فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الحوارية النصية في أغاني الأطفال الشعبية

العدد 40 - أدب شعبي
الحوارية النصية في أغاني الأطفال الشعبية
كاتب من البحرين

لا بد قبل الحديث عن أغاني الأطفــال الشــعبية مـن معــرفة النمــو النفســي والبيئي عنــد الأطفــال، ومــن ثم تحديد مفهوم صفــة الشــعبية التي وصــفنا بهـا أغـاني الأطفــال، من حــيث اللهجــة العــامية والمشــافهة ومجهولــية المؤلف.

 

ان العناية بالاطفال لم تقتصر على حضارة أو شعب أو دين دون آخر، فالجميع يجمع على مبادىء أساسية في التكون الفكري والثقافي والاجتماعي والبيئي للطفل، ومن ثم فان هذه التكونات ما كانت لتنضج لولا انها اعتمدت لغة يتلاقى فيها التعـبير والموسيقى لكي تستريح الآذان والنفوس لوقع ألفاظها وأصواتها وحروفها.

ترى الكثير من الدراسات التي اهتمت بملاحظة نمو الطفل المعرفي والإدراكي أن الطفل يولد ولديه ميل للاكتشاف والتساؤل والبحث عن المجهول، في الوقت الذي ينجذب الى اللغة الايقاعية لتغذيته معرفيا وادراكيا، كما أن المكون البيئي للطفل يعمل كعامل إمـداد ومسـاعدة في الكشف عن الملكات الابداعية واحتضـانها، ولعلي أرى أن البيئة هي الحاضن الأساس لتكوين شخصية الطفل وسبل اندماحه في المجتمع لاحقـا كفرد مبدع وفاعل. ففي البداية يسمع الطفل أغاني المهد والترقيص التي يطـرب لها وتستسلم لها كل جوانحه حتى يأخذه عـالمه الخيالي الى آفاق رحبة لتكّون مملكته الخاصة، ومن هنا تبدأ علاقة الطفل بالكلمات ذات الرنين الموسيقي وإلايقاعات الموزونـة، وهي عـلاقة عضوية ايجابية ذات طابع ارتدادي بينه وبـين دقات قلب الأم حينما يستقر في حضنها ليشعر بالأمان والاستقرار ودفء المحبة، مما ينعكس ذلك على اسرخائه وتفاعله مع الأهازيج التي تشدو بها الأم إسعادا له بغـية إحاطـته بهالة مـن التـواصل الإدراكي والمعرفي.

فاذا كان شعر الوجدان يهز أفئدة الكبار وينقلهم الى عالم يتجرد فيه الانسان من عالمه المادي المليء بالضوضاء، فان أهازيج الأم وأغانيها ذات الطابع العفوي والتلقائي يرسم نهجا تربويا معرفيا تؤسس عليه فلسفة المجتمع وقيمه بكل أنواعها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والعرفية، وهكذا تلعب البيئة الخاصة دورا رياديا وأساسيا في تنشئة الطفل دينيا ورياضيا وفنيا وابداعيا، وتمثل  البيئة الفضاء المكاني الذي تتشكل في ذاكرة الطفل دون أن تفقد وهجها مهما تقدم العمر بالطفل، ومهما تغير الواقـع الاجتماعي أو لامست يد التغيير عناصر تلك البيئة. 

ومن هنا تتحدد حساسية العلاقة بين العامل النفسي والبيئة، وبين الثقافي والمعرفي، إذ أنّ تداخل تلك المكونات يمهد لمنجز حيّ ينفي الثبات والسكون «ليشكل مفهوما ثقافيا عاما يشتمل على المعرفـة والعقائد واللغة والأخلاق والعرف والقانون، وكل القدرات والعادات الأخرى»(1)، وهكذا يبدو مصطلح الثقافة مصطلحا شاملا عاما لا يندرج تحت تصنيفات علمية جامدة، ولعلها خصيصة مفتوحة أنتجت هذا الإرث الإنساني  العابر لكل الحضارات بمختلف تلاوينها الإبداعية. 

إن القول بأهمية الثقافة في بناء الإنسان لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحققت وسيلة الإتصال الصحيحة، وهذه الوسيلة هي اللغة، وهي ذلك النظـام القائم على رموز وعلامات، إذ من خلاله تتم عملية التفاهم والتعامل في إطار مؤسس على الأصوات والألفاظ والصيغ والتراكيب والقواعد. إنّ هذه المنظموة تحفّز المتعامل بها على التعبير عن دلالات معينة تعبر عن فكره ومشاعره وما يختلج في صدره من أحاسيس سعيدة أو حزينة، فهي مرآة تستقر على سطحها صورة من طباعه لتشخص بوضوح واقعه الفكري والسلوكي والإنفعالي. هذه هي اللغة بوظيفتها المجردة، أما اللغة بوظيفتها الشعرية فإنها تتخذ مسارا مختلفا عن ذلك المسار، إذ يرى الشاعر ما لا يراه غيره، ويشعر بما لا يشعر به أحد سواه، فله بصـيرته الثـاقبة وشعوره المرهـف الذي ينفذ به الى ما لم تنفذ اليه اللغة العادية وتمثله أو تصوره وتعبر عنه، ينفذ الى الزمان اللامحدود ليكشف عن «الإمكان أو الإحتمال ، أي عن المستقيل، والمسـتقبل لا حد له»(2).

وهكذا نجد أنّ لغة الشعر لا تقف عند حد التعبير فحسب، بل تتجاوزه الى الإبداع والإستكناه الـباطني بغية تحفيز الداخل وبعثه ليستوي على الصورة التي نراها في اللغة الشاعرة، فهي كما يقول أدونيس «إنها تيار تحولات يغمرنا بإيحائه وإيقاعه وبعده، هذه اللغة فعل، نواة حركة، خزّان طاقات، والكلمة فيها من حروفها وموسـيقاها، لها وراء حروفها ومقاطعها دم خاص ودورة حياتية خاصة»(3).

وهذا يقودنا لتحسس لغة الطفل ومدى استيعابه لها وتوظيفه لدلالاتها في مستوياتها الأولى، انطـلآقا من النمو اللغـوي عـند الطفل، ففي هذه المرحلة تتأسس ظاهرة فهم معنى الكلام الموّجه اليه دون محاولة التعبير عن ذلك الفهم، على أنّ هناك جانبا آخر يبدأ بالتمييز وهو تكوين المفـاهـيم، ومحاولة التعبير عنها بألفاظ، وبقدر ما تتراكم الحصيلة اللفظية وتزداد ثراء، فإن قدرة الطفل على توظيفها في التفكير والتعبير تتسع وتزداد لتشكل فضاء تتداول فيه الأفكار، «ومن ثمّ فإن تقدم الفكر مرتبط أشد الإرتباط بثراء اللغة، كما أن ضحالة اللغة وتخلفها والفقر في الألفاظ هي من العقبات الرئيسة في طريق التفكير ونموه ورقيه وتطوره»(4).

نريد أن نصل من ذلك إلى القول بأنه بالرغم من حداثة عمر الطفل في الطفولة المبكرة ألا أنّ مرحلة الخيال تبدأ في التحكم في تعاطيه مع الحقيقة والعقل، أذ أنه يتقمص شخصيات معينة ويحـاورها بمنطق يفهمه ويحعلها تفهمه، وباتساع خياله تنمو معرفته وتزداد خـبرته، وعليه تتوسـع آفـاق تقـافته، هذه مسلمة لا يحيد عنها مجتمع دون آخر، سواء كان مجـتمعا قديما أم حديثا.

ولأهمية هذه القضية، قضية النمو النفسي والبيئي واللغوي عند الطفل حاولت إلقاء الضوء وبشيء من التفصيل والتحليل لإبراز تلك المظاهر التنموية التي تؤسس لمعرفة فلسفة الأغاني الشعبية بشكل عام في المجتمعات العربية والمجتمع البحريني على وجه الخصوص.

أما وسم أغاني الأطفال بصفة الشعبية يعني أنّ هناك أغـاني ليست بالشعبية، أي الأغاني التي تمّ تأليفها مـؤخرا عن طريق مؤلف مختص يوجه فيه نظمه نحو قضية معينة يراد إيصالها إلى فئة معينة من الأطفال، فهي أغان ذاتية .

إنّ الأدب الشعبي بشقيه الغنائي والقصصي أدب عالمي يعبر عن مكنونات الشعوب النفسية والأخلاقية والعقائدية، فهو كنز لا ينضب، وهو رافد مهم في التراث الإنساني، وذلك لأنه نابع من الوعي واللاشعور الجمعي. إنّ تحليل نشاط اللاشعور الجمعي للشعوب يحتاج الى كثير من الدراسات المعمقة القائمة على التتبع والإستقصاء والشمول للوصول الى أبعاد الدلالات الناتجة عن المنجز الشعبي، وعلاقة تلك الصياغات الأسـلوبية المستعملة في الواقع اليومي بالجذور النفسية والتوجهات الروحية، والتي غدت فيما بعد الى تكوّن أشكال أدبية وضعت تحت مسميات شعبية كالأسطورة والخرافة والحكاية الشعبية والمثل الشعبي والأهزوجة الشعبية والأغنية الشعبية.

وعلى ضوء ما سبق يصبح الأدب الشعبي رافدا من روافد التراث لكل أمة يؤرخ ويفسر ويختزل أحداثا، لتؤسس مرجعية فكرية تنطلق منها الأجيال في بناء حضارتهم في حالة من التلاؤم بين النفسي والموضوعي مبرزة جوّا دراميا يجسد إيحاءات الخطاب الشعري والخطاب الحكوي والقيم التعبيرية فيه، مستخدمة كل آليات الحوار النفسي المباشر والتراسل الشعوري غير المباشر.

كان ذلك مهادا نظريا حاولت من خلاله تأسيس منطلـق علمـي يسـهل من خـلاله البحـث في ماهية أغاني الأطفال الشعبية في المجتمع البحريني، وتحليل اللغة الغنائية المستعملة آنذاك في فصيحها وعاميتها، وفي الوقت ذاته إستكناه الشفافية والتوهج والحضور، وادراك خلجات النفس في تأديـة تلك الأغاني سواء كانت فردية أو جماعية. 

إنّ أغاني الأطفال الشعبية ليست أغاني للتسلية واللهو  فحسب بل إنها منتج يحمل في طياته تربية إبداعية تقوم بدور مهم في تنمية الفكر الإبداعي والتطور الـذهني عند الأطفال، إذ أنها تسهم في التعرف على مشكلاته الخاصة بشكل ايجـابي وصولا الى تلمس الحلول المفترضة وتصـورها بأسلوب موضوعي. وهذا ما يساعد الطفل الى تنمية خياله بطريقة سليمة، ولعل ما يقوم به الأطفال من ألعاب مصحوبة بتلك الأغاني يتـيح لهم الفرصة للتجريب واكتناه ما يحيط في بيئتـهم من خلال المفردات والعادات السائدة في مجتمعهم. 

إن الإنسياق في تلك الممارسات الطفولية  تعمل على إبـراز الفروق الفردية بين الأطفال وتعميق قدرات الطفل واستعداده في تنمية وعيه وتعاطيه مع عالمه الطفـولي  من خلال إلاحساس بالمشكلات التي يتعرض اليها في محيطه والدفع به الى البحث عن الحلول المتوافقة مع رؤيته. ومما لا شكّ فيه أنّ القيمة الإبداعية في أغاني الأطفال الشعبية تمثل محورا أساسيا فيها لما تحمل في مضمونها من قدرة الطفل على الملاحظة الدقيقة واستثمار القيم السلوكية كالصبر والإصرار المتواصل لبلوغ الهدف وتحمل المصاعب. 

لقد اتسم المجتمع البحريني في تشكله الأوّل في بدايات القرن العشرين بالبساطة والعفوية القـائمة على الخبرات المكتسبة من التعايش اليومي في إطار من المحددات الدينية والمجتمعية. إنّ المجتمع البحريني مجتمع ساحلي في أغلبه، وزراعي في بعضه القليل، ولقد فرض عليه هذا التصنيف المهني خصائص معرفية أثرت بشكل عمـيق في إثراء موروثه الشعبي، كما أنّ تواتر المـوروث وتأثـره بالموروثات الشـعبية في منطـقة الخليج قـد شكل عاملا آخر لتلاقح الموروثات واستقرارها في بيئة مثل بيئة المجتمع البحريني آنذاك، إذ أنه يمثل بيئـة متقدمة عن تلك البيئات في المجتمع الخليجي، وذلك للنشاط التجاري الذي تميزت به البيئـة البحرينية.

إنّ تنـامي نشـاط الغوص وانخراط جـلّ الرجال في تلك المهنة طلبا للرزق بالرغم من المتاعب والمشاق التي كانت تواجههم، جعلت اللحمة الإجتماعية ضـرورة من ضرورات الحياة، وانفتح المجتمع بعضه على بعضه لتتمحور هيكلته في المفتوح / المغلق، المفتوح اجتماعيا بين أفراده وأسره مزيلا كل العوائق المسببة في تعاضده  وتكاتفه في مواجهة المجهول، والمغلق في آن واحد على كلّه دفعا لكل ما من شـأنه أن يخلـق شـرخا في بنـية المجـتمع.

إنّ تركيبة البناء المجتمعي على النحو الذي ذكرت قد أفرزت ثقـافة معينة أساسها القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، فكانت تلك المعايير محركا للتربية ومنهاجا سار عليه أبنـاء تلك الفـترة . يقول جـان بياجيه «إنّ الهدف الأسـاسي من التربية هو خلق رجال قادرين على صنع أشياء جديدة، ولا يقومون فقط بتكرار ما صنعته الأجـيال السابقة، رجال مبدعين، مبتكرين ، ومكتشفين»(5).

لقـد شـكّل غـياب الرجـال في الغـوص لمـدد طـويلة وبروز مجتمع نسائي في معظم أوقات السـنة الى إبـداع ثقـافة خاصة بتربـية الناشـئة من خـلال أدب يكوّن مداركهم وينمي قدراتهم العقلية والخيالية والعاطفية، يتسم بالسهولة والوضوح والخلو من التعقيد متناغما مع مفاهيم الطفل في نموه وقدرته الاستيعابية. وقد تمثل هذا الأدب الطفولي في مظاهر عدة عكست البيئة والمجتمع البحريني، فمن أبرز تلك المظاهر:

 الحـكاية الخــرافية

«وفـيها يقف عالمها – الحكاية الخرافية – وجها لوجـه أمام عالمنا الواقعي، وهي ترفض عالمنا لأنها تحل محله عالما أجمل وأكثر بهـاء وسحرا ، كما أنها تصور الأمور كما يجب أن تكون عليه في حياتنا»(6). وليست الحكاية الخرافية بمصطلحها الأدبي هذا ببعيدة عن الحياة الشعبية أو الحياة البسـيطة التي كان عليها المجتمع البحريني في العقود الأولى من القرن العشرين، فقد لعبت  «الحزاوي» وهي جمع لمفردة «حزاية» دورا كبيرا في تربية الأطفال وإمدادهم بالقيم التربوية والأخـلاقية بمفهوم ذلك العصر وعرفه سواء كانت تلك الحزاوي ترغيبية أو ترهيبية، فهي في نهاية الأمر تسد فراغا فكريا وفنيا .

 

 

 أغـانـي الأطفــال 

إنّ أغاني الأطفال الشعبية ترسم جانبا من جوانب ثقافة المجتمع وفكره، ولعله ما كان بالإمكان استمرار أغاني الأطفال وتأثيرها على تكوين الطفل بدون وجود المجتمع الحاضن لهذه الثقـافة، من هنـا نجد أنّ تلازما وتداخلا قد نشأ بين محتوى تلك الأغاني وثقافة المجتمع، الأمر الذي أكدته معظم الدراسات والكتابات الثقافية والاجتماعية والانثروبولوجية.

في دراستنا لأغاني الأطفال الشعبية سنحاول إلقاء الضوء التحليلي على هذه الأغاني من خلال دراسـة الظاهرة أو الظواهر السائدة في تلك الأغاني وبعدها الـدلالي والمعرفي، وقد اعتمدنا في هذه الدراسة على كتيب مهرجان التراث الحادي عشر «الألعاب الشعبية» والصادر عن إدارة الثقـافة والتراث الوطني بوزارة الأعـلام بمملكـة البحـرين، اذ اتسـم جمـع المادة الشعبية بالمنهجـية، لاسيما أنّ هذه الأغاني الشعبية تواترت الينا شفاهيا، الأمر الذي يجعل تسجيله وتوثيقه أمرا في غاية الصعوبة .

وممـا لا شـك فيه إنّ قـراءة التـراث تسـتلزم منهجـا يقوم على النظر في الجانب النفسي في تفسير التراث، وعلى النظر في الجانب الخارجي بما يحملـه من مؤثرات خارجية،  سواء كانت بيئية أو اجتماعية أو اقتصادية تعمل على تشكل الظاهرة المعرفية للـتراث. 

«ويعد اللعب ظاهرة طبيعية وفطرية لها أبعادها النفسية والاجتماعية، لأنها نشاط يمارسه الطفل دون أية ضغوط عليه من البيئة المحيطة به، والمتمثلة في بيئته العائلية والاجتماعية وفي الطبيعة. وهذا يشير الى أنه نشاط تلقائي حر ومستقل ومرتبط بالفراغ وبالوقت، كما انه يرتبط بالصحة والنمو والتطور، اذ يعد جزءاً متكاملاً من حياة ونمو الطفل، فاللعب والنمو مرتبطان ومتداخلان ومتفاعلان تجمعهما علاقة وثيقة ودائمة. وتتعدد مستويات اللعب وفقاً لمستويات نمو الطفل، اذ أن اشكال وأنواع اللعب ترتبط ارتباطاً وثيقا بمراحل نموه» (7).

ومهمـا يكن مـن أمر فإن البيئـة الإجـتماعية حددت ثوابت تنظم الحياة الإجتماعية بنـاء على الطـبيعة التركيبية للمجـتمع ممـا انعكس بدوره على طبيعة ومحتوى المنتج الفكري آنذاك، فقد تم على أساسـها تصنيف أغاني الأطفال الشعبية إلى تصنيفات عدة وهي كالآتي:

*    أغان استعراضية تختص بها البنات تشتمل على أصوات وحركة وإيقاع.

*    أغان استعراضية يختص بها الأولاد وتشـتمل أيضا على صوت وحركة وايقاع .

*    أغـان استعراضية يشترك فيها الأولاد والبنات وتشـتمل على صوت وحركة وايقاع.

*    أغان يرددها الجنسان الأولاد والبنات ولكنها تخلو من الحركة وتكتفي بالصوت والإيقاع.

إنّ التصنيف السابق لم يكن تصنيفا إعتباطيا، بل إنه يقوم على اعتبارات تربوية تتخذ من الجنس والعمر أساسا تنطلق منه، وتهدف في الوقت ذاته إلى غايات تربوية وتعليمية، كما إنه لابد من الإشارة الى إنّ تلك الأغاني لم تخل من أغان غـايتها المرح واللهـو الخالص تهدف إلـى تجديد النشـاط الذهني وتفريغ الطاقة المتأججة عند الأطفال، وهكذا نجد أنّ ذلك الفن – أغـاني الأطفال الشعبية – أصبح ضرورة ملحة ونبعا فـيّاضا وطاقة متمكنة وطريقا الى المعرفة وقوة تشمل جميع ملكات الإنسان في محاولة التمسك بقـيمتين هما:  الذات الخلاقة، والواقع المعاش.

نتناول في هذا القسم من الدراسة ملامح هذا المنجز الغـنائي بصفته الشعبية وذلك من خلال انتقاء بعض النماذج لبيان قراءة التواصل والتفاعل مع النص والوعي به ورصد الظاهر اللغوي بين العامي والفصيح.

1 -لعبة خويط البريسم :

هذه إحدى الألعاب الشعبية التي تختص بها الإناث دون الذكور، وتشتمل على صوت وحركة وايقاع، وهي لعبة تحتاج إلى ثلاث فتيات يقمن بدور رئيس، إذ تحمل اثنتان منهما الثالثة على ايـديهما بطريقة معينة وسهلة تتيح لهما رفع الفتاة الثالثة، وتبدأ الفتاتان اللتان تحملان الفتاة الثالثة بترديد هذه الأغنية:

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم .

الفــتاة الثـانية : آنـي أعـدّل العــــروس .

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم.

الفــتاة الثـانية : آنـي أمشـّط العـروس .

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم

الفــتاة الثـانية :آنـي أسـبّح العـروس .

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم

الفــتاة الثـانية :آنـي ألبّس العـروس .

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم.

الفــتاة الثـانية : آنـي أدهّـن العـروس .

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم

الفــتاة الثـانية : آنـي أعجّـف العـروس .

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم

الفــتاة الثـانية :آنـي أعـطّر العـروس .

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم

الفــتاة الثـانية : آنـي أجلـّس العـروس .

الفـتاة الأولــى : علــى اخــويط البـرســيم

الفــتاة الثـانية : آنـي أغـنّي للعـروس .

كما وردت هذه اللعـبة بصيغة أخرى على النحو الآتي:

أنـا اخويط لبرسـيم          وأنـا مشّـك اللـولـو

أنـا اعطية ربــي                  وأنــا الخـير في أرضـي

أنا اخـويط لبرسـيم         وأنـا مشّـــك اللـولو

إنّ نسقية البناء اللغوي تبدو واضحة في هذه الأغنية إذ تسير في متوازيات تحفّز العقل على تصورها والسيطرة عليها، كما أنّ الانتقال من سطر شعري الى آخر يخلق نوعا من البهجة والسرور في إبراز الأنساق المتماثلة في دلالاتها الفاعلة (أنـا أعدّل – أنا أمشّط – أنا أسبّح – أنا أدهّن – أنا أعجّف ... الخ) ولعل سمة الحوار التي تسود معظم الأغاني الشعبية عند الأطفال تـؤكد مفهوم التواصل القائم على التبادل اللفظي الحاصل بين ذات متكلمة تنتج ملفوظا موجها إلى ذات متكلمة أخرى، أي إلى محاور يستدعيه للإنصات و/ أو تقديم جواب مباشر أو ضمني.

يترافق الخطاب اللغوي للنص مع حمولته المضمونية، إذ أنّ (اخويط البريسم) الذي يعني خيط الحرير هو نقطة الإرتكاز في هذا النص، فاجتماع الحرير مع اللولو في تخيل ذهني عند الفتـيات فـي احتفـالية للـزواج يمثـل تطلعـاتهن في الحـياة الزوجـية والسـعادة الـتي يحلمـن بهـا، وذلك تعـويض لمـا يعـانينه من شـقاء وعـناء الواقـع.

2 -لعبة  هدوا لمسلسل:

وننتقل الى نموذج آخر وهو من الأغاني الإستعراضية التي يشترك فيها الأولاد والبنات وتشتمل على صوت وحركة وإيقاع، هذا النموذج هو لعبة (هدوا لمسلسل) وهي لعبة يشكل فيها الأولاد نصف دائرة، ويقومون باختيار أحدهم ليمثل دور الوحش الذي قيد بالسلاسل في مخيلتهم، وهنا يبدأ الأولاد في ترديد هذه الأغنية:

المجمــوعة: هــدو لمســلسل هــدو .

الــفرد: تـرى هـو يـاكم .

المجمــوعة : هــدو .

الــفرد: يـاكل عشــاكم . 

المجمــوعة:  هــدو .

الــفرد:  فـي يـده بيضــة . 

المجمــوعة:  هــدو .

الــفرد:  بيضــة عطــاني .  

المجمــوعة: هــدو .

الــفرد:  لي ياتكم (جاءتكم) الجلبة (الكلبة) البيضة لا تخافون .  

المجمــوعة : لا.

الـفرد: لي يـاتكم الجلـبة الحمـرة لا تخـافون.  

المجمــوعة: لا .

الــفرد: لي ياتكم الجللبة الزرقـة لا تخافون.  

المجمــوعة: لا .

الــفرد: لي يـاتكم الجلبة السـودة لا تخافون .  

المجمــوعة: لا .

الــفرد: لي ياتكم أم السلاسل والذهب فضو..

تتسم هذه اللعبة – كما تميزت اللعبة السابقة التي تحدثنا عنها – بحوارية التواصل بين المرسل والمرسل اليه في توازن إيقاعي ونغمي، تتدرج فيه المحفزات الدرامية في شكل تصاعدي حتى تصل إلى قمتها ومن ثمّ تبدأ في الهبوط نحو فك العقدة الدرامية، كما إنّ التناغم بين الألفاظ وبين دلالاتها يخلق نوعا من التوجيه التربوي في بناء شخصية الطفل، فالمعجم اللغوي لأغنية هذه اللعبة يتمثل في (لمسلسل وتعني الوحش المقيد بالسلاسل الذي يهدد من أمامه، «هدو»: وتعني اطلقوا سراح هذا المقيد، «الجلبة»: وتعني الكلبة ووصفهـا بعدة ألوان متدرجة من اللون الفاتح البيضة الى الحمرة وهو لون داكن عن الأبيض ومن ثمّ الزرقة وهو أكثر دكنة ومن ثمّ السودة وهو لون نقيض الأبيض الذي بدأه في أول الأوصاف، ولفظـة لا تخـافون وتكرارها) فمن خلال النظر في مفردات هذا المعجم اللغوي نجد أنها توحي بدلالات الصراع الذي يقابله التحدي، مما يخلق تأسيسا معنويا في فضاء الطفل الذهني بعدم الإسـتسلام والخوف من المجهول، بل مقاومة الخوف والعمل على إزاحته فـي تعاضد جماعي، وهذا معادل تعويضي لغياب المؤسسة التعليمية آنذاك.  

أما أغاني الأطفـال الشعبية التي تخلو من الحركة ويغنيها الأولاد والبنات فهي كثيرة، ولكننا سنختار أنموذجا ننهض بتحليله لاسـتكناه حمولته الدلالية ومضامينه التربـوية. 

3 -أغـنية اللـومية:

 وهي أغنية شعبية يرددها الأطفال، ولا تحتاج الى عدد كبير من الأطفال ولا كيفية معينة، هو ترديد يضفي المرح والطرفة على المؤدين. تقول كلمات الأغنية: 

لـومية خضـرة خضـرة

في يـد عبدالرحمـن

ايقشـرها عبدالله

ويكلـها ســلمان

سـلمان يا خو شـيخة

يا املقـط الحــويت

ايلقطـه في قـلالي

وايبيعـه في الكويت

كـل العـرب تحـنوا

حطـوا على طـرقين

وانـا يا لبنــية واحـد

ولا صـبغ لـي زيــن

أروح بـيت أبـويه

واحــط لـي عشــرة

واحـرّ مـرت ابــويه

ام ويـــه الخنفرة

إنّ انسابية لغة هذه الأغـنية تسـتميل الطـفل الى ترديدها واللهو بها، وإنها – أي انسابية اللغة – ناتجة عن تضافر مجموعة من العناصر الفنية في النص، فالأسطر الشعرية تنتهي بقافية خفيفة تتكون من ساكن ومتحرك كما هو واضح في نهاية السطر الأول عبدالرحمن – سلمان (ا + ن .. ساكن + متحرك) الحويت – الكويت (ي + ت .. ساكن + متحرك) وهكذا يسير النص حتى نهايته، إضافة إلى ملامسة اللغة لذهن الطفل، إذ أنها تشكل عناصر مكونة لبيئتهم سواء كانت عناصر بشرية (عبدالرحمن، عبدالله، سلمان، شيخة) أو عناصر بيئية (الحويت – الليمون – الحـنّة).

وهكذا نجد أنّ تناغما طبيعيا يبرز من خلال الإيقـاع الطبيعي في اللغة والترنيمات الصوتية الممتزجة في ألفاظ هذه اللغة لتؤثر في وجدان المتلقي والمرسل في آن واحد.

إنّ قراءة النص قراءة تـأويلية تواصلية تنتج دلالات تكشف عن حالة الصراع النفسي المتمثل أحيانا في الحرمان وأحيانا أخرى بالتمايز والتسلط بين أفراد المجتمع، فاللومية الخضرة وهي (الليمون الأخضر) رمز لطراوة الحياة وجمالها، وقد يحرم منها انسان آخر لتكالب غـيره عليها، ويتضح ذلك من حرمان سلمان أخو شيخة من الحصول على اللومية الخضرة مما دعاه الى جمع الحويت في قلالي وبيعه في الكويت، ومظهر آخر من مظاهر الحرمان هو أن تلك البنت قد تحنت مرة واحدة ولم يؤثر لون الحناء في يدها، بينما وضع الآخرون الحناء مرتين إمعانا في بيان أثر لون الحناء في اليد بشكل جميل وجذّاب، الأمر الذي دفع بالبنت الى اتخاذ قرار باعادة الحناء مرة أخرى أسوة ببقية البنات نكالا بزوجة أبيها التي حرمتها من ذلك،  وهنا تبرز – من خلال نص الأغنية – ظاهرة زوجة الأب التي تكنّ العداوة والبغضاء لأولاد زوجها من سيدة أخـرى.

إنّ عالم الطفولة في التراث الشعبي يأخذ بعـدا خياليا تتابعيا في مشهدية الشخوص وفضاءاتها المتعددة، فتعمل على شحذ خيال الطفل وتطلعاته، فالتلبّس بالخيال فعل ناشط يحفز ذهن الطفل ويندفع به الى الجموح والتيقظ والاندفاع نحو الأسئلة الحياتية المتعددة التي تثير فضوله بغية إثراء عالمه الصغير . 

4 -أغنية حمـامة نـودي نودي:

 بنيت على سياق تتـابعي: 

حمامة نودي نـودي          سـلمي على سيودي

سيودي راح المكة          وايجيب عيش العكة

وايحطه في صندوقي          صندوقي ماله مفتاح

والمفتاح عند الحداد           والحداد يبّي افلوس

ولفلوس عند العروس     والعروس تبّي اعيال

ولعيال يبّون حليب           والحليب عند البقـر

والبقر يبّون حشيش         والحشيش يبّي مطـر

والمطـر من عند الله            قوم صلّ ما عــبّر

قوم تغده هيه والله 

ويردد أطفال القرى في البحرين هذه الأغنية بصورة مغايرة شيئا ما .. إذ تقول الأغنية:

حمامة نودي نـودي           سلمي على سيودي

سيودي راح مكة            وايجيب عيش عكة

وايحطه في الصواني           صواني يا اخوانـي

بيت لعجيز احترق               صبوا عليه قطرة مــرق

يا فاطمة بنت الني            اخذي كتـابش وانزلي

على محمد او علي              لا إله إلا الله 

كما وردت أغـنية أخـرى في السياق نفســه ولكن بصورة أخرى، إذ وردت في شكل حكائي يتسم بالحوار بين البنت والأم :

الـبنت : يمـه أبـي لقمـة

الأم : اللقمة في الرمة         والرمة تبي حطب 

الـبنت : النخـيل تبي قـدوم

الأم : النخـيل تبي قـدوم

الـبنت : القـدوم عند الحداد

الأم : الحداد يـبي فلوس

البــنت : الفلـوس عـند العـروس

الأم : العـروس تبي رجـل          والــرجل يــبي ولاد

والولاد يـبون حلـيب 

الـبنت : الحـليب من البقــر

الأم : البقـر تـبي حشيش

البنت : الحشيش من الجـبل 

الأم : الجبل يبي مطـر

البنت : المطـر من عند الله

الأم : لا اله الا الله

محمد يا رسول الله        علي يا ولي الله

إنّ الأغنية السابقة بنمطيتها المختلفة في الشكل تمثل شكلا من أشكال التناص النصي من حيث بنيتها اللغوية ودلالتها المعنوية، كما يبرز التواصل الحواري جليا في النصوص السابقة، إذ تستثمر تلك النصوص منظومة كبيرة من السرد الحكائي التي ترشح عن الذاكرة الجمعية، وبالرجوع إلى البنية الدلالية للغة النصوص السابقة نجد أنها تنتهي بحمولة دلالية تكمن في خفاء وراء مشهدية حوارية جعلت من الفعل ثيمة رئيسـة للحدث للإشارة الى البعد التوجيهي بعـيدا عن التعقيد والتغميض الذي يشوّش وعي المتلقي (الطفل). فالفعل المضارع بمفهومه الطلبي (يبي) أي يريد يفصح عن الحاجة لما يطلبه، والتي تمثل ضرورة من ضرورات الحياة ، ولعل اجتماع العناصر المكوّنة للحياة والمتمثلة في المطر والحليب واستمرارية النسل والإصرار على طلبها حتى تتحقق الطموحات يدعم الموقف الإيماني عند الأطفال وذلك من خلال الوصول الى نهاية البحث عن من يملك مغاليق الحياة ليصلوا الى النتيجـة الحتمية وهي أنّ كل ما في الكون هو من عند الله، ويرسم التدرج في الطلبات من البسيط الى الصعب ثم الى الأصعب وهكذا، صورة الواقع وهي تجربة ضربت بجذورها في وجدان الشعب، لتبقى ميراثا يتوارثه الأبناء عن الآباء.

 

 

خصــائص أغــاني الأطــفال الشـعبية 

إنّ غاية البحث في تراث الأغنية الطفولية الشعبية هو اكتشاف قيمة وفاعلية هذا التراث، وتعميق المعرفة بمكوناته وأبعاده ووظائفه بغية إيجاد قناة تواصلية تمد الجيل الحاضر بالقدرات الإبداعية والتفكيرية، وتنمية الخيال وإفساح المجال له في التعبير الهادف.

وعندما يمعن المرء النظر في الإبداع الشعري في تراثنا الشعبي يجد أنّ هذا النتاج يمثل فلسفة تربوية واجتماعية ودينية وأخلاقية، ولا مناص في هذا الصدد من الإلماع الى الخصائص المتعددة التي اتسمت بها أغاني الأطفال الشعبية من حيث اللغة والأسلوب والمحتوى والدلالة .

1 – اللغة والأسلوب:

لقد تميّزت أغاني الأطفال الشعبية بمجهولية المؤلف، وتناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل مشافهة الى أن وصلت إلينا ودوّنت في كتب وأقيمت حولها الكثير من الدراسات.  إنّ هذه المزية (مجهولية المؤلف) أعطت مساحة واسعة ليتحرك النتاج الإبداعي دون أن ترقبه عيون اللغة أو أن يخضع لديوان المحاسبة في التعبير، لذا نجد أنّ الإبداعي الغنائي صيغ في لغة نابعة من البيئة البسيطة ومن خصائصها، مما جعل اللغة تنحو المنحى نفسه في اختيار لغة الطفل حسب مراحل نموه مع التنوع التدريجي لهذه اللغة ، إذ انعكس ذلك على الألفاظ والتراكيب اللغوية في عفويتها كأغنية لعبة (قوم يا شويب) حين تتحلق البنات في دائرة وتمثل إحداهنّ دور الرجل العجوز وهنّ يرددنّ:

قوم يا شويب .. قوم يا شويب .. عن التنور 

فيرد الشايب: 

سرّي عايب .. سرّي عايب .. ما اقدر أقوم 

الشـايب : يـيت عـند هـاذي 

المجــموعة : هـي والله 

الشــايب : عطـتني محبس

المجــموعة : هـي والله

الشــايب : ضـاع في الملعـب

المجــموعة : هـي والله

الشــايب : وانـا ألعب 

المجــموعة : هي والله 

وهكذا إلى أن تنتهي الأغنية، فالألفاظ المستخدمة  نابعة من البيئة وفي الوقت ذاته تلامس ذهنية البنات، إذ أنّ التنور ملازم للبيئة الشعبية، كما أنّ تصغير الألفاظ ظاهرة مألوفة آنذاك ويقصد بها التمليح والدلالة على القرب وكسـر الحـواجز بين المتكلمين، كما تمتـاز اللغة بالتكرار في الألفاظ والتعابير والبعد عن الصياغات المجازية .

أمـا الأسلوب فقد سيطرت عليه المباشرة والوضوح والبعد عن التكلف الى الدرجة التي تشعر المتلقي حين يسمع تلك الأغاني أنه حقـيقة يعيش تلك الفترة بناسها وبيئتها،  وإنّ هذه الأغنية أو تلك هي كلام الناس المتداول في يومياتهم . ولعل العلاقة الحميمية تبـدو واضحة بين المؤلف المجهول واللغة التي تمتزج بالكثير من التصورات التي تواكب سير زمن ولادة نص الأغنية، وهكذا تبدو نصوص الأغنية الشعبية للأطفال عادية في لغتها بعيدة عن أفكار وصائية منمقة ، مما جعل لغة تلك الأغاني تعيش في وجدان الشعوب في مجتمعاتهم، والمجتمع البحريني خاصة.

ومما  لا شكّ فيه أنّ تمازج الفصحى في الأغنية الشعبية باللهجة العامية أضفى عليها ثراء وحضورا ترسخت جذوره في نفوس أطفال تلك الفترة حتى حملوه الى من بعدهم تجربة متميزة ترسم لوحة العلاقات المتجـذّرة في أعمـاق تربة المجتمع حتى أضحت ناموسا يقتفي آثآره جيل المستقبل.

2 – المحــتوى والـدلالــة : 

في سياق قراءة أغاني الأطفال الشعبية استوقفتني ملاحظة شديدة الأهمية، وهي حضور الخيال البسيط ولا أعني به الخيال الرومانسي، وانما إن جاز التعبير انطلاق تصور الذهن في دائرة المعطيات والموروثات والبيئة.

ولعل لعبة ( أنا الذيب باكلكم ) توضح ذلك التصور الذهني الذي يسيطر على الأغنية الشعبية عند الأطفال، وهي لعبة تلعبها البنات، إذ تقوم مجموعة بتمثيل دور الغنم وتقوم واحدة بتمثيل دور الذئب، وأخرى تقوم بدور الأم، فتختبىء الغنمات وراء أمها في مواجهة الذئب ليدور هذا الحديث التصوري الذهني:

                   الــذيب : أنــا الـذيب باكلــكم

                  الأم : وانــا أمـكم بحــميكم                    

                    الـذئـب : أنــا الـذيب باكلــكم

                    ألأم : وانــا أمـكم بحــميكم                    

                    الـذئـب : كــش كــش غــنمي

                    ألأم : والله مـا تـاخذ ولــدي

                    الـذئـب : كــش كــش غــنمي

                    ألأم : والله مـا تـاخذ ولــدي

 نستطيع من خلال التمعن في الكلمات وترابطها في سياق تصوري أن نلحظ مدى تمتع الأطفال بقدرتهم على ممارسة طفولتهم السعيدة أو التعيسة أو الفوضوية بانطلاقهم نحو عوالم خاصة يتسامرون وإياها مخترقين بها آفاقا رحبة تخرج مكـنوناتهم التصورية من دون أية قيود، وفي الوقت ذاته تشكل ملامح نموهم النفسي،  ويشكل الخيال الطفولي في أغاني الأطفال جزءا كبيرا من المساحة الإبداعية  مما يجعلها قادرة على إستيعاب مضامين ودلالات مختلفة من حيث الأشكال أو الصور التي تتبدى في فضاء الأغنية.

وأما الملمح الدلالي في أغاني الأطفال الشعبية فقد أصـبح دالا تاريخيا، وعلامة وجود معنوية، ورمز أصالة، وهي حقائق أصبحت تدافع عن وجـودها بعـد تجذرها في الذاكرة الجماعية، وعليه فإن كل أغاني الأطفال بأنواعها المختلفة – أعني المتلازمة لألعاب البنات أو ألأولاد – قد حملت حمولات دلالية تستقر في بعدين اثنين وهمـا:

          أ – البعــد الـديــني .

          ب – البعــد السـلوكي والـتربــوي .

أما البعـد الديني فتتمحور دلالته من خلال الحزم اللفظية التي تدور في معجم لا يخرج عن إطار ذكر الله وبيان نعمه ، وأنه سبحانه وتعالى هو الخالق للكون كله وإليه يرجع الناس وذلك على ما تشير اليه هذه الأغنية على نحو  ما جاءت عليه والتي أوردنا نصها آنفـا :

حمامة نودي نـودي          سـلمي علـى سـيودي

أو تدرج الأغنية في حوارها التتابعي لتصل في نهـاية الأمر الى أنّ مفتاح الحصول على الشيء هو بيد الله سبحانه وتعالى لتكون نهاية الأغنية :

والمطـر من عند الله          قـوم صـل ما عـبر

قوم تغـدى هـيه والله 

أو كما جاء في أغنية الأصابع، حـن يدور الحوار حول إحدى القيم السلوكية وهي الأمانة، بين طفلين باستخدام الأصابع، إذ تقول بعض مقاطع الأغنية:

يثـني الطفل إصبعه الوسطى ويقول :

هـاذي تقول من عند الله

ويثني الإصبع السبابة الى الداخل ويقـول:

                  هاذي تقـول اســتغفر الله 

ويتلون المعجم اللغوي للبعد الديني بذكر النبيﷺ والشعائر الدينية كالأذآن والصيام وزيارة بيت الله – أي زيارة مكة – وغيرها، كما ويلعب البعد الديني دورا أساسيا في تربية النشىء ويسد في الوقت ذاته فراغا تعليميا يحتاجه الطفل آنذاك لغياب المؤسسات التعليمية الرسمية والنظامية.

أما البعد السلوكي والتربوي فإنه يمثل العلاقة بين النظر والعمل في التصور التراثي لنتاج ثقافة المجتمع البحريني آنذاك، والتي من خلالها تتجلى صورة التعبير عن القيم،  وذلك لتمازج الثقافة ذات الصلة الوطيدة بالقيم والأخلاق، ولعل الفطرة السليمة التي سادت مجتمع البحرين البدائي قد ساعدت على التهذيب، فكانت مصـدر الملكات الخيّرة ، إذ أنّ هذه الفطرة هي الإطار الحيوي لاستقبال المؤثرات الخارجية التي تعمل على دعم وتعزيز السلوك عند الطفل.

وبرز في ذلك الكم الهائل والمتنوع من الأغاني الشعبية مظاهر سلوكية وقيم تربوية تتملك الحواس وتفجّر الطاقة الإبداعية، فأغنية لعبة (أنا الذيب باكلكم) تجسد مفهوم التضحية والتعاون والتعاضد بين أفراد المجموعة في مواجهة الخطر الداهم بشكل عملي وملموس، فهي محاولة تحويل المعـنوي إلـى مادي تجريبي منظـور في أرض الواقـع، وأمـا لعبة (هدو المسلسل) فتغرس في نفوس الأطفال التحدي والشجاعة،  وفي الوقت ذاته تؤصل فيهم روح التكاتف والعمل الجماعي في مواجهة الأخطار، ولم تقتصر الألعاب وأغـانيها الشـعبية على ترسيخ القيم الأخـلاقية فحسب، بل اشـتملت على قـيم تعلـيمية كما في أغـنية (السبت سبمبوت) وهي أغنية يلهو بها الأطفـال حينما يلعبون بالكرة، حيث يقف الطفل في مواجهـة الحائط ومن ثم يبدأ برمي الكرة في اتجاه الحائط وحينما ترجع اليه يمسكها وفي كل مرة يرمي الكرة يقول :

الســبت ..... ســبمبــوت

الأحــــــد .... عـنكـبوت

ولثــنين ..... بــابـين

والــثلاثا ..... مــنارة

والأربعا .... بشــارة

والخمـيس .... ذبحـنا ابليـس 

والجمـعة ..... عـيدنا وعـيد الرســول  

وهناك الكثير من الألعاب المغناة والأغاني التي احتوت الكثير من القيم الأخلاقية والتعليمية التي تعد محورا أصيلا في تبطين النشىء واعدادهم لرحلة المستقبل خلفا للآباء الذين يذهبون في رحلات الغوص التي تستغرق شهورا طويلة.

3 – الحـواريـة :

تتميز لغة الأغاني والحكايات الشعبية الحوارية عـند الأطفال بأنها نتاج أدبي يتسم بالعفوية المعبّرة عن مكنونات خيالهم، وهي في الوقت ذاته فن شعبي شفوي انتقل من جيل الى جيل يحمل في طياته صورا جمالية قائمة على محسن بديعي وهو السجع لإضفاء وقع ايقاعي جميل ينغرس في ذهن الأطفال محققا مخزونا تراثيا سهل الاستدعاء متى ما دعت الحاجة الى ذلك.

إنّ حوارية اللغة في نصوص أغاني الأطفال الشعبية ارتكزت على سمة تكرار العبارات والحركات التي يغلب عليها الثنائيات  كالأغنية الآتية:  

قوم يا شويب .. قـوم يا شـويب .. عن التـنور 

الشايب:

 سرّي عايب .. سرّي عايب .. ما اقدر أقوم 

الشايب: يـيت عـند هـاذي 

المجموعة : هي والله 

الشايب : عطتني محبس

المجـموعة : هـي والله

الشايب : ضــاع في الملعـب

المجموعة : هـي والله

الشايب : وانـا ألعـب 

المجموعة : هي واللـه 

ويظهر في الأغـنية السابقة الحبكة البسيطة التلقائية في مسارها التصاعدي بعيدة عن التشابكات والتفريعات التي من شأنها صرف انتباه الطفل عن الهدف المرسوم لها لتلائم تفكير الطفل. كما اننا نلحظ اعتمادها على الفعل والحدث متساوقا مع ايقاع الخيال السريع لدى الطفل.

إنّ الرؤية التحليلية لأغاني الأطفل الشعبية تكشف عن قدرة الطفل على إتقان الكلام والحوار وانسيابه بلغة عامية وهي اللهجة المتداولة والمؤسسة لتعليم القرآن الكريم فيما بعد لتشكل نهجا موازيا للغة الفصحى دون الحاجة إلى وسيط وناقل للمعرفة .

إنّ الحوارية النصية الشعبية هي السبيل لانغماس الطفل في أحداث النص الحواري ومتابعة أحداثه بكل جزئياته مما يمهد السبيل الى خلق أريحية بين عناصر النص، والمتمثلة في النص الحواري والطفل، مما يخلق نوعا من التماهي بينه وبين روح النص، إضافة إلى أن النص بشكله الحكائي يؤسس الى وسيلة اتصال بين الصغار والكبار ليس في أغاني الأطفال الشعبية المحلية، بل هو نهج سارت عليه كل الحضارات منذ بدء الخليقة.

لا يختلف مجتمع الأطفال كثيرا عن مجتمع الكبار من حيث الممارسة والاحساس بالمكـوّن البيئي من حولهم، فلمجتمع الطفولة ممارسات وتقاليد يلتزمون بها من خلال الغناء واللعب، فهو فضاء مفتوح للتعبير عن ما يجول في مكنوناتهم من آمـال وطموحات لتحقيق ذواتهم، ويظهر ذلك جلـيا في محاكاتهم لسلوك الكبار. 

«فالغناء بمفهومه البسيط اهم لغة وجدانية عرفها الانسان في كل زمان ومكان، واختصت به الجماعات البشرية، سواء أكانت جماعات حضارية ام بدائية، مما ترتب عليه تعدد لهجات الغناء، وتنوعها، حسب نوع الجماعة، والبيئة الاجتماعية والثقافية التي نعيشها» (8). ويهدف الغناء فيما يهدف اليه الى تحفيز الحس العاطفي، وترويض النفـس باشـاعة الفرح والسرور مما يساعد على إثارة الذهن في تفعيل مفاهيم الإدراك المعرفي بما يتضمنه من وعي ديني ووطني وذلك من خلال ترديد النصوص الحكائية في المناسبات الدينية والوطنية والإجتماعية. 

إن أغـاني الأطفـال الشعبية منتج أدبي وفني قائم على عناصر فنية تتماهى مع بعضها البعض لتشكل وحدة فنية متكاملة إذ أنها تشتمل على النص الشعري واللحن الموسيقي والإيقاع الحركي. فمن تحليل مفردات النصوص الغـنائية نجد أنها تعتمد على اللهجة العامية السائدة في المجـتمع البحريني، وهـي أداة التواصـل في حيثياتهم اليومية . ولعله من الواضح أنّ الإيقاع الموسيقي يمثل عنصر جذب لتفاعل الأطفال بالنص الشعري دون الإهتمام كثيرا بوحدة المعنى لخلوها من التعقيد الذي يؤدي الى حالة الإنسجام بأحلامهم الطفـولية والتأثر بالرموز الفنية في نماذجهم الغنائية.

لقد لعبت أغاني الأطفال الشعبية في البحرين أسـاسا مهما في البناء المجتمعي وذلك لما تحمله من مضامين وقيم وايحاءات رمزية تعبر عن حاجات المجتمع آنذاك وحاجاتهم في الوقت ذاته، ولعل أغنية ( هدوا لمسلسل وأغنية حمامة نودي نودي سلمي على سيودي ) تمثل صورة فنية رمزية تحمل في طياتها التوق الى الحماية من الأخطار، والرغبة في استنزال المطر الذي يعد المكون الأساسي لاستمرار الحياة وبث روح التجديد والنماء في المجتمع. 

ومما لا شـك فيه أنّ تلقائية إعادة السرد الحكائي في لعب الأطفال بلغتهم وحركاتهم تتيح لهم فرصة التواصل مع أقرانهم، وفي الوقت ذاته مع أهلهم حينما يرددونها عليهم في مناسباتهم بفرح وسرور مما يتيح لهم فرصة استرجاع الأحداث وتمثلها بأسلوبهم وهذا – أي إعادة السرد الحكـائي – يعمـل على تحفيز المتخيل الذهني .

للحكاية القصصية وجود في تراثنا الأدبي، وقد تناثرت خيوط الحكاية القصصية وتنوعت بناها لتصل إلينا متشابهة جيلا بعد جيل، إلى أن استقر بها المقام في متن كتب اللغة والأدب وغيرها من المراجع الأدبية والتاريخية، ولكن مما يلفت النظر وأنت تقرأ أغاني الأطفال الشعبية هو أنّ نسبة كبيرة منها تقوم على الحوار، فتتشكل مشهدية القص كصورة سردية، تتناسل إيحـاءاتها لوحة غـير مـؤطـرة تتلـون فيها الدلالات لتمنح الإيماء والأعماق والبنية حركة درامية تصبغ الموت بالحياة، بطريقة لا تنفصل عن المعاناة الذاتية والموضوعية .

أنّ الحوار الغنائي أوقع في النفس، ويتيح مساحة كبيرة للتعبير عن الفكرة المراد توصيلها للمتلقي وذلك من خلال مشهد حواري استعراضي، وقد تكون الأغاني والألعاب التي ذكرناها سابقا خير دليل على هذه الخاصية التي زخرت بها أغاني أطفالنا الشعبية.

وبهذا تبقى الأغنية الشعبية عند الأطفال دائما ناصعة ببريق سحري غامض وكيان تلفه التفاعلات دون الخضوع في أشكالها ونسجها لنظام أو قانون معين، بغية الحصول على المتعة والتشويق عن طريق الإيحاء والصورة والحركة.

 

الهوامش

 

1.  المـيلاد، زكـي . المسـألة الثقـافية ص 136 ط الأولى 2005.

2.  أدونيس، علي أحمد سعيد، صدمة الحداثة ص 294، بيروت 1978.

3.  أدونيس، علي أحمد سعيد، صدمة الحداثة ص 294، بيروت 1978.

4.  نجـيب، أحمد العربي ، أدب الأطفـال علم وفن ، ص 23، القاهرة 1994.

5.  Fisher,Robert. (2001) Teaching Children To Thin. Nelson Thomes Ltd. United Kingdom.

6.  ابـراهيم ، نبيلة ، أشكال التعبير في الأدب الشعبي. ص 70. دار نهضة مصر للطبع والنشر. ط الثانية.

7.  صالح، ماهر – العاب الاطفال واغانيهم، مجلة الفنون الشعبية (بغداد)، العدد4 السنة 1967، ص 47.

8.  أبو سعد، أحمد – أغاني ترقيص الأطفال عند العرب ط 2، ص 19، دار العلم للملايين، بيروت 1982. 

 

المصادر

 

*   كـتاب الألعــاب الشـعبية الصـادر عن مهـرجان الثـراث الحـادي عشـر . وزارة الاعـلام  - إدارة الثقافة والراث الوطني – مملكة البحرين .

المراجع

 

 

*   المــيلاد، زكـي. المسـألة الثقـافية. ط الأولى 2005، المغــرب .

*    سـعيد، على أحمد «أدونيس» صـدمة الحـداثة، بـيروت 1978 .

*   نجـيب، أحمد العـربي. أدب الأطفـال علم وفـن. القـاهرة ط 1994.

*    ابـراهـيم، نبيلـة. اشـكال التعبـير في الأدب الشـعبي، ط الثـانية، القاهـرة 1995.

*    يحـيى، رافـع، تأثـير ألـف لـيلة ولـيلة على أدب الأطفـال العربي. ط 2001، القـاهرة. 

*   أبـو سـعد، أحمـد، أغـاني ترقـيص الأطفـال عـند العرب. ط 2، ص 19، دار العلم للملايين بـيروت 1982.

*    صالح، ماهر – العاب الاطفال واغانيهم، مجلة الفنون الشعبية (بغداد)، العدد4 السنة 1967، ص 47.

 

الصور

*  «مهرجان الألعاب الشعبية بالبحرين» أرشيف الثقافة الشعبية.

أعداد المجلة