فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الثقافة الشعبية أساس الحضارة الانسانية

العدد 43 - التصدير
الثقافة الشعبية أساس الحضارة الانسانية
لبنان

لعل من نافل القول التأكيد على أن الثقافة، والثقافة الشعبية على الخصوص، لصيقة المجتمع الانساني في أي مكان من العالم، وفي أي زمان. ذلك أن الانسان منذ وجوده وهو يعمل على استمرار حياته في محيط لا مكان فيه إلا لمن يستطيع العيش بالاستمرار على قيد الحياة، إن كان في تحصيل وسائل معيشته، أو في حماية نفسه من أذى الحيوان وغوائل الطبيعة. ومن المهم القول إن أي فعل يقوم به الانسان في هذه المجالات ناشئ عن عقل يعقل وعن تلمّس حواسٍ في عالم لا يزال فيه كل شيء طبيعياً دون تدخل ودون عناية. وعليه، إنّ كل فعل يتأتى عن نشاط الانسان ليبقى على قيد الحياة هو فعل ثقافي؛ فعل مبتكر أوجده الانسان في لحظة الحاجة إليه، ليومّن بوساطته معيشته ومن ثم، على مر الزمن، ارتقاءه في الحياة.

ولأن الفعل الانساني في أي مجتمع ينحو هذا المنحى، فإن الثقافة الناشئة عن هذا الفعل هي ثقافة شعبية، ظهرت لتلبّي حاجة بعينها، وبوعي من الانسان وفعله. ولأن لكل مجتمع خصائصه وظروفه وطرقه في تلبية حاجاته، فإن حصيلة الثقافة الشعبية هي حصيلة عالمية، بهويات إقليمية، أو محلية، أو وطنية وقومية بالمعنى الحديث. من هنا، يمكن القول إن مجموع هذه الثقافات الشعبية يشكل الأساس الفعلي للحضارة الانسانية.

والثقافة الشعبية، بهذا المعنى، موفورة العناصر، توجِدها حاجة الانسان المادية، بعد التفكير في إيجادها ذهنياً على شكل صورة تتحوّل إلى وجود مادي بالفعل الانساني، ولتلبّي حاجات مادية، وحاجات لا مادية أيضاً. فوجود أدوات الحراثة نشأت عن التفكير في كيفية استنبات النباتات. والرقص الايقاعي انوجَد لاستجلاب رضى الآلهة وكفّ أذاها. والحاجة إلى المتعة والانشراح أوجدت الآلة الموسيقية.. وهكذا. ما يعني، أن من الصعوبة الفصل بين ما هو مادي وما هو لا مادي في الثقافة الشعبية. وفي هذه المسألة شأن آخر.

لا وجود لثقافة معزولة إلا في المجتمعات الأوّلية المغرقة في عزلتها، هذا إذا وُجدت في العصر الذي نعيش فيه؛ مايعني أن أنفاس الثقافة مفتوحة على كل الجهات، في الأخذ كما في العطاء. ولكن من المهم القول إن عناصر كثيرة، وظروفاً شديدة التأثير تجعل الثقافة المجتمعية المخصوصة، وفي أي مجتمع، عرضة للتأثر كما للتأثير. وإذا كان لهذه العناصر التغييرية أن تؤثر، فهي رسولة الثقافات التي انتجت التقنيات العالية ووسائل الاتصال الحديثة والتواصل الاجتماعي، المرفقة بضغط كبير تحمله أنماط حياة ووسائل عيش أُنتجت في أمكنة، على أن تستهلك في أمكنتها ذاتها، وفي أمكنة أخرى لها أن تتشارك في الاستهلاك دون أن يكون لها يد في الانتاج، ودون أن يكون لها ذهنية متناسبة مع أدوات الانتاج، ودون القدرة على إيجاد البيئة المادية والنفسية للتعامل مع هذا الانتاج. فيطغى هنا المنتِج الذي له طرائقه وأنماطه في التعاطي مع انتاجٍ متناسبٍ مع حاجاته وتطلعاته، على مستهلك لا بد له إلا أن يتعاطى بطرق مغايرة تعتمد على كل ما هو غريب عن بنى الذهنيات، وعن التداول في مجرى الحياة اليومية. فيكون التأثير مضاعفاً.

بالاضافة إلى تنامي نمط الاستهلاك لدى المجتمعات المتأثرة، وما يتطلّبه ذلك من تداعيات نفسية جماعية تعطي للاستهلاك التفاخري الأولويّة في نمط عيشها؛ تأخذ في الابتعاد الواعي واللاواعي عن كل ما يربطها بحاضرها الثقافي وماضيها التراثي، وبكل ما يربطها بثقافتها، باعتبارها ثقافة عفى عليها الزمن، وأصبحت من مخلّفات الماضي وأسيرة التقاليد، ليتمثّل ثقافةً طارئة حملتها المحطات التي تملأ الفضاء العربي، حاملةً معها كل ما يُبهر وما يشكّل أنماطاً حديثة تشمل كا ما يهمّ الانسان العربي في السياسة، وفي الفن، وفي التعرف على كيفية العيش، وكيفية الاستهلاك الذي يشمل ما يقتنيه، مع تنامي حس الاستزادة من أدوات، على اختلافها، ومن ألبسة، ومن ألوان الطعام والشراب، وكيفية التعاطي مع الآخرين في العلاقات الاجتماعية، وفي التواصل حسب معايير الحياة الحديثة. كل ذلك في الوقت الذي لا تزال ثقافته المخصوصة تستمر في مسيرتها ببطئها المعهود، وبأحمالها الثقيلة. فيحسّ بأن من المهم التخلي عن كل ما يعيق مسيرته المتجدّدة، المصنوعة من الآخرين، ولو كلّفه ذلك، ليس التخلي عن ثقافته وهويته المرتبطة بها، فحسب؛ بل بالاضافة إلى ذلك، الاحساس بالخجل من الانتماء إلى هذه الثقافة، التي يحسّ أنها تضعه على الحافة المواجِهة لبرج مكين من ثقافة حديثة تفصل بينهما هوة سحيقة لا يحدّها قرار.

لا يرتبط هذا الاحساس بالانسان العربي وحده، بل يشمل حتى المجتمعات المتقدمة التي أحسّت، في قواعدها، كما في نُخبها حاملي الثقافة العالمة، أن ثمة طغياناً لنمط حديث من الحياة يفرضه منطق خارق القوة والتأثير، هو المنطق المعولم. يعمل على زيادة وتيرة السرعة في مجرى الحياة اليومية، بالاضافة إلى الضغط الذي يحدثه الايقاع المتنامي للاستهلاك لمساهمته في زيادة وتيرة الانتاج، ليتحول العالم، من بعد، إلى طاحونة هائلة القدرة تستجيب لمتطلبات العولمة، ولا يهمّ في النتيجة ما يحل بالمجتمعات الانسانية من أضرار، ليس على اقتصادياتهم أو سياساتهم، فحسب؛ بل في الدرجة الأولى على ثقافاتهم المخصوصة، أي على مصائرهم، كشعوب، لها تراثها ومعطياتها المتميزة، والتي بضياعها تضيع الهوية.

من هنا، بدأ يظهر الاهتمام العربي بالتراث، والعمل على وصلِه بالحاضر في كل تفاصيله، لاستشراف المستقبل. ذلك أن الاهتمام بالثقافة الشعبية وربطها بالأصالة، يشكل الخطوة الأولى لمعرفة الماضي بكل تفاصيله في مسيرة الحياة اليومية، وفي الممارسة العملية للناس في عفويتها، وفي إظهار تجليات الذهنية المعبّرة عن ذاتها، ويعطيها الاستقلالية والخصوصية التي تميّزها عن غيرها من ثقافات الشعوب.

لم يبقَ الاهتمام العربي في إطار التجميع والدرس، بل تطوّر إلى وضع المناهج العلمية في كيفية التعاطي مع الثقافة الشعبية، وكيفية تجميعها من الميدان وتصنيفها ودرسها لمعرفة ما هو مفيد وقابل للاستمرار، وما هو خارج الزمن، وكيفية الافادة من كل صنف منها، وغير ذلك من إنشاء المراصد الثقافية والمتاحف ومراكز الأبحاث، مع التركيز على كل ما يمكن أن يفيد في هذا المجال، من نشر الدراسات وتنظيم المؤتمرات، وغيرها.

ظهر هذا في بلدان عربية عديدة ومعتَبَرة، والأمل أن يشمل ذلك العالم العربي بأسره. إنها أمنية ونرجو أن تتحقق.

أعداد المجلة