فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

ذاكـــرة الطـعام في أسس النظام الغذائي وعاداته

العدد 11 - عادات وتقاليد
ذاكـــرة الطـعام في أسس النظام الغذائي وعاداته
كاتب من المغرب

"الطعام لذة للفكر ولذة للأكل".

 ك. ل . ستروس.

نسعى من خلال هذه الدراسة، استنطاق الذاكرة الجماعية، ووصف التجربة الغذائية المحلية لدى قبائل آيت وراين بالمغرب، وهي محاولة تبتغي الكشف عن الفعل الإنساني، وتحليل مغزاه، كشف وتحليل للسلوك وللفعل الغذائيين، كثقافة مميزة لجماعتنا، إذا سلمنا مع عبد الله العروي(1)، أن كل جماعة بشرية لها ما يميزها ويفردها عن الجماعات الأخرى. وحتى إن كانت الدراسة تنطلق من خصوصيات جهوية أو محلية، فإن في عمق وغنى حمولتها الثقافية ما يغني حضارتنا وتجاربنا الإنسانيتين.

إن التجربة الغذائية الحالية للإنسان الورايني بشكل خاص، والإنسان بشكل عام، تجربة ليست وليدة اليوم فحسب، بل هي تجربة تستمد عمقها وجوهرها من سيرورة الإنسان وتفاعله في المجال والتاريخ.

فسواء تعلق الأمر بالتاريخ (الماضي) أو بالآن (الحاضر)، فإن النتيجة تقول إن الإنسان هاهنا اكم، ويراكم تجارب غذائية تستفيد من إمكانيات وظروف الحاضر، بدون الانسلاخ أو الانفلات من تجارب الماضي، وهي تجارب تختزن المجاعات، الأوبئة كما الوفرة والخيرات.

إن الماضي يبقى هنا رقما أو بعدا مهما وحاسما في حياة الجماعة كما يقول السوسيولوجي الفرنسي جون ديفينيو(1). ولا يمكن القفز عليه، أو تجاوزه.

وعلى سبيل التمثيل، فنحن عندما ندرس السلوك الغذائي المعاصر، نجده لا يخلو من ثقل الماضي (تخزين المواد، رفض بيعها، تكثير القطيع وسوء تدبير استغلاله، تفضيل مواد عن أخرى، عدم تناول بعض المواد وتحريم أخرى...) لهذا يمكن أن نخلص إلى القول:

أنه، لا فهم للسلوك الغذائي المعاصر ولاختياراته وتقنياته (عرضه واستهلاكه) ما لم نستحضر الذاكرة أو على الأقل إعادة بنائها علميا على غرار ما تبقى منها، قلت ما تبقى منها لأن هذه الذاكرة تتعرض للموت والتلف كلما فقدنا مسنا أو مسنة.

في هذا المجال الذي ندرسه، خبر الإنسان المحلي ظروفا متباينة، تتراوح بين المجاعات والأوبئة والحروب من جهة وفترات الانتعاش والوفرة من جهة أخرى.

يتحدث المبحوثون عن هذه الوضعيات المتباينة بالحسرة والتألم، وقد يتحدثون عنها بلغة العز والرخاء، وفي كلتا الحالتين يوشم الجسد كما توشم الذاكرة، هاهنا نخلص أيضا أن الإنسان لم يستسلم للفقر والجفاف والحرب. ولم يثق وينبهر ويرتاح لحالات الوفرة والرخاء. إنه إنسان تعود على الحذر والحيطة، وهو الذي يقول إن الزمان أحوال، فهو عرضي يتغير ويفاجأ، فالزمان هنا شبيه بثلاثي: المخزن(إشارة للسلطة) والواد والنار، كما تدون حكمة المغاربة.

  2ـ غذاء في الذاكرة، ذاكرة الغذاء:

 لا تخلو كتب المؤرخين(2), ولا أحاديث المسننين من الإشارة إلى ما كان المغاربة يتناولونه ويستهلكونه عبر التاريخ.

 وهي إشارات وعلامات تبين أن الغذاء يعكس التراتب الاجتماعي الذي ساد ويسود داخل المجتمع، وبناء على هذه القاعدة يمكن أن نقول:

قل لي ماذا تستهلك أقول لك من أنت، وما وضعك. وهذا مؤشر لم تكشفه فقط «سوسيولوجيا الأزبال» التي تتخذ تقنية البحث في القمامات ودراستها، للكشف عن المستوى الاجتماعي والاستهلاكي للفئة المدروسة، بل يدركه أيضا وبشكل جيد المهمشون والمشردون داخل المدن, وهي الفئة التي تعرف أي القمامات تقصد وأي المزابل أغنى.

كما أن نظام التغذية قد يتحدد كذلك بظروف أخرى كطبيعة المناخ السائد بالمنطقة ونوعية تربتها ومنتوجاتها(3).

كما أن تداخل هذه العوامل تجعل الغذاء متميزا مجاليا واجتماعيا، إلا أنه " بالرغم من اختلاف نوعية التغذية لدى المغاربة حسب المناطق ومستواهم  الاجتماعي، فقد كانوا في الظروف العادية يعملون على ضمان توازنهم الغذائي بالاعتماد على ما توفر لديهم من أغذية وذلك بغض النظر عما تحتويه من "سعة حرارية" غير أنه بحلول المجاعة يختل ذلك التوازن، وتصبح الحاجة ماسة إلى التكيف معها باللجوء إلى مصادر أخرى من التغذية(4).

ترى مما كان يتشكل غذاء أجدادنا، في الأيام العادية، وفي أزماتهم؟

 "تأتي الحبوب في مقدمة المواد الغذائية التي تتحدث المصادر عن فقدانها، أو عن ارتفاع أسعارها, كلما حلت مجاعة بالمغاربة، وهذا يؤشر على  أن القمح والشعير وغيرها من الحبوب شكلت الغذاء الأساسي للسكان"(5).

فعلا كما تذكر المصادر التاريخية و إلى الآن فلا يزال استهلاك الخبز المصنوع من القمح والشعير في المرتبة الأولى على الأقل في الأوساط الشعبية ومجال دراستنا لا يستثنى، فالخبز في عرف المغاربة يقدس لدرجة كبيرة: "المغاربة كجميع المسلمين يكنون احتراما كبيرا للخبز، ويلتقطون فتاته أينما وجدوه ويقبلونه ثم يحفظونه في مكان معين حتى لا يدنس أو يداس بالأقدام(6).

يتخذ تقديس الخبز هنا بعدا دينيا، فهو "نعمة الله" ووراء هذا البعد الديني للمادة يكمن بعد اجتماعي وثقافي, إنه الحاجة أو الفاقة. فاحترام الخبز هنا هو  خوف من الزمان، لأن الزمان بدال ولا يرحم.

لا يحترم الخبز ولا يقدسه إلا من خبر أو عايش الأزمة، وقد حكى لي شخص بقرية الدريوش ضواحي مدينة الناظور, أنه أكل وعائلته من روث الغنم (تبرا وولي) كما أكد لي بالأمازيغية، فكيف لا يحترم الخبز من وصل به الحد إلى أكل مخلفات المواشي؟

كما أن الذاكرة الجماعية المحلية تعزي سنوات الجفاف التي عرفها المغرب في نهاية الثمانينات لكون جيل اليوم "شبعوا خبزا" وما عادوا يحترمونه، بل تحكي نفس الذاكرة أن الأمر وصل ببعض النسوة إلى طهي الطعام بالطعام، أي طهي الخبز بالخبز، فاتخذ الخبز كحطب لطهي الخبز نظرا لسنوات الخير والوفرة. ونتيجة لذلك فإن الله أعاد سنوات الجفاف ليأخذ الإنسان العبرة؟

وكلما حفرنا في الذاكرة نجد المخيال الاجتماعي أغنى وأعقد، وفي هذا الإطار تمكنت من تسجيل أسطورتين تؤسسان للفعل الإنساني وسلوكه، تقول الأولى:

 "إن القردة ما هم إلا أطفال "مسخوا"، إذ عندما استقبلت الأم ضيوفا لها, ولكي توفر الراحة لضيوفها، وضعت أطفالها في إحدى الغرف وأغلقتها بعدما قدمت لهم الكسكس، تناول الأطفال الكسكس، وعندما شبعوا صنعوا منه كويرات وبدأوا يلعبون بها، ويتقاذفونها، عندما أقبل الضيوف على الخروج والانصراف إلى حال سبيلهم، سألها أحدهم عن الأطفال، أجابت بأنهم في الغرفة المجاورة، ففتحت الغرفة، فإذا بهم أمام "قردة" و"خنازير".

فالأسطورة هنا تؤكد أن القرد كان إنسانا فتحول بعد "مسخه" نتيجة تلاعبه واستهتاره بالخبز.

أما الأسطورة الثانية، فبإمكان زائر المنطقة أن يتعرف عليها إن تسلح بالسؤال عندما يبلغ مكانا يعرف بــ"تيزي ن تسليت ن مسخن" أي "قمة العروس الممسوخ"، فالأسماء هنا لا تخلو من دلالة ولا من معنى، فعندما نبحث في دلالة هذا التركيب الاسمي سنصل إلى جواب تحمله الأسطورة التالية:

 "أن إحدى العرائس عندما بلغت هذه القمة وهي في طريقها إلى بيت زوجها فاجأتها العادة الشهرية ولتفادي تسرب الدم إلى ملابسها الخارجية عملت على وضع شرائح "التريد" بين فخديها، فكان جزاؤها أن "مسخت".

إذن, فالدلالة واحدة,  سواء تعلق الأمر بالأسطورة الأولى أو الثانية, وهو:

إن الخبز أو الطعام يبقى مقدسا ولا ينبغي التلاعب به وإلا فإن الإنسان سوف يعرض نفسه للمخاطر.

يتناول الشعير والذرة، وفي أحسن الحالات يستهلك القمح، وهي حالات استثنائية تعبر عن تميز العائلة أو الجماعة التي توفر لها القمح.

من هذه الحبوب تصنع المرأة مختلف العجائن كالعصيدة و البركوكش الذي يشبه الكسكس، وإن كانت حباته أكبر قليلا، يضاف إلى هذا العجين عجينا آخر يصنع من البلوط.

أما الكسكس فيصنع من الشعير أو الذرة أو القمح إن توفر، وتهيأ هذه الوجبة, إما بالحليب والسمن (ليدام) أو بالمرق وبعض الخضر واللحم.

وتجدر الإشارة إلى أن الخضر لم تكن متوفرة اللهم إلا إذا استثنينا القرع أو اللفت والبصل، أما القطاني فيشهد المسنون بتوفر الفول، الحمص، العدس. وقد تهيأ أيضا عجائن مستخلصة من حبوب الشعير والذرة لتصنع منها الحريرة والتشيشة.

تهيأ جل هذه الوجبات المذكورة في أوان بسيطة من الطين أو أوان خشبية وجلها من صنع محلي.

المنتوجات والمواد المذكورة هنا محلية الصنع والإنتاج، وقد حظيت لدى الساكنة باهتمام خاص، فتخصص لها مخازن خاصة أو جماعية، وهي عبارة عن محافر متقاربة، بأماكن تعلو نسبيا لكي لا تلحقها المياه، يوضع بها الزرع (الشعير خاصة) وبعض الدهنيات  (ليدام = الزيت والسمن).

توضع  هذه "المطامر" أو المخازن , ترقبا لسنوات الجفاف والأزمة.

 "لقد تعود السكان على تخزين المواد الغذائية لمواجهة الطوارىء، وتستوقفنا هنا وصية لأحد فقهاء سوس نوردها، لأنها تؤشر على أهمية هاجس التخوف من المجاعة عند المغاربة، وضرورة مواجهتها بأسلوب التخزين، تقول الوصية:

 "فإن سنين المجاعة لا تجد فيها إلا ما ادخرته في السنين المخصبة، فعليك بالادخار، ثم إياك بالسرف، فادخر ما أمكنك من الإدام والزرع والجلبان واللفت واليابس والمرجان (أي أركان) والخروب وغير ذلك، وزريعة كل شيء، ثم إياك التفريط في التبن فهو تبر لا ثبن..."(7).

هذا وقد اعتنى الإنسان الأمازيغي عناية خاصة، ولا يزال بالدهنيات ويطلق عليها اسم «ليدام» ويقصد بها زيت الزيتون والسمن (زبدة الماعز، الغنم، والبقر) والعسل, فهاته الدهنيات تحضر على مداري اليوم والسنة لمن توفرت له، فهي تتناول والخبز، وتستعمل في الطبخ كما سلف الذكر، وتستعمل للعلاج (علاج الإنسان والحيوان).

 يذكر المسنون أن الدار أو المنزل الذي يحتوي الإدام والزرع لا يمكن لأهله أن يخشوا الحاجة أو الفاقة، ولا نزال نرى الناس يفضلون بل يحرصون ألا تفرغ بيوتهم من هذه المواد (بالوسط القروي والحضري).

ويمكن أن تجد عند بعض العائلات إيداما يفوق عمره خمسين سنة، ويعتبرونه دواء يستعمل في علاج الإنسان والحيوان. مما جعلنا نتساءل عن مدى صلاحية هذه الدهون؟ ألا يمكن لها أن تتحول لطول مدتها إلى سموم؟ وإذا ما تأكدت صحة هذه الفرضية يمكن أن ينجم عن استعمالها مخاطر صحية لا يدركها الإنسان المحلي، وهذا سؤال لا يستبعد عند بعض الشباب الذين يرفضون تناولها واستعمالها.

وقد أخبرني شيخ مسن أن أحد أبنائه أخذ معه كمية من الزيت وعرضها على مختبر للتحليلات بفرنسا، فنصحوه بعدم استعمالها بل طالبوه بإحراقها لأنها تحولت بفضل قدمها إلى مادة خطيرة وإذا تم تناولها فسوف تنجم عنها مخاطر صحية، غير أن مثل هذه الدعاوي لن تلقى استجابة ولا إقبالا عند مسنينا لأن معاييرهم في التقويم والحكم مخالفة لمعايير صديقنا في فرنسا ولمختبراتها.

إلى جانب الدهون والحبوب, تناول الإنسان بمجالنا القطاني كالفول والحمص والعدس والجلبان، أما اللوبيا فلم تنتشر بالمنطقة إلا مؤخرا.

وبحكم اشتغال الإنسان الجبلي على الرعي وتربية المواشي، كان النظام الغذائي لا يخلو من اللحوم وخاصة لحم التيوس والعنزات المسنة والبقر والغنم، وبعض الدواجن الأليفة منها والبرية. فالأولى تشمل الدجاج، أما الثانية فنقصد بها الطيور المتوحشة التي تقتنص من الغابات المحيطة به كالحجل، الأرانب، الثعالب والذئاب. إن الثعالب لا تستهلك إلا في فترات الأزمة لرائحتها الكريهة. أما الذئاب فإن استهلاكها لا يحظى بالإجماع، وإن كان ذلك لا يمنع من قنصها، هناك مثل شعبي يقول:

"الذيب حلال، الذيب حرام، ترك حسن".

فتناول الذئب يوجد بين بين، فأمره غير محسوم نظريا، لكن الحاسم فيه عمليا هو الوضع أو الظرف الذي يجتازه الإنسان. فإن كان الإنسان في زمن الوفرة فإنه "يحرم" وإن كان في زمن حاجة وفاقة فإنه "يحلل".

إن الحاسم في التحريم أو عدمه هو الزمان، ولا ينبغي أن تفوتنا الفرصة للقول بأن الذئب يفضل منه أساسا دماغه، فتفضل الأسر أن تناوله لأطفالها حتى يكتسبوا من الذئب فطنته و ذكاءه. كما تستعمل أيضا بعض أجزائه في العلاجات الشعبية.

أما الخنزير فأمره محسوم دينيا، إنه محرم، غير أن تحريمه لا يمنع قنصه، ولا بيعه، فهو يقتنص ويترك في المكان ذاته، تؤخذ منه بعض الأجزاء/القطع وتقدم للكلاب بعد عرضها للنار, إذ يعتقد الناس أن تقديمها للكلاب طازجة ستصيبهم بالأذى.

وفي السنوات الأخيرة انتبه بعض الشباب إلى بيع لحمه خلسة من حراس الغابات وأعوان السلطة المحلية (المقدم والشيخ) أو بالتواطئ معهم، فيتم بيع لحمه بالمدن والتجمعات الحضرية المجاورة لمجالنا (صفرو، فاس و تازة) كما انتبه البعض الآخر منهم إلى تناوله.

وبحكم الارتباط اليومي والمباشر بالطبيعة فقد كان غذاء الإنسان المحلي لا يخلو من بعض الأعشاب والنباتات، وهذه الأعشاب هي: (مانتة، فليو, زوي، تحليمت، أحلحال، أعرعار...), وهي تستعمل إما للعلاج أو لتنسيم الأكل والمشروبات.

أما النباتات فتضم: (البسباس البري، كرنينة (الخرشوف البري), البقولة (الخبيزة)، الرجلة، قلب الدوم، النبق، تفغا، قواوش، حموطة، التغزاز، تشردوحت (شقائق النعمان)، البلوط، ساسنو، الخروب...).

وقد تشدنا الدهشة  والاستغراب عندما  نعلم أن الغذاء تضمن وجبة كان يطلق عليها اسم: اسربشن Israbchane)) وتصنع هذه الوجبة من "شكوة" يابسة، وهي مصنوعة من جلد الماعز الذي أعد أساسا لتحويل الحليب إلى لبن، ويشترط في هذه "الشكوة" أن يتجاوز عمرها سنتين أو ثلاث، ترطب بالماء الساخن، وتغسل جيدا، تطبخ لمدة طويلة، بعدما تقطع إلى أجزاء صغيرة ثم تخلط ب "تشيشة" من القمح، بعد ذلك يوضع فوقها الحليب وتؤكل بشكل جماعي، بل يستدعى لذلك حتى الجيران.

أما الفواكه، فكانت تستهلك بشكل موسمي، إما طرية أو طازجة أو مجففة كالتين والزيتون.

نستخلص مما سبق، أن هذه الأقوات منها ما كان يستهلك بشكل منظم، ومنها ما كان يستهلك بشكل عفوي تبعا لوفرته أو غيابه، ومنها ما كان يترك احتياطا للعلاج أو استقبال الضيوف, غير أن الثابت في كل ما ذكرنا هو غلبة منطق البساطة. فالإنسان يعتمد على ما يوفره له مجاله.

وتتوزع هذه الأغذية على ثلاث وجبات :

 الأولى: تكون صباحا وتسمى:" لفطور", وثانيها: تسمى "أمشلي" وسط النهار, وثالثها:  "التوعيف" قبل غروب الشمس, ثم يلي ذلك " أمنسي" وهي وجبة أساسية.

ففي الصباح تتناول الحريرة، خبز الشعير والدهنيات (ليدام: زيت، سمن..). وسط النهار يتناول خبز الشعير والدهنيات ,إضافة إلى الحليب والألبان. ليلا تتناول عصيدة الشعير أو مطحون القمح: إبراين، أبلبول، الطعام، بزين...

إن الوجبة الأساسية هنا هي وجبة العشاء، واتخاذ هذه الوجبة كأساس تفرضه حالة الإنسان وظروف عمله. إن الناس هنا يعيشون على الرعي وما تزخر به الأرض من خيرات, فهم يتوزعون نهارا، وفي الغالب لا يجتمعون إلا ليلا, لذلك فإن الوجبة الجامعة هي وجبة العشاء.

إن ما تمكنا من تحصيله هو إنقاذ لما تبقى من الذاكرة، ذاكرة المسنين، إذ بدون هذه الفئة فإن البحث يصبح صعبا أو مستحيلا لغياب دراسات مونوغرافية حول المنطقة. لهذا لا بأس من تسجيل ملاحظات إضافية:

إن البحث في ذاكرة آيت وراين ومجالهم، يكشف, أن هذا الإنسان خبر ظروفا متباينة، تحكمها الندرة بل الفقر والمجاعة أحيانا أخرى.

تدفعنا هذه الملاحظة إلى الإقرار بأن التجربة الغذائية هذه ستعكس ثقافة الندرة وهي ثقافة تؤطر السلوك الإنساني وفعله في التاريخ والزمان، فأمام ندرة المواد وقلتها يضطر الإنسان إلى التكيف مع وضعه، مبدعا أشكالا تخرجه من ورطته ويصنع من "اللاشيء" أشياء, فالإبداع حاضر، بل لا يكاد يحضر إلا مع الأزمة وفيها. ثم نسجل أن الفقر والفاقة لم يمنعا الإنسان من الغرس وانتظار النضج، ولم يمنعاه من الحرث والزرع وتطويع أو تسخير جوانب الوادي والمجاري لتصبح مساحات تزرع فيها الخضر وتغرس فيها الأشجار, ولم تمنع الإنسان من البحث عما هو جديد (إدخال مواد غذائية جديدة لم تكن معروفة من قبل).

 فمهما كان الظرف قاسيا فإن الإنسان لم يستسلم للموت ولم يستسلم للجوع, إذ بإمكان الإنسان أن ينكسر ولكنه يستحيل أن ينهزم كما يقول المثل الإنجليزي.

بناء على الحفر الذي حاولناه في الذاكرة الجماعية للإنسان والمجال، تبين لنا أن الإنسان والمجال في تحول مستمر، وهي تحولات اجتماعية وثقافية بل وإيكولوجية سريعة تساهم فيها عوامل متعددة نذكر منها:

انفتاح المجال المحلي على العالم الخارجي، ويتجلى هذا الانفتاح في شكله التقليدي من خلال الهجرة نحو المدن أو التجمعات الحضرية المحاذية لها، ثم الهجرة للخارج.

لقد أصبح العالم قرية صغيرة ، فالإعلام وخاصة المرئي منه (التلفزة, الباربول) يقرب ويحضر ما كان بعيدا، ويبعد ما كان حاضرا. إنه جسر جديد وتقنية جديدة تورط الإنسان فكرا وممارسة وتمثلا في ما لم يعهده من قبل.

إن المجال الذي ندرسه لا يستثني مما يعيشه العالم، فسكانه يهاجرون،  ينفتحون على العالم ويعودون بتجارب وتصورات أخرى. لقد اخترق المجال الأرضي بالطرق والإنارة وعرف أنماط عيش جديدة. تتداخل العناصر المذكورة، يتفاعل فيها المحلي بالكوكبي لتؤثر على حياتنا الاجتماعية وما نظامنا الغذائي إلا جزء يسير من ذلك النظام.

      لنتوقف من جديد, على مظاهر الاستمرار والتحول في النظام الغذائي، ففي الوجبات يمكن منهجيا أن نميز الآن بين:

وجبات أساسية وأخرى ثانوية، وجبات موازية وأخرى استثنائية.

فما دلالة هذه التصنيفات؟ وما محتوى هده الوجبات ؟

3 – الوجبات الغذائية :

3 -1: الوجبات الأساسية:

إن هذا التصنيف منهجي، نضعه حتى نتمكن من موضوعنا, أما عمليا فلا يحترم ذلك إلا نادرا، فالأكل لا وقت له، لأن الإنسان بحكم اهتماماته ومتاعبه لا ينضبط للوقت، فهو يأكل في كل وقت وحين، لهذا غالبا ما نجده يسخر من إنسان المدينة الذي يلتزم بمواعيد معينة في الأكل.

نحن هنا أمام ثقافة بدوية، تنزع نحو الحرية، فالإنسان يعيش نوعا من الحرية في علاقته بمجاله، حقوله، فالمجال يوفر له ما يقتاته، مواشيه وممتلكاته توفر له ما يحتاجه (حليب، لبن)، كما أن عمله المتعب يتطلب هذا "اللانظام" في مواقيت الأكل، غير أننا في هذا "اللانظام" الغذائي نلمس "نظاما".

لا نقصد بالوجبة الأساسية وجبة الغذاء كما عند أهل الحواضر والمدن، بل نقصد بها عند الجماعة المدروسة وجبة العشاء، يقول جورج مارسي: "إن الوجبة الغذائية الأساسية هي وجبة أمنسي (العشاء) «Amensi» أو وجبة المساء كما هو الأمر في روما"(8).

هذه الملاحظة التي سجلها مارسي سنة 1929 حول قبيلة "آيت جلداسن" وهي من قبائل آيت وراين الشرقية. تنطبق على قبائل آيت وراين الغربية موضوع الدراسة. ويعتبر هذا الأمر طبيعيا لأننا أمام فيدرالية آيت وراين، فالأولى امتداد للثانية والعكس صحيح.

أما التفسير العملي لهذا الاختيار الغذائي فإن الأمر فيه يعود لكون أفراد الأسرة لا يجتمعون نهارا. فالليل هو الذي يعيدهم إلى المسكن، وهو الذي يجمعهم. أما خلال النهار فهم ينتشرون في الأرض سعيا وراء لقمة العيش، اللهم إذا استثنينا الأطفال والنساء والعجزة، فهذه الفئة لا تبتعد عن المأوى حتى وإن مارست أشغالا حقلية أو رعوية. فهي في الغالب لا تبارح المسكن بعيدا.

إن المرأة هنا هي مركز العالم، هي التي تمنح الدفء والحياة، إنها دليل الاستقرار، إذ مهما تحرك الرجل أو المتزوج فإنه لا محالة إلى البيت عائد, إلى هنا حيث مركز عالمه، منه ينطلق وإليه يعود (المسكن – المرأة – الطفل).

عندما نقول العشاء أو "أمنسي" بالأمازيغية وجبة أساسية  فهذا لا ينبغي  أن يفهم منه, أن الإنسان لا يتناول ولا يأكل شيئا إلا خلال هذه الوجبة، بل يتناول وجبات ثانوية، وقبل عرضها ودراستها لا بد من الوقوف عند محتوى الوجبة الأساسية وطريقة تناولها. في الوجبة الأساسية لم يعد الأمر مقتصرا على "الكسكس" أو "أبلبول" كما سجل مارسي. فالأول يصنع من دقيق القمح. في حين أن الثاني يصنع من دقيق الشعير. وأحيانا يصنع مثيلا لهما من دقيق الذرة.

سواء تعلق الأمر بالأول أو الثاني، فكلاهما يهيأ بالحليب أو اللحم والخضر المتوفرة. وتصنع أيضا وجبات أخرى تطلق عليها تسميات "بزين", "أحرير" و"التريد". فما المقصود بذلك؟

 "فأحرير وبزين" يصنعان من دقيق القمح، وفي تحضيرهما اختلاف، ذلك أن "بزين" يعرض "كالكسكس" للبخار ويسقى بالحليب وينسم بزبدة الحليب (السمن = ليدام).

أما "أحرير" ففي شكله يشبه الأول (بزين), إنه عبارة عن حبات غليظة شيئا ما عن "الكسكس"، يهيأ بالماء الساخن ويضاف إليه الحليب (أشفاي) مع تنسيمه أيضا بزبدة مستخلصة من حليب الماعز أو البقر أو الغنم. أما "أحلاو" فهي وجبة من دقيق الشعير أو القمح أو الذرة وهي وجبة تسقى باللبن بعد عرضه للبخار مرات متعددة. في حين أن "التريد"وهو الوجبة المفضلة عند قبائلنا المدروسة، ويتباهى به رجال ونساء القبيلة.

ومن خلال معرفتنا بثقافة مجالنا يمكن أن نقول:

إن وجبة "التريد" يمكن اتخاذها كمؤشر دال على قيمة من تقدم له هذه الوجبة، وقداسة الزمان الذي تحضر فيه. فإذا كنت زائرا للمنطقة وأردت أن تعرف مدى الترحاب بك فها هو ذا المؤشر بين يديك, اللهم إلا إذا كانت "العين بصيرة واليد   قصيرة" كما يقال، أي إذا كان الشخص المستضيف لم يجد لذلك سبيلا. إن هذه الوجبة القمحية الخالصة لا تصنعها ولا تهيؤها إلا أنامل النساء الشاطرات أو بالتعبير المحلي "الوالعات".

تختار المرأة الدقيق بعناية، يصفى، ويحتفظ بالخالص منه فقط, وهو غالبا ما يميل إلى الصفرة لونا، يخلط بالماء ويكون عجينا. يدلك بعناية زائدة، يدلك جيدا بالاستعانة بالزيت، ثم يترك، يأخذ وقتا حتى يتماسك جيدا، ويصبح مادة طيعة في أنامل الصانعة. تقتطع منه أطراف وتكور هذه الكويرات, تمدد بالاستعانة بالزيت في صحن مختار  لهذه الغاية. نصل إلى أشكال هندسية دائرية وشفافة وتعرض للنار فوق " فراح » من الطين/ الفخار ذي الصنع المحلي.

تأخذ هذه العملية وقتا طويلا وصبرا زائدا. يمكن أن تتكلف بذلك امرأة واحدة ويمكن أن تتعاون اثنتان. عندما يفرغ من الطهي والإعداد يقطع إلى أجزاء صغيرة باليد فقط. فإما أن يسقى بالحليب ويقدم للضيوف أو للأهل أو أنه يسقى بالمرق واللحم، وإن كان دجاجا "بلديا" فهو المفضل والأفضل عند الجماعة، وهو الأشهى والألذ عند الزائر أو كل من ذاقه.

توقفنا كثيرا عند هذه الوجبة لدلالتها وقيمتها الرمزية عند الجماعة المدروسة، فهي صعبة التحضير ولا تهيأ يوميا. كما أنها لا تعرض إلا في المناسبات الخاصة والدالة على الفرح أو الاحتفال (ازدياد مولود، زفاف، زيارات عائلية، ترقي، نجاح، احتفال بزائر أو قادم...). وتهيأ بالمناسبات الدينية (الأعياد: عيد المولد النبوي، العيد الكبير، عاشوراء). كما تهيأ الوجبة من قبل العروس في يومها الثالث احتفالا بها, تعظيما له واختبارا لشطارتها ومهارتها.

ولا تفوتني الفرصة لأسجل أن لهذه القبائل الأمازيغية طقسا لا يزال له تأثير وحضور لحد الآن وهو استحضار الموتى في المناسبات الدينية ويتعلق هذا الطقس باستحضار الموتى, فالموتى يحضرون من خلال "التصدق" عليهم: أي أن العائلة صبيحة الأعياد الدينية تقدم لأطفال الدوار وجبات إفطار تشمل  "بغرير" و"ملاوي" أو   "التريد" أو " الرغايف" وفي هذه الوجبات يحظى كل ميت بحصته، وهو تقليد قديم ولكنه لا زال يمارس في الأوساط الأمازيغية  في صفوف العديد من الأسر.

كما يمكن للميت أن "يحضر" من خلال إعطاء إسمه لأحد الأحفاد أو الأقارب، وكأن الجماعة بهذه الممارسات الثقافية والرمزية تضمن استمراريتها, وتصون ذاكرتها وتاريخها من الموت والنسيان. إنه طقس يكتب التاريخ بطريقة خاصة.

ويمكن لنا أن نضيف إلى ما سلف فطائر أخرى تعرف ب: بوشيار، ملوي، الرغايف، السفنج.... إلخ.

إنه من الطبيعي أن تنضاف إلى تقاليد المنطقة, تقاليد غذائية جديدة، بفعل التفاعل الذي خلقه هذا الانفتاح الإعلامي الذي نعيشه. انفتاح يستهدف الحواضر وثقافته, داخل المغرب وخارجه. فأصبحنا نرى موائد غذائية لا تختلف في شيء، عما يقدم هنا وهناك، إننا أمام وجبات وموائد ووصفات تسير في اتجاه التماهي والنسخ مما نشاهده في المدن. ومرد هذا كما سلفت إلى تلك الحركية الاجتماعية المرتبطة بالهجرة وبالتفاعل الثقافي. فتأثير المدينة والإعلام حاضر هنا.

فالمدينة استقطبت أبناء وشبابا من أصول قروية، من أجل متابعة الدراسة أو العمل. وينبغي أن نسجل هنا للمرأة قدرتها الكبيرة على التفاعل والتأثير في محيطها ومجالها. وعندما نقول "المرأة"  فنحن نقصد بها إما الزوجة ذات أصول ونشأة خارج مجالنا، حيث تأتي زائرة، قادمة، ولكنها محملة بثقافة ونمط عيش مغايرين. قد تترك بعضها أو جزءا منها في المجال أو الوسط الذي استضافها.

ونقصد بالمرأة أيضا الابنة التي هاجرت إما للدراسة أو بحثا عن العمل أو خادمة في بيوت غير أهلها في المدن المغربية المختلفة.

وعندما تعود فهي لا تعود كذات فقط، بل تعود وهي محملة بما اكتسبته من خلال تجربتها الحياتية والمعيشية.

أما القطاني فيمكن لنا أن نعيد ذكر: الفول، الحمص، العدس اللوبية، وإن كانت هذه الأخيرة حديثة العهد بالمنطقة زراعة واستهلاكا.

وتجدر الإشارة إلى أن المنطقة تزخر بمواد أخرى مهمة ولكن لا تستهلك كالحلزون، إنه لا يتناول محليا، اللهم إلا في حالات نادرة جدا حيث يكون المستهلك قد تشبع بتقاليد جديدة نتيجة سفره خارج مجاله المحلي.

وعندما كنت أبحث في هذا الأمر كنت ألاحظ نوعا من التقزز والاستغراب أو الدهشة على محيا المبحوثين الذين يقرون بعدم قدرتهم على تناول الحلزون. غير أن ذلك لا يمنع من جمعه وبيعه بالأسواق المحلية حيث يستهلك بالمدن وبأثمان مرتفعة.

3- 2: الوجبات الثانوية:

نقصد بها وجبتي الفطور والغذاء و"التوعيف" وهي وجبات يمكن أن تكون فردية، ويمكن أن تكون جماعية. يتناولها الإنسان بشكل متفرد أو بمعية أسرته. يمكن أن نعتبر هذه الوجبات "عابرة" لكونها لا تتطلب جهدا: وقتا ومواد.

وبين الوجبات الثانوية والأساسية يتناول الإنسان وجبات موازية، حيث يقتات في كل وقت وحين. فقد يتناول في البيت (بيته أو عند أهله أو جيرانه...) وقد يتناول في الحقل أو المرعى أو السوق.

وجل هذه اللحظات تختلف باختلاف المواسم وظروفها وحسب الوضع (وفرة, قلة, جفاف...). فلنقف عند محتويات وجبتي الفطور والغذاء ثم وجبة التوعيف.

فالفطور وهو الوجبة المتناولة صباحا، وغالبا ما تحتوي القهوة أو الشاي، الحليب ومشتقاته ثم الزيت والزيتون. أما الغذاء وهو الوجبة المتناولة عند منتصف النهار، وهي كما قلت لا تكلف الأسرة كثيرا، لأن الأفراد لا يجمعهم البيت في هذا الوقت, فهم في الغالب منهمكون في عملهم وموزعون حسب أدوارهم. أما التوعيف فهي وجبة تتناول بعد وجبة الغذاء وقبل وجبة العشاء، وهي وجبة "خفيفة" تضم في الغالب الخبز و الدهنيات والألبان إن كانت متوفرة.

وتجدر الإشارة إلى أن الإنسان موضوع الدراسة يولي اهتماما وترحابا كبيرين بالضيوف، وهو تعبير على حسن الضيافة والكرم، حتى وإن كان الأمر على حساب النساء والأطفال. فلا تأكل المرأة وأهل البيت إلا إذا أرضي الضيوف. وفي حالات كثيرة (خاصة في الماضي) يمكن للمرأة أن تكتفي بما تيسر أو بالقليل مما تبقى إن بقي.

جل الوجبات المذكورة تتأثر في محتوياتها وتحولاتها بالمواسم الأربع التي يعرفها الإنسان والمجال:

1- ففي فصل الشتاء: يغلب استعمال القطاني وبعض الخضر ك "القرع".

2- وفي فصل الربيع: تستهلك بكثرة المواد المنتجة محليا كالبطاطس، الفول، البصل، البقولة، الحليب ومشتقاته (ألبان الماعز والبقر...).

فلنقف مثلا عند الحليب ومشتقاته , لنرى بأن هذه المادة تحظى بقيمة كبيرة لدى أهالينا، ويقول مثل شعبي أما زيغي: "ون يسوطن دك غي آت يفاد" أي مامعناه: " من نفخ في الحليب سيفتقده".

لذلك فإن المرء هاهنا, لا يمكن أن يبيع الحليب ومشتقاته، فالناس تفضل إفراغ الحليب في الأرض عوض بيعه. فإن جئت طالبا اللبن, يمنح لك مجانا حتى وإن كان المرء فقيرا أو محتاجا.

إن بيع الحليب أو اللبن تقليد لا تعرفه هذه المناطق لحدود الساعة. وإذا شاهدت شخصا يبيعه فتيقن أن أصوله الاجتماعية والثقافية من خارج هذا المجال.

وما قلناه عن الحليب يقال عن الخضر وبعض المنتوجات الفلاحية الأخرى (التين مثلا).    ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحليب يستخلص منه: اللبن, الجبن ثم أنواع أخرى كـ: "تشليلت" أو "لكليلة" وهي وجبة تحضر من اللبن حيث يعرض للنار في إناء، ثم يعزل الماء لنحصل على مسحوق أبيض، يشبه في لونه الجبن ولكن مذاقه مختلف عنه وهي تؤكل طرية هكذا، أو تجفف لتنسم بها الحريرة. ومنه تصنع مادة أخرى تسمى «تمدخست» وهي نتاج خليط الحليب (أشفاي) واللبن، حيث يعرض الحليب للنار وبعد فيضه يضاف إليه اللبن، لنحصل على وجبة تشبه شكلا "تشليلت" ولكن بمذاق مختلف. ثم يصنع من الحليب أيضا الجبن، فهو إما أن يتناول بمائه أو يجفف من الماء.

بقي أن نشير إلى وجبة أخرى مفضلة وغنية عند جماعتنا وهي "أتشيل" أو ما يعرف حاليا "بالرايب" ومنه يستخلص اللبن والزبدة. كما يصنع من الحليب مادة تسمى "أدخس" و هو من الحليب الأول المستخلص من الشاة أو الماعز أو البقرة مباشرة بعد الوضع. ولا يمكن لنا أن نخلص من حديثنا عن الحليب ومشتقاته دون أن نبحث في أبعاد أخرى ترتبط بالمعتقدات والسحر. تقول إحدى المسنات التي قابلتها:

(هناك من تسحر للحليب من أجل جلب  الزبدة /السمن, فتجمع نساء الدوار، يتم خلط الحليب, فيوضع بضريح أحد الأولياء وإذا رفضت إحدى النساء القيام بهذه العملية الجماعية لتبرىء الذمة سيقال أنها الساحرة؛ فهي ترفض المشاركة خوفا من المصيبة التي ستلحقها).

تذهب المرأة خلف المواشي، عبر المسلك الذي تنطلق منه كل صباح، وتجمع روث مواشيها، وهذا الروث يوضع تحت قدرة من الطين التي خصص لها مكان بالقرب من موقد النار (الكانون)، وتقول شيئا لا تفصح عنه، وبهذه الطريقة تجلب  زبدة حليب الدوار، لقد حولت مسار الزبدة إلى بيتها، وعندما تلاحظ أن كمية الزبدة المستخلصة من الحليب بدأت تقل أو تنعدم بالمرة، تعرف, أنها أخذت بالسحر، فتتوجه إلى الفقيه، ليكتب لها حجابا، وكانت المرأة، عندما تجلس لصناعة اللبن والزبدة تقول (أتموكاتن أوغي, ألن أدام اعمانت افادن أدام أوضادن أتسرت الولي). أعني: يا من تسحر للحليب فلتفقدي بصرك، وتتحطم ركبتيك، وتفقدي من هو أعز لديك, ثم تضيف: (ألالة ألالة علاش وصاك النبي، ولا تبكي صبي، ولا ترد الساعي، ولا تأكل حق الجيران).

ثم هناك من النساء من تستعمل نوعا من النباتات في السحر وهو الدرياس (الناس تقوليك الدرياس وأنا نقوليك قايد الناس تجيبلي السمن من ديال الناس ندير بيه السبوع أو لعراس).

صناعة اللبن صناعة مقدسة ، لذلك تغلف بالطقوس والمعتقدات والسحر, لهذا نرى أن الحليب يعطى ولكن لا يباع, وإذا أردنا أن نقارن الأمر عند قبيلة آيت سغروشن نجد العكس حيث أن هذه القبيلة تمتهن التجارة رغم قلة وضعف ما تعرضه للبيع. وإنني أرجح السبب في الأمر إلى كون قبيلة آيت سغروشن تستوطن السفح، وهي أكثر تضررا من الجفاف المتوالي ومواردها الطبيعية محدودة أو منعدمة، وهي التي مارست نساؤها في وقت سابق ما كن ينتجنه محليا (الزرابي، حصير من الدوم)، في حين أن قبائل آيت وراين استوطنت الجبل، وهذا مجال أكثر غنى، ويوفر لساكنته موارد موازية كالرعي (خاصة الماعز), أو الاشتغال على ما توفره الغابة (حطب، فحم، خروب... ). لذلك فالإنسان إن اشتد عليه الحال يجد متنفسا طبيعيا يعوض النقص الحاصل في الفلاحة.

3- صيفا: تستهلك بكثرة البطاطس، البصل، الطماطم، الفلفل، القرع، وهو الموسم الذي تكثر فيه الفواكه (العنب، التين، البطيخ، الدلاح، الرمان...)  وما قلناه عن الحليب نقوله عن التين فبدوره لا يباع, فالتين إما أن  يؤكل طازجا أو يترك حتى يجف ويعرض للبخار بالكسكاس الطيني ثم ينسم ببعض الأعشاب (فليو خاصة) مما يجعله يقاوم التعفن  وتسرب بعض الحشرات التي تفسده ويصبح غذاء احتياطيا. ثم يستهلك مع بداية موسم الحرث والفصل المطير، وهذا الغذاء مهم بالنسبة للأشخاص الذين يقضون وقتهم خارج البيت (الفلاح، الراعي).

4 - خريفا: يصنف هذا الفصل إلى خريف عامر وخريف خاو، عامر بالفواكه الطازجة وخاو أي خال من الفواكه اللهم ما تبقى عالقا بالأشجار الصعبة هنا وهناك. ويطغى على الاستهلاك فيه ما يتناول في فصل الصيف.

قبل أن نفرغ من هذا العنصر يلزمنا أن نسجل بناء على ملاحظاتنا أنه:

يمكن أن نقول أن النظام الغذائي في مجال الدراسة على مدار السنة، بالرغم من تنوعه وغناه، فهو غذاء غير منظم، أي لا تحكمه ضوابط قارة وثابتة، لأنه نظام يخضع للانظام أي يخضع لتقلبات وشروط الإنسان وظروفه, أحيانا، نجد أنفسنا أمام غذاء غني وكاف، وأحيانا أخرى نقف أمام غذاء فقير غير متكامل. فاللحم مثلا, إما أن يستهلك بكثرة وإما أن يغيب. فقد يستهلك بشكل مفرط في الأعياد والمناسبات الدينية والاحتفالات الشعبية (أعراس، ختان مأتم..) ويستهلك عندما تذبح الحيوانات إما لمرضها أو لإعاقتها  أو لا تستهلك.

أما الأسماك فتفتقر المنطقة لثقافة استهلاكها حتى بالوسط الحضري. وإذا سألت عن أنواع الأسماك المعروفة محليا فالجواب لن يتعدى اسما واحدا وهو السردين. ولا غرابة في الأمر إن كنا نلاحظ انتشار مرض "الكواطر" الناجم أساسا عن افتقار جسم الإنسان لمادة "اليود" في وسط النساء خاصة. وما تزويد الملح بهذه المادة إلا وعي ورغبة في الحد والتخفيف من النقص الحاصل في هذه المادة.

4-احتفالية الغذاء أو الإطعام الجماعي:

ترتبط احتفالية الغذاء أو الإطعام الجماعي بتقاليد مجتمعية عريقة، وبطقوس جماعية قد تجد سندها في الزوايا أو في أشكال تنظيمية ثقافية واجتماعية.(9).

كما تجد سندها حاليا في تعبيرات أخرى ظرفية عابرة كالحملات الانتخابية.

وإذا كان السلوك الأول مترسخا وعميقا ودالا في ذاكرة الجماعة، فإن السلوك الثاني تحكمه مبررات فردية ذاتية لا تتعدى الاستقطاب أو الفوز بأصوات الناخبين.

وإذا أردنا أن نسلط الضوء أكثر على هذا السلوك الأخير، نجده  من الناحية الأنتربولوجية يتأسس على الحيلة، وهي حيلة مزدوجة وواعية:

فالمرشح همه هو الفوز بالأصوات و كسب الأنصار لذلك يطعم الناس  بتنظيم وجبات على شكل "الزرود" أما الناخب فبدوره يعتبرها فرصة وربما الأخيرة، وأن "الزردة" هي ما سيناله من هذا القادم الذي يريد أن يفوز بصوته. تكمن الحيلة إذن في كون كل طرف يعتقد أنه هو الفائز في هذه اللعبة. هنا تعرض الخيرات وتستهلك, إنها لحظة تدمير و إتلاف جماعي للخيرات المادية.

و قد كنا نلاحظ أن التدمير الجماعي قد يبدأ قبل الحملة الانتخابية وقد يشمل  مدة الحملة بكاملها. فهناك من يخصص منازل للأكل و الشرب أو مقاهي تستقبل الزبناء بالمجان, غير أن لحظة التدمير هاته يحكمها قصد آخر إنه الترقي أو الحراك الاجتماعي. فبعد كل هدم يتأسس بناء وتشييد, فهذا الذي يتلف الآن يسعى إلى تشييد رأسمال رمزي,  من خلال المسؤولية التي يطمح في  الوصول إليها ثم وراء هذا الرأسمال الرمزي ترقد المطامع المادية.

كما أن من يطعم الآن بسخاء وبدون حساب لا يتردد عندما يبلغ مقاصده من استرجاع كل ما هدمه, ولو اقتضى الأمر من الذين أطعمهم بشكل مباشر أو على شكل "هدايا" ثمينة والقصص في هذا الأمر عديدة ودالة.

إنه نوع من الاستثمار السياسي، وهو استثمار للخبز، الاستثمار الذي  يتحول في الأخير إلى إكراه أو عنف رمزي.

يتحول الإطعام إلى أداة للسيطرة وللتوجيه (التأثير على الرأي), وهنا أيضا نكشف عن نوع من الدهاء الذي يستثمر الموروث الثقافي لأن الطعام في ذاكرتنا يرتبط بالمقدس أو النعمة. إن الخبز، نعمة، «وحق النعمة اللي شركنا، راه الطعام بيناتنا».

بعيدا عن هذا المكر وهذا الخداع المزدوج. يمكن أن نقول أيضا إن الإطعام الجماعي هو سلوك اجتماعي يحضر في مجالنا من خلال الزواج, الختان, ازدياد مولود، الترقي الاجتماعي (النجاح, الحصول على وظيفة, الحصول على لقب جديد, تغيير مسكن، أو المأتم, حصول حادثة خرج منها المعني سالما...).

هنا يمكن لنا أن نقرأ الإطعام الجماعي بمنطق التحطيم والتشييد بتقوية العلاقات الاجتماعية أو بمأزقتها, ليس هناك إطعام مجاني فكل فعل هو فعل مقصود, إن الإطعام الجماعي هو إعلان عن تجاوز الحالة السابقة وتشييد لحالة جديدة أو وضع جديد.

فالشخص عندما يحج بيت الرسول يعود بلقب جديد، إنه يصبح "حاجا" ولكي تعترف له الجماعة بهذا اللقب الجديد عليه أن يعلن عن ذلك، و يتخذ هذا الإعلان صيغة الإطعام الجماعي. وبهذا الاحتفال ينتقل إلى وضع جديد ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن الزواج: إنه انتقال من حالة العزاب إلى حالة المتزوجين ويتم ذلك بزفاف أي بتدمير وتحطيم الحالة الأولى السابقة عبر طقوس واحتفالات وإطعام. فعندما يمر الشخص بهذه الطقوس يقبل في الحالة الجديدة و يعترف له بالوضع الجديد، أليس هذا  إعلانا عن تورطه مؤِسساتيا و اجتماعيا ؟

    رمزيا وثقافيا يعتبر الإطعام الجماعي احتفالا بولادة جديدة. فهذا إذن عبور لبناء وتأسيس علاقات جديدة وسلط رمزية, وكأن لسان الحال يقول: أطعمك الآن لتعترف لي بسلطاني الجديد، لقد أصبحت حاجا وثمن هذا اللقب الجديد هو هذا الإطعام. فهذا التدمير، هو بناء: "فأنا لم أعد فلان بن فلان فقط بل أصبحت "الحاج فلان". لا ينبغي أن نقف عند هذا الحد من التحليل لأن الأمر أعقد بكثير مما يمكن أن نتصور، وهذا بالضبط ما يترجم الطبيعة المركبة للمجتمع الذي ندرسه. إن الإطعام بشكل عام والجماعي بشكل خاص, بقدر ما يقوي العلاقات الاجتماعية والإنسانية بقدر ما "يمأزقها", لأننا أصبحنا نرى نوعا من المنافسة والتظاهر في التدمير والاستهلاك, لا ينبغي أن أقدم أقل مما قدمته وإلا تعرضت رمزيا أو فعليا للاستهزاء والاحتقار. ودليلنا في هذه المفارقة هو التقييم "الصامت" الذي يلي كل وليمة أو وجبة جماعية من قبيل ما عرضنا.

بقي لي أن أعرض لبعد آخر يحضر في بعض لحظات الإطعام الجماعي (الأعراس, المآتم خاصة) هنا بالضبط يتلقى المنظم المعني بهذا الإطعام نوعا من "الهدايا" قد تكون ذبائح أو مساعدات أخرى. وهنا نلمس البعد الجماعي للتضامن أو بلغة أخرى أن الجماعة تعيد توزيع خيراتها من خلال نظامها في الأفراح والأتراح.

 

المصادر والمراجع الشفهية

1-  Abdellah Laroui : les origines sociales et culturelles du nationalisme Marocain (1830-1912), François Maspero : 1977 (p : 37).

2 - Jean Duvignaud : Chebika, Cérès, Tunis, 1994 (P : 289).

 -3انظر محمد استيتو : "الفقر والفقراء في مغرب القرنيين 16 و17 م" الطبعة الأولى 2004.

4   - محمد الأمين البزار : تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنيين 18-19م، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة 1992.

   ـ مجلة أمل، العدد 17، عدد خاص عن التغذية والأزمة في تاريخ المغرب 1999.

- نشاط مصطفى: "التغذية والأزمة في مغرب العصر المر يني" مجلة أمل، العدد 17، 1999 (ص: 08).4

5- نشاط مصطفى: م.س. ذكره، ص: 08).

6- ن.م. (ص: 08).

7-  نشاط مصطفى : م.س. (ص:11).

8 - استيتو : مرجع سابق، (ص: 335).

9- George Marcy : une tribu Berbère de confédération Aït Ouaraine : les Aït Jellidasen,

 Hesperis Vol

 IX 1929 (P : 127-128).

10- Amhahan Ali : Mutations Sociales dans le Haut Atlas, les Ghoujdama, édition des sciences de l, homme, paris1998,

 (p : 228-229).

أعداد المجلة