتعريف مفهومها عند الفوال (1983)، فقد جاء ذلك على الوجه التالي: «إعلم أن العرب منهم الأمة الناجعة، أهل الخيام لسكناهم، والخيل لركوبهم، والأنعام لكسبهم، يقومون عليها، ويقتاتون من ألبانها، ويتخذون الدفء والأثاث من أوبارها وأشعارها، ويحملون أثقالهم على ظهورها، يتنازلون حللا متفرقة، ويبتغون الرزق في أغلب أحوالهم من القنص، وتخطف الناس من السبل، ويتقلبون دائما في المجالات، فرارا من حرارة القيظ تارة، وصبارة البرد تارة أخرى، وانتجاعا لمراعي غنمهم، وارتيادا لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم».
4 - المدينة والمدنية:
كلمة «الْمَدِينَة» في اللغة العربية تعني «الْحِصْن» وكل أرض يبنى فيها حصن فهي مدينة، وجمعها «مُدُنْ». ويقال أن فلان «مَدَنَ» أي إنتقل وسكن المدينة، وينسب الشيء إلى المدينة فيقال عنه «مَدَنِي» (ابن منظور، الطبعة 3، 1993). كذلك يقال: « الْمَدِينَة هي الْمِصْر» (الفيروزآبادي، الطبعة 8، 2005م). بذلك فإن المدنية تعني التحضر والاستقرار، وهي بهذا المعني تكون النقيض من البداوة وكثرة التنقل والترحال.
مقارنة ثقافة البادية مع ثقافة المدينة
من هنا يمكن القول بأن ثقافة البادية مختلفة إلى حد كبير عن ثقافة المدينة، فثقافة البادية متأثرة إلى حد كبيرة بالمعيشة في الأراضي الصحراوية القاحلة القائمة على التنقل وكثرة الترحال، وهذا لا يتيح للمجتمع البدوي نفس فرص النمو الثقافي المتاحة في بيئة المدينة المبنية على أساس التحضر والاستقرار. لذلك فإن العديد من عناصر الثقافة البدوية تنتقل من جيل لأخر بالمشافهة كالشعر، والقصة، والأمثال الشعبية، وتاريخ القبيلة والعرب، ومعرفة الأنساب، وعلوم القبيلة والعرب، ومختلف أنواع الخبرات والمعارف الأخرى ذات العلاقة بحياة البادية. في المقابل، تحفظ وتنتقل مثيلاتها في ثقافة المجتمع المدني من خلال التدوين الكتابي، والتسجيل الصوتي، والتصوير المرئي، وما إلى ذلك من تقنيات. كذلك فإن العديد من منتجات الثقافة البدوية مبنية على «الوقتية» في الاستعمال كبيت الشعر وعناصر تأثيثه ومختلف منتجات السدو الأخرى، على سبيل المثال لا الحصر، بينما تكون منتجات المدينة في أغلبها مبنية على «الاستدامة» مثل المنازل الطينية أو الخرسانية ومختلف عناصر تأثيثهما، وما إلى ذلك من منتجات مادية وأدبية.
علاقة بادية الكويت بحرفة ومنتجات السدو
نظرا للظروف البيئية والمعيشية والمادية الصعبة التى عاشها أهل بادية الكويت، فقد كانت حياتهم مفعمة بالتحديات والصعوبات المضنية. فقساوة الصحراء المعهودة على أرضها القاحلة، وجوها الجاف الملتهب، ومائها الشحيح، وخضرتها الموسمية المتناثرة قد أرغمت سكان البادية على حياة التنقل والتجوال المستمر طلبا للماء، والكلأ اللذين هما من أساسيات الحياة فى الصحراء (Dickson , 1959). هذا النمط من الحياة الذي يعتمد على كثرة التنقل والترحال، أجبر سكان البادية على الاقتصاد في المأكل، والمشرب لمحدوية توفر هذين العنصرين الهامين فى بيئة الصحراء. كذلك ذهب سكان البادية إلى الاختصار والاقتصاد فى الملبس، والمسكن، والمتاع لقلة الخامات الأولية اللازمة لتوفير تلك المطالب، ومراعاة لضروريات سرعة وتكرار التنقل من مكان لآخر حسبما تفرضه عليهم الحاجة، وتقلبات الأحوال في الصحراء.
من هنا جاءت حرفة السدو، وتطورت كحرفة نسائية بدائية لتوفير منسوجات السدو اللازمة لبناء بيت الشعر كمسكن للعائلة، وتجهيزه بمختلف عناصر التأثيث البسيطة في التصميم، والعملية في الاستعمال وإعادة الاستعمال. إن بيت الشعر البدوي بمختلف مواد بنائه، وأسلوب صناعته، وتنوع عناصر تأثيثه، إعتمد على البساطة، والاقتصاد، وتأثر إلى حد بعيد بما كان متوفرا من مواد، وخامات أولية، وظروف حياتية. فالخامة الأساسية المكونة لبيت البدوي هى شعر الماعزالأسود. يقوم رجال البادية بقص (جز) شعر الماعز فى فصل الربيع ثم تغزله نساؤهم، وبعدها تنسجه على نول أرضي منصوب بشكل أفقي متواضع لتحيك منها شرائط سوداء اللون بسيطة التراكيب تسمى فلجان ومفردها فلجة. تتراوح عروض الفلجان بين 60 سم إلى 100سم، كما تمتد أطوال هذا النوع من منسوجات السدو من خمسة أمتار وهو الطول المعتاد لبيوت الشعر الشائعة لغالبية ذوى الأحوال الاقتصادية المتدنية من أهل البادية، ولكن ذلك الطول قد يصل إلى خمسة وعشرين مترا، وهو الطول المرغوب به لصناعة بيت الشعر للأثرياء من الأسر البدوية أو لشيوخ العشائر والقبائل. أما عرض بيت الشعر فيكون بين ستة إلى ثمانية فلجان ولا يزيد فى أغلب الأحيان عرض القطعة الواحدة من الفلجان عن مائة سنتيمترا، وهو عرض منسوجة السدو التى يمكن أن تسيطرعليها ناسجة واحدة.
أثر الثقافة البدوية على حرفة ومنتجات السدو
إن الثقافة البدوية كانت محصورة بحدود ضروريات المعيشة فى الصحراء، إذ لم تكن هناك مدارس نظامية، ولا مناهج تعليمية، ولا مكتبات كما هو الحال عند أهل المدينة لتبادل العلوم والخبرات. إلا إن ذلك لم يمنع معارف وخبرات الأجداد، والآباء من الإنتقال للأبناء، والأحفاد. تركزت الثقافة البدوية حول أنشطة الحياة اليومية، ومقومات البقاء، والتسلية فى الصحراء. هذا، وقد إستعاض أهل البادية عن اللغة المكتوبة إلى حد كبير باللغة المنطوقة، فبرعوا فى قرض الشعر وحفظه، وأتقنوا قول القصة وسرد الحكايات، وتفننوا فى إستخدام بعض أدوات الموسيقى البسيطة كالربابة والناي. بالإضافة إلى ذلك فإن معظم نساء البادية احترفن حياكة منسوجات السدو المختلفة، وتم من خلال نقوشها المتنوعة الرمز للعديد من عناصر البيئة البدوية. كذلك فقد كانت رموز تلك المنسوجات أحد الوسائل الهامة للتعبير العملي عن مهارات، وخبرات، وثقافة سكان البادية، وعلى وجه الخصوص النساء منهم. كانت تلك المهارات المختلفة في مجملها هى أحد أدوات نشر وتناقل الثقافة البدوية، والمعبر عما كان يشعر به ويعايشه أو يتطلع إليه أهل البادية. ولقطع الرتابة والملل، ولتخفيف المشقة التي كثيرا ما تصيب ناسجات السدو إثناء عملية الحياكة فإن بعضهن كن ينشدن الشعر ويتغنين به. من أمثلة الشعر الذي كان يتغنى به عند ممارسة غزل الصوف، قول بعض الناسجات:
يا مـغــيزلي يا فــرفـارة
تســبق بنــات الحـــارة
لعل أول مُؤَلّف يكتب في الكويت ويذكر فيه عن ثقافة البادية وعن حرفة ومنسوجات السدو هو كتاب «عرب الصحراء» أو (The Arab of the Desert) لمؤلفه ديكسون (H.R.P. Dickson) الذي نشره في عام 1959م. ثم جاء بعده كتاب «السدو: الأساليب الفنية للحياكة البدوية» لرونا كرايتن (1989) بالتعاون من جمعية السدو (الجمعية التعاونية الحرفية للسدو لاحقا) حيث شرحت فيه من جديد حول نول ونقوش السدو، مع وصف كامل ودقيق لخطوات حياكة السدو. أما بالنسبة لزخارف، ونقوش السدو فقد كانت مستوحاة من بيئة الصحراء وما يوجد فيها من أحياء حيوانية ونباتية، وجمادات.
من أبسط زخارف السدو هى نقشة «الحباب» أو «الحبوب» (الشكل 1) حيث تعبر هذه النقشة عن الحبوب الجافة الممثلة بالأرز، أو الشعير، أو الحنطة التي يستعملها أهل البادية في طعامهم. هذه النقشة غالبا ما تظهر على جانب أو جانبي قطعة السدو على شكل خطوط أفقية قصيرة (بطول 4 خيوط سداة متراصة جنبا إلى جنب) على جانب، أو جانبي قطعة السدو، وبشكل متبادل يتكرر فيه لونين هما فى الغالب الأبيض، والأسود وقد يكون بألوان أخرى أقل شيوعا مثل الأحمر، والأسود أو البرتقالي والأسود ونحوها. أيضا، نقشة «الضِّليعَة» أو «الضِّلع» (الشكل 1) فهي شبية بنقشة الحبوب، إلا أنها أكثر إستطاله وتنسج تبادليا وسط نسيج من لون مغاير للونين المستخدمين في هذه النقشة، ومسماها مأخوذ من شكل أضلاع الصدر. أما نقشة «ضروس الخيل» (الشكل 1) فهى من مسماها مأخوذة من ضروس أو أسنان الخيل وهى نقشة أكبر من الحبوب ويستخدم فيها لونان أيضا كما فى نقشة الحبوب. من النقوش السائدة، أيضا، فى منسوجات السدو نقشة صغيرة تسمى «العين» أو «العيون» (الشكل 1) وهى عبارة ظهور خيوط سداة بيضاء على شكل نقاط ضمن منسوجة سداة سوداء أو العكس بالعكس، وقد سميت هذه النقشة بالعيون لأنها تشبه العيون الناظرة أو المحدقة من خلال النسيج الأسود.
أما نقشة «العويرجان» (الشكل 1) فقد اشتق إسمها من تعرجات كثبان رمال الصحراء، والبعض يرجعها لفكرة «التسبيح» وذكر الله جل وعلا، وهذه النقشة تبدو للعيان على شكل سلسلة هرمية طولية تكونها مثلثات ذات لونين أساسين هما فى الغالب اللون الأبيض والأحمر المنسوجان على خلفية سوداء (العازمي، 2015). وتأتى بعد ذلك نقشة «المذخرة» (الشكل 1) أو النبات المزهر، وهى نقشة
متطورة من العويرجان. نقشة المذخر غالبا ما تكون خيوطها ضعف نقشة العويرجان ومن أشهر أشكال نقوشها الشكل المعين الذى يبدو لأول وهلة كمثلثي العويرجان وقد التصقا تارة من من ناحية ضلع القاعدة وتارة أخرى بالتبادل من ناحية رؤوس المثلثات.
وتعتبر نقشة «الشجرة» (الشكل 2) من أجمل نقوش السدو، وأكثرها تعقيدا وتنوعا. تقع نقشة الشجرة في قلب منسوجة السدو، وقد سميت هذه النقشة بالشجرة لتنوع وحدات التصميم فيها. فهي كأنها جذع شجرة تتفرع منه أغصان وأوراق، أو نقوش متعددة، ومتنوعة. تختلف نقشة الشجرة عن المذحر والعويرجان فى أنها تتكون خيوط سداتها في الغالب من لونين هما الأبيض والأسود. أما نقشة العويرجان والمذخر فيدخل معهما اللون الأحمر. كذلك فإن نقشة العويرجان تكرر فيها نفس الوحدة الهندسية وهي المثلث، والمذخر يتكرر فيه الشكل المعين أو بعض تفريعاته، إلا أن نقشة الشجرة يدخل فيها كل ما تحب الناسجة أن تضيفه إلى منسوجتها من نقوش أو رموز إنسانية، أو حيوانية، أو نباتية، أو جمادية، وغير ذلك. فمن الأشكال التى وجدت تزين نقشة الشجرة المشط، والعقرب، والحية، واليامعة أو الحرز، والمرأة، والهودج، والجمل، والتراجى أو حلق الأذن، والبراثن أو الوسم وهى إشارات لتحديد الهوية القبلية أو الملكية الشخصية للأفراد أو الهوية القبلية للناسجة، ثم أضيفت الطائرة، والصاروخ، وطلقات الرصاص، والقنابل بشكل متكرر بعد غزو العراق للكويت في 2/8/1990م.
نقشة «الرقم» (الشكل 3) هى أيضا من النقوش المشهورة فى السدو إلا أن أسلوب تنفيذها مختلف عن النقوش سالفة الذكر، حيث تلف خيوط اللحمة حول السداة، و تغطيها على شكل مثلثات أو مربعات متعددة الألوان متصلة من ناحية زواياها أو أضلاعها. ولعل كلمة «الرقم» مأخوذة من الستر أي أن خيوط اللحمة ترقم أو تستر خيوط السداة. تستخدم هذه النقشة بكثرة في البسط، والمساند أو الوسائد، وقواطع بيت الشعر. من أنواع هذه النقشة «الرقم» وهي عبارة عن 8-10 مثلثات متعددة الألوان تمتد على العرض الواحد للمنسوجة و لكن بدون نظام محدد. أما نقشة «الجنح الحنبلية» فهى شبيه بنقشة الرقم إلا أنه إذا استخدمت عدة ألوان فى تصميم مثلثاتها، فإن تلك الألوان تستخدم وتكرر بنظام ثابت ومحدد (الشكل 3). يأتى بعد ذلك نقشة «الشنف الحنبلية» (الشكل 3) وهى 4-5 مثلثات تحاك فى وسط منسوجة السدو، وقد تقطع نقشة الشجرة أو العويرجان أوالمذخر. توجد أيضا نقشة «الحنبلية» (الشكل 3) وهي على شكل معين كبير كعنصر زخرفة يتوسط منسوجة السدو، ويتكون من خمسة ألوان مختلفة على الأقل يحيط بعضها بعضا، أى على شكل معين فى قلب المعين الآخر. نظرا للوقت الطويل الذي تأخذه هذه النقشة في تنفيذها فإنها غير دارجة كثيرا. كذلك اشتق من هذه النقشة نقشة أخرى يطلق عليها «نصف حنبلية» (الشكل 3) وهى نصف نقشة الحنبلية. أما نقشة «رقم حنبلية» (الشكل 3) فإنها تتكون بلف خيط اللحمة حول مجموعة من خيوط السداة.
بعد نسج السدو، والمضي في تشكيله لعمل العدول، أو الخروج، أو المزاود فإن الحاجة تبرز لخياطة أطراف تلك الحقائب المختلفة الأحجام، والأغراض، ومن هنا ظهرت الحاجة «للدرز الزخرفي». من تلك النقوش المستخدمة فى الدرز «ضراس» وهى شبيه بالأضراس أو الأسنان الطاحنة، و«إخشاب» المحكمة الصلبة كالخشب فى حياكتها، و«الحبة» المشتقة من الحبوب المستعملة فى البادية. أما الأهداب، أوالجدايل، أوالكراكيش فتزين بها أطراف الحقائب المعمولة من السدو كما تستخدم السفايف، والمراقيص لتزيين الإبل، والهوادج.
نظرا لإعتقاد أهل البادية بالعين، والسحر، والحسد فإن نساءهم جنحن لإستعمال الودع، أو الأصداف البحرية التي حصلن عليها من أهل المدينة القريبين من البحر، كما إستخدمن أيضا أنواعا من الخرز الأزرق أو الفيروزي لإبعاد العين، أو الحسد عنهن، وعن أبنائهن، وأفراد عائلاتهن.
مما تقدم نرى أن ثقافة أهل البادية، وعلومهم البسيطة التي نتجت عن التجربة والمشاهدة الشخصية المباشرة، أو العلم المتوراث أبا عن جد، أو أما عن جدة قد أثرت فى حرفة السدو وبالذات فى النقوش التي تزين منتجاتها المختلفة التي عبرت بشكل واضح، وصادق عن تلك الثقافة التلقائية فى نوعيتها، العميقة فى جذورها، والغنية فى تعبيراتها، ويكفينا فى هذا المقام ما نشر ضمن مجموعة مصورات «السدو» التى نشرت للمرة الثانية في عام 1982م من قول الشاعرة البدوية التى عبرت عن سعادتها، وأحاسيسها، وعلاقتها المباشرة بسدوها فقالت:
يوم أن اقضيت شغلي قبل تقضني
مزاودي خلصت واليوم أخشمهــا
النقش بالمزودة من شغلي وفني
فيها يـدي عالمه ما حـد يعلمهــــا
الرقم والشـنف شغله ما يعوقـني
والمفرشة عقب باكر نبي نولمها
باكر لشـد القطين وزملهــم دنـي
كل على نضوها شالت ولايمهــــا
أثر ثقافة المدينة على حرفة ومنتجات السدو
لقد كان اندماج بعض القبائل التي سكنت بادية الكويت متفاوتا مع سكان الحواضر أو المدن الكويتية منذ البدايات الأولى لنشأة دولة الكويت في بداية القرن السابع عشر (الهاجري، 2006). فأفراد قبيلة العتوب، على سبيل المثال، هم أول من تأقلموا مع حياة المدينة، وإندمجوا مع مكوناتها السكانية بسرعة، ثم اشتغل معظمهم في المهن البحرية المختلفة من غوص على اللؤلؤ، والتجارة، وصيد الأسماك. إلا أن معظم القبائل الأخرى قد ارتبطت بالمدينة بما يسد إحتياجاتها، فكان أفرادها يقدمون للمدينة لبيع بعض منتجاتهم الحيوانية كالصوف، والسمن الحيواني، والإقط وغيرها من المواد، ولشراء ما يحتاجون إليه من أرز، وحنطة، سكر، وملح، وللعلاج في بعض الأحيان. وبقيت قبائل أخرى أبعد عن المدينة من الفريقين السابقين، تسكن البادية وتعيش على رعي الإبل والأغنام والماعز.
مما لا شك فيه أن طبيعة المدينة والحياة فيها يختلفان إلى حد كبيرعن مثيلاتها في البادية. فطبيعة المدينة قائمة على الثبات والاستقرار، أما البادية فطبيعتها مبنية على التنقل والترحال. كذلك فإن حرف، ومهن، ومنتجات، وخدمات المدينة مرتبطة بالثبات، والإستقرار اللذين هما من أهم سمات العيش في هذه البيئة الحضرية. في المقابل فإن حرف، ومهن، ومنتجات، وخدمات البادية مرتبطة ببيئة البادية ومتأثرة بحياة التنقل والترحال. من هنا نجد أن حرفة السدو التي كانت تمارس من خلال الناسجات المنتميات للقبائل التي انتقلت من العيش في البادية إلى السكن والإستقرار في المدينة قد تأثرت بشكل ملحوظ في كيفية وآلية ممارسة حرفة السدو، كما تأثرت طبيعة ونوعية منتجات السدو التقليدية لتظهر منتجات جديدة تتناسب في احتياجات التمدن والإستقرار في البيئة الجديدة.
أثر ثقافة المدينة على ممارسة حرفة حياكة السدو
نظرا لانتقال معظم أبناء وبنات القبائل البدوية من العيش في البادية إلى العيش في المدينة، فقد تدنت مع مرور الوقت الحاجة إلى ممارسة الناسجات المتمرسات لحرفة السدو بهدف إنتاج بيوت الشعر ومختلف منتجات السدو الأخرى التي كانت تستعمل إما لتأثيث بيت الشعر، أو لحفظ ونقل الأغذية والأمتعة الشخصية والعائلية المختلفة، أو لتزيين بيت الشعر، أو لتجهيز الهوادج لتنقلات النساء والأطفال، أو لتجهيز وتزيين الجمال والأحصنة. كذلك فإن هذه الحالة تعاظمت بعد توجه أغلبية بنات القبائل لتحصيل العلم والعمل في مختلف الوظائف المدنية، مما أدى وساهم مع مرور السنين إلى تنامي عزوف بنات القبائل اليافعات في السن والشابات على السواء عن تعلم أصول ومهارات ممارسة حرفة السدو، فإنحسرت بذلك أعداد الناسجات الممارسات لهذه الحرفة اليدوية التقليدية.
أثر ثقافة المدينة على تصميم نول (آلة حياكة) السدو
عند إستقصاء آثار عيش البدو في مدن وضواحي الكويت المختلفة عوضا عن العيش في البادية، نجد أن معظم الناسجات من نساء القبائل التي هاجرت للمدن والضواحي قد واجهن عددا من الصعوبات في نصب أنوالهن لممارسة حرفة السدو داخل منازلهن الحديثة ذات الأرضيات المبلطة بالكاشي الموزاييك أو السيراميك أو الرخام، بدلا من الأراضي الرملية السابقة التي عملن عليها في البادية. هذا التغيير في أرضية العمل وممارسة حرفة السدو، فرض عليهن واقعا جديدا كان السبب في تطوير تصميم نول السدو التقليدي إلى نول آخر يعمل بنفس الطريقة ولكنه في وضعية رأسية (قائمة). حافظ نول السدو الجديد على نفس أجزاء وطريقة عمل النول التقليدي الأصلي ولكن إختلفت مواد بنائه فأصبح له هيكل خشبي ومزود بكرسي لزيادة راحة الناسجة عند العمل عليه. كذلك فقد تم بعد الإنتقال من البادية إلى المدينة في معظم الأنوال الأرضية التقليدية تقنين الحد الأقصي لطول النول بما يتناسب من طول الفراغ المنزلي المتاح لنصب هذا النول. أما الجيل التالي من نول السدو فقد تم تصميمه ليتم النسج عليه في وضع رأسي. في التصميم الرأسي لنول السدو تم مراعاة الجوانب الأرجونومية (قياسات جسم الإنسان) وأصول الجلسة الصحية للناسجات، بهدف تشجيع البنات اليافعات والشابات على ممارسة حرفة السدو بأعلى مستوى من الراحة البدنية، والمهنية الحرفية، والجودة الإنتاجية.
أثر ثقافة المدينة على إختيار مواد إنتاج السدو
أما بالنسبة للتغير الذي طرأ على المواد الأولية لنسج مختلف منتجات السدو، فأولها تمثل في دخول خيوط القطن البيضاء لخط الإنتاج اليدوي للسدو جنبا إلى جنب مع الصوف الأبيض أو عوضا عنه في أغلب الأحيان. تم إستخدام خيوط القطن لعدة أسباب من أهمها:
نصوع بياض خيوط القطن مقارنة بخيوط الصوف المائلة للإصفرار.
جاهزية خيوط القطن للنسج في مقابل الحاجة لبذل الكثير من الجهد في تنظيف وغزل الصوف الأبيض وتجهيزه لعملية النسج.
تدني تكلفة خيوط القطن مقارنة بتكلفة خيوط الصوف.
توفير الوقت والجهد بإستخدام خيوط القطن الجاهزة للنسج في مقابل خيوط الصوف التي تحتاج للتجهيز (تنظيف وغزل وتلوين) لتلك العملية.
وفي العقدين الماضيين تم إستخدام خيوط الأكريلك (أو ما يطلق عليه محليا عند البعض بالصوف الصناعي) الملونة بدلا من خيوط الصوف الطبيعي التي تحتاج للتلوين والصباغة اليدوية. هذا الإستخدام قلل من قيمة وجودة منتجات السدو التي كانت تعتمد على إستعمال المواد الطبيعية الصرفة. كذلك فإن الناسجات قمن بإستخدام الصبغات والألوان الكيميائية التي تباع في الأسواق المحلية والمستوردة من بعض الدول المجارة أو الصديقة بدلا عن الصبغات الطبيعية التي كانت تؤخذ من البيئة المحلية مثل الفوه، والعرجون، والحنة، والعصفر، بالإضافة للشب والخل لتثبيت الصبغات الطبيعية بغرض تلوين خيوط الصوف المائلة للبياض.
أثر ثقافة المدينة على رموز ونقوش السدو
أثرت ثقافة المدينة على نقوش وزخارف السدو بشكل ملحوظ، فقد ظهر ذلك واضحا على مرحلتين. بدأت المرحلة الأولي بظهور رموز مختلفة للإنسان على هيئة رجال الجيش أو الحرس الوطني، أزواج أو أبناء أو أقارب الناسجات، من خلال حياكة أشكالهم الرمزية بالزي العكسري، وظهور أحد الرتب العسكرية كالرقيب المتمثلة في ثلاثة خطوط محاكة على شكل ثلاثة زوايا متراصة خلف بعضها البعض. كذلك ظهرت رموز لباصات المدارس، والسيارات، وبعض الكتابات البسيطة التي كانت تحاك إما على شكل أحرف أبجدية متقطعة أو على شكل كلمات مثل كلمة «الكويت». ومع تعمق الثقافة الدينية عند الناسجات نتيجة ذهاب بعضهن للصلاة في المساجد، أو سماع دروس وخطب رجال الدين في التلفزيون أو الإذاعة، أو التعلم في المدارس، فقد إختفت رموز ذوات الأرواح مثل الإنسان ومختلف أنواع الحيوانات والطيور من نقوش السدو التي كانت تظهر في نقشة الشجرة، التي تنسج على طول منسوجة السدو، بسبب شيوع بعض الأحاديث النبوية الشريفة حول تحريم تصوير ورسم ذوات الأرواح. وبعد السكن في بيوت حديثة، ودخول بعض الأجهزة الإلكترونية للمدينة كالراديو والمسجلة، وبعد مشاهدة الطائرات المختلفة تطير في سماء الكويت، دخلت رموز هذه العناصر الجديدة لتضاف إلى قائمة نقوش ورموز السدو التي تنسج في نقشة الشجرة. ثم بعد غزو الكويت من قبل جارتها العراق وبعد تحرير الكويت من الغزو، ظهرت نقوش الطائرات الحربية بتصاميم مختلفة، كما ظهرت بعض الأسلحة كالصواريخ والقنابل ضمن نقوش السدو. من هنا يمكن القول، أن معايشة ثقافة المدينة بمفهومها وتعريفها الشاملين، قد فتح أبواب المشاهدة والخيال عند ناسجات السدو المتمرسات والحديثات، فإنتجن قطع سدو جميلة كانت تعكس من خلال نقوشها وعناصر الرمز المختلفة فيها عمق ومدي تلك التغييرات.
أثر ثقافة المدينة على منتجات السدو
عندما كانت نساء وبنات القبائل يعشن في البادية، فقد ساد بشكل عام على مختلف منتجاتهن من أعمال السدو الجانبين الوظيفي والجمالي. فالجانب الوظيفي قد فرض نفسه على جميع تلك المنتجات المتمثلة بشكل رئيسي في بناء بيت الشعر وتجهيزه بمختلف عناصر التأثيث الضرورية من بسط، وزل، ومساند، وفرش، ومزاود، وعدول، وخروج. أما الجانب الجمالي فقط برز بشكل ملفت للنظر والإنتباه من خلال إختيارهن وإستخدامهن الألوان الجذابة كالأحمر، والأزرق، والأخضر، والبرتقالي، والعنابي، بالإضافة إلى الألوان الطبيعية لما كن يتحصلن عليه من صوف الأغنام عند نسج قطع السدو المختلفة ليضفين على مساكنهن في بيئة الصحراء الجرداء لمسات فنية ملونة غاية في الروعة والجمال. كذلك برعت ناسجات السدو في تصميم مختلف أنواع النقوش التي تم ذكرها في متن هذه الدراسة، كما أظهرن ذلك ببراعة تامة من خلال تصميم وإنتاج السفايف والمراقيص لتزيين الجمال، والخيل، وهوادج النساء، ومقدمات بيوت الشعر، والأهداب أو الكراكيش التي كانت تزين المزاود، والعدول، والخروج. إلا أنه بعد إنتقال معظم سكان البادية إلي المدن والضواحي المختلفة والإنبهار بطبيعة وتنوع وإزدهار البيئة الحضرية الجديدة، فقد مالت بعض قطع السدو للبساطة في تكويناتها ونقوشها، مع الإحتفاظ إلى حد بعيد بهويتها البدوية. كذلك قل ظهور نقشة الشجرة التي طالما تباهت بها الناسجات المتميزات «الضفرات» من بعض منتجات السدو الحديثة لقلة عدد من يجدن إنتاجها، و لكون قطع السدو التي تحتوي على نقشة الشجرة تأخذ وقتا طويلا وجهدا كبيرا من الناسجات الحديثات اللاتي يملن لإنتاج أغز وكسب مادي أسرع.
بالإضافة إلى ذلك، فقد ظهر نوع جديد من بيوت الشعر التي تتناسب مع حياة المدينة من خلال إستخدام نسيج السدو التقليدي لعمل بيوت الشعر التي تنصب على أعمدة وجمالونات حديدية لتبنى منها أماكن تجمع خاصة بالرجال خارج المساكن الحديثة تعرف بالديوانيات، بدلا من بناء بيوت الشعر التقليدية للسكن العائلي في البادية. وتدنت الحاجة لإنتاج المزاد والخروج والعدول بسبب توفر البدائل الحديثة لها، وبسبب زيادة إستقرار تلك القبائل البدوية في المدن والضواحي، وندرة الحاجة للتنقل والترحال في البادية.
بالإضافة إلي ماسبق ذكره، فقد قامت الجمعية التعاونية الحرفية للسدو من خلال بعض المصممين والمصممات المتعاونين معها بتصميم العديد من قطع الإكسسوارات المختلفة والحقائب، والفايلات، والمخاد أو الكوشيات, وبعض قطع الأثاث كالكراسي، والطاولات التي طعمت بمنسوجات السدو، فجمعت بذلك بين إبداع التصميم وأصالة الهوية. كذلك فقد إستعملت بعض نقوش السدو الشائعة كالعويرجان والمذخر والضليعة وضروس الخيل في تزيين بعض أباريق وأكواب الشاي، وعلب المحارم الورقية، وبعض أنسجة الملبوسات النسائية، والأواني الزجاجية والمعدنية على السواء. من هنا نجد أن ثقافة المدينة تركت آثارا إيجابية ملحوظة على حرفة ومنتجات السدو. وفي نفس الوقت فقد كان لهذه الثقافة آثارا سلبية على هذه الحرفة ومنتجاتها تمثلت في تدني الإقبال على منتجات السدو التقليدية المختلفة بسبب الإنتقال من البادية إلى المدينة للعيش، والعمل، والتعليم ، مما أدي لتقلص الحاجات الأساسية التي ساهمت في إنتشار وشيوع إستعمال السدو في بيئة البادية.
مستقبل حرفة ومنتجات السدو في ظل تنامي ثقافة المدينة وتراجع ثقافة البادية
خلصت نتائج هذه الدراسة في الإجابة على أسئلة البحث، إلى أن الثقافة البدوية السائدة كان لها في الأصل دور كبير، ومؤثر في صياغة كل من حرفة، ومنتجات السدو، إلا أن تلك الآثار أخذت في الإنحسار بسبب التغييرات التي أصابت الحياة الاجتماعية والثقافة البدوية بعد الإحتكاك بمثيلاتها في المجتمع المدني نتيجة العيش في مدن وضواحي الكويت المختلفة.
وفي ظل دخول حياكة منسوجات السدو مجال التصنيع الآلي، وإنخفاض أسعار تلك المنتجات من بيوت شعر ومختلف عناصر تأثيثها والإكسسوارات المستخدمة في سد الإحتياجات الفردية والأسرية التي سبق تناولها في متن هذه الدراسة، ولمواجهة الإنحسار المتنامي في ممارسة حرفة السدو، فقد بات من الضروري إعادة دراسة وتقييم الجهود المبذولة حاليا من قبل كافة الأفراد والجهات المعنية بالمحافظة على حرفة السدو وتطوير منتجاتها لتتناسب مع التغييرات والتطورات التي طرأت على «المجتمع البدوي» بشكل خاص خاص، ولكي تتناسب مع التوجهات المعاصرة في الإنفتاح على مستهلكين «غير تقليديين» من جهة أخرى. كذلك بات من الضروري إيجاد قنوات وأدوات للتقارب بشكل عملي أفضل بين ثقافتي البادية والمدينة بهدف المزج بين أثريهما بشكل إيجابي للتأثير على ممارسة حرفة السدو، وتنويع الإنتاج من خلالها.
الخاتمة والتوصيات
مما سبق تناوله، يمكن القول بأن استشراف مستقبل حرفة ومنتجات السدو في ظل تناقص تأثير ثقافة البادية، وتنامي تأثيرات ثقافة المدينة ينذر بالخطورة التامة على استمرارية ممارسة هذه الحرفة التراثية الأصيلة، والمحافظة على أصالة ووجودة منتجاتها المختلفة ما لم يتم عمل ما يلي:
إعادة النظر في مقومات استمرارية ممارسة حرفة السدو، والأسباب التي يمكن أن تشجع من جديد على زيادة ممارسة هذه الحرفة اليدوية التقليدية التراثية.
فتح قنوات التقريب بين ثقافتي البادية والمدينة ثم إدماجهما مع بعض من خلال برامج التعليم والتدريب المختلفة لكيلا تكون إحداهما غريبة على الأخرى بشكل كبير.
دراسة فكرة إعادة توظيف منتجات السدو التقليدية بشكل عصري يتناسب مع احتياجات المستهلكين الجدد.
تحديد شرائح جديدة من المستهلكين التقليديين وغير التقليديين التي يمكن أن تكون سوقا استهلاكية جيدة لمنتجات السدو التقليدية أو الحديثة.
تكثيف برامج وورش التدريب على ممارسة حرفة السدو بشكلها ومحتواها ومنتجاتها المطورة.
الإرتقاء بمستوى جودة منتجات السدو مع مراعاته عدم رفع أسعار تلك المنتجات إلى مستويات غير منافسة لمثيلاتها من المنتجات المستوردة.
فتح أسواق جديدة محليا وإقليميا وعالميا لمنتجات السدو التقليدية والحديثة.
المراجع العربية
* ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد (2004م). مقدمة ابن خلدون. تحقيق عبدالله محمد الدرويش، دار يعرب. دمشق: سوريا.
* إبن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم. لسان العرب. (الطبعة 3، 1993م). دار صادر، بيروت: لبنان.
* الجوهري، إسماعيل بن حماد. الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية. ( الطبعة 4، 1987م)، دار العلم للملايين، جمهورية مصر العربية.
* الفيروزآبادي، محمد بن عمر الشيرازي. القاموس المحيط. (الطبعة 8، 2005م). مؤسسة الرسالة للطباعة وانشر والتوزيع. دمشق: الجمهورية السورية.
* القزويني الرازي، أحمد بن فارس بن زكريا. معجم مقاييس اللغة. (1979م)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق: الجمهورية السورية.
* الهاجري، د.عبد الله والعنزي، محمد نايف مدخل إلى تاريخ الكويت الحديث والمعاصر,( الطبعة الأولي، 2006) مركز القرين للدراسات التاريخية، الكويت.
* يشوتي، محمد. الثقافة والحضارة والأيديولوجيا. علامات. (2005، العدد 24، ص51-58). مكناس: المغرب.
* العازمي، حمد (2016). مقابلة شخصية حول مسمات نقوش السدو. الكويت.
* الفوال، صلاح مصطفى (1983). البناء الاجتماعي للمجتمعات البدوية. دار الفكر العربي. القاهرة: جهمورية مصر العربية.
* الجمعية التعاونية الحرفية للسدو (الطبعة الثانية، 1982). مجموعة مصورات «السدو». دولة الكويت.
* كرايتن، رونا (1989). السدو: الأساليب الفنية وللحياكة البدوية. ترجمة عزة محمد كرارة. بيت السدو : الكويت.
المراجع الأجنبية
* Dickson, H.R.P. (1959). The Arab of the desert. George Allen amd Unwin: London.
* Tylor, Edward B. (1971). Primitive Culture: Researches into the development of Mythology, Philosophy, Religion, Art, and Customs. Vol. 1. Bradbury, Evans, and CO., Printers. London: UK.
الصور
* الصور من الكاتب .