فن التطريز المغربي: مرآة الحضارة
العدد 39 - ثقافة مادية
فن العمارة يتألف من مكونين اثنين، وهما طراز البناء الذي يتحدد بأبعاد وتكوينات لأداء الوظيفة التي أنشئ من أجلها، والفن الزخرفي، الذي يجعل المواد المختلفة من خشب وفسيفساء وأصباغ تتكامل وتتناغم مع الطين والحجارة، ليخرج في النهاية عملا غاية في الجمال والسحر. لذلك ارتبط المكونان (البناء والزخرف) عبر تاريخ الإنسانية برباط قوي تحت ظل فن العمارة، الذي كان شاهدا عبر القرون على الذائقة الفنية والجمالية للناس. فالجمال في العمارة يتحقق نتيجة التناغم بين عناصر البناء ومكوناته التي تتفاعل في نسيج لحن جامد يبقى على طول الزمان شاهدا على إبداع العصر وتاريخا للمرحلة التي قام فيها البناء.
وكذلك فن التطريز embroidery فن توشية النسيج وزخرفته بأشغال الإبرة. وهو فن قديم جداً مارسه الناس في ظل حضارات كثيرة، يجعل من قطعة القماش الرخيصة لوحة ثمينة قيمتها عالية.
فليس غريبا ولا مثيرا أن يكتشف الباحث في حضارة المغرب وثقافته ارتباط الفنين، وتأثر طراز النسيج بطراز البناء. ففنا العمارة والطرز مرآة الحضارة، والأسر التي تداولت الحكم في المغرب، حرصت كل واحدة منها على ترك بصماتها الواضحة على الفن المعماري، وقد تحقق لها ذلك، من خلال إنشاءاتها العديدة التي تزخر بها المدن المغربية، والتي ما زالت قائمة كلا أو جزءا، إلا أن هذه البصمات تعدى تأثيرها المعمار، وأرخى بظلاله القوية على فن الطرز النسائي الرقيق البديع.
وفي ظل الحضارة المغربية تفنن الطرازون في ابتكار أنواع مختلفة من المطرزات كانت تستعمل لتوشية الملابس والمفارش، لأجل ذلك أنشئت دور الطراز لإنتاج الملابس الأنيقة المزخرفة الثمينة التي تليق بمقام السلاطين والأمراء وتدل على مكانتهم، وتميزهم عن غيرهم من العامة. تطور فن التطريز في المغرب الإسلامي كما تطور في دول عديدة مشرقية إفريقية وحجازية وشامية، في ظل الحضارات التي عرفتها المنطقة كالأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية وغيرها، فالملابس والخلع المخصصة للطبقة الحاكمة والأعيان، عرفت تطورا هاما خلال هذه الحضارات. فأنشئت دور الطراز، وهي على نوعين "طراز عامة" و"طراز خاصة" في كثير من الحواضر الهامة بجوار إقامات السلاطين بكل البلدان. وكانت دور الطراز الخاصة تنتج أنسجة ملوكية، تتضمن اسم الحاكم والدعاء له، واسم المدينة التي نسج فيها القماش وتاريخ النسج، في بغداد ودمشق والفسطاط بالقاهرة، وفي الغرب الإسلامي أنشئت بالأندلس أيضا خلال عهد الدولة الأموية وملوك الطوائف في الأندلس (كان ذلك في الدولتين من أبهة الأمور وأفخم الأحوال)(1).
وفي عهد الدولة الموحدية، وعلى عظمتها وسعة نفوذها وقوتها، لم تتخذ دار طراز، لا لسذاجتها كما قرر ابن خلدون أو لتشددها الديني، ولكن ذلك راجع لنهج الدولة الرافض لمظاهر التبذير والبذخ، والميل إلى الخشونة في الملبس والمأكل والمظهر، ويلاحظ ذلك في ما تركوه من آثار معمارية أيضا. وقد أمر السلطان يعقوب المنصور الموحدي بإخراج ما كان في المخازن من أقمشة حريرية رفيعة وديباج مذهب، فبيع للمواطنين بأبخس أثمان، ووجه الأمر بمنع النساء من الطرز الفخم الحفيل على الحرير، والاكتفاء بالرسوم الدقيقة الصغيرة الساذجة القليلة(2).
في عهد بني مرين، تم إحداث هذه الوظيفة في الفترة الأولى من عهد الدولة التي تميزت بشموخها، وتأثرها بملوك بني الأحمر في غرناطة(3)، ويوثق ابن الخطيب لحادث حريق اندلع بالدار، فقال بأن الكارثة دمرت كميات هامة من الديباج، والعديد من التجهيزات الحديدية والمناول وألواح الرسوم والأصباغ والخيوط المذهبة ما لا يمكن عده ولا وصفه(4). ما يبين أهمية المؤسسة وضخامة، وكثرة منتجاتها، الذي لا شك في أنه كان يكفي حاجيات السلطة الحاكمة، ويزيد عليه، ما كان يتيح فرصة تعميم الاستفادة من خدماتها بين سائر الطبقات، وتصدير الفائض من الإنتاج إلى دول أخرى، وتحكي مصنفات التاريخ أن المنسوجات كانت تشكل أهم مواد التبادل التجاري مع بلاد السودان وغيره من البلدان، مقابل استيراد الذهب. كما كان يتم إهداء المنسوجات البديعة لسلاطين المشرق تثبيتا وتقوية للعلاقات الديبلوماسية(5).
إلا أن أكثر الأعمال المطروزة، كانت تتم بخيوط دقيقة رقيقة، وعلى أقمشة عادية تنقصها المتانة، لأنها كانت مما يستعمل في الحياة اليومية، ما جعلها عرضة للتلف وغير قادرة على مقاومة الاستعمال الذي قد يمتد لسنوات طويلة، لذلك ضاعت أكثر هذه الأعمال، ما يجعل عملية تأريخ وتتبع تطور هذا الفن صعبا مضنيا، إن لم يكن مستحيلا، فلم يحفظ لنا التاريخ سوى أمثلة نادرة معدودة، أفلتت من التلف لأسباب خاصة، وهي تتوزع على بعض المتاحف في المغرب وأوروبا.
وقد أقيم في قاعة "جاليري وان" في فندق قصر الإمارات، في أبو ظبي في يوليو 2010، معرض (حكاية منسوجات إسلامية) عرض على الجمهور الإماراتي قطعا كثيرة من الطرز العربي الإسلامي، ضمنه قطع فنية كثيرة من المغرب توثق لعراقة هذا الفن بهذا البلد، بحيث تمثل المطرزات المدن العريقة بالمغرب، وكل مدينة تتميز بتطريز معين، وكل واحد يتميز عن الآخر بخصائص معينة.
الطرز فن حضري نسائي
التطريز مع أنه مصطلح واسع النطاق خاص بمنتجات النسيج من ألبسة ومفروشات أو ستائر. فهو فن حضري نسائي بامتياز، يهم الملابس النسائية بدرجة كبيرة، والرجالية بدرجة أقل، ويعد مكونا هاما من مكونات الموروث الثقافي الوطني.
فالحياة الحضرية التي تتصف بالرقة والرخاء تطبع الأزياء ومكونات المنازل والفنون والحرف التقليدية، سواء تلك التي تنتشر في الأسواق أو التي تتداولها وتتوارثها النساء. فأزياء الناس من ذكور وإناث في الحواضر لها طابعها الذي يميزها عن أزياء سكان القرى. فالزي الحضري يلائم طبيعة الحياة الحضرية السهلة والأنيقة، فيغلب عليه الرقة والنفاسة والخامات الثمينة والتفنن في التصميم والتزيين والصباغة والترصيع. خاصة وأن أسواق المدن ومحترفاتها ودكاكينها توفر هذه المنتجات ومكوناتها والمواد الخام التي تصنع بها، بل وتوفر فوق ذلك، معاهد ومراكز التكوين التي تحتضن الراغبات في تعلم الصنعة، ما يساهم في نشر الصنعة والحفاظ عليها وتطويرها.
هذا الفن في المغرب يعد فنا منزليا وصنعة عائلية تتوارثها النساء. في العائلة المغربية خلال القرون الماضية، كان كل الأطفال يمرون من "المسيد" أي الكتّاب القرآني. إلا أن الفتيات ينقطعن عن الدراسة ما بين ثمانية وعشرة أعوام. ليتفرغن لتعلم تدبير شؤون البيت، إما داخل عائلاتهن أو عند (دار الْمْعْلّْمَة). وكانت هذه الدور بمثابة مدارس تكوين مهني تنتشر في كل أحياء وأزقة المدن الكبرى المغربية، مهمتها تعليم الفتيات قواعد الطرز الفاسي والرباطي والسلاوي وصناعة الشبكة والتصميم (الفصالة) والخياطة والطبخ وتدبير شؤون المنزل (الصورة1). ولم يكن هنالك منزل يخلو من نسوة يتقن الطرز، وكانت العروس تتجهز بملابس وأثواب تقليديّة وشراشف ومخدّات وغيرها من المطرّزات.
وفي الغالب تتولى النساء أعمال الطرز في بيوتهن، حتى يستطعن في آن واحد المزاوجة بين العمل وبين تدبيرهن منازلهن والعناية بالأطفال. وما يشجع على إنجازه داخل المنزل، هو أن عدته بسيطة، تتألف من قماش، وخيوط وإبر ومرمة أو إطار الطرز، وأحيانا رسوم تشكل مخططات ونماذج، تلائم طبيعة السكن الحضري الضيق المساحة. إلا أنه يتطلب عناية فائقة ومهارة عالية والصبر من لدن النساء، كي يضفي الكثير من التألق والدفء على الأشياء البسيطة.
ينفذ التطريز عادة على أنسجة رقيقة أو سميكة من القطن أو الحرير أو الكتان أو الصوف. وأجود القماش للتطريز الكتان والقطن، لأن تربيع نسجهما واضح، وعد القطب سهل، ولذا تتساوى الوحدات الزخرفية وتستقيم وتتعامد بدقة. وهناك من يستخدم الصوف إذا كان خشناً.
عند تطريز قطع صغيرة من النسيج يمسك القماش بإطار من حلقتين متراكبتين تدعيان (طارة التطريز). تشد المشتغلة بالطرز قطعة الثوب على الطارة الخشبية الدائرية، وتبدأ التطريز، فتشغل الرسوم بخيوط حريرية بإبر خاصة، تمررها من وجه القماش إلى قفاه، تم تديرها إلى وجه القماش، وهكذا دواليك متتبعة الرسم التخطيطي حتى تنتهي من شغله.
أما الخيوط المستعملة في التطريز فمنوعة، وأكثرها من القطن أو الحرير والمقصب.
الخيط الحريري: أغلى الخيوط وأثقلها، والثوب المطرّز بها ثقيل، ولا يُلبس إلا في الاحتفالات.
الخيط القطني: يطرّز به على كل أنواع الألبسة، وهو رخيص، ولكن بعض خيوط القطن تبهت وتنمحي أو تتغير ألوان بعضها.
الخيط المقصب: يستعمل في تطريز أعلى الصدر والأكمام على قماش المخمل.
من أهم الأدوات المستعملة (المرمة) وهي نول مستطيل الشكل مثبت على قاعدة من أربع قوائم خشبية لحمله (الصورة2). تثبت عليها قطعة النسيج من الكتان الأبيض أو الحرير، ثم تشرع الفتاة في زخرفتها باستعمال خيوط خاصة، مستعينة بإبرة خاصة.
التصميم واختيار الرسوم: التطريز عمل تنفيذي، ينجزه المرء على أساس فهمه للنموذج أو التصميم الموجود بين يديه ولا يلتزم بالضرورة ما هو محدد في التصميم الأصلي، إذ يتوقف نجاحه على حسن اختيار المواد والألوان والتقنيات التي سيستعملها الطرّاز وبراعته في التنفيذ.
إن نقل التصميم المتخيل في الذهن، أو المرشوم على الورقة، عملية معقدة صعبة تتطلب قدرا كبيرا من الصبر، فإنجاز الشكل المطلوب يتطلب تجربة هامة وخبرة كبيرة وعناية فائقة، وما يزيد من صعوبة العملية هو أن قطعة النسيج التي يتعين توشيتها تكون في الغالب ثمينة، كبيرة وخيوطها دقيقة.
أهم مراكز الطرز المغربي التقليدي هي الحواضر المرينية: فاس، مكناس وسلا، الحاضرة الموحدية: الرباط، الحواضر الأندلسية تطوان، والشاون، الحاضرة البرتغالية: أزمور، فهذه المدن تشتهر بأنماطها الفنية المنسوبة إليها.
الطرز الفاسي
يرتب الطرز الفاسي في قمة هرم فنون الطرز المغربي، وكان لدار المخزن (مقر إقامة السلاطين) دور هام في إنعاش وتطوير هذه الصناعة، فحاجات السلطان وحريمه ووزرائه وموظفيه إلى المنسوجات المطروزة كانت متنوعة متعددة، لتوفير الملابس والأحذية، والحقائب الموشاة والفرش والمناديل والوسائد والستائر، وسروج الأحصنة، وغيرها من المنتجات الأنيقة التي تستجيب للأذواق وتليق بالمقام وتناسب أنماط الزخرفة والمعمار الملكي بالقصور.
هذه الفنون تمتد جذورها إلى قرون ماضية، لذلك اغتنت بالإسهامات التاريخية والتراكمات الهامة التي خلفتها حضارات كبرى، كالحضارة الأندلسية التي تعتبر وليدة الامتزاج بين المكونات الأمازيغية والعربية والإفريقية والأوروبية والآسيوية، الواردة من المغرب الإفريقي والمشرق العربي وأوروبا، كان لها دور واضح في تطوير هذا الفن من عهد الدولة المرينية الذي عرف انفتاحا على هذه الفنون، نتيجة استقدام الحكام للحرفيين الأندلسيين المهرة، أو لهجرة الحرفيين الطوعية أو القسرية إلى المغرب بعد أفول نجم الدولة الأندلسية. فالطرز الأندلسي اكتسب شهرة كبيرة بفضل الدقة التي تميز بها، وجمالية الأشكال والألوان والتذهيبات التي كان ينجزها على الملابس النسوية بالخصوص.
والطرز الفاسي نوعان:
طرز العلوج: اسمه يدل على أن أصله غير عربي، استقدمه الصناع لأجل تلبية طلب المنتسبين لدار المخزن، وقد انقطع العمل به، لم يعد ينتج في المغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر. يعتمد هذا الطرز على تقنية خاصة، ذي وجه واحد، أحادي اللون، ويتميز بإنجازه وفق تصميم معد سلفا. وتحفظ بعض المتاحف والأسر بعض القطع والنماذج القليلة من هذا الطرز، بعضها استخدمت فيها ألوان متعددة، بإدماج الخيوط المذهبة والحرير، مشكلة بذلك تركيبات متناسقة وجذابة بجزئيات مندمجة مع بعضها، يطلق عليها لفظ الجردة (الحديقة)، تجمع بين الأشكال الهندسية أو الحيوانية أو النباتية، مرسومة بدقة، ومندغمة مع بعضها وفق حساب مدروس. وفي قطع أخرى من طرز العلوج، يبدو مجسم الخميسة واضحا، ترسم لشكلها الجميل، وللاعتقاد الشعبي في قدرتها على دفع أثر العين الحاسدة (الصورة3).
"طرز الغرزة" أو طرز الحساب: (غرزة الحساب وغرزة المسلول وغرزة الصليب إلخ) ينجز على ثوب رقيق من حرير أو قطن دقيق النسج، لا يتأسس على رسم جاهز مسبقا بل ينجز مباشرة، ويعتمد على "النقطة الخطية" الأفقية أو العمودية تسمى الغرزة، أو المائلة التي تسمى النصرية. وانطلاقا من هذه النقط تنشأ أشكال متعددة كالنقط الملتوية البسيطة أو المدعمة أو إلى النقطة النجمية المشعة. كما تستخدم النقطة المضلعة ونقطة الساق من أجل تحديد أو إبراز الأشرطة (الصورة4).
هذا الطرز أحادي اللون، أزرق داكن في الغالب أو أخضر غامق، ولأنه ينجز باليد يتطلب مهارة الصانعة وصبرها ودقتها في إبراز الرسوم التي تريد على وجهي قطعة الثوب، وذلك شرط الإتقان. الزخارف عموما تتألف من إطار صغير قوامه زخارف هندسية نباتية مشجرة دقيقة جدا، ومن شريط واسع يتألف من أشكال نباتية مشجرة مشكلة من خطوط منكسرة، وإفريز نهائي مثلث الشكل في الغالب يتألف من زخارف هرمية تسمى (المقيبات) أي المقببات الصغيرة، تحدد الإفريز النهائي، يضاف إلى هذه الأشكال عدد من الزخارف الصغيرة الموزعة على كامل القماش باعتدال ودقة، دون إفراط ولا تفريط، ما يكسب قطعة القماش سحرها الخاص، وخصوصا إذا كانت الفتاة فنانة ماهرة ذات ذائقة جمالية، تحسن اختيار الألوان والأقمشة والأشكال. وفي بعض المنتجات يبدو تأثير المدرسة التركية العثمانية واضحا في أشكال نباتية زهرية تمثل الزنابق، تعود إلى القرن السابع عشر.
ويستعمل طرز الغرزة في إنجاز قطع خاصة بالأثاث الداخلي مثل أغطية الموائد والأسرة والستارات والأرائك، والأحزمة والسراويل والأوشحة والمناديل النسائية أيضا. وعادة تطرز به العرائس جهازهن، مثل لحاف السرير (الصورة5)، مناديل اليد، قفطان الحناء، وضمن مطرزاتها نجد زخارف قديمة كالنجمة الثمانية على معالم قديمة من الفن الأموي، وزهرة الزنبق التي شغلت قائمة كبيرة للفنون المتوسطية، منذ أقدم الأزمان، إلى جانب العديد من المجموعات النباتية والهندسية والحيوانية (الصورة مفتتح المقال). ويضم متحف البطحاء بفاس، الكثير من تحف التطريز الفاسي.
ويعتبر الحزام الفاسي من أجمل وأروع المطرزات النسوية، والذي كانت تتمنطق به المرأة الحضرية الموسرة فوق قفطانها المحلى بالطروز أيضا، ويتم لفه عدة مرات حول الخصر. وبخلاف المطروزات الأخرى، يتميز الحزام بتعدد ألوان الخيوط المستعملة فيه.
الطرز المكناسي:
قريب بأسلوبه من الطرز الفاسي، ويعد، امتزاجا للذوقين الفاسي الحضري والأمازيغي الأصيل. فاعتماد الزركش الأمازيغي أكسبه ثراء وتميزا.
تنجز المطرزات بأسلوب الغرزة المحسوبة، وتقدم تشكيلة واسعة من طبقات التلوين الحارة، سبعة ألوان زاهية تعطينا طرزا بوجهين، يزاوج بين الأشكال الهندسية والنباتية المتناسقة والمتداخلة (الصورة6)، واليوم وبالنظر للطلب المتزايد على هذا النمط، أصبح ينتج بكثافة في فاس أيضا.
الطرز السلاوي
تعيد نسوة سلا إنتاج النموذجين الفاسي والمكناسي المرينيين، باختلافات بسيطة ناتجة عن التأثر ببعض الأشكال الأوروبية من إيطاليا بالخصوص التي اكتسبت منسوجاتها شهرة واسعة بجودتها وجمال زخارفها (الصورة7). ما كان له حضور وازن في عدد من الحواضر المغربية الواقعة على الساحل الأطلس وأهمها أزمور التي سيأتي الحديث عنها لاحقا.
وعموما فإن الطرز المريني ظل وفيا للأسلوب الزخرفي الإسلامي الأندلسي، الذي يعتمد على خصائص أهمها النسقية والرياضية والتكرار والأسلوبية:
النسقية: وهـي عبـارة عـن هندسية سيمترية أو تـوازن في عـلاقـات الجـزئيـات والوحدات المكونة للشكل.
الرياضية: عـلاقات الأشـكـال تقوم على التساوي أو التضاد أو التوازي، وينتج عن هذا أن توزيع الوحدات الأصغر فالأصغر في الشكل العام يأخذ نمطا رياضيا لا يختل إلى ما لا نهاية
التكرار: النتيجة العملية لاجتماع النسقية والرياضية في شكل ما، إذ يترتب على اجتماعهما ليس فقط تكرار الوحدات الجزئية، بل وتكرار صورة الفراغ الناتج عن تجاوز هذه الوحدات وتكرار الحركة الناشئة عن تماثل الوحدات والفراغات صعودا وهبوطا يمنة ويسرة
الأسلوبية: تحويل العناصر الطبيعية وإدماجها في الأشكال الذهنية الهندسية من مربعات ومخمسات وغيرها، ودوائر وخطوط متشابكة وتجريد الأشكال الطبيعية حتى تصبح الزهرة مجرد دلالة ذهنية تمثل جزءا من الحركة الذهنية العامة في الشكل(6).
الطرز الرباطي
تتميز الرباط بنوعين من الطرز، طرز قديم وآخر جديد.
الطرز القديم لعله يعود إلى عصر الموحدين، الذين أسسوا المدينة. فالموحدون الزهاد كان لهم ميل إلى البساطة، ونفور من الزخارف ومظاهر البذخ، لذلك كانت مبانيهم تتسم بالضخامة في حجمها وبالبساطة في زخرفتها، والتي تخلف لدى المشاهد انطباعا بالصرامة والقوة والوضوح. وكذلك الطرز الرباطي القديم، الذي يتأسس على أشكال مرسومة على القماش، وينجز الرسم بخيوط سميكة، ولون أزرق أو أحمر داكن، وأحيانا باللونين الأحمر والأزرق معا (الصورة8)، أو بإضافة اللون الأصفر. ورسوم عريضة مصمتة استوحت التواءها من النباتات، وتناسب في الغالب القطع النسيجية الكبيرة التي تتخذ ستائر للأبواب، لذلك تزين برسوم وأشكال شبيهة بالمحاريب، أو أوراق التين الشوكي العريضة، وعلى وجهي القماش (الصورة9).
ولعل دعوة السلطان يعقوب المنصور الموحدي النساء للتخلي عن الطرز الفخم والاكتفاء بالأشكال الدقيقة، قد لقيت قبولا لدى النساء واستجبن لها، وتخلين عن الطرز الرباطي القديم ذي الأشكال الزخرفية الصارمة، التي يستثقلها الذوق النسوي الرفيع الأنيق.
التطوير الذي لحق هذا الطرز استهدف الزخارف. فالزخارف النباتية القديمة العريضة تم تحويرها وإعادة تصميمها فأصبحت زخارف زهرية صغيرة دقيقة ورقيقة وبألوان جميلة متعددة، تسر العين وتبهج الناضر (الصورة10)، تنجز على قماش قطني رقيق ناعم أو حريري. هذه الزخارف النباتية الجميلة البديعة التي تغني الطرز الرباطي بألوان شتى، لعلها من آثار التواجد اليهودي بمدينة سلا المجاورة للرباط التي لجأوا إليها إثر طردهم من الأندلس، وجلبوا معهم جملة من مظاهر الرقي الأندلسي. فقد عرفت سلا موجات من اللجوء اليهودي إليها بعد طردهم من البرتغال خلال القرن السادس عشر. وكانت ضمنهم مئات الأرامل اليهوديات كُنّ يمتهنّ الطرز بخيوط الصقلي المذهبة، ويُعلّمن فنهن لنساء سلا المسلمات واليهوديات(7). وما يدعم هذه الفرضية أن الكثير من القطع المطرزة القديمة أنجزت بخيوط مذهبة من إيطاليا، وأخرى أنجزت على أقمشة قطنية ودانتيل مستوردة من إيطاليا أيضا. على الرغم من خلو هذه المطرزات من أي رمز ديني قد يشير إلى هويتها.
هذه الزخارف النباتية اللطيفة تشير إلى الحس الفني الذي بلغته النسوة المبدعات، كما تدل على مهارتهن في دمج أشكال النباتات والغصينات والزهيرات وتشخيصها بشكل جذاب يثير الإعجاب.
الطرز الأزموري
نسبة إلى مدينة أزمور ويطلق عليه أيضا اسم طرز السبع، ويعد مفخرة الأسرة الأزمورية وقمة عطائها الفني. وتشير كثير من الدراسات أنه كان يوجد بأزمور معمل للطرز يشغل أكثر من 60 امـرأة، وأغـلب إنتـاجـه كـان يوجه نحو الخارج، كما كانت تعطى فيه دروس في الطرز للفتيات الصغيرات.
وقد اشتهرت المدينة بأنواع أخرى من الطرز، مثل طرز الربيع (النبات). طرز المرشة القديمة. طرز الزهر والمشموم. ومن الألوان المستعملة في الطرز الشقيفي من الحرير الحر الفاسي والأخضر والأزرق والبنفسجي والأحمر والأصفر والبني ومن أشهر أنواع الطرز طرز السبع المنجز باللونين الأصفر والأسود (الصورة 11).
هذا الطرز الأزموري يصنف ضمن طرز الغرزة أو الحساب، يستعمل خيوط الحرير من لونين، أهمهما الأحمر القرمزي والأسود. لكنه ينفرد بلوحاته التي تشكل وحدة متجانسة ومتكاملة وكثيفة، تتألف من أشكال هندسية نباتية زهرية أو نجمية، إلى جانب الرسوم الحيوانية، التي تشخص حيوانات مألوفة كالطاووس أو حيوانات أسطورية كالتنين الواسعة الانتشار في الطرز الإسباني والإيطالي. ويحتمل أن يكون التأثر المغربي نتيجة تعرف المطروزات الواردة من مدينة البندقية الإيطالية، التي دخلت البلاد خلال حكم الدولة السعدية ابتداء من القرن السادس عشر على يد التجار إثر الاحتلال البرتغالي للمدينة. ومن المعلوم أن الرسوم الحيوانية عمل نادر في المنسوجات المغربية الإسلامية، في حين أنها مألوفة في المنسوجات المغربية اليهودية.
هذا الطرز يستعمل غالبا في إنجاز الأشرطة القماشية المزخرفة التي يتراوح عرضها ما بين 10 و40 سنتمتر وتصل إلى مترين طولا، والتي تستعمل كستائر أو لتوشيح الأسرة أو الأفرشة، كما قد يستعمل اليوم لتزيين الجلابة النسوية أحيانا.
الطرز التطواني
امتزجت في تطوان عناصر الثقافة الإسلامية المتنوعة كما امتزجت فيها العناصر العرقية والدينية المختلفة. فإلى جانب التأثير الأندلسي البارز والذي حمله المهاجرون الأندلسيون الذين استقروا بالمدينة منذ القرن الخامس عشر، تعرف التطوانيون الطرز التركي العثماني على يد الجزائريين الذين نزحوا إليها خلال القرن التاسع عشر، على الرغم من تأخر وصوله فإنه كان مهما، لأن التأثير العثماني تمتزج فيه مكونات وعناصر تنتمي لثقافات إسلامية آسيوية وافريقية متعددة كانت خاضعة لهيمنة الأتراك وسلطتهم. ما أثرى المكونات الثقافية لتطوان، بمزج هذه العناصر الثقافية البديعة بتنوعها.
ينفذ الطرز التطواني عادة على أثواب راقية وثمينة مثل ثوب الكتان وثوب الحرير الذي يتميز بلونه الجميل. أما العناصر الزخرفية المطروزة فتنجز بخيط حريري ذي ألوان زاهية، وتشكل من عناصر نباتية في الأساس.
توجد في بعض المتاحف قطع فنية تعود إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، اللذين شهدا ترحيل الثقافة الأندلسية إلى المنطقة حملها النازحون من بلاد الأندلس، كما أن البقايا المتوارثة من القرن السابع عشر، تكشف عن طرز أحادي اللون، وهو عامة إما أرجواني أو أخضر أو برتقالي فوق ثوب أبيض من قطن أو كتان. وتكرر الرسوم التجريدية في هذا الطرز صيغا نباتية على شكل دوائر مغلقة في الغالب. في حين ترجع أغلب الشواهد على هذا الطراز الأندلسي التطواني إلى القرن التاسع عشر. وفي كل هذه المطرزات، يمكن أن نعاين الزخارف الأندلسية النصرية والمدجنة الأصل.
ومن أهم هذه الأعمال تلك التي يطلق عليها اسم التعجيرة، والتي تنفرد بها تطوان أساسا دون غيرها من المدن المغربية:
"التعجيرة": (الصورة 12) تطرز على قماش ثمين كالكتان والحرير يستحسن أن يكون لونه أصفر أو أبيض، أما العناصر الزخرفية المطروزة فتنجز بتقنية الرشم، والرسم بواسطة خيط حريري ذي ألوان زاهية، وتشكل من عناصر نباتية، مؤلفة من ورود متشابكة فيما بينها ومتعددة الألوان. تنجز بها عدة أعمال منها كساء الفراش التقليدي "الناموسية"، ملابس تقليدية، أغطية للتزيين، ستائر إلى غير ذلك. التي تكون جزءا أساسيا من الشوار الخاص بالعروس.
يتطلب إنجاز الطرز من الفتاة وضع وسادة فوق ركبتيها، لأنها حين تشرع في الطرز، تلف الجزء المنجز من عملها في لفافة قطنية حفاظا عليها.
"التنشيفة" (الوشاح): وهي على الشكل الطولي مطرزة بدقة متناهية (الصورة 13)، وهي تستعمل لتحجب المرأة أيام خطوبة العروس أو أثناء العرس، اعتقادا أنها تحمي العروسة من العين والحسد وتعمل على طرد الشر، ولها استخدام واحد فقط أثناء العرس، تشتهر بها تطوان، وتنجز على ثوب حريري، بأحد عشر لونا. ويكون له وجهان (المزلج) و(المرخم) وهو لا يزال موجودا اليوم، وإن كان ينجز بآلة الخياطة، التي تعجز عن إنتاج مطرزات بوجهين بخلاف التطريز التقليدي اليدوي.
كما تعرف تطوان وأحوازها الطرز بالغرزة، باستعمال خيوط حريرية فوق قماش من الكتان، واعتماد تقنية الخيط المحسوب، وزخارفه تتشكل من رسوم هندسية بلون واحد داكن في الغالب أو لونين، تشخص مكونات المعمار الأندلسي من أقواس وقباب. وأحيانا أشكالا نباتية مجردة.
الطرز الشاوني
مدينة شفشاون المجاورة لتطوان، تختص بعراقة وأصالة طرزها الذي تعود أجمل قطعه إلى القرن السادس عشر، تتميز بشدة التراص، ما يجعلها أقرب إلى الأسلوب القبطي المصري. مطروزاتها تستعمل كبسط وأغطية الصناديق، وستائر أبواب أو لتلبيس الجدران. فضلا عن الملبوسات (الصورة 14).
الطرز الشاوني يستعمل الخيط الحريري بألوانه المتعددة، والخيط الذهبي والفضي، على أقمشة قطنية، حريرية وكتان، إلى جانب المخمل أيضا. وتتعاقب فيه أشرطة ملونة واسعة وزهور رسمت بطريقة تزيينية داخل مسدسات ومعيّنات متكررة، وتتوسط زوايا المطرز نجمة ثمانية. وهذه الأشكال لا يمكن أن تقارن إلا بالطرز الإسباني الإسلامي في إقليم غرناطة(8).
الخاتمة
في العصر الحديث، أدى ظهور الآلات وتطور التقنيات الحديثة إلى إحداث نقلة نوعية في تقنيات التطريز في العالم كله، حيث فتحت هذه الآلات الحديثة المجال واسعا بتطوير هذا الفن، وأتاحت للفنانين العاملين به حريات أوسع للإبداع والابتكار والخيال، فأنتجوا قطعا تجمع بين جمال الحرفة ونقاوة العمل على مستوى الكم والكيف، وكان لارتباط فن التطريز بفن التخطيط والرسم أثر بارز في ذلك التطور، فالتطريز يتأسس على مخطط مرسوم، وعلى ألوان ممتزجة، وعلى خيال وصور فنية، ليصل في النهاية إلى قطعة موشية تحظى بالقبول والإعجاب.
والأكثر من ذلك هو أن الآلة خفضت بشكل كبير تكلفة الإنتاج مقارنة مع الإنتاج اليدوي التقليدي، الذي أضحى مهددا بالانقراض، بسبب ارتفاع تكلفته من جهة، ولقلة الأيدي المبدعة العاملة بالتطريز.
إلا أن الطرز الآلي لا يستطيع أن يضاهي الطرز اليدوي جمالا وإتقانا وروعة، لأجل ذلك ما زال بعض الفنانين والفنانات في كثير من المدن المغربية يقاومون اضمحلال هذا الفن وانقراضه، ويتهمون الآلة بإفساد الحرفة الفنية العريقة، والأنماط الأصيلة التقليدية، ويحملون مشعل إنقاذ هذا التراث العريق بالاشتغال به، ويخلصون للطرز اليدوي وفاء له، بتكوين وتدريب الراغبين في تعلم أسرار الصنعة، لإرضاء الأذواق الوفية في حبها للتراث. فالإخلاص للتراث الثقافي والهوية، كان عاملا حاسما في حفظ النساء في البوادي والحواضر المغربية للذاكرة الثقافية الوطنية، من خلال تعليم وتوريث هذه الحرف والفنون للأجيال المتعاقبة عبر مئات السنين.
إن المنسوجات المغربية التقليدية لا تمثل مجرد قطع للتزيين، لكنها عالم مليء بالرموز ووثيقة ترصد بدقة كبيرة المؤثرات الثقافية والحضارية التي تفاعلت على أرض المغرب ملتقى الحضارات الإنسانية الكبيرة. فأضحت هذه الصناعات مرآة لثقافة عريقة متجذرة في التاريخ، وانعكاسا للتقاليد المحلية المتوارثة عبر الأجيال.
الهوامش:
1. ابن خلدون، المقدمة، بيروت، ص 267.
2. البيان المغرب لابن عذاري المراكشي: القسم الموحدي، طبعة 1985 دار الثقافة الدار البيضاء، ودار الغرب الإسلامي بيروت ـ ص 174.
3. ابن خلدون المقدمة ص 267.
4. ابن الخطيب، لسان الدين: نفاضة الجراب، تحقيق مختار العبادي، القاهرة، ص 273
الفاسي، ابن أبي زرع: القرطاس، الرباط 1902 ص 387.
5. حمدون، محمد: الأسس الجمالية للفنون الإسلامية مجلة المنهل رمضان 1404 ص 123.
6. محمد بن علي الدكالي السلاوي (ت 1945) (أحوال اليهود في المغرب قديما وحديثا) مخطوط.
7. الشريف، محمد: تطوان حاضنة الحضارة المغربية الأندلسية، تطوان، جمعية تطاور أسمير 2013، ص 24.
الصور :
* من الكاتب.
مصادر الصور:
* 1-2-4-9-11 مجموعة بروسبير ريكارد
* 7 مكرر-13 و13مكرر-14 مجموعة متحف بلغازي
* ما تبقى من شبكة الانترنيت