فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
57

سيرة بني هلال ، بين الشفاهية والتدوين

العدد 43 - أدب شعبي
سيرة بني هلال ، بين الشفاهية والتدوين
أستاذ مشارك في اللغويات التطبيقية، جامعة آل البيت، الأردن

الحكاية الشعبية

الحكاية لغة من الفعل (حكى يحكي ) أي قص يقص وسرد يسرد ، وأخبر قصة حدثت على وجه الحقيقة أو الخيال1 وهي بذلك تشمل الحكايات الخرافية التي تعود لبدايات وعي الإنسان العاقل لذاته ، ومحاولة تفسيره للموجودات والأحداث حوله، ثم إن بعضها أنشىء في زمان ما لمجرد الإمتاع والتسلية وتزجية الوقت، ويغلب عليها النسق الغرائبي العجائبي والخوارق والمغامرات2.

الحكاية والأسطورة والخرافة :

يصر كثير من الباحثين على التفريق بين الأسطورة والحكاية، غير أن ثلاثة مفاهيم هي الحكاية والخرافة والأسطورة لابد من التفريق بينها إجرائيا وإن كانت متداخلة، فالأسطورة تتصل بالمثيولوجيا، وهي ذات طابع ديني، إنها مغامرة العقل الأولى كما يسميها فراس السواح، تتميز الحكاية الشعبية كما يرى (فراس السواح) عن الحكاية الخرافية والحكاية البطولية بهاجسها الاجتماعي، وموضوعاتها التي تكاد تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية والأسرية منها خاصة3، وهي جزء من محاولة الإنسان لتفسير الموجودات والأحداث ، أما الحكاية فلا يبعد أن يكون بعضها تطور عنها، ثم إنها أخذت تلويناتها الشعبية حسب البيئة وتحولات المجتمع الثقافية وهي «الخبر الذي يتصل بحدث قديم ينتقل عن طريق الرواية الشفوية من جيل لآخر، أو هي خلق حر للخيال الشعبي ينسجه حول حوادث مهمة وشخوص ومواقع تاريخية»4 أما الخرافة فتتصل بما لا يقبله العقل من حكايات وأخبار غرائبية، وتبدو الشفاهية من أهم سمات الحكاية، في حين تتصل الأسطورة بالمكتوبات، وهي في العربية من الفعل (سطَر) أي كتب.

وينتسب إلى الحكاية ما يدعونه في مصر (الحدوتة) ويعنون بها الحكاية القصيرة (الأقصوصة)، على طريقة إخواننا المصريين في التصغير على وزن (فعٌولة) وهي من الفعل (حدَث يحدَث) وهي عند أهل البادية السالفة.

1 - أهمية دراسة الحكايات

الحكاية الشعبية مكون رئيس من مكونات ثقافة الإنسان، ذلك أنها تبدأ مع الوعي المبكر للطفل، وهي حيز خصب للدراسات الاجتماعية والثقافية والإنثروبولوجية والنقد الأدبي، غير أن دراستها عربيا بقيت مهمشة لأنها قياسا على الأدب الفصيح، تبقى هامشية5.

مع أن دراستها من الأهمية بمكان، من حيث إنها تنتمي للأدب الشفاهي الأكثر قدرة على التعبير عن المضامين والمكونات الحقيقية لثقافة غالبية الشعب6. كما أنها مكون رئيس من مكونات الأدب غير الشعبي7.

2 - بنية الحكاية الشعبية

يعد فلاديمير بروب الناقد الروسي، أول من وضع تصنيفاً بنيوياً شكلانياً للحكاية الخرافية، ومهد للدراسات البنيوية الأخرى، التي وسعت منهجيته في التحليل لتطبق على السرد بصفة عامة، والرواية والقصة القصيرة بصفة خاصة، وقد اتسق معه في ذلك رولان بارت وكريماس وتلامذتهما.

وتتلخص نظرية بروب بالنقاط الآتية:

العناصر الثابتة في الحكاية هي وظائف الشخصيات، لا الشخصيات، والوظائف هي الأجزاء المكونة الأساسية للحكاية.

عدد الوظائف في الحكاية محدود لا يزيد على واحدة وثلاثين وظيفة.

تتابع الوظائف متشابه دائماً، فهي تتراصف حسب محكي واحد، ولا تخرج عن الوصف أبداً، ولا يستثني بعضها بعضاً، ولا ينافي بعضها بعضاً.

كل الحكايات تنتمي فيما يتصل ببنيتها إلى النمط نفسه.

ويقصد بروب بالوظيفة (الحدث) الذي تقوم به شخصية ما من حيث دلالاته في التطور العام للحكاية ، وقد لاحظ بروب أن هذه الوظائف مترابطة فيما بينها بضرورات منطقية وجمالية، وأن عدداً منها تتجمع في نظم ثنائية وأن عدداً آخر يلتقي في مجموعات أكبر، والوظائف في مجملها تمثل وحدة قياسية يمكن تطبيقها على جميع الحكايات الخرافية.

ويقدم بروب نموذجاً عاماً للحكاية الروسية أسماه المثال الوظائفي، وقد صار هذا المثال منهجاً صالحاً للتطبيق على كل خرافات العالم، وامتد ليشمل الأجناس السردية الأخرى، ثم تعدى إلى عموم الأجناس الأدبية8.وقد طبق نهج بروب مجمل دارسي الحكاية الشعبية ، ومنهم نبيلة إبراهيم9. وقد طبق طه الهباهبة نظرية بروب في تحليله لعدد من الحكايات التي جمعها من محافظة معان ، جنوب الأردن10. إن الحكاية الشعبية في الأردن جزء من الحكاية في الوطن العربي والعالم.

وبغض النظر عن الاختلافات في روايات للسيرة، فإن ما يجمع بينها هو مجموعة من القوانين لخصتها د. نبيلة إبراهيم بقانون البداية والنهاية، حيث ينطلق الحدث من السكون للإثارة، حتى يعود للاستقرار مرة أخرى، وإذا طالت السيرة، تكررت الرحلة، وذلك حسب القانون الثاني، قانون التكرار، حيث يكرر البطل فعلا ما حتى ينجح، أو يتكرر حدث دون نجاح حتى يأتي البطل فينجزه على أكمل وجه. ثم هناك قانون الثلاثة، وهو ينطبق بشكل مثالي على السيرة الهلالية ـ الشعراء الثلاثة المتجولون، القسمة على الأبناء الثلاثة ـ وكأن جسد السيرة الشعبية، والحكاية الشعبية بوجه عام لا يكتمل إلا بتلك القوانين.

لا تكفي دلالة «الاختلاف» وحدها لتوصيف علاقة الثقافة الشعبية بالثقافة السائدة (والأخيرة هي الثقافة التي تعمل – عبر أدوات السلطة - على الإعلاء من شأن قيم سوسيوثقافية على حساب قيم سوسيوثقافية أخرى)، قد نحتاج إلى أن نستبدل بها دلالة «التناقض» في سياقات كثيرة، حيث إن مفهوم «الاختلاف» ينسحب على مفهوم «التنوع» من جانب، أو على مفهوم «القطيعة» من جانب آخر. الثقافة السائدة – الموسومة أيضًا بالثقافة العالمة - تتسم بطابعها المؤسسي، وبخصيصتها التدوينية وبطابعها المنهجي الدقيق (ثمة شكوك في أدبيات ما بعد الحداثة حول مصداقية «المنهجية» هذه!). على حين يغلب على الثقافة الشعبية الطابع الشفهي، وبطابعها العفوي التلقائي والموروث الذي يجسد تجارب المجتمعات الشعبية - تاريخـيًّا - في مختلف أصعدة حياتها. لكن شفهية الثقافة الشعبية وتلقائيتها لا تعني وقوعها في دائرة السطحية واللاعقلانية واللامنهجية، كما تدعي بعض الأجهزة الثقافية السائدة؛ إنها تعبير عميق عن تمثلات معقدة تنتجها الجماعة، تتوسل بواسطتها فهم الظواهر وإدراكها، ومحاولة التأثير عليها وتوجيهها، من منظورات أسطورية وخرافية وجمالية، ومعرفية أيضًا، سواء بواسطة وسائط شفهية أو بصرية أو كتابية.

لا بد من الإشارة – هنا - إلى أن الخصيصة الشفهية للثقافة الشعبية لا توحي باختزالها في الذاكرة الشفهية فحسب، فمفهوم الكتابة لا ينبغي أن يُنظر إليه من منظور لغوي وكفى، حيث إن هناك جماعات تكتب على الجسد، «الوشم» مثلاً، كما هو ملاحظ في مصر والسودان والمغرب. كما أن هناك من المأثورات الشعبية التشكيلية ما يتوسل بالخط، وباللغة المكتوبة. انظر: محمد حسن عبد الحافظ، المأثورات الشعبية والمجتمع المدني: المدخل الفولكلوري للتنمية، ضمن كتاب: المجتمع المدني؛ رؤية ثقافية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002، ص 74-76.

ملخص السيرة الهلالية

تنقسم السيرة الهلالية إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول: يصف تاريخ بني هلال في الجزيرة العربية، في اليمن ثم نجد، وتذكر من شيوخهم وفرسانهم جابر وجبير ابني المنذر الهلالي ، وقد رحل جبير بأمه إلى نجد وصار فيما بعد سلطانها ، ومن نسل جابر الأمير حازم والأمير رزق ، وكانا يحكمان في ناحية من نواحي اليمن ، وقد تزوج الأمير رزق بنت شريف مكة وولدت منه ولدا أسمر اللون أسماه بركات، وهو الذي لقب فيما بعد بأبي زيد .

أما القسم الثاني فتدور حوادثه حول رحلة بني هلال إلى نجد التي ألجأتهم إليها مجاعة أصابت موطنهم في اليمن. وتتحدث السيرة عن حروب دامت سنين في نجد بين فروع بني هلال.

وتدور حوادث القسم الثالث حول الرحلة الهلالية إلى الغرب، حيث رحل أبو زيد مع أتباعه إلى تونس ليبحث عن أرض خصبة لما حلت المجاعة بنجد، ثم اتصالهم بالبربر وصراعاتهم مع الزناتي خليفة وذياب بن غانم، وقد انتهت بقتل الزناتي خليفة ، ثم اختلف الهلاليون فيما بينهم على قسمة أملاك الزناتي خليفة وثارت حرب بين أبي زيد وذياب انتهت بقتل ذياب أبا زيد11.

في تاريخية الحدث

1 - صراعات قبلية:

تشير أغلب الروايات إلى أن بني هلال يرجعون إلى عامر بن هلال بن صعصعة، ومن نسله صحابي يدعى قبيصة بن مخارق –رضي ﷲ عنه– كما وتشير المصادر إلى أن بطونهم توزعوا بين صعيد مصر وليبيا والمغرب العربي، بينما استقر بعضهم في حلب، أما ديرتهم التي ارتحلوا منها فبرية نجد12. من ذلك ما ذكره البكري أن الحجاز اثنتا عشرة دارا، منها دار بعض هوازن، وجل هلال13 وذكر الاصطخري أن الغالب على نواحي مكة من المشرق بنو هلال14.

وعن سبب هجرتهم إلى شمال أفريقيا تذكر تلك المصادر أن سنين قحط وجدب ثمان مرت عجافا على نجد جعلتهم يرتحلون طلبا للماء والكلأ. والمرء لا يسلم لتلك الروايات التي تذكر بقصة سيدنا يوسف – عليه السلام – والسبع العجاف التي تليها سبع يمطر فيها الناس ، فليس من اليسير القبول بأن الترحال طلبا للمرعى يجعل تلك القبائل تتجاوز الهلال الخصيب بكل خيراته وأنهاره ثم حوض النيل ودلتاه حتى تصل المغرب العربي15. أما المجاعة التي تتحدث عنها المصادر فكانت بين 457-464 ه، أوان كان بنو هلال في صعيد مصر ، وهي مجاعة عمت معظم مناطق الخلافة الإسلامية ، ويبدو أنها سبب (تغريبة) بني هلال وقبائل عربية أخرى من مصر صوب تونس والجزائر وليبيا (تدعوها المصادر أفريقية) والمغرب العربي16.

والراجح لدى الباحث أمران : الأول أن قبائل عربية كثيرة انداحت مع توسع المد الإسلامي، فوصل بعضها إلى أرض الكنانة منذ القرن الأول الهجري، وانتشر بعضها في شمال أفريقيا، ويبدو أن أغلبها قبائل بدوية17، والثاني أن صراعات على السلطة في ولايات إسلامية في فترات مختلفة أدت إلى استعانة بعض الأمراء بتلك القبائل فظهرت صراعات قبلية متعددة18، من تلك الصراعات ما هو تليد غذي من جديد، كان نتيجتها ما أشار إليه ابن خلدون من تخريب طال العمران في بعض حواضر شمال أفريقيا، وقد تبعه في تلك النظرة إلى بني هلال والقبائل العربية التي انتشرت في الساحل الأفريقي التي يسميها (العربان) بعض مؤرخي الغرب ومنهم (E.F Gautier) و(Golvin) ومما ذكره المقريزي «وكان بطرابلس الغرب وما والاها زغبة بن أبي ربيعة بن نهيك الهلالي وإخوانهم رياح وهما قبيلتان من العرب، بينهما حروب وعداوة، فأحضر الوزير مكين الدولة أبو علي، الحسن بن علي بن ملهم بن دينار العقيلي، أحد أمراء الدولة، وكان رجلا عاقلا، وسيره إلى زغبة ورياح بخلع سنية وأنعام كثيرة، وأمره أن يصلح ذات بينهما، ويتحمل ما بينهما من ديات، ويفديه بالزيادة في إقطاعاتهما فلما تم له ذلك أمرهم بالمسير إلى المعز بن باديس، وأباحهم دياره، وتشدد في هذا الأمر حتى توجه المذكورون إلى ديار ابن باديس وملكوها، وجمعوا ذيوله عليه، وقلموا أظفاره، وضيقوا خناقه حتى لم يتمكن من قتالهم إلا مستنداً إلى حيطان إفريقية وذلك أنهم ملكوا برقة، فسار إليهم المعز فهزموه، وتبعوه إلى إفريقية، وحاصروا المدن، فنزل بأهل إفريقية بلاء لا يوصف، فخرج إليهم المعز في أربعين ألفا وقاتلهم، فهزموه إلى القيروان ثم جمع ثمانين ألفا وقاتلهم، فهزموه، وأكثروا من القتل في أصحابه، وحصروه بالقيروان وأقاموا يحاصرون البلاد وينهبون إلى سنة تسع وأربعين، فانتقل المعز إلى المهدية في شهر رمضان منها، حتى نفدت أمواله، وقلت عدده، وتفلت منه رجاله، وأشرف على التلف؛ فلم يجد سبيلاً غير إعمال الحيلة في خلاصه فخرج متخفياً في زي امرأة حتى انتهى إلى المهدية، فاستولت العربان على حرمه وداره وغلمانه، وقتلوا الرجال وسبوا النساء، وانتهبوا ما كان في دوره وقصوره؛ وعاثوا في البلد ينهبون ويأسرون ويقتلون، فخربت القيروان حينئذ إلى اليوم ، ووصل كثير مما نهب من قصور بني باديس من الأسلحة والعدد والآلات والخيام وغيرها إلى القاهرة، فكان ليوم دخولها القاهرة أمر عظيم من اجتماع الناس واعتبار أهل البصائر بتقلب الأحوال ، نقل العزيز بالله من كان معهم من بني هلال وسليم إلى مصر، وأنزلهم بالجانب الشرقي من بلاد الصعيد وأقاموا هنالك وأضروا بالبلاد إلى أن ملك المعز بن باديس القيروان»21.

ثم يذكر ما حصل بين بني سليم وبني هلال من صراعات حيث يقول : «فسارت العرب إلى برقة، وفتحوا أمصارها؛ وكتبوا لإخوانهم الذين بشرقي الصعيد يرغبونهم في البلاد؛ فأعطوا من الدولة دينارين لكل واحد، ومضوا إلى أصحابهم؛ فتصارعوا على البلاد، فحصل لسليم الشرق، ولهلال المغرب وخربوا المدينة الحمراء، وأجدابية وسرت، وأقامت بطون من سليم وأحلافها بأرض برقة، وسارت قبائل دياب وعرق وزغبة وجميع بطون هلال إلى أفريقية كالجراد المنتشر، لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه، حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين، وكان أول من وصل منهم أمير رياح، مؤنس بن يحيى العنزي، فاستماله المعز بن باديس، وكثر عبثهم في البلاد، ونادوا بشعار المستنصر، فبعث إليهم المعز العسار، فأوقعوا بها، فخرج إليهم في ثلاثين ألفا فهزموه؛ وفر بنفسه وخاصته إلى القيروان، فنهبوا جميع ما كان معه، وقتلوا خلقا كثيرا، وحصروه بالقيروان حتى هلكت الضواحي والقرى، واقتسم العرب بلاد إفريقية في سنة ست وأربعين؛ وكان لزغبة طرابلس وما يليها، ولمرداس بن رياح باجة وما يليها، ثم اقتسموا البلاد ثانيا، وكان لهلال من قابس المغرب، وهم رياح وزغبة والمعقل وجشم وترنجة والأسيح وشداد والخلط وسفيان ونصوح الملك من المعز بن باديس فركب البحر في سنة تسع وأربعين؛ فدخل العرب القيروان واستباحوه وخربوا مبانيه، فتفرق أهله في البلاد ثم أخذوا المهدية وحاربوا زناتة من بعد صنهاجة، وغلبوهم على الضواحي واتصلت الفتنة بينهم فخربت إفريقية بأسرها، وصيروا البربر لهم خولاً، ومات المعز بن باديس سنة أربع وخمسين وأربعمائة وكان المستنصر لما بعثهم إلى أفريقية جعل المؤنس بن يحيى المرداسي ولاية القيروان وباجة، وأعطى زغبة طرابلس وقابس، وجعل الحسن بن مسرة في ولاية قسنطينة؛ فلما غلبوا صنهاجة ملك كل منهم ما عقد عليه، فاشتد عيثهم وإفسادهم»22.

2 - في صعيد مصر:

ترتبط هجرة القبائل الهلالية إلى الصعيد المصري عند المؤرخين أن الفاطميين أرادوا بذلك تفادي خطرهم لأنهم أصبحوا قوة ضاربة بيد القرامطة، خاصة عندما عزم القرامطة على قطع صلتهم بالفاطميين، ذلك أن استقرار الفاطميين بمصر أوجد فيهم ارستقراطية أبعدتهم عن المبادئ الأولى التي من أجلها كانت مزاعمهم تتجه نحو الجماهير الشعبية المستضعفة، فالغرض الحقيقي إضعاف هذه القبائل بحصرها في أرض قاحلة، إلى أن استشرت المجاعة الكبرى التي تذكرها المصادر، والتي أرغمت الناس على استفاف التراب .

3 - الهجرة إلى المغرب العربي :

كان للأحداث السياسية والاقتصادية الدور الفعال في تحريك الجموع الهلالية، وقد رأى المؤرخون أن انقلاب المعز بن باديس الصنهاجي على الفاطميين سنة 440ه ودعوته للخليفة العباسي بدل الفاطمي المستنصر أثار أحقاد هذا الأخير ودفعه إلى توجيه القبائل الهلالية انتقاما منه حين قطع خطبته وبايع الخليفة العباسي أبا جعفر بن قادر، وقد وجد المؤرخون الغربيون في هذه الحادثة فرصة لوصف القبائل الهلالية بأبشع الأوصاف.

وسواء أصح أن الوزير اليازوري نصح الخليفة الفاطمي بإرسال تلك القبائل إلى المغرب للتخلص منهم إثر تعاظم كرههم للفاطميين و تفشي الجوع والفقر في مصر وعموم الديار الإسلامية 446-454ه، أو لمعاقبة ابن باديس الصنهاجي فإن تلك الحركة لتلك المجاميع البشرية ذات الجذور العربية الأصيلة غيرت وجه التاريخ إلى يوم الناس هذا23.

تدوين السيرة

العربي لقد كانت القبائل الهلالية –في تلك الفترة على الأقل- تحافظ على طابعها الأعرابي القح، وهي في معاشها لا تعتمد على ما أفرزته الطبقات الفاطمية الجديدة، وهي في ضعنها وترحالها لم تتغير كثيرا عن طبيعة منشئها الأول، وقد استطاعت بفضل تلاحمها أن تحافظ على الطابع العربي، في شكله ومضمونه دون أن تمسه عوارض التحول والتغير. لقد كان لهذه الميزة مفعولها الحي في نقل العروبة إلى البقاع التي مرت تلك القبائل بها أو اتخذتها مستقرا ومنها منطقة المغرب العربي.

وكان من الطبيعي أن تتلبس هذه التغريبة بأشكال شفهية من أخبار و قصص ترويها الذاكرة الشعبية عن حركات القبيلة الداخلية في شتى تمظهراتها الفردية أو الجماعية، كالبطولة و النجدة و العفة والكرم والشهامة، وغيرها مما كان محط اهتمام الفرد والقبيلة على حد سواء.

جاء في بعض روايات السيرة الهلالية «فلما انتهى الأمير حسن من هذه الأبيات وسمعها السادات الكرام استحسنوها غاية الاستحسان، وسجلها زيد بن مانع في الديوان لتبقى لهم ذكرى في طول الزمان» كما تشير بعض الأخبار أن السلطان حسن بن سرحان سجل الحوادث التي حصلت في بلاد نجد في كتاب24.

يرجح الباحث أن السير الشعبية بمجملها بدأت نصوصا كتابية في العهد المملوكي في القاهرة ودمشق ثم انتقلت إلى الشفاهية وتلونت بلون البيئة التي عاشت فيها.

وقد أخذ بعض الباحثين ومتلقي السيرة الهلالية مثل هذه الأخبار على أنها حقيقية، مستندين إلى أن العرب كانوا يسجلون أيامهم وأخبارهم وأحداثهم ويضبطونها في الأوراق كما سمعوا بها أو شاهدوها. وأن تدوين الأحداث يقوم على أساس تقدير الناس لها والخوف من تزييفها وتشويهها 25.

بينما يرى باحثون آخرون أن العرب نقلوا معهم لبلاد المغرب إرثهم الثقافي الذي يمتد إلى العصر الجاهلي بما فيه من أساطير وخرافات، وعلى رأسه نمط القصيد وإنشاده وهو ما شكل النواة الأولى لما سمي لاحقا السيرة الهلالية أو التغريبة26 ليس من الثابت أن أحدا من الهلاليين، شيوخا كانوا أو رواة حافظين قد قام بتدوين شيء من تلك الأحداث، والذي أراه أن ما جرى لتلك القبائل في مسيرها للمغرب وصراعاتها القبلية كان يروى مشافهة على نسق السرد الحكائي الشفاهي، ينقلها الآباء للأبناء والأجداد للأحفاد، والراجح لدي أن قرنين من الزمان على الأقل مرا قبل أن تكتب تلك الأحداث، وقد جرى لها ما جرى للحكاية الشعبية من تغير، كما يقولون في سرد الحكاية الشعبية (الحكاية على 100 رواية).

ولعل أهم ما يميز السير الشعبية هو الانفتاح الثقافي التراكمي، وهو ما أسماه شوقي عبد الحليم، التراكم السيري الملحمي27.

الهوامش

1 - ابن منظور، لسان العرب، (مادة حكي).

2 - ينظر : جبور عبد النور، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، بيروت، 1979م. ومجدي وهبة وكامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأجبن مكتبة لبنان، بيروت، 1979م، وإبراهيم فتحي، معجم المصطلحات الأدبية، التعاضدية العالمية للطباعة والنشر، تونس، ط1، 1986م.و طه الهباهبة، الحكاية الشعبية في محافظة معان، دار الينابيع للنشر، عمان، 1988م، ص23.

3 - ينظر : فراس السواح ، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين للنشر والتوزيع : 2002، وينظر للعلاقة بين الحكاية والأسطورة: شكري محمد عياد، البطل في الأدب والأساطير، دار المعرفة، القاهرة، ط1، 1959م، ص 127 – 129، وتوماس بلفنش، عصر الأساطير، ترجمة رشدي السيسي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1966م ونبيلة إبراهيم، اشكال التعبير في الأدب الشعبي، ص9-48. وأحمد كمال زكي، الأساطير: دراسة حضارية مقارنة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1985م، ص54.

4 - فردريش فون ديرالين، الحكاية الخرافية (نشأتها، مناهج دراستها، فنيتها)، ترجمة نبيلة إبراهيم، دار العلم، بيروت، لبنان 1973م، ص154.وينظر: عبد الحميد يونس، الحكاية الشعبية، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة : ص20-21. و نبيلة إبراهيم، اشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار النهضة، القاهرة، ص91.

5 - ينظر : الحكاية الشعبية في التراث المغربين ندورة لجنة التراث، الرباط، 2005، ص1.

6 - ينظر : الحاج بن مؤمن، وفي الحكاية مآرب أخرى، من أعمال ندوة الحكاية الشعبية المغربية، ندوة لجنة التراث، الرباط، 2005، ص135.

7 - أحمد بسام ساعي، الحكاية الشعبية في اللاذقية، ص12.

8 - فلاديميربروب، مورفولوجيا الخرافة، ترجمة إبراهيم الخطيب، الدار البيضاء، الشركة الغربية للناشرين 1986.ص 33-60.

9 - ينظر نبيلة إبراهيم، سيرة الأميرة ذات الهمة، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر: 1995.

10 - ينظر : طه الهباهبة، الحكاية الشعبية في محافظة معان ص47 – 56.

11 - صدرت السيرة الهلالية في عدة طبعات وتحت مسميات مختلفة منها : سيرة بنى هلال. ملتزم الطبع عبد الحميد احمد حنفى/القاهرة ط 1 / 1948 ،وسيرة بنى هلال، مكتبة كرم ومطبعتها بدمشق «دون تاريخ». وتغريبة بنى هلال، مكتبة ومطبعة محمد على صبيح وأولاده / القاهرة» بدون تاريخ، وتغريبة بنى هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزناتى خليفة المكتبة الشعبية / بيروت (د. ت). وتغريبة بنى هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب، مكتبة محمد المهايني، دمشق (د.ت).

12 - ينظر: القلقشندي، صبح الأعشى، 143، وابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر أيام العرب والعجم والبربر ومن عاشرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت: دار الكتاب اللبناني،1981، ج1258 و589، و596.

13 - أبو عبد الله البكري ، معجم ما استعجم من أسماء البلدان والمواضع تحقيق مصطفى سقا . ج1 ص 10.

14 - الاصطخري.. المسالك والممالك، دار صادر، بيروت، 2004، ص 22.

15 - ينظر: أنور الرفاعي، الإنسان العربي والتاريخ، دار الفكر 1971 ص 16-17.

16 - حول تلك المجاعة ينظر: السيوطي، حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية: 1967، ج1، والمقريزي، إغاثة الأمة بكشف الغمة، تحقيق: كرم حلمي بركات، القاهرة، عين للدراسات والبحوث: 2007، ص 29 وما بعدها، وعبد اللطيف البغدادي، الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر، 1810 باريس ص 157.

17 - ينظر: محمد المرزوقي، منازل الهلاليين في الشمال الإفريقي، سيرة بني هلال، أعمال الندوة العالمية حول السيرة الهلالية الدار التونسية للنشر 1990 تونس ص 19.

18 - ينظر: عبد الفتاح مقلد الغنيمي، موسوعة تاريخ المغرب العربي، مكتبة مدبولي، الجزء الرابع، الطبعة. الأولى 1994 القاهرة، ص 146، 147

19 - E.F Gautier : le passé de l’afrique du nord. les siecles obseures paris . poyet 1952. p: 394.

20 - Golvin: le maghreb ceufrah à l’époques des zirides . porres . sup .1957 p : 141.

21 - المقريزي، اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، ص 167.

22 - نفسه، ص 168.

23 - عبدالحميد يونس: «الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي»، الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد 81، أغسطس 2003، ص 214، ص 216.

24 - هو أحد شيوخ بني هلال، وأحد أبطال السيرة الهلالية، يقول ابن حلدون «وكان من أشرفهم حسن بن سرحان وأخوه بدر وفضل بن ناهض، وينسبون في دريد بن الاثبج» تاريخ / ابن خلدون دار الكتب العلمية، ط: 1 - 1413هـ / 1992م، 10 / 6.

25 - ينظر: عبد الحميد بو سماحة، المسير في تغريبة بني هلال، رسالة دكتوراة مخطوطة، جامعة الجزائر، 2005، ص 25-45 وهانز ميرهوف، الزمن في الأدب ترجمة أسعد رزوق مؤسسة سجل العرب القاهرة ص 62.

26 - ينظر: أحمد الأمين، أثر سيرة بني هلال في الشعر الشعبي ، بنو هلال سيرﺗﻬم وتاريخهم، ص 75 و84، وروزلين ليلى قريش، القصة الشعبية الجزائرية ذات الأصل العربي. ص69 ورابح بونار. المغرب العربي تاريخه وثقافته . الجزائر 1981 الطبعة الثانية. ص 355-358.

27 - ينظر: شوقي عبد الحليم، موسوعة الفلكلور والأساطير العربية، ص 152

الصور

1 - http://gros-delettrez.com/html/fiche.jsp?id=3294580&np=1&lng=fr&npp=20&ordre=1&aff=1&r=

2 - https://www.dailymotion.com/video/x2zf2cd

3 - https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/1/12/Abu_Zayd_al-Hilali.jpg

أعداد المجلة