الثقافة الشعبيّة والثقافة العالمة بـين المعنى والمصطلح مقاربة اثنوموسيقولوجيّة حول الأغنية الشعبيّة
العدد 39 - موسيقى وأداء حركي
لاشك أن دراسة الثقافة الشعبية لبعض المجتمعات، تعد من الأمور بالغة الأهمية في الكشف عن مستويات التفكير وطرائق التعبير عن جوهر تلك الثقافة وعن حصيلة الخبرات والتراكمات المتوارثة، ولعل دراسة واستنطاق بعض عناصرها يقودنا إلى التمكين المعرفي والفهم الحاذق لبعض جوانب الثقافة والقيم السائدة في المجتمع لفترات تاريخية معينة.
الثقافة والإشكال المفاهيمي
إن الحديث حول الثّقافة بمعناها العام، يعدّ من المواضيع الشائكة والمركّبة والمستعصية أحيانا، باعتبارها تجمع أكثر من جانب ويلتقي فيها أكثر من مجال، إذ يتداخل في تشكيلها المعطى الاجتماعي والتّاريخي والسّياسي والاقتصادي، وهو الأمر الذي جعل المسألة على نحو من الصّعوبة والتّعقيد في الوصول إلى مفهوم واضح وتعريف ضاف للثّقافة. " لقد طبقت الكلمة ولا تزال على حقائق بالغة التنوع(فلاحة الأرض، الاكثار الجرثومي، تربية الأبدان،...) وبمعان بائنة الاختلاف إلى الحد الذي لم يعد فيه بالإمكان، هنا، تتبع تاريخها كاملا" (1).
وإذا كان القرن الثّامن عشر فترة ظهور المعنى الحديث لكلمة ثقافة في معناها المجازي، والذي يحيل على أفكار تقدّم وتطوّر الحياة والفكر، مقترنة بألفاظ دالّة على مجال الفلسفة والتربيّة والفنون والعلوم والآداب...، فإن بعض الدّراسات تعود بهذه الكلمة إلى أواخر القرن الثالث عشر وتشير إلى أن الثقافة "تاريخيا، هي كلمة مشتقة من اللاتينية(Cultura)، اتخذت في البداية مفهوما شاملا تعني حرث الأرض وتنميتها (Agrucultura)، إلى أن أصبحت تدل على تنمية العقل من خلال النشاط الفكري والتّعامل مع الحروف. فقبل أن نتحدث عن الثّقافة يجب أن نؤمن أولا بوجود الثّقافة، التي لا يمكن أن تتأسس من غير تواجد أناس وأشخاص يحدّدون بحريّة سلوك معين"(2). وهو ما ذهب إليه علماء الانتروبولوجيا في بداية القرن العشرين، أمثال الأمريكيّة مرجريت ميد اذ عرّفت الثّقافة على أنها مرتبطة بالسّلوك المتعلّم أو المكتسب، ويرى رايموند وليامز أنها "تتضمّن تنظيم الإنتاج" وبناء الأسرة، وإنشاء المؤسسات التي تعبّر عن العلاقات الاجتماعيّة أو تتحكم فيها، والخواص المميزة التي يتواصل أفراد المجتمع من خلالها بعضهم مع بعض(3).ويعتبر عالم الانتروبولوجيا الانجليزي "تيلور" أول من قدّم مفهوما شاملا لاصطلاح الثّقافة حين قال: "الثقافة هي ذلك الكل المركّب الذي يشتمل على المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع"(4).
وتقترن معاني الثّقافة في المعجميّة العربيّة بالفهم والإدراك والحذق والمهارة والتحوّل والتطوّر، ويشير ابن منظور إلى ذلك بالقول: ثَقفَ الشيء وثقَافًا وثُقوفة: حَذَقَه. ورجلٌ ثَقْف وثقِفٌ: حاَذِقٌ فَهِم. ويقال ثَقِفَ الشّيء وهو سرعة التعلّم، وثَقِفْتُه: إذا ظفرتَ به: والثَّقاف والثَّقافة: العمل بالسّيف: والثِّقاف: ما تسوّى به الرّماح، وتثقيفها تسويتها(5)، ولم يبتعد عن هذه المعاني كثيرا ابن سلام الجمحي(ت 231هـ) إذ يقول "وللشعر صناعة وثقافة يعرّفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقّفه العين، ومنها ما تثقّفه الأذن، ومنها ما تثقّفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان"(6)، وأما محمد عابد الجابري فقد قدم "الثّقافة كونها عالما من الرموز يشمل الفن والعلم والدين والذين يمكن التمييز فيهم بين نواة تتكوّن من المبدعين والمنتجين، من علماء وفلاسفة وكتّاب وبعض الصحافيين والممارسين لمختلف الفنون ومعظم المعلّمين والأساتذة...ومن خلال مهن أخرى كالأطباء والمحامين"(7).
ووفقا لهاته التصوّرات تعدّ الطّروحات حول مفهوم الثّقافة من المعطيات الاختلافيّة بين المجموعات حيث تتماهى الآراء حينا وتتباين أحيانا، ولا شكّ أن لكل نسق ثقافي معناه الرّمزي المثبّت للخصوصيّة الثّقافيّة والدّال على انتمائها لهذه المجموعة أو تلك، لذلك لا يمكن اعتبارها من المنتجات العامّة والمطلقة، بل هي شبكة من الأنساق الثقافيّة في حالة تناغم مع الواقع الاجتماعي الحاضن لها، وهي أيضا ذات صلة بالوعي الجمعي فأحيانا يصعب الفصل بين ما هو اجتماعي وثقافي ومحاولة التّفريق بينهما قد تفضي إلى استنتاجات مظلّلة حول سلوكيات الإنسان.
يظلّ تعريف الثّقافة والتّعابير الثّقافيّة من الأمور المستعصية على الضّبط والتّحديد، ورغم محاولات المشارب المختلفة في إيجاد مفاهيم وتفاسير للثّقافة، فإنها لم تفلح في الالتقاء والاتفاق حول تعريف ضافٍ بالمعنى الشامل للكلمة. ولكن يمكن القول أن المقصود بالثّقافة هي جملة التّراكمات التي تم اكتسابها بالوراثة والتّقليد والتّعلّم والتفكير، في مختلف أبعادها الماديّة والرمزيّة وكل ما له علاقة بالسيرورة التّاريخيّة والإبداع الفكري الإنساني، والثّقافة إذا تحتوي على القيم والمثل والمدارك والسلوكيات والعادات والمعتقدات التي تشترك فيها مجموعة بشريّة فتميزها عن غيرها. "إن كل ثقافة تحدد أسلوبا من التصرف المشترك بين مجموع الأفراد المنتمين إلى ثقافة ما. هنا يكمن ما يكسب الثقافة وحدتها وما يضفي عليها خصوصيتها بالنسبة إلى الثقافات الأخرى. ان الثقافة تقارب، دائما إذا، بوصفها كلية ويتركز الانتباه، دائما، على التقاطعات بين الثقافات المختلفة"(8).
فالثّقافة إذا شكلا من أشكال المعيشة المشتركة وذاكرة جماعيّة متشكّلة من حراك اجتماعي و تفاعل ثقافي متجدّد ومتنوّع. و"يمكن اعتبار كل ثقافة مجموع انساق رمزية تتصدرها اللغة وقواعد التزاوج والعلاقات الاقتصادية، والفن والعلم والدين. كل هذه الأنساق تهدف إلى التعبير عن بعض أوجه الحقيقة الطبيعية والحقيقة الاجتماعية، وأكثر من ذلك إلى التعبير عن العلاقات التي ترتبط بها كل من هاتين الحقيقتين بالثانية وتلك التي ترتبط بها الأنساق الرمزية ذاتها بعضها ببعض"(9).
الثّقافة الشّعبيّة
تعـدّ الثّقـافة الشّعـبيّة إحـدى المبـاحـث الأنتروبولوجية المركّبة، التي ظلّت تعاني من الإهمال والتّشكيك في أهميتها وجدوى دراستها، فلم تتمكن من احتلال مكانها ضمن الدّراسات الثّقافيّة، والاعتراف بها كمبحث مستقل قائم الذّات، قابل للاستقراء والفهم والتأويل، إلا في سنة 1937 على إثر إحداث المتحف الوطني للفنون والتّقاليد الشّعبيّة في باريس، ثم تتالى بعد ذلك ظهور عديد الأبحاث والكتابات المختصّة نذكر منها: "المجتمع والثّقافة" سنة 1958لرايموند ويليامزRaymond williames وكذلك كتابات ريتشارد هوقارتRichard hoggart وستيورت هول(10) Hall Stuart...، إذ تطورت الدراسات الثقافيّة خاصة بعد تأسس مركز الدراسات الثقافيّة المعاصرة بيرمنجهام(11) Birmingham، واتجهت الأبحاث نحو دراسة الثقافات الشعبية.
تتقاطع وتتداخل عديد الحقول المعرفية مثل علم التّاريخ والاجتماع واللّسانيات...، في دراسة الثّقافات الشّعبيّة، وتسعى جل الدّراسات إلى تحليل وفهم منظومة الثّقافة الشّعبيّة وتقديم تعريف لها، كل حسب منطلقاته الخاصّة ووفقا للمرجعيّة المعتمدة، وبما أن الثّقافة الشّعبيّة جزء من المشهد الثّقافي العام للمجتمع والذي عادة ما يشوبه الغموض الفكري والتّاريخي، فلقد تشتتت وتباينت آراء الدّارسين، حول تصنيفها وإدراجها ضمن سياق محدّد ومعلوم، وظلّت الثّقافة الشّعبيّة تقدّم مرّة على أنها ثقافة الطّبقات الشّعبيّة، وأخرى أنها الثّقافّة البدويّة أو العماليّة وأحيانا على أنها الثّقافة الجماهريّة...، وهذا ما يؤكد مدى صعوبة الاتفاق حول إيجاد تعريف واضح للثّقافة الشّعبيّة التي تعدّ من المفاهيم الإشكالية الأكثر خضوعا للسّجال والمناقشة،إذ تشكو من لبس وغموض دلالي ابتداء بالمصطلح واعتبارا لتعدّد معاني اللّفظتين المكوّنتين له. ومن وجهة نظر اجتماعيّة، فإن مصطلح "الثّقافة الشّعبيّة" قد يحيلنا إلى فوارق تصنيفيّة لثقافات المجتمعات، ويجعلنا عموما أمام قسمين من الثّقافة، تعرف الأولى بالثّقافة "العالمة"، ويعمد البعض إلى اعتبارها الثّقافة المركزيّة الرّاقية وثقافة النّخب الاجتماعيّة...، أما الثانية فهي الثّقافة الشّعبيّة والتي يعتبرونها ثقافة بدائيّة هامشيّة ذات نتاج غير مكتمل للمجتمعات البسيطة. ولكن حسب العلوم الاجتماعيّة والمباحث الاثنولوجيّة، فإن المقارنة لا تستقيم بين الثقافتين، كما لا يمكن أن يكون هناك تراتب بين الثّقافة العالمة والثّقافة الشّعبيّة، باعتبار الفاعلية الاجتماعية وفق الأسس والمقومات الواضحة لكل صنف من الثقافة على حده، وإن ذهب البعض إلى الإقرار بترابطها حد التّماهي كقول غلمية "...ما دامت الشعوب كل على حده، تصنع ثقافتها بمجمل فئاتها سواء أكانت شعبية أم غير شعبية، انطلاقا من الخلط بين ماهو تراث وما هو ثقافة شعبية، وماهو ممكن البقاء والتّطوّير وماهو جامد صنع لمرحلة معينة من الزمن"(12).
فالثّقافة ومهما كان تصنيفها(شعبيّة أو غيرها)، تصنعها الشّعوب ممّا حولها، فتمتزج ترسّبات الماضي بالحاضر ويضفى عليها الفعل البشري سواء من الجانب الفكري والعقلي أو من ناحية الصنائع والمهارات، فتحدد بذلك الخصائص الثّقافيّة والسّمات الأساسيّة التي تميّز شعبا عن آخر. و"يمكن طبعا أن نفكر في الثقافة الشعبية من منطلقات نظرية مختلفة وبترتيبات تحليلية وإجرائية متباينة، لكن المحتوى الثقافي للثقافة الشعبية يفرض نفسه في نهاية المطاف، ويتطلب بالتالي الانفتاح على التحليل الثقافي للثقافة الشعبية لكن بتكامل مع التحليل السياسي والاجتماعي والانتروبولوجي، بل وحتى الاديولوجي..."(13).
الأغنية الشّعبيّة خصائصها ومميزاتها:
إن تحديد المفاهيم والمصطلحات في العلوم الانتروبولوجية عامة وفي الانتروبولوجيا الثّقافيّة خاصّة، مبحث يصعب الحسم فيه، ويجعلنا أمام صعوبات كبيرة حول تحديد مفاهيمي واضح لجملة من المصطلحات التي تتجاذب فيها الآراء بالاتّفاق حينا والاختلاف أحيانا، ذلك ما لمسناه أثناء محاولتنا شرح مصطلح "الأغنية الشّعبيّة" بهدف إدراك أهم خصائصها ومميزاتها.
ماهية الأغنية الشّعبيّة:
يبدو أن الاتفاق حاصل في هذا الجانب حول تعريف الأغنية، على أنّها كلمة مشتقّة من فعل غنّى يغنّي أغنية "وغنّى بالمرأة تغزل بها. وغنّاه بها ذكّره إياه في شعر...وبينهم أغنية وإغنية يتغنون بها أي نوع من الغناء...والجمع الأغاني وغنّى وتغنّى بمعنى. وغنّى بالرجل وتغنّى به: مدحه أو هجاه"(14).
أما من ناحية الاصطلاح فإن الأغنية مصطلح عام نطلقه على الأداء الصّوتي الذّي يخرج من سياق النّثر إلى التقاء النّص الشّعري بالنّص الموسيقي، "هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقّع كل صوت منها توقيعا عند قطعه فيكون نغمة، ثمّ تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذّ سماعها لأجل ذلك التناسب وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات"(15).
فالأغنية إذا تركيبة صوتية، تصاغ وفقا لمواطن النّبر والسّكون في الألفاظ وذلك بطريقة مخصوصة طبقا للخصائص اللّغوية والنّغمية المعتمدة، كما تشترك في تكوينها جملة من المميزات الاجتماعيّة والثّقافيّة التي تتبنّاها الجماعات لبلورة هذا اللّون الفنّي، وذلك ما يفسر التعدّد والاختلاف في الأنماط الموسيقيّة والتي يطلق عليها في مجملها مصطلح الأغنية.
وإذا كان من الممكن تحديد مفاهيمي عام للأغنية، فان الأمر يصعب والآراء تختلف حولها كلما اقترنت بلفظة "الشعبيّة" كوصف نعتي، والتي لازال يشوبها نوع من الغموض واللّبس الذي حال دون تحديد واضح لمعنى الكلمة، وقد عمّقته جملة التّجاذبات العلميّة في التّعاطي مع كلمة "الشّعبيّة".
لقد ارتبط هذا المصطلح بجزء هام من الإنتاج الثّقافي، كالفنون الشّعبيّة والمأثورات الشّعبيّة والأدب الشّعبي والموروث الشّعبي...ولكن ما يثار هنا هو الاستفهام حول ما معنى "الشّعبي"، هل أن استعمال المصطلح يخضع إلى مقاييس اجتماعيّة ثقافيّة وطبقيّة، أم أن المصطلح ضرورة تصنيفية لحصر كل ماهو شعبي في دائرة الثّقافة الشفهيّة، أم أن هذا وذاك يلتقيان في المصطلح اللاّتيني "فلكلور"(16) FOLKLORE.
وأمام هذا الإشكال لابد لنا من محاولة تثبيت لمعاني المصطلح، والإتيان على بعض الآراء والمفاهيم العامّة التي حاولت تحديد وتعريف الأغنية الشعبيّة:
التقسيم التفاضلي:
سنحاول توضيح هذا الرأي بعد تقديم لمحة عن التّطورات التّاريخية في التّعامل مع دراسة موسيقات الشّعوب الغير أوروبيّة، باعتبار أن هذا الرأي قد تبنّى تعريف اللأغنية الشّعبيّة حدّده الباحثون الغربيون في ما يعرف بـ"علم الموسيقى المقارن" في القرن 19، والذي ظهر كمحاولة غربيّة لدراسة الموسيقات غير الأوروبيّة قصد استيعابها ومعرفة أهم خصوصياتها، وتبيان المقاربات والمفارقات بينها وبين النّظم الموسيقيّة الغربيّة.
وأمام ما يتصف به هذا العمل من شمولية وما يثيره من إشكالات حول تحديد واضح للخصوصيّات الموسيقيّة، تم تعديل دراسة الظواهر الموسيقيّة ليبرز علم حديث متفرع عن الاثنولوجيا يعرف بعلم الاثنوموسيقولوجيا، ويعود ظهوره كعلم مستقل إلى منتصف القرن 20، وقد ساعده في ذلك ما شهده العالم من ثورة صناعيّة وتكنولوجيّة، أفرزت "الفونغراف" بفضل كل من الكسندر جراهامAlexander Graham bell منذ سنة 1866 وتوماس أديسونTomas Edisson في سنة 1892، حيث ساهم الفونغراف في تسجيل وتوثيق الموسيقات، ويعود الفضل إلى أولئك العلماء الذين أرسو لتكوين اللّبنة الأولى لولادة الاثنوموسيقولوجيا، من خلال جملة الأرشيفات الموسيقيّة التي تكونت(17).
وعبر التطوّر التّاريخي لدراسة الموسيقات، ظهرت جملة من النّتائج والمفاهيم التي ظلّت محل جدل إلى يومنا هذا، مثل التّجاذبات حول تحديد واضح للمصطلحات، مما دفع بعديد الدّارسين إلى تناول تلك المفاهيم والمصطلحات المنبثقة عن نظم موسيقيّة معيّنة، ثم ترجمتها حرفيّا وإسقاطها على نظم موسيقيّة مختلفة، ونورد هنا مثال مصطلح "الفلكلور" والذي يقدّم أحيانا على أنّه التراث الشّعبي وأحيانا أخرى المأثور الشّعبي أو الفن التّقليدي والشّفوي...
وتتصف الأغنية بالشّعبية لدى هذا الرأي، بأنها جزء من الفلكلور حسب المفهوم اللاّتيني للكلمة ولأنها متوارثة عن المجتمعات البسيطة ذات الدخل المحدود والتي تتّصف أحيانا بـ "البدائيّة"(18)، على أنها مجتمعات تعيش بوسائلها التّقليديّة يغلب عليها الفقر والأميّة وتتداول ثقافتها عن طريق المشافهة، فتأتي نصوص أغانيها عفويّا وتلقائيّا لتعبّر عن مجتمعاتها إلى جانب بقيّة المظاهر الثّقافيّة الشّعبيّة، الماديّة والمعنويّة التي تندرج في مجملها تحت اسم "فلكلور".
يعتبر هذا المفهوم للأغنية الشّعبيّة الأكثر تناولا، والذي كان من نتاج البحوث والدّراسات الغربيّة ذات الرؤية النظريّة الخاصّة، والتي ظلت فيها الموسيقى الغربيّة الكلاسيكيّة المرجع الوحيد الذي يقيّم ويفسّر موسيقات بقيّة أقطار العالم، ومن خلال تلك الدّراسات استمدت الأغنية الشعبيّة صفتها ومكانتها تلك في ظلّ مقارنة غير متكافئة حدّدت مقاييسها طبقا لحاجيات فترة زمنيّة معيّنة.
لقد تبنّى هذا الرأي، مفهوم الأغنية الشّعبيّة النّاتج عن الأبحاث والدّراسات سالفة الذّكر، وحاول إسقاطها على نماذج فنيّة غير متجانسة تختلف عن نظيرتها ثقافيّا واجتماعيّا وإيديولوجيا، وهو ما نتج عنه الخلط في المفاهيم كأن نجد لدى البعض تناول الأغنية الشّعبيّة والأغنية التّراثيّة والأغنية التّقليديّة كمترادفات لها نفس المعنى، في حين أنّ ذلك لا يستقيم إذا ما تبينّا خصوصيّات تلك التّعابير والمصطلحات.
التّقسيم الطّبقي:
حاول أصحاب هذا الرأي تعريف الأغنية الشّعبيّة بالاعتماد على التّقسيم الطّبقي للمجتمع، وحصر هذا النمط الغنائي في الطّبقات الأبسط والأكثر فقرا في كل مجتمع، واعتبر هذا الرأي أن الأغنية الشعبيّة تستمد بساطتها من بساطة المجتمع وتسير بين أفراده بكل تلقائيّة وتتداول شفويّا، فتعبّر عن مشاغل وأفكار جماعيّة واقعيّة وآنيّة، طبقا للممارسات اليوميّة والموسميّة من أفراح وأتراح وأعمال ومختلف المناسبات المتعدّدة، ولعل هذا التّعريف الطّبقي يحيلنا مباشرة إلى مفهوم الشّعب في الفكر الماركسي والذي يقرّ بأن "في المجتمع العبودي كان الشعب أساسا هو العبيد وفي المجتمع الإقطاعي كان الفلاحون والحرفيون هم الذين يكونون الشعب، أما في المجتمع الرأسمالي فان الشعب يشمل الطبقة العاملة وصغار الفلاحين والعمال بالفكر والفئات الشعبية الأخرى"(19).
يحدّد هذا الرأي مفهوم الأغنية الشّعبيّة، انطلاقا من هويتها ومن الطّبقة المنتجة والممارسة لها، كما يقر هذا الرأي بانتمائها الصريح للفئات البسيطة من كل مجتمع، "وفي هذه الحالة تكون الثقافة الشعبية – كما وصفها أنطونيو غرامشي – هي ثقافة الطبقات المُهَيْمَنِ عليها في المجتمع، أوهي المجال الذي تَحْدُثُ فيه المواجهة بين الطبقات المهيمن عليها والطبقات المهيمنة"(20). واستنادا إلى ذلك فإن هذا الرأي يقرّ بأنّ الأغنية الشّعبيّة تستمد تصنيفها وصبغتها تلك من روح الانتماء بغض النّظر عن التركيبة العلميّة والخصائص الفنيّة والموسيقيّة لهذه النماذج الغنائيّة. وفي أغلب الحالات نجد هذا الرأي أيضا لدى عامة النّاس، الذين لا يرغبون الخوض في التّفاصيل الدّقيقة للمفاهيم، ويجهلون ما يحوم حول المصطلحات من تجاذبات واختلافات.
التّقسيم النّظامي:
يمكن القول إن هذا الرأي يتعامل مع مصطلح الأغنية الشعبيّة، اعتمادا على جملة من الثنائيّات يرى أنها قادرة على الفصل بين ما هو شعبي وما هو غير شعبي، إذ يعتمد أساسا على تعريف الأغنية الشّعبيّة لا من خلال خصائصها ومميزاتها الذاتيّة، ولكن من خلال مقارنتها بنظيرتها التي تعرف بالأغنية العالمة، المبنية على جملة من الخصائص العلميّة والنظريّة وفقا لمقاييس الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، ويتخلل هذه المقارنة الاعتراف الضّمني بتعال لكل ما هو متقن وعالم باعتباره رسميا، يعتمد على الوسائط العلميّة ويمثل شكلا فنيّا راقيا، يستمد صفته تلك وفقا لمدى خضوعه للمقاييس النّظريّة المتّفق عليها.
وكلّما ابتعد الشّكل الفنّي عن جملة القواعد إلا واتّصف بالمحدوديّة وبضعف الصّياغة الفنيّة والتي تنزل به إلى خانة دونيّة يتصف فيها بالشّعبي، ويبدو أن الأغنية الشعبيّة لدى هؤلاء تستمد وجودها من خلال مقابلتها بنظيرتها الأغنية المتقنة(21)، ويستند هذا الرأي في تصنيفه للأغنية، على خصوصيّات علميّة ونظريّة معقدة ليست في متناول الجميع من الفهم والإدراك، لذلك نجده في أغلب الحالات صادرا عن مجموعة متعلّمة لها دراية بالعلوم الموسيقيّة وبالتفاصيل الدقيقة والتي يحدّد من خلالها مقياس ما يعرف بالأغنية المتقنة.
إن الأغنية الشعبيّة ظلت محل تجاذب وتقاطع بين جملة الأبحاث والدّراسات التي تناولت هذا الموضوع، والتي فشل أغلبها في تقديم مفهوم واضح ومحدد لهذا الشّكل الفنّي، وقد يعود ذلك إلى عدّة أسباب لعل أهمّها نظرة الانتقاص التّي ظلّت تعاني منها الأغنية الشعبيّة والتي جعلتها بعيدة نسبيّا عن الأبحاث الجديّة والدّقيقة، ونعني بها الأبحاث التي تتناول هذا اللّون الغنائي كمبحث مستقل له خصوصياته ومميزاته التي تشكّلها جملة من الظواهر والمؤثّرات التّاريخيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، والتي لا يمكن تناسيها واللجوء إلى نتائج أبحاث حصلت في سياقات وأطر مختلفة، واتّخاذها مقياسا لتحديد وتعريف بقيّة الظواهر الغنائيّة. ومن هذا المنطلق سنحاول دراسة الأغنية الشعبيّة، والخوض أكثر في تفاصيلها ومميزاتها، كما سنعمل على توضيح الألوان الغنائيّة المختلفة المتفرّعة عنها. واستنادا إلى جملة الآراء التي استعرضناها والتي قد نتفق أو نختلف معها في بعض النّقاط المتعلقة بتعريف الأغنية الشعبيّة، سنسعى من جانبنا إلى تقديم تعريف لهذا النمط الغنائي.
الأغنية الشعبيّة
علينا أن نتفق منذ البداية على أنّ عبارة الشّعبيّة مشتقة من كلمة الشّعب وهو عبارة عن "جماعة اجتماعية يرتبط أفرادها بتراث مشترك وشعور خاص بالتعاطف قائم على خلفية تاريخية مشتركة تعيش ضمن حدود معينة تفصلها عن الجماعات الأخرى"(22).
الأغنية الشّعبيّة إذا هي ثقافة وإبداع لشعب ما، وتمثّل نمطا أساسيا من الموسيقى الشّعبيّة، والأغنية الشّعبيّة هي التّعبيرة الفنيّة الأكثر قربا والتصاقا بواقعها الاجتماعي المنتج والممارس لها. تتداول الأغنية الشّعبيّة وتنتشر بين أفراد المجموعة بواسطة التّقليد وعن طريق المشافهة، وتؤثّث كل الأطر والمناسبات في دورة الحياة لتلك الفئات الاجتماعيّة.
تواكب الأغنية الشعبيّة كل المراحل والتّطورات التاريخيّة التي يشهدها هذا المجتمع أو ذاك، وتنتمي الأغنية الشعبيّة إلى ثقافة ذات طابع خاص ينبني على جملة من الرموز والمدلولات التي لا يمكن بأي شكل من الأشكال دراستها خارج سياقها العام، كما أنها تتميّز عن غيرها من الأنماط الغنائيّة بخصوصيات فنيّة وأدبيّة. ترتبط الأغنية الشّعبيّة بواقعها الاجتماعي والتاّريخي والثّقافي، وبالتّالي لا يستقيم تناولها بالدّرس أو مقارنتها بأي شكل فنّي خارج سياقها العام، ولقد وقع البعض في خطأ مقارنتها بما يعرف بالأغنية المتقنة، ولا نعلم هنا المقياس الدقيق المعتمد لتحديد معنى الإتقان، ولكن حسب المفهوم المتعارف عليه لهذا المصطلح، فإن الأغنية الشّعبيّة أيضا تحتوي على خصوصيات فنيّة هامة يمكن وصفها بالمتقنة، إذا ما اتفقنا أن معنى الإتقان يستجيب مع مدى استقامة الخصوصيات والتركيبة الفنيّة مع متطلبات الإطار العام والواقع الاجتماعي، وأن معنى الإتقان يتفق مع قدرة الأغنية على الاستجابة للمستويات الوظيفيّة والأبعاد الاجتماعيّة والنفسيّة التي تلعبها في سياقها العام، وأن الإتقان هو مدى خضوع الأغنية الشعبيّة للخصوصيات الأدبيّة وللمقاييس الصّوتيّة التي وضعها صانعو هذا النمط الغنائي ومدى قدرته على إيصال المعنى الكامن في الألفاظ المغنّاة.
ما نريد التأكيد عليه في هذا الإطار أن معنى الإتقان لا يمكن اختزاله في المقاييس والقوانين النظريّة المستنبطة من العلوم الصّحيحة، التي عملت على دراسة ظاهرة الموسيقى بناء على البعد "الفيزيو - صوتي" فقط. وقد تبيّن لنا من خلال دراستنا للأغنية الشعبيّة، أنها كلما استجابت للمقاييس النظريّة الثّابتة في بعض الحالات إلا وحادت عن ذلك في مناسبات متعدّدة، باعتبار خاصية التّغيير والحركيّة التي تميزها وكذلك بالنّظر إلى متطلبات الأداء الذي يغلب عليه الارتجال والإضافات في أغلب الأحيان.
فمن المجحف في حق الأغنية الشعبيّة أن نحرمها صفة الإتقان لمجرد عدم خضوعها لتلك الثّوابت العلميّة المقننّة وفق منهج محدّد ونظام موسيقيّ مضبوط، دون تفسير أو فهم لمجمل الظّواهر الموسيقيّة الشّعبيّة. كما لا يمكننا تعريف الأغنية الشعبيّة كإرث موسيقي ثابت لفئات اجتماعيّة معيّنة، ولكن كغيرها من الظّواهر الثّقافيّة تسير الأغنية الشّعبيّة في توافق مع التطوّرات الاجتماعيّة والتّاريخيّة والثّقافيّة بما تشهده من حركيّة ومن متغيّرات، وهو ما يفسّر تفرّع الأغنية الشّعبيّة إلى أنماط غنائيّة مختلفة تستجيب مع المعطى البيئي والاجتماعي الذي نتجت عنه الأغنية الشّعبيّة البدويّة والأغنية الشّعبيّة الريفيّة والأغنية الشّعبيّة الحضريّة. ونظرا للتداخل الحاصل بين الأغنية البدوية والأغنية الريفيّة من حيث المصدر والممارسة فإننا سنحاول تعريف الأغنية الشعبيّة من خلال فرعين أساسيين وهما الأغنية الشعبيّة الحضريّة والأغنية الشّعبيّة البدويّة، باعتبار أن الأغنية الشّعبيّة الريفيّة وحسب رأينا لا تمثل سوى امتداد وتواصل للأغنية البدويّة، وهي التي انتقلت مع أصحابها من البوادي واستقرت معهم في الأرياف، لتتداول في مناسباتهم وتتفاعل مع إطارها الجديد فتفرع عنها أشكال غنائيّة جديدة نتيجة للتطورات والتّأثيرات التي تشهدها الحياة البشريّة عامة ومثل تلك المجتمعات خاصة، و قد أطلق عليها البعض تسمية الأغنية الشّعبيّة الريفيّة.
الأغنية الشعبية الحضرية:
وهي الأغنية التي ولدت بين أسوار المدن في المناطق الحضريّة داخل المقاهي والدّكاكين، من طرف الطّبقات الكادحة والبسيطة في مجتمع المدن، وأصحاب هذه الأغاني يكونون عادة من الأوساط الاجتماعيّة المتواضعة، من صغار التّجار والعمّال... إلى جانب الوافدين من الأرياف والمستقرين في الأحواز حيث يكوّنون أنهجا وأحياء متكاملة تنعت بالشّعبيّة. فهذا التقارب والتداخل بين سكان المدن والوافدين إليها قد خلق ثقافة تلتقي فيها الذّاكرة بالواقع الجديد ويمتزج فيها الماضي بالحاضر فتنتج عنها أشكال فنيّة متعدّدة برزت من بينها الأغنية الشّعبيّة الحضريّة كتعبيرة صادقة لآلام تلك الفئات الاجتماعيّة وأحلامها.
تتعدد أشكال الأغنية الشّعبيّة الحضريّة، فمنها ما تساوق بآلات شعبيّة مثل القصبة والدربوكة والطّبل والمزود وغيرها، ومنها مايعتمد على الأداء الصّوتي الصّرف. وتؤدى الأغنية الشّعبيّة الحضريّة بصفة فرديّة أو جماعيّة، وتعرف في البلاد التونسية باسم غناء الأطراق والعروبي و"الحيطي"(23)، ونورد هنا مثال "علاش دلالا يا مريم":
عــلاَشْ دَلاَلاَ يَا مَرْيَـمْ الخَـدْ أَحْمــَرْ والعِينْ ذَبَّالاَ
يـاَ غَـارْسِيــنْ التُّوتْ يَا وَرْدَة مَابِينْ زُوز(24) حْيُوطْ
وعْـلاَ شْ حَـمّـه يمُوتْ وصْـغَـيِّرْ عَـدُّوهْ بـهْبَــالَـه
يَا مَرْيَمْ وعْلاَشْ دَلاَّلاَ
يَا غَارْسِـينْ الخَصْ(25) يَا ورْدَة مَابِينْ زُوز عرُصْ(26)
وعْـلاَشْ حَمَّه هَسْ(27) وصْغَــيِّـرْ عـَدُّوهْ بهبَالـه
يَــا غَارْسِـينْ التَّابـِل يَا ورْدَة مَابِينْ زُوزْحنَابِلْ(28)
وعْلاَ شْ حَمَّه هَابِلْ(29) وصْـغَـيّـرْ عَـدُّوهْ بِـهْبَـالَه
يَا غَارْسِينْ اليَـاسْ(30) يَا ورْدَة مفَـتَّحَة فِـي كَاسْ
عَذَّبْتِـي ولْدْ النَّـــاسْ وصْغَـيِّـرْ عـَـدُّوهْ بـِهْبَالَه
وما يلاحظ في هذه الأبيات أنها جاءت في شكل نداء استعطاف إلى حالة المحب وما آلت إليه من سوء، كان موجّها خصّيصا لأهل الحضر (المدينة)، وذلك من خلال جملة الألفاظ المستعملة والتي تصف منازل المدينة وزخارفها المتعارف عليها (حْيُوطْ، عرُصْ، حنَابِــلْ)، وما يتّصل بها من أشجار ونباتات الزينة (التُّـوتْ، الـخَصْ، التـَّابـِل، اليَـاسْ، ورْدَة)، وهي إحدى أساليب تجميل سكّان المدن لمحيط منازلهم وحدائقهم المنزلية.
إن الأغاني الشعبيّة الحضريّة بدت صورها الشّعرية مزيجا بين مظاهر الحياة الحضريّة وكذلك البدويّة من خلال جملة المعاني التّعبيرية التي أثثت أبيات هذه الأغنية والتي تعلّقت في جزئها الثاني بمناحي حياة البادية وبصور المرأة البدويّة وجمال لباسها(احـْزَامْهَــا، الحَلْقَـة، احْجِرْهَـــــا، حُولِيهَا) فتقول:
واحْزَامْهَا(31) بِاللَّيْ سِـتَّة وثْـلاَثِينْ عَسْكِرْ بَيْ(32)
وعْــلاَ شْ حَمَّـه وخَـيْ وصْـغَيِّـرْ عَـــدُّوهْ بِهْبَالَه
واحْزَامْهَا مَرْخُوفْ سِتَّة وثْلاَثِيـنْ زِزَّة(33) صُوفْ
بَخْلاَفْ بُـو نَتُّوف والحَلْقَـة(34) بمِيتِينْ مِشْرِيَّة
وحـْزَامْــهَا يَا خَالْ مِنْ جِرْبَة جَـابُوهْ سَبْعَة جْمَالْ
بَخْلاَفْ مَـا مَازَالْ والحَلْقَة بمِيتِينْ مِشْرِيَّـة
ومْنِينْ مْشِيتْ وجِيتْ نَلْقَى رِيدِي حَافْله فِي البِيتْ
عَا صَدْرهَا اتَّكِيتْ فَرَّكْتْ الـرُّمَانْ بِيــدَيَّــا
مَاصَابْنِـي حَلْقِتْهَا وبَايِتْ علَى رُكْبِـتْـهَا
وكِي جِتْنِي عَمِّتْهَا بَايِـتْ فِي حَـالاَ
ومَاصَابْنِي احْجِرْهَا(35) ورَاقِدْ علَى صْدِرْهَا
وجُونِي الحَزَّارَة بِالقُوَّة يَـا مَرْيِمْ عْلاَشْ دَلاَّلاَ
طَلِّيتْ عَالشُّبَّاكْ وباَنْ شعَرْهَا
مَا صَابْنِي عُصْفُورْ فُوقْ صْدِرْهَا
طَلِّيتْ عَالشُّبَاكْ وبَانْ حُولِيهَا
مَــا صَابْنِي عُصْفُورْ بِيـــنْ إدِيهَــا
يَا مَرْيِمْ وعْلاَشْ دَلاَّلاَ
يبدو من خلال هذا المثال، أن الأغنية الشّعبية الحضريّة تحمل بين أبياتها كلمات ومعاني عاطفيّة ذات جرأة تعبيريّة كبيرة، قد لا نجدها في بعض الألوان الغنائيّة الأخرى.
لقد أدّى التّداخل الثّقافي بين سكان المدن والوافدين إليها إلى إنتاج عدّة أشكال غنائيّة، والتي تمتزج فيها اللّهجات و تعتمد في أغلبها على اللّهجة العاميّة، وتختلف الأغنية الشّعبيّة الحضريّة عن الأشكال التقليديّة البدويّة وعن أغراضها المتعارف عليها مثل الضّحضاح والنّجع والكوت والبرق، وتعتمد الأغنية الشّعبيّة الحضريّة أساسا على الأغراض التي تعبّر عن الواقع المعاش، فتتناول جل الأغاني غرض الأخضر(36) وكذلك العكس، والشّكوى خاصة مما ينتج عن العلاقة مع الإطار الجديد والتعامل مع السّكان الأصليين للمدن، فهؤلاء الوافدون غالبا ما يواجهون بالصّد والرّفض مثلما ورد في هذا المثال:
نخَطِّمْ عَلَى لَوْهَاْم يَا مَڤوَانِي
الرِّيحْ ڤِبْلِي والْعَجَاجْ(37) اعْمَانِي
ڤفْلُوا عَلِيكْ البَابْ يَا مَضْنُونِـــي
حَطُّوا المَفَاتِيحْ فِي مَكَاتِبْ رُومِي(38)
يَا زَارْعِيـنْ الفُلْ فُوڨْ عْلِيكـُم(39)
لاَشْ(40) الغَرِيـبْ(41) يمُوتْ بِينْ ايدِيكمْ
بَابْ البَحَرْ يَا نَاسْ يصَكِّرْ بِكْرِي
يُغْلِڨْ عْلَى خَالِـي(42)خْدُودْ الْعَكْـرِي
بَابْ البَحَرْ يَا نَاسْ يصَكِّرْ فَرْدَة
يُغْلِڨْ عَلَى رِيـــدِي خُدُودْ الوَرْدَة
شَيَّعْتْهُمْ بِالْعِيـــنْ مْشَيَّعْ رَاجَـــعْ
والْوَحْشْ والغُرْبَة يَخْلِـــي مْوَاجِعْ
لقد ساهمت الأغنية الشّعبيّة الحضريّة في الكشف عن جملة من الأحداث والأطوار التي حصلت بين أسوار المدينة وفي الشوارع وداخل السّجون مثل الشّكل الغنائي الذي يعرف بـ"الزّندالي" والذي يمثّل مجموع أغاني المساجين، وهو لون غنائي مستلهم من كلمة "الزّندالة"(43)، وما توحي به المفردة من ضيق ينعكس على الذّات البشريّة، فتسعى جاهدة للبوح بلواعج النّفس، وقد عبّر هذا اللّون الغنائي عن واقع الفئات المهمّشة وما تعانيه من غربة اجتماعيّة ونفسيّة سواء داخل المجتمع أو داخل السّجون مثل ما ورد في هذا الأنموذج(44):
عَانِيتْ يَا نَـاسْ فِي الغرْبَة تْمَثَّلْتْ وذْبَــالْ حَالِي
مــا صَابــْلِي هـــرْبَــــة ونْزُورْ أهْلِي وعْيــَالِي
ڤَــالُولـــِي رَوَّحْ البَرَانِـي وڤْعَدْتْ مْلَوَّحْ وحْدَانِي
وللأغنية الشّعبية الحضريّة أيضا دور أساسي في تأثيث المناسبات الاحتفاليّة بغض النّظر عن الأغراض والتّعابير والمعاني المستعملة، خاصة فيما يعرف بأغاني "المزود" و"الربوخ"، الذي شهد في السنوات الأخيرة انتشارا كبيرا في الأوساط الحضريّة وعمّ مختلف مسارح البلاد التونسيّة.
ومجمل القول أن الأغنية الشّعبيّة الحضريّة نمط غنائي يعبر عن مشاكل وهموم شريحة كبيرة من المجتمع كما يلعب دورا هاما في تأثيث المناسبات الاحتفاليّة، ويتّجه أحيانا إلى غرض الهزل فتصبح الأغنية بهدف التّسلية والتّرفيه، والأغنية الشّعبيّة الحضريّة بسيطة في تركيبتها الفنيّة تسير بكل سلاسة على الألسن فيسهل حفظها وتداولها بين النّاس كما هو حال المثال التّالي الذي تواجد في مناطق مختلفة من البلاد ويقول جُرّادها:
لِلِّيـرِي يَمَّــا لِلِّيــرِي يَــا مَطْرُوزْ حْرِيرْ ويَاقُوتْ
والحُبْ يوَصِّلْ لِلْمُوتْ
لِلِّيــرِي يَـــا بنَيِّتْ تُـونِسْ مَطْرُوزْ حْرِيرْ ونَوَّارْ
والحُبْ يوَصِّلْ لِلْعَارْ
لِلِّيــرِي يَـــا جْبَلْ العَالِي نَطْلَـعْ الفُــوقْ ونْهِـدَّهْ
مَعْشُوقِي بِالقُدْرَهْ نْرُدُّهْ
لِلِّيــرِي يَـــا جْبَلْ العَالِي واطْلَعْنَا الفُوقْ وقَرْنِسْنَا
والِّي نْحِبُّو عَرِّسْنَا
لِلِّيــرِي يَـــا قِدِّي قـِـدُو زَايِــد ْعْلَيَّــا بطْــرَيفْ
وشَكِّيتْ فِي قَارُو يتْكَيِّفْ
لِلِّيــرِي يَـــا بَابَا وامِّي مَا نِيشْ ضَـرَّابِتْ كِيفْ
واعْطُونِي لرَاجِلْ مَلِّيتْ
لِلِّيــرِي يَـــا بَابَا وامِّي ماَ نِيشْ دجَاجَة نْبِيضِلْكُمْ
اعْطُونِي لرَاجِلْ خِيرِلْكُمْ
لِلِّيــرِي يَـــا بابا وامِّي يَعْطِيكُمْ طِيحَة فِي بِيرْ
حَبِّيتُــو وطْفُلْ صْغِيرْ
والملاحظ أن الانتظام في الهيكل العام لهذه الأغنية الشعبيّة الحضريّة مثلا، قد رافقته تركيبة شعريّة تتميز ببساطة الألفاظ وسلاسة المعاني، كشفت المرأة من خلالها عن مشاعرها وتمكّنت من البوح وبكل جرأة بلواعج النّفس وما ينتابها من قلق وضيق، قد انعكس في شكل خطاب مباشر يحمل نوعا من التحدي والتعنّت في الدّفاع عن المحبوب. ويعتبر هذا النّمط الغنائي نتاجا لتفاعل المعطى الدّيموغرافي مع المعطى الجغرافي، والذي قد يختلف نتاجه الفنّي في أطر أخرى.
الأغنية الشّعبيّة البدويّة:
تحتل الأغنية الشّعبيّة البدويّة ركنا أساسيا ضمن الموسيقى الشّعبيّة، وهي تراث وإبداع وثقافة مجتمع البوادي والأرياف، وترتبط الأغنية البدويّة ارتباطا وثيقا بالواقع البيئي والاجتماعي للمجموعات المنتجة والممارسة لها، فهي ترافق كل المراحل الحياتيّة للمجتمعات البدويّة والريفيّة وتؤثث كل المناسبات منذ الولادة وحتى الوفاة، وتعتبر الأغنية البدويّة مرآة عاكسة للواقع المعاش للمجموعات البسيطة التي تناستها الكتابة لردة من الزمن، فمثلت المشافهة وسيلتها وآليتها المتاحة في تناقل وتداول ثقافتها.
تمثل الأغنية البدويّة موضوعا أثيرا للبحث الانتروبولوجي، يساهم في الكشف عن مسارات حقب زمنيّة مختلفة وكذلك في التّعبير عن مشاغل وطموحات تلك المجتمعات بما فيها من مشاعر وأحاسيس والتي نادرا ما يفصح عنها خارج هذا النّمط الفني.
ومما لا شك فيه أنّ الأغنية البدويّة تتصدر كل الألوان والأشكال الفنيّة الباقية في مجتمع البوادي والأرياف، إذ تتعدد أطرها وتختلف ألوانها، فنجد أغاني المناسبات الاحتفاليّة وأغاني الحرب وأغاني العمل وأغاني ترقيص وتنشئة الأطفال وأغاني المناسبات الدينية وغيرها، وما يمكننا قوله في هذا المجال أن الإتيان بالدّرس على جميع فروع الأغنية البدويّة لهو أمر صعب إن لم نقل مستحيلا بالنّسبة للباحث الواحد، ولكننا سنحاول من جهتنا أن نلامس ما يعترضنا في البحث كإجراء منهجي لفتح الطّريق أمام موضوع دراستنا، وسنعمل على توضيح ذلك بأكثر تفصيلا في مواقع لاحقة...
تنقسم الأغنية البدويّة إلى عدة أصناف فنجد، الأغنية النّسائيّة والأغنية الرّجاليّة كما نجد الأغنية التي تعتمد على الصّوت البشري الصرف والأغنية التي تساوق بالآلات الموسيقيّة الشّعبيّة، وأهمها الآلات الهوائيّة كالقصبة والزكرة(45) وكذلك آلات الإيقاع مثل الطبل والبندير(46).
وعلى اختلاف ألوان وفروع الأغنية البدوية فإنها تلتقي في مجملها حول قوالب وأشكال شعريّة شعبيّة متعارف عليها مثل «الموقف» و"القسيم" و"الملزومة" و"المسدّس"(47)، وإن اختلفت أغراضها الشّعرية وتعدّدت.
وفي ما يلي نقدم أنموذجا للأغنية البدوية بعنوان " ساڨ(48) نَجْعك"(49):
منِينْ(50) نَجْعَكْ سَاڨْ ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ
مِنْ الصُّبُـحْ خَطّفْ بُكْرِيّه
وجَا دُونَـهْ لَــشْفَـاڨْ(51)
واتْڤـىَّ(52) بِالـشّبَحْ عَـلِيّه
جِتْ دُونْهُـمْ رِدّة ومهَــابَـة(53)
اتْكِيدْ(54) الشّاحْبَة الْعَزْرِيّه (55)
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة(56) بَارْيَافِي(57)
بِالله يَا مِيعَادْ وبالله يَا مِيعَادْ أشْبِيكُـْم
امْـشُوا بِالرّاحَة رَاجُونِي
رَايْ عِنْدِي وصَايَا لِيكُمْ
وصَايَا للنَّاسْ إلِي بِعْدُونِي
بِعْدُونِـي بِالْعِينْ
جِتْ دُونْهُمْ رِدّة ومْهَابَـه
يُرْكِدْ فِيهَا الْغِيمْ
وتْكِيدْ الشَّاحْبَة الْعَزْرِيَّـه
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
والْڤلِبْ بَايِتْ يخَـمّمْ
لاَ رْڨِدْ ولاَ شَافْ مْنَامَه
عْلَى ولفْتِي زَادْ تحَمّمْ
زينْ إلِّى مْشَى عَلَى أوَّلْ صِيَامَـه
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة بَارْيَافِي
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
عَلَى غْزَالْ إِلِّي رِيتُو خَطّمْ
مِتْعَدِّي ويشَأيِعْ فِيَّا
شَايَعْتوُا بِالعِينْ شَايَعْتُوا باِلعِينْ
وظْرَاهُو مَا يدُومِشْ لَيَّا
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة بَارْيَافِي
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
يَخْلِيكْ يَا زِمَانْ يَخْلِيكْ يَا زِمَانْ
وَدّيتْ وَلْفْتِـي عَلَيَّا
ورَحْلَتْ بِالْمَقَامْ
وظْرَاهِي مَادُومِشْ لَيَـّا
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة بَرْيَافِي
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
ومْنِينْ جِينَا عَلَى مَْاهِمْ دَارَهْ
تْفَكِّْنَا ردَايِدْنَـا بِكِْري
والْڨَلْبْ مِدّڨـِْڨْ حَالَه
فَاڨِدْ خِيَالْ رِيدِي الْعَكِْري
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة بَارْيَاف
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
صَڤعُوا جْحَافْهُمْ بِالْعَكِْري
شَـعَّالْ يـبَـانِـلِّي بُـهْرَة
والْـڨَـلِـبْ مِـــدّڤـْدِڨْ حَالَه
فَاڨِدْ خِيـَالْ رِيـِي الـُّهْرَة
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة بَارْيَافِي
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
ومَـشْـطَاتـُو تِــمْـشـَطْ
ومـِنْ السُّـوَالِفْ(58) عَدِّينـَا مِيّــَة
وبَـخْلاَفْ مَــا سِڨـَطْ
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة بَارْيَافِي
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
مَانِـيشْ عَالْحْزَامْ مَانِيشْ عَالْحزَامْ
عَلَى غْثِيثْ(59) اليِّ حَاف مْجَبَّى(60) كَرِيشْ النّعَامْ
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة بَارْيَافِي
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
وحـْـزَامْ بالـتّكِيكْ وَاتاهَا
والْحَلْڤَـَة(61) عَلى الجُوفْ أَوْطَانِي
مَانِيشْ عَالْحْزَامْ مَانِيـْش عَـالحْـزَامْ
عَلَى غْثِيثْ ِالِّي حَافْ مْجَبَّى كَرِيشْ النَّعَامْ
رَايْ سِلْسَة وجَاحْدَة بَارْيَافِي
ومْنِينْ نَجْعَكْ سَاڨْ ...
تستمد الأغنية الشعبية البدوية مواضيعها من البيئة البدويّة وترتبط ارتباطا وثيقا بالفرد والمجموعة التي أنتجتها وتوارثتها، فترد في تناغم مع إيقاع الحياة في البوادي والأرياف، وفي تفاعل مع الترسّبات الثّقافيّة التي خزنت في الذاكرة وباحت بها الألسن في مختلف أطر الحياة الاجتماعية.
المُـــوڤـــِفْ
سنحاول تعريف الموڤف في الأدب الشّعبي من زاويتين، الأولى من النّاحية الشّعريّة والثانية من النّاحية الصّوتيّة، فمن حيث البناء والإيقاع الشّعري يعرف الموڤف كقالب شعري شعبي، يتمظهر في شكل أبيات شعريّة تسمّى أغصان، تجتمع كل أربع منها في مقطع (دور)، تشترك الثّلاثة أغصان الأولى في نفس الرّوي بينما يختلف عنها الغصن الرابع، ويسمّى في الشّعر الشّعبي المكب، ولكن في أغلب الحالات لا تساق مثل هذه القاعدة على كل الألوان الفنيّة المسمّاة في مجتمع البحث بالموڤف، إذ نجد أمثلة يشكّلها مزيج من النّماذج الشّعريّة وتحمل أيضا اسم الموڤف مثل ماهو الحال في المثال التّالي:
النَّجْعْ إلِّي هَزْ المِيمْ يَرْحَـــــــلْ ويڤْيـــــمْ
قَاصِدْ ويِنْ يحُطْ الغِيمْ
النَّجْعْ إلِّي هَزْ عزمْ سَقِّدْ كَانْ طَبْلُو يــرْزِمْ
قَـاصِدْ للْجَــمْ هزْ وَلْفِي سِمْحْ الخَاتِمْ
النَّجْعْ إلِّي هَزْ المِيمْ
النَّجْعْ إلِّي هَزْ وسَاڨْ جِحْفَة وجْمَلْهَا هَڤْهَاڨْ
طَبْلُــو نَقْنــــَاڨ سَڤِدْ تَڤَّاتُو لَشْفَـــاڨْ
قَلْبِـــي مُرْهَــاڨْ عَلىَ وِلْفِي كَاحِلْ لَرْمَاڨْ
النَّجْعْ إلِّي هَزْ المِيمْ
النَّجْعْ إلِّي هَزْ ورَاحْ جِحْفَة وجْمَلْهَا زَحْزَاحْ
طَبْلُـــو نَڤَّــــاحْ ڤَبِّلْ سَاڤاتُـــو لَرْيَــــاحْ
نَا ڤَلْبِـــي سَـــاحْ عَلَى ولْفِي كَاحِلْ لَشْبَاحْ
النَّجْعْ إلِّي هَزْ المِيمْ
أما من النّاحية الصّوتيّة فإن الموڤف إبداعا فنيّا شعبيّا يبنى شفويّا من اللّهجة العاميّة، ويؤدّى من قبل الرّجال، ويبدو أن كلمة الموڤف مشتقّة من طريقة أداء هذا اللّون الفنّي، الذي يؤدّيه الرّجل وهو واقف في حركة متواصلة ذهابا وإيابا على طول ساحة الاحتفال وقد يكون الموڤف مثالا غنائيا واحدا أو وصلة غنائيّة متكاملة تسمىّ "الطريـڨ"، تؤثث مختلف المناسبات الاحتفاليّة الكبرى كالعرس والختان، ويعبّر الموڤف عن ثقافة المجموعة، ويبرز أفكارا وسلوكات وممارسات جماعيّة، وإن كان قائله مفردا قد ينطلق من إحساس ذاتي، فهو يعبّر عن شعور عام وعن قيم المجموعة باعتباره عضوا منصهرا داخلها.
والموڤف لون غنائي يختصّ به أهل البوادي والأرياف وهو يعتمد على الصّوت البشري فقط، فلا يساوق بالآلات، ويستلهم الموڤف مواضيعه وتعابيره من الواقع البيئي والاجتماعي للمجموعة، فيدور في مجمله حول الطّبيعة وما تجود به في سنوات الخير من متطلّبات العيش للإنسان والحيوان، وفي السّنوات العجاف من جدب وقحط وما يترتب عنه من حركة القبائل في الرّحيل والانتجاع بما فيها من تجاذبات حول العلاقات الإنسانيّة والعاطفيّة من فرح وحب وألم وفراق.
يولي أهل البوادي والأرياف في بناء الموڤف أهميّة كبرى للحنكة الشّعريّة، سواء من حيث المعاني أو من حيث الحركة الإيقاعيّة والقالب الشّعري، أكثر من اللّحن والنّغم الذي يمثل في أغلب الأحيان ضرورة تفرضها البنية الإيقاعيّة الشّعريّة ومتطلبات الإنشاد البدوي. وما لفت انتباهنا في منطقة بحثنا وسط البلاد التونسية، هو تشبث كل شاعر بترديد أقواله فيطلق عليه تسمية « لديب»، إذ يعدّ من العيب أن يؤدّي الرّجل منهم أشعار غيره، وعلى خلاف بعض المناطق الأخرى من البلاد.
وإذا ما تحدّثنا عن الموسيقى والأغاني البدويّة فلابد من الإقرار بأن المجتمعات العربيّة عامّة كانت تعترف دوما بأهميّة الكلمة والغناء على حساب الآلة والموسيقى الآليّة، فلا غرابة في ذلك إذ أنّهم اهتمّوا كثيرا بفن النّظم والكلمة، وأبدعوا في الصّور والتّعابير الشّعريّة وفي المعاني الكلاميّة، بينما ظلّت الآلة الموسيقيّة وخاصة الشّعبيّة منها، في مرتبة ثانويّة رغم تعدد أدوارها ومهامها في فترات السّلم والحرب، ولعلّ أبرزها الفاعليّة الطّقوسيّة والرمزيّة في المناسبات الدينيّة، و الأدوار الوظيفيّة في المناسبات الاحتفاليّة الكبرى.
وتبقى الكلمة دائما الأقرب والأكثر تأثيرا في الفكر الجمعي لأغلب المجتمعات "وتحتل الكلمات مرتبة أساسية حتى في وعي الموسيقي الشعبي إذ أنها تخاطب عواطفه بصورة مباشرة سحرية. فلا عجب ان اعتبرت موسيقانا الغنائية كلاما منغّما" (62).
لا شك أن الثقافة الشعبيّة عامة، تلعب دورا ريادياّ مهما في استمرار ثقافات المجتمعات، إذ غالبا ما يتفاعل المعطى الدّيمغرافي مع المعطى الجغرافي لدى الشعوب, فيشكل فضاء مفتوحا تجد فيه الثّقافة الشّعبيّة مكانها، في تسيير وتنظيم حياة السكّان من خلال جملة العادات والمعتقدات والممارسات المتداولة في مختلف مناسبات الحياة الاجتماعيّة.
وتعتبر الموسيقى الشّعبيّة من أكثر الفنون انتشارا داخل المجتمعات الريفيّة، نظرا لخصائصها الفنيّة وطريقة تداولها الشّفويّة، ولا يخفى على أحد دورها الأساسي في تأثيث مختلف المناسبات التقليديّة، حيث يلتقي كل ما هو موسيقي بما هو ثقافي واجتماعي في تناغم وتفاعل مع البيئة الاجتماعيّة والطبيعيّة، أين تنتج ثقافة موسيقيّة ذات خصوصيّة محليّة تحتفظ لنفسها بهويّة موسيقيّة ذات خصائص فنيّة وأنظمة رمزيّة تميّزها عن غيرها من الثّقافات الأخرى والموسيقى في المجتمعات التقليدية هي أكثر من فن فهي تقوم بدور اجتماعي وطقوسي مهم ولا يكون لها معنى اذا لم تكن واقعية، أي إذا لم تأخذ لها طابعا ثابتا ومعينا ينبثق من الواقع الاجتماعي(63).
الهوامش:
1. كوش( دنيس)، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة منير السعيداني، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، مارس 2007. ص.16.
2. بشة(سمير)، التثاقف والمثاقفة في التجارب الغنائية الركحية في تونس(1856-1998): دراسة تحليلية موسيقية ومشهدية، أطروحة الدكتورا في علوم وتقنيات الفنون، اختصاص نظريات الفن، ص.24.
3. ساردار، زيودين، وفان لون، بورين، الدراسات الثقافية، ترجمة وفاء عبد القادر، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، عدد558، 2003، ص.9.
4.Edward Burnett Tylor , Primitive culture :Researches Into the Development of Mythology Philosophy, Religion, Art, and Custom, 2 vols. (London: J. Murray, 1871), p.1
5. ابن منظور، لسان العرب، الجزء الثاني، تصحيح أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد صادق العبيدي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، ط3، 1999، مادة (ثقف).
6. الجمحي (محمد بن سلام)، طبقات فحول الشعراء، السفر الأول، قراءة وشرح: محمود محمد شاكر، القاهرة، مطبعة المدني والمؤسسة السعودية بمصر، ط1، 1974، ص.5.
7. الجابري (محمد عابد)، المثقف العربي، همومه وعطاؤه، «المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية»، حفريات استكشافية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، نشر مؤسسة عبد الحميد شومان، ديسمبر 1995، ص.43.
8. كوش (دنيس)، «العنوان السابق»، ص.61.
9. كوش (دنيس)، «العنوان السابق»، ص. 78.
10. ساردار، زيودين، وفان لون، بورين، «العنوان السابق»، ص.28.
11. مركز الدراسات الثقافية المعاصرة، تأسس سنة 1964، تحت إشراف ريتشارد هوقارت وستيورت هول.
12. غلمية (وليد)، «التراث والثقافة الشعبية»، الثقافة الشعبية من مقومات الشعب والوطن، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1999، ص. 43.
13. أراق (سعيد)، «الثقافة الشعبية النسق، والوظيفة، والخطاب» الثقافة الشعبية، العدد28، السنة الثامنة، شتاء 2015، ص.15.
14. ابن منظور(ابو الفضل جمال الدين)، لسان العرب، دار صادر بيروت، الطبعة الرابعة2005، المجلد الحادي عشر، ص.96.
15. ابن منظور(ابو الفضل جمال الدين)،» نفس المصدر»، ص.96.
16. الفولكلور: مصطلح علمي إنقليزي الأصل يتركب من كلمتين: «فولك» و»لور» أي حكمة الشعب. وقد اصطلح جل علماء الأنثروبولوجيا على إدراج تحت عنوان الفولكلور كل الثقافات الشّعبيّة، كما ذهب البعض إلى جعل مصطلح الفولكلور عنوانا لكل الأبحاث والدراسات اّلتي تتناول مظاهر الثقافة الشعبيّة، كالعادات والتقاليد، الحرف التقليدية، الفنون الشعبية، الأدب الشعبي والمعتقدات الشعبية.
17. السيالة (مراد)، الأسس العامة للاثنوميزوكولوجيا، المعهد العالي للموسيقى بصفاقس، الطبعة الاولى جانفي 2007 ص.13.
18. وصف يرفضه بعض الباحثين لما يتضمنه من نعت انتقاصي وتحقيري «من الخطأ القول بأن هذه المجتمعات وهذه الفنون التقليدية هي بدائية...ومنذ القرن التاسع عشر كان مؤرخو الفنون والانتروبولوجيون الثقافيون قد أطلقوا على هذه الفنون اصطلاح «الفنون البدائيّة» الذي يتضمّن نوعا من التحيّز والتعصّب...وعدم الوضوح والدقة العلمية».
* الحيدري (ابراهيم)، اثنولوجيا الفنون التقليدية، سوريا، دار الحوار للنشر والتوزيع، 1984، ص.5-6.
19. Afanssiev (V), Précis de philosophie, Moscou, 1ere édition, Editions du progrès, 1987, p.245.
20. أراق (سعيد)، «العنوان السابق»، ص.19.
21. حسب هذه المقارنة فإن الأغنية الشعبية موسيقى العامة، تعتمد على المشافهة تتركب من خصائص فنيّة محدودة شفوية وبسيطة متحركة ومتغيرة، في أغلبها مجهولة المصدر تعتمد أساسا على الصوت البشري وتؤدى باللهجة العاميّة المحليّة. أما الأغنية المتقنة(الراقية) تعتبر موسيقى النخبة تعتمد على الكتابة وتتركب من خصائص فنية متطورة تخضع لنظريات العلوم الموسيقيّة مدونة ثابتة ومقنّنة معلومة المصدر تعتمد على الآلة الموسيقيّة وتؤدى باللهجة الرسميّة (الأكاديمية) للمجتمع.
22. الخوري (لطفي)، مدخل الى البحث الميداني في الفلكلور، الطبعة الأولى، العراق، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والاعلام، 1986، ص.96-97.
23. سمي كذلك لأنه يؤدى بين حيطان المدن.
24. زوز أصلها زوج أي اثنان.
25. أصلها الخسّ وهي نبتة عريضة الورق.
26.جمـع عـرصـة، والمقـصـود بهـا الأعـمـدة الخارجية للمنزل والتي عادة ما تزرع بينها نباتات الزينة.
27. بمعنى أثر فيه المرض وأضعفه.
28. مفردها حنبل، وهي أدوات زينة منزلية تنصب في الفضاء الخارجي للمنازل.
29. بمعنى هام حبا حتى ذهب عقله.
30. أصلها الآس، وهو ضرب من الرياحين.
31. نوع من الأحزمة الصوفيّة التي تستعملها المرأة البدوية لشد لباسها الخارجي (الملحفة والحرام).
32. أصلها الباي، وهو ملك البلاد التونسية آنذاك.
33. أصلها جزّة، أي صوف شاة واحدة.
34. نوع من الحلي، عبارة عن حلقة فضية عادة، تعلقها المرأة بحزامها للزينة.
35. نوع من الحلي، تعلقه المرأة في الخلّة على مستوى الصدر.
36. هو غرض الغزل.
37. كلمة عامية، تعني الرياح الرملية.
38. المقصود به المستعمر، و هنا إشارة إلى ما يلقاه هذا الأخير من حماية فيصعب الوصول إليه.
39. كناية لأهل المدينة.
40. بمعنى لماذا.
41. المقصود به الوافد للمدينة.
42. الحبيب.
43. كلمة من أصل فارسي تركي تعني الغرفة الضيّقة CACHOT وهي غرفة السجن.
44. أغنية عرفت بصوت الفنان صالح الفرزيط في فترة السبعينات.
45. انظر إلى زغندة (فتحي)، «الآلات المستعملة في الموسيقى التونسية»، الحياة الثقافية، العدد181 مارس 2007، ص. 171- 172.
46. زغندة (فتحي)، «المصدر نفسه»، ص.173-174.
47. لمزيد الاطلاع انظر إلى برقوقي(الزازية)، التويزة ظاهرة اجتماعيّة فنيّة وعمليّة دراسة في علم موسيقى الشّعوب، الطبعة الأولى أفريل 2015، البحرين، الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث والنشر، ص.66-68.
48. اخذ طريق الرحيل.
49. تعني القبيلة «والنجع والانتجاع والنجعة طلب الكلأ ومساقط الغيث» (لسان العرب، مادة نجع).
50. لفظة عامية، تعني عندما أو حينما.
51. بمعنى الشفق، والمقصود هنا وقت بزوغ الفجر، وعندما تكون الرؤية غير واضحة.
52. أي غاب و اختفى عن النظر.
53. بمعنى مسافة طويلة يهابها المسافر.
54. كاد يكيد بمعنى يصعب ويشق (لسان العرب، مادة كيد).
55. تعني الفرس القوية.
56. من جحد، وتعني نكران وإخفاء.
57. شدة الشوق وفرط الحنين.
58. مفردها سالف وتعني خصلة الشعر.
59. صفة للشعر عندما يكون وافرا غزيرا مغطيا لأجزاء من البدن(لسان العرب، مادة غثث).
60. نزل كثيفا وناعما.
61. نوع من الحلي التقليدي في شكل حلقة كبيرة تعلّق في حزام المرأة.
62. قاسم حسن ( شهرزاد)، دراسات في الموسيقى العربية، الموسيقى العراقية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1991،ص 42.
63. الحيدري(ابراهيم)، «العنوان السابق»، ص.87.
الصور :
* من الكاتبة.