فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

جمع الثقافة الشعبية ... ماذا بعد

العدد 38 - التصدير
جمع الثقافة الشعبية ... ماذا بعد
كاتبة من مصر

بعد مرور ما يقرب من ستة عقود من الجمع الممنهج للثقافة الشعبية العربية سبقتها قرون من جمع تم على أيدي المستشرقين والرحالة والهواة ، وبعد أن شهد العلم وأدوات الجمع الميداني تطورات ظهرت في شكل طفرة في النصف الأول من القرن العشرين ليأخذ هذا التطور ما يشبه الركود والإرتكان إلى ما توصلت اليه تلك المحاولات الأولى التي وضعت خارطة طريق حتى ليذكر الباحثون المعاصرون "انه لكأن الأوائل من الباحثين قد ضغطوا على زر إيقاف التشغيل وهم يغادرون "، والمتأمل لموضوعات جمع الثقافة الشعبية وطرق تصنيفها وأدوات هذا الجمع يستطيع أن يؤكد تلك المقولة بثقة ، حيث لا تشهد الساحة العلمية في مجال الدراسات الفولكلورية السؤال الذى من المفترض - في ظرفنا العربى الخاص - أن يكون أكثر إلحاحاً؛ ألا وهو : وماذا بعد؟

ظهرت الخطوط العريضة لأدوات الجمع العلمي للثقافة الشعبية في بدايات القرن العشرين لتنظم حركة الجمع الميداني المكثف والعشوائي في إطار تتفق عليه الدوائر العلمية التي كانت في تلك الفترة غربية، وأيا كانت دوافع هذا الجمع وهذا الانتظام العلمي في وضع لجان لتحديد أدلة عمل ميداني مبكرة ترشد باحثين أٌرسلوا الى مجتمعات بعيدة تختلف عن ثقافتهم اختلافاً جذرياً، فألزمتهم بشروط قاسية توخياً لدقة الجمع وموضوعيته وصدقه ، فمن تعلم لغة المجتمع الذي يشدون إليه الرحال، إلى تعلم الرسم حيث لم تتوفر أداة التصوير الفوتوغرافي والفيديو التي يحملها كل باحث اليوم في هاتفه، إلى الإقامة الكاملة في مجتمع الدراسة مدة لا تقل بحال من الأحوال عن عام كامل، وضعوا لكل شرط مبررات لو حاولنا تقصيها لعلمنا أنها - رغم أهميتها - إنما كانت وليدة ظروف ودوافع خاصة لا تنطبق على عالمنا العربي اليوم؛ خاصة بعد ان امتلك زمام البحث الميداني باحثون وطنيون. فظهرت المادة الميدانية غزيرة صادقة تنتظر من يستنطقها.

فليكن سؤال القرن الحادي والعشرين في الثقافة الشعبية: ماذا بعد بلورة الأدوات وتراكم المادة الميدانية عن تراث عربي تليد وضخم وحشد الجهد المادي والبشري لجمع موضوعات هذا التراث، حتى صارت مؤتمرات ولقاءات وفاعليات توثيق التراث وتدريبات باحثين على التوثيق تغطي المعمور العربي على مدار العام، ومازالوا يوصونا بالتوثيق حتى لظننا أنه الغاية ، فشهدنا على مدار العقدين السابقين مرحلة يمكن ان نصفها - بثقة أنها مرحلة التوثيق وضياع الغاية. فكم دولة في عالمنا العربي بعد هذا الجهد المكثف والمادة المتراكمة استطاعت أن تفيد من تلك المادة وتوظفها لخدمة شعوبها وصالح تنمية راسخة لا تقتلعها رياح آتية من الشرق أو الغرب؟

انه لمن الجدير بالبحث والتأمل الآن كيفية الإفادة من الكم الهائل الذي ضاقت به الأرشيفات والدراسات والرسائل الجامعية عن الثقافة الشعبية، فليس موقعها أرفف المكتبات ولا صفحات الانترنت، وانما موقعها الجديرة به هو الدوائر التنفيذية وواضعي مخططات التنمية التي حان وقت منافسة دولنا العربية فيه، فلقد كنا على مدار قرون ميداناً للدراسات الغربية من قبل الرحالة والهواة والمغامرين ثم المستشرقين، فعاداتنا ومعتقداتنا وفنوننا وأدواتنا ومجالسنا العرفية ومعارفنا الشعبية أمامنا مادة رائقة تنادي المستخدمين لاستلهامها في الفن وأعمالها في القانون الوضعي والوقوف موقف جريء غير متسامح مع معتقدات تجذب المجتمعات بلا رحمة إلى الخلف لتترك انطباعاً عالمياً عن شعوبنا بأنها غارقة فى الخرافة تمارسها وتعتمدها طريقاً لحل مشكلاتها. فليكن الرد العملي من باحثين قرروا فتح كل الملفات المسكوت عنها والتدخل في صنع القرار، فلتكن تنمية مستدامة مرتكنة إلى تراث الأمة العربية غير متجاهلة له ولا مستسلمة لأفكار كانت وليدة حقب ظلامية مر بها العالم كله، لكن بعض الشعوب - بإرادة وعمل باحثيها - تخطت تلك المرحلة ولحقت بالحداثة وفي القلب منها التراث.

فالبناء الثقافي والاجتماعي بما يحمله من مظاهر التخلف أو النمو أو التقدم يدعو إلى الاجتهاد والدرس المتأني للوصول إلى إجابة على السؤال الذى يطرح نفسه بقوة وهو: هل هذا البناء الثقافي هو سبب في التخلف عن مستوى النمو المرجو أو إن العكس هو الصحيح؛ بمعنى آخر: هل التراجع الاقتصادى هو الذى تسبب في التخلف الثقافي أو التخلف الثقافي هو الذى أدى إلى التخلف عن ركب الدول المتقدمة ؟، فأيهما هو السبب وأي منهما النتيجة، وإذا ما اعتبرنا مدخلات العملية الاقتصادية هى الدولة بإمكاناتها ومواردها والبناء الثقافي هو الفرد بما يحمله من ثقافة يحرص على تناقلها بين الأجيال كان علينا مناقشة الثقافة الشعبية ودورها النسبي في دفع أو إعاقة جهود الدولة وخطط التنمية.

ويلعب التراث بموضوعاته المختلفة دوراً حيوياً في تشكيل حياة الأفراد وموقفهم من التطور والنمو فتأتي القوة القاهرة للتراث باعتباره الإطار الوحيد الصحيح والملزم لمعايير السلوك،ومن هنا كانت أهمية تقصي دور التراث في التنمية ، وقياس حجم هذا الدور في تعظيم أو تقليص طاقة الأفراد الإنتاجية وسد احتياجاتهم المادية والنفسية، وتنبع قيمة إخضاع متغير كالتراث في قياس عملية التنمية إن به من الخطوط العامة التي يمكن تعميمها بحيث يمكن أن تشكل نمطا من انماط التفكير يمكن أن يميز تلك المجتمعات التي نطلق عليها "الدول النامية" مع تشكلات العناصر الثقافية التي تقع تحت أنماط كبرى مشتركة بين شعوب البلاد النامية. فالتراث بإيجابياته وسلبياته يجب أن يخضع لمبضع المتخصصين حتى تتضح الرؤية التي يجب أن تُقدم رائقة إلى الجهات التنفيذية. وهنا يأتي دور المتخصصين في التسلح بالشجاعة التي تمكنهم من إماطة اللثام عن المجهول من عناصر التراث المعوقة للتنمية، أو المعلومة ولكن صمتت عنها الدراسات احتراماً لدعاوى الحفاظ على التراث وصونه. فامتلاك الجرأة أن تأتي دعوة التخلي عن بعض العناصر التراثية من قبل علماء الفولكلور ودارسيه لم تتبلور بشكل مرض حتى وقتنا هذا؛ إذ غالباً ما تصدر تلك الصيحات من المصلحين ورجال الدين والتربويين الذين يدعون إلى "تنقية التراث"، وهى دعاوى على نبل مقصدها تفتقر إلى القدرة على النفاذ إلى عمق العنصر الثقافي ووظيفته والسياق الثقافي والإجتماعي الذى يتم فيه، وكلها عوامل حاسمة في استمرار العنصر أو التخلي عنه، من هنا كانت أهمية تناول السياق الثقافي للتنمية والبحث عن إمكانات استدامتها في المجتمع.

فلابد وأن يظهر تيار واقعي قادر على أن يرى المجتمعات كإنجاز بشري صاغته الظروف التاريخية والجغرافية والسياسية؛ به كل ما بالبشر من خير وشر، ففيه الجوانب الديناميكية التي تدفع بالمجتمعات إلى مصاف الدول التي وصلت بشعوبها إلى مستوى ملموس من التقدم، كما به من الجوانب الإستاتيكية التي تجذب الأفراد إلى الإلتصاق بواقع متخلف، ومن هنا كانت ضرورة فهم طبيعة البناء الثقافي واحترامه في إنفاذ برامج التنمية على أن ينطوي هذا الفهم لرؤية تمكن صاحبها من الوقوف على سلبيات هذا التراث وما يحمله من معوقات للتنمية كما تشير إلى مواطن القوة فيه والتي تدفع عملية التنمية وتمدها بالوقود.

أعداد المجلة