المرأة والتراث الموسيقي ببلدة
العدد 37 - موسيقى وأداء حركي
بلدة «القدح» مقاربة «اثنوغرافية»: الخصائص التاريخية والجغرافية
تقع بلدة “القدح” في الشمال الغربي للبلاد التونسية وأقصى جنوب مدينة الكاف، حيث تبعد حوالي 250 كلم عن العاصمة التونسية و90 كلم عن الكاف المدينة. تتوسّط بلدة “القدح” من ناحية مدينتي “القلعة الخصبة” التي كانت تسمّى قبل الاستقلال القلعة الجرداء ومن ناحية أخرى “قلعة سنان” التي تبعد عنها 15 كلم والمعروفة بقلعة الأصنام وسمّيت أيضا بقلعة السكّة، المشهورة بمعلم مائدة “يوغرطة” وتحدّها الجزائر من ناحية ثالثة(1).
تتميز بلدة «القدح» بالتجاذب الجغرافي الاجتماعي بحيث لا يعترف الرصيد التراثي بالتقسيم الجغرافي ويتجاوز ذلك إلى ما بعد الحدود المرسومة لتمتد إلى أغلب مناطق شرقي الجزائر مثل «عين الزرقاء» و«سوق هراس» و«عنّابة» و«تبسّة» المتاخمة والمجاورة للمناطق الحدودية التونسية الغربيّة وهي «قلعة السنان» و«تاجروين» و«ساقية سيدي يوسف» و«تالة» و«القلعة الخصبة»(2). تتبع بلدة «القدح» «مشْيَخَة الناظور» التابعة لمدينة «القلعة الخصبة»(3)، خلافا لذلك لا نجد في هذه البلدة سوى مدرسة ابتدائية يتوافد عليها قلّة من التلاميذ وضريح لوليّ صالح يسمّى سيدي «لخْضِرْ»(4).
هي قرية صغيرة محاطة بالأراضي الفلاحيّة والجبال، أغلب سكّانها فلّاحون يشتغلون بالزراعات الكبرى كزراعة الحبوب وتربية الماشية(5). فقد كانت الحياة بسيطة لم تبتعد كثيرا عن حياة الأمازيغ السكّان الأصليون لهذه المناطق، فهم أهل فلاحة ومرعى(6). ممّا جعل من الموروث الثقافي المرفّه الوحيد لسكّان هذه البلدة كما لا ننسى مساهمة موقعها الاستراتيجي الذي يربطها بالجزائر بشكل كبير في ثراء موروثها الثقافي بما في ذلك تعدد المظاهر الاحتفالية وتنوعها.
المظاهر الاحتفالية والمعتقدات ببلدة «القدح»
لطالما ساهم الموروث الثقافي المتمثّل أساسا في الغناء الشعبي في خلق نقطة وصل بين الماضي والحاضر، فبفضــــل الــــرواة وصــل إلينـــا هـــذا المـــــوروث محــافــــظا علـــى أصـــالـــته وهـــويّته، حـــيث يقول حسن حنفي(7)
في هذا السياق: «التراث كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة». كما حمل إلينا هذا التراث الماضي بعاداته وتقاليده، وكشف لنا بدقة كلّ أشكال التعبير عن الحياة اليومية التي عاشها السكّان بأفراحها ومسرّاتها.
تميّز سكّان هذه البلدة عن بقية المناطق الأخرى بلغتهم المحليّة التي تتشابه في أغلب الأحيان مع المناطق المجاورة كـ«قلعة سنان» و«القلعة الخصبة» وأحيانا «سوق هراس»، ممّا أعطى خصوصية للجانب الثقافي المحليّ «للقدح». وكجانب من جوانب هذه الثقافة نخصّ الرصيد الغنائي البحت الذي يعتمد فقط على المادة الصوتية لما تحمله من دلائل على تميز بلدة «القدح» عن غيرها من المناطق نظرا للغة العاميّة المستعملة في الأغاني، كذلك الطريقة التي نظم بها الشعر والطريقة التي صيغ بها النص الغنائي، كذلك المقامات المستعملة فيها وكل هذا يدرج ضمن ثقافة واحدة خاصة ومتنوعة وهي الثقافة المحلية بجهة «القدح» وبالخصوص الطابع الغنائي فيها. يتميز الغناء في «القدح» بطابع محلّي جدّا فهو رصيد غنائي نسائي بحت، غالبا ما تقضي المرأة كامل حياتها في هذه البلدة لذلك تحاول تحقيق اكتفاءها الذاتي على جميع الجوانب خاصّة الجانب الثقافي (8).
كان سكان هذه البلدة يعلّمون صغارهم وخاصّة المرأة، خدمة الفلاحة حيث كانت تعمل بالزراعة وهي من أبدعها (9)، أمّا الرجل فقد كان يتمتّع بحقّ الدراسة الذي كان ممنوعا على المرأة، وهذا ما دفعها للبحث عن وسيلة تملأ بها وقت فراغها والتي تمثّلت في الغناء الذي رافق قيامها بالأعمال الفلاحيّة وتجوّلها بين الهضاب والسهول لملء الأواني بالماء فصوّرت هذه المشاهد من خلال أبيات الغناء المتتالية. وسنورد في هذا السياق:
وْ زَعْرَهْ إَدَّرْبِتْ لِلْــــــــــــــــــوَادْ يَــا يُمَّا
تِمْلِي فِي القُلَّـــةْ
وْ لْحَقْهَا لَساْمِرْ عَطْشَانْ يَا يُمَّا
رْوَاتُو مِنْ تَحْتْ الخُلَّهْ
ارتبطت أغلب الأغاني التراثية في «القدح» بقصص منها ما هو حقيقي ذو مرجعيّة تاريخيّة ومنها ما هو مبتكر ومتخيل، حيث أن الأغنية سواء كانت عاميّة أو فصيحة هي إمّا أن تنشأ من قصة أو مشهد فتكون من النوع المرسل أو تكون نابعة من تجربة تنتج فكرة ذات صبغة تأملية في شأن من شؤون الحياة. وعن حديثنا عن الأغنية التراثية تأّكد لدينا أنّه لا مهرب من الحديث عن القصة والتي امتدت جذورها في ذاكرة السكّان عبر الزمن وانتقلت عبر الأجيال كما تنهض بوظائف عديدة من أهمّها الكشف عن أسرار حاول سكّان هذه البلدة إيصالها لنا من خلال الأغاني التي تمثّل جملة الأشكال الناتجة عن سلوك سكان بلدة «القدح» وطريقة عيشهم ودرجة تطورهم(10).
ان ما يميز منطقة ما عن غيرها وبدرجة أولى هي تلك العادات والتقاليد التي من شأنها رسم عديد الملامح والخصوصيات الاجتماعية والثقافية لمجموعة ما، وقد كان للمناسبات والمحافل والأعراس دور كبير في رسم مقوّمات ومميزات بلدة «القدح» التي اختلفت بها عن منطقة وتشابهت مع الأخرى . وقد مثّلت «النجمة»(11) إحدى أهم التقاليد التي كانت تقام في «القدح» وهي ظاهرة احتفالية تشاركت فيها مع العديد من المناطق وتعتبر الأهمّ حيث يمارسونها في الأعراس ومناسبات الختان.
1. حدث العرس في «القدح»
من أبرز الاحتفالات التي تقام في «القدح» والكاشفة عن ثقافة غنائية هامّة هي «العرس» الذي يغلب فيه ترديد للأغاني بأصوات مختلفة تمتاز بالقوّة متى كان النشاط خارج البيت ويغلب عليها الترديد والصوت الضعيف متى كان النشاط داخل البيت، حيث أفرز هذا التفاعل بين أنماط الرصيد الغنائي والنشاط اليومي للسكان خصوصية على مستوى الأداء الموسيقي وعلى مستوى استعمال الآلات الموسيقية التي تشكّل إحدى عناصر التراث الموسيقي للمجتمعات الإنسانية والتي لا تنحصر وظيفتها فقط في إنتاج الأصوات بل أيضا في تبادل الخبرات ونشر القيم الفنية والثقافية وإضفاء بعد جمالي على العمل الموسيقي(12). ونخص بالذكر آلة «القصبة» التي يستعملها أهالي المنطقة في احتفالاتهم، حيث كان استعمالها حكرا على الرجال لما تتطلّبه من قوّة جسدية(13)
فتحدّثت عنها النسوة في بعض الأغاني مغازلة للرجل وافتخارا بقوّته بقولها:
يَالاَليِ يَالقَصْبَهْ ضَرْبِــتْ وْضَرَبْهَا وْحَيِّدْ مِسَّرْوِلْ
كِي نْشُوفْ خْيَالُو نِدَّرْوِلْ(14)
كما يستعملون أحيانا بعض آلات الإيقاع مثل «الدربوكة» المحدثة لصوت قوي حتى يلج ويصل إلى كل أرجاء المنطقة إعلانا عن فرحهم.
تمتد تحضيرات العرس ببلدة «القدح» على قرابة أسبوع بأكمله، حيث تقام في كلّ ليلة من ليالي العرس سهرات غنائية يطلق عليها اسم «النِّجْمَة» والتي ترافق ليالي الحنّة وتتمثّل في إشعال القليل من النار ثمّ يلتفّ حولها بعض النسوة ويؤدّين بعض الأذكار مثل «سبِّقْنَاكُم» و«محمّد وعلي» تبرّكا بالله وبرسله، وبعد ذلك نجد «اللٌوحان» أو ما يسمّى «الوطيّة»(15) وأخيرا يوم العرس. كما لا ننسى أهم التقاليد التي تقام في الكاف عامّة وفي بلدة «القدح» خاصّة ألا وهي «فطور الصبّاحية» الذي يتمثّل في إعداد عصيدة بالعسل والزبدة مع إعداد وجبات أخرى لفطور الصباح ثمّ يحمل إلى دار الزوجين التي عادة ما تكون مع عائلة الرجل.
وبالتالي مثّل العرس بكلّ مراحله احتفالا له مقوماته الخاصة أين يتسنّى لكل من الرجل والمرأة الحديث في جميع المواضيع منها أحيانا الإباحية فنجد المرأة تتغزّل بالرجل وتتحدّث عن علاقتها به بكلّ حرّية، وهذا كلّه يمارس تحت ستار العرس وفرحته دون أي خجل أو قيود، ومن ثمّ يذهب كل واحد في سبيله. إذا هو احتفال لا يهتمّ بتبليغ خطاب بصورة مباشرة، ولكن الاعتقاد في حصول الحرية والخروج من القيود هو الذي جعل سكّان هذه البلدة يُقبلون عليه بكل حواسهم مخصّصين له سبعة أيام وليال وهذا ليس اعتباطيا، فالاحتفال يسمح لهم بالخروج من المعتاد، وبدء هذا الاحتفال بكلام الله، وسنة رسوله يعطيه بركة حسب اعتقاداتهم، وبالتالي لا تتمّ بهجة في «القدح» بدون الغناء.
كانت كلّ مراحل العرس تُؤثَّثُ موسيقيا باعتماد هذا الموروث الغنائي وحسب رواية السيد «العيد السالمي»(16)
كانت النساء هنّ اللاتي يغنين في كل هذه المراحل لابسات أجمل ما لديهنّ من حليّ وجواهر، ويقلن وأحيانا يبحن بمشاعرهن واضعات على وجوههنّ وشاحا ممّا لا يسمح لأحد بالتعرّف عليهنّ. وهذا ما يدفعهنّ لإلقاء الأغاني بكل حرية دون خجل أو خوف من أحد(17).
تفيق النسوة في «القدح» على أصوات الحيوانات (صوت الطبيعة) ليقمن بأعمالهنّ اليومية كالعادة ولكي يتجنبنّ هذا التكرار كل يوم كنّ يلجأن للموسيقى كمرفّه لهنّ من خلال ما يقمن به من أعمال متعبة ومملة أحيانا، يمكن أن نورد في هذا السياق بعض الأبيات:
وْ زَعْرَهْ إَدَّرْبِتْ لِلْوَادْ يَا يُمَّا تِمْلِي فِي القُلَّــــةْ
وْ لْحَقْهَا لَسْمِرْ عَطْشَـانْ رْوَاتُو مِنْ تَحْتْ الخُلَّهْ
يحمل المجتمع الريفي في بلدة «القدح» مشاهد وصورا تجسّدت لنا من خلال الأغاني التي وصلتنا، ولولاها لما كان لنا علم بهذا الرصيد الثقافي وما يحمله من أسرار لهذه المنطقة الضيقة. تشبه عادات وتقاليد بلدة «القدح» إلى درجة كبيرة عادات بعض المناطق المجاورة مثل «القلعة الخصبة» و«تاجروين» و«قلعة سنان» كما تتشابه معها في موروثها الغنائي الذي ورد باللهجة العامّية المحلية.
2. السهرة الغنائية التقليدية «النجمة»
ظلّت بعض العادات والتقاليد حاضرة في أفراحنا أهمّها «النجمة» التي رافقت سكّان منطقة بحثنا إلى يومنا هذا وإن طرأت بعض التغييرات على مكوّناتها من جهة وعلى الأنماط الغنائية من جهة أخرى والمتمثّلة في الرقص والإيقاع وذلك بتعلّة إرضاء الذوق العام ومواكبة التحوّلات الثقافية والاجتماعية.
اجتمعت كلّ الروايات المتداولة في «القدح» على أنّ تسمية «النجمة» مستنبطة من النجمة (الكوكب)، اذ يتوافقان في توقيت الظهور أي أثناء الليل فمع حلول الظلام تبرز الكواكب لتنير السماء، وفي المقابل يقوم الأهالي بما يسمّى «التنويرة» التي تفتتح بها «النجمة» طوال ليالي الاحتفال فيشاهد نورها من بعيد كنور النجمة (الكوكب)، ومن ذلك إخبار للآخرين بفرحتهم(18).
لقد أكّدت لنا غزالة سالمي وغيرها من أهالي «القدح» أنّهم توارثوا عادة «النجمة» عن أجدادهم والتي كانت تقام ليلا لمدّة سبعة أيام حيث تكون عبارة عن متنفّس لما يقومون به في النهار من تحضير لمراسم الاحتفال والذي يتعلّق عادة بالمكان واللباس والأكل وكلّ متطلّبات هذه المناسبة(19).
تتعدّد أطر قيام «النجمة» ببلدة «القدح» فنجدها في كلّ المناسبات الاحتفالية ولها خصوصيات ثابتة لا تتغيّر في جميع المناسبات، تتمثّل في الهيكل العام للنجمة فهي تحتوي على ممارسة طقوسية لها غايات ورؤى اجتماعية وكذلك على جانب فنّي احتفالي تعبّر عنه الأغاني النسائية. كما يمكننا التطرّق إلى العنصر الثلاثي المشكّل لعرض «النجمة» المتمثّل في النساء المغنّيات والأغاني والجمهور(20).
1.2. «التّنويرة»
تفتتح سهرة «النجمة» بعادة تسمّى «التنويرة» تعوّد السكّان على ممارستها في احتفالاتهم وتتمثّل في إشعال القليل من الحطب وسط المجموعة الجالسة في شكل دائري والتي اختلفت من منطقة إلى أخرى، وتعتبر غايتها رمزية تتعلّق أساسا بالنار والنور وبالعين والحسد.
2.2. المجموعة الغنائية لسهرة «النجمة»
لطالما لازم الغناء في «القدح» جميع الاحتفالات، ويؤدى في أغلب الأحيان بطريقة جماعية فينقسم المنشدون الذين تمثّلهم المجموعة الصوتية النسائية إلى مجموعتين، تتناول المجموعة الأولى غناء المذهب أو المعاودة والتي يتغيّر دورها من نمط إلى آخر في حين تقوم الثانية بأداء الأبيات. تساعد المجموعة الصوتية النسائية المغنّية على أخذ قسط من الراحة، وهذا ما ساعد من جهة على تواصل هذا الموروث عبر الأجيال ومن جهة أخرى ترسيخ معاني الأغنية في مخيّلة المستمع.
يتكون الجمهور الحاضر في سهرة «النجمة» من كافّة الشرائح الاجتماعية يجلسون في شكل حلقة (دائرة) تتوسّطها مجموعة من النسوة لا تتجاوز الخمس، متقدّمات في السن ذات دراية بالأغاني كلمة ولحنا وتكون لهنّ أصوات قويّة وجميلة لتعلو في الفضاء الشاسع ليتلقّاها كلّ الحاضرين الملتفّين بالمنزل من بعيد أو من قريب(21).
من أهم النساء اللاتي يحفظن هذا الرصيد في «القدح» هنّ كالأتي:
السيدة عيدة بن مبروك
السيدة شامة سالمي
السيدة غزالة سالمي
تحمل كلّ امرأة منهنّ (عيدة بن مبروك، غزالة سالمي، شامة سالمي) في ذاكرتها رصيدا لا بأس به من الأغاني التي يهدّدها النسيان، هذا التراث الذي ورّث للأجيال اللاحقة مدين إلى السكّان الأصليين وخاصّة النساء اللاتي كثيرا ما قُلِّلَ من شأنهن وهمش دورهن في بناء تاريخ منطقتهن وأطبق الصمت حول مساهماتهن الحضارية.
غالبا ما يمارس الغناء النسائي في «القدح» في الأفراح والمناسبات على سبيل المثال «هزّي عيونك» تغنى وراء المحفل عند الذهاب للعروسة وأثناء القيام بالأعمال اليوميّة. تأثر النسوة في «القدح» بـالمغنّيـــة «حـــدّة الـخــنــشة»(22)خـــلال بــدايـــة القـــرن 20 (1930-1990) فـحفــظـوا الكثــير من أغانيها ومــارسوها في أفراحهم وفي حياتهم اليوميّة، فقد حاكت مشاكلهم وأحاسيسهم ومثّلت بالنسبة لهم الثورة والهروب من القيود الاجتماعية إلى الحريّة والفن، فكانت كل واحدة من سكّان «القدح» ترى نفسها في هذه الفنانة التي تجاوزت جميع الحدود لتصبح المتنفس الوحيـد لمعاناتهم.
3.2 أغراض الأغاني المؤداة في سهرة «النجمة»
تتشارك بلدة «القدح» ثقافيا مع بقية المناطق المجاورة (قلعة سنان، قلعة الخصبة، تاجروين...) فهي جزء لا يتجزأ من نظام كامل يحمل نفس العــــادات والتقــالـــيد ونفـــس المـــوروث الغنـــائي تـقــريـــــبا، لـــذلك نجـــدهــــــا تتـــقـــاســـم مـــع هــــذه المنــــاطــــق نـــفـــس الأنمــــاط الغنائية التـــي وردت في أغــــراض عـــديـــدة منـــها الغـــزل والـــرثاء ومـــدح الرســـول ووصــف المـــرأة وصف الطبيعة.
كانت أغاني النسوة باختلاف أغراضها (عاطفية، دينية) تقدّم بشكل واضح صورة لمجتمع «القدح»، فهنّ يغنين أغاني الحرب التي تتحدّث عن الرجال الذين كانوا يحاربون المستعمر مثل أحمد المهدي الذي عرف في هذه المناطق وخاصّة بمنطقة «قلعة سنان» كمناضل عرف بشجاعته وقوته(23)، وأغاني الغزل التي تخاطب فيها المرأة غريزة الرجل حيث تحدّثه عن حبّها له من خلال الغناء بتصاريف الوجه المبتسم وضمّ اليدين إلى الصدر وكذلك الكشف عن أجزاء من جسدها بقولها:
هَا زَعْرَهْ مَسْقُولْةْ(24) النَابْ
رَاهُوا دَاكْ مْعَذِّبْنِيَا
هِزِّي الخَمْرِي عْلَى السَّاقْ
خَلِّي الوَشْمَة تقَابلْنِيَا
وأغاني الفخر حيث تتفاخر المرأة بحبيبها الذي لا مثيل له بقولها:
نْهَارْ شْهِيلِي عَنْدِكْ لاَ تْعَطِّشْ خَالِي
فَمَّاشْ غْزَالْ ضِدْ غْزَالــــــــــــــــــــــيِ
كما نجد أغاني الرثاء على سبيل المثال :
خْيَالِكْ مَفْقَُودْ هَا زَعْرَهْ
وْأَنْدَادِكْ فِي العِرِسْ قْعُودْ يَا زَعْرَهْ
وبالله مْوَالِي الجبَاَّنَةْ جَاتْكُمْشِي زَعْرَهْ غُضْبَانَةْ وْ البَارِحْ
ويتــــمّ التركيــز بالأســـاس عــلــى المغنّيـة الــتي تــؤدي أغنيتها وسط المناظر الطبيعيّة (في حديثها عن الجبال) أو في أحد الأعراس. فقد اقتصر دورها في القرن 20 على إنجاب الأطفال والقيام بأعمال المنزل والأعمال الفلاحيّة(25)، تتداخل وتتواتر الأغراض لتعبّر المرأة عن واقع غالبا ما يكون مسكوتا عنه فتتخفّى وراء وصف الجبال والفرسان والنجع لتفصح عنه.
وبالتالي تتعدد الأغراض فنجد الأغاني الغزلية والأغــــانـــي التـــاريــخـــية والأغـــانــي الــديــنـية، فـحـاولنا تصنيفها كالتالي:
غزل:
زعرة مسقولة الناب
هزي عيونك
يوما براسك
ها لالي يا القصبة
فنار القلعة
اليوم والفارس
وحشك مع الأريام
لَيّعْتْ كنِينِي هَا عِيشَة
دين:
لا إله إلاالله(25)
لا إله إلا الله(26)
سبقناكم
يا سيدي يحيى
يا سيدي راشد
تأبين ورثاء:
خيالك مفقود ها زعره
ردّي عليّ يا لسمر
دبّب ها شايب دبب
دمعة عيني
لالا البيضة والسمرا
4.2 أنماط الغناء في سهرة «النجمة»
ساهمت طبيعة الحياة في بلدة «القدح» في تنوّع وتعدّد الأنماط الغنائية، فلكلّ مناسبة أغانيها الخاصّة حيث تتغير الأغنية كلّما تغيّر الغرض، فنجد أغاني الختان وأغاني الحصاد وأغاني الحج وأغاني النجمة.
تعتمد الأغاني المؤداة في «النجمة» عادة على الإنشاد الديني مثال على ذلك «سبّقناكم»، حيث تحتل هذه الأغنية مكانة خاصّة في «القدح» سواء في ترتيبها أو في طريقة أدائها فهي تخضع إلى تقسيم بين الشدّادة(26) والجرّادة(27). كان أداء هذا النمط من الأغاني خاصّا نوعا ما حيث تؤدي النسوة الأغاني وهنّ واقفات وتكون أربع نساء متقابلات الواحدة أمام الأخرى ومن ثمّ يتمّ الأداء ثنائيا من البداية إلى النهاية، وعادة ما تقف بجانبهنّ امرأة خامسة ذات دراية بالأغاني حيث تذكّرهنّ بأجزاء الأغنية إذا تمّ نسيانها(28). في حين يكون الغناء بأصوات مرتفعة نظرا للإطار الذي تؤدى فيه هذه الأغاني فهو مكان شاسع وتختلف فيه مواقع الحضور من نساء ورجال فلا بد أن يصل الصوت إلى كل الأطراف.
يوجّه هذا النمط من الأغاني إلى جميع شرائح أهالي البلدة حيـث يخاطـب فيــهم العــقــل والــروح والذاكرة الفنـــية. وهــو يقـــوم بنـــقل المشــهــد الفــنّي على حاله فهذا الرصيد يعتمد على ثقافة الأذن والاســتـــمــاع والتــذوق والتــفــكــير في مــعـانـــي الـكــلــمـات والجانـــب الجــمــالي للــحــن(29).
كما نجد أنماط أخرى منها «الملالية» والشطّاحي» و«الموقــــف» ســاهـــمت كلّـــها في خــلــق صــورة متـكــامـــلة لــطـبــيــعة الاحـتــفالات في «الـــقــدح»، والـــتي اختــلــفــت أغراضــها سواء كان بين أغان من نمط واحد أو بين أغــان مـن أنمــاط مختـلفة.
3 حدث الختان ببلدة «القدح»
يحتفل أهالي «القدح» كغيرهم من المناطق المجاورة بمناسبة «الطهور» فتقام احتفالات ومأدبة لمدّة ثلاث أيام، تغنّى له الأغاني مثل «طهّر هالمطهّر»(30)، وإنشاد البعض من الأغاني الدينية مثل «محمد وعلي» وهذا خلال سهرة «النجمة» تبرّكا بذكر الله ورسوله. يعتبر الختان من أهم المظاهر الاحتفالية في بلدة «القدح» وهذا نظرا لاعتقاد السائد آنذاك بين السكّان في إنجابهم للولد والذي يكون مفضّلا عن البنت فيحتفلون به عند الولادة وعند الختان، فالرجل يمثّل مصدرا للقوّة والفخر.
تظلّ النجمة حاضرة في احتفالات «الختان» في هذه البلدة لمدّة ثلاثة أيام حيث تقوم أمّ الطفل المطهّر بالغناء وترافقها بعض النسوة اللاتي يحفظن بعض الأغاني وان كانت لا تجيد الغناء فتأخذ عنها امرأة أخرى وتقوم هي بالزغردة.
4 حدث «الزردة» ببلدة «القدح»
تعتبر «الزردة» من أهم المظاهر الاحتفالية في «القدح» وغيرها من المناطق المجاورة، حيث يحتفل السكّان بالولي الصالح «سيدي لَخْضر» وتقام له الاحتفالات مرّة في السنة مع حضور كبير لمتساكني البلدة وحضور الفرسان أيضا، وكل هذا قصد التبرّك به مع إنشاد بعض الأبيات التي تضم اسم الله والرسول والولي الصالح فيتمّ تمجيده والشكوى له بحالتهم النفسية التي يعتريها البؤس والخوف إيمانا منهم بقدرته على شفائهم(31). وبالتالي مثّلت «الزردة» مناسبة خاصّة نظرا لأنها تشمل النواحي الروحية والقيم الأخلاقية والمعايير الجمالية والفنون أي النواحي اللامحسوسة واللاملموسة(32).
يقوم أهالي المنطقة بزيارة عادية للولي الصالح «سيدي لخضر» في مناسبات عديدة كالأعياد الدينية كعيد الفطر وعيد الأضحى، فيقرؤون «سورة الفاتحة» ترحّما على روحه وتبرّكا به قبل زيارة بقية المقابر نظرا لتمركز ضريح الولي في المقبرة التي يدفن فيها أهالي المتساكنين(33).
ما لفت انتباهنا أنّ أهالي البلدة يقومون بهذا الاحتفال لأكثر من ولي والدليل على ذلك تغنّيهم بأولياء آخرين في قول المغنّية:
يَا سِيدِي رَاشِدْ هَاللُّمِيمَهْ
وْرَاسِكْ حْجَارِكْ باللَمَّة
ياللُّمِيمَهْ مَامَّا قَالُوا بِاللَّمَة
بقيت بلدة «القدح» إلى وقت غير بعيد، بعيدة عن كلّ أسباب التمدّن وهذا ما وطّد نوعا ما علاقتها بالظواهر الثقافية وخصوصا الزوايا والطرق الصوفية فإثر حديثنا مع أحد متساكني البلدة «العيد السالمي»(34)حول الأولياء الصالحين كان يردّد كلمة في كلّ مرّة يتحدّث فيها عن الأولياء وهي «شَيِلّاه وشيلاّيلِاَّهْ» وهي اقتضاب لكلمة «شيء لالله وشيء لوليّ الله» وهذا لاعتقادهم أنّ ما يحصل لهم في الدنيا فالقليل منه يعود إلى الله والقليل الآخر للوليّ الصالح، كل هذا يندرج ضمن ثقافتهم المحلية التي لازالت قائمة إلى الآن.
ساهمت المعطيات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية وخاصّة الثقافية في نحت الصورة العامّة لمجتمع «القدح» كمجتمع محافظ له عادات وتقاليد تتشابه مع المناطق المجاورة، حيث لعبت الشفاهيّة دورا هامّا في نقل هذا الرصيد الغنائي الذي حاولت المرأة من خلال مجموعة الأغاني التي تعدّدت أغراضها وتنوّعت أنماطها الدفاع عن أهمية وجودها كعنصر فاعل في هذا المجتمع.
تعدّدت الظواهر الاحتفالية في بلدة «القدح» فراوحت بين المقدّس (الزردة) والدنيوي (العرس) حيث برزت المرأة كمشارك أوّل في هذه الاحتفالات فاختلفت طرق أدائها للأغاني من نمط إلى آخر ومن غرض إلى آخر ممّا أضفى خصوصية على الرصيد الغنائي بهذه البلدة.
الهوامش
1 التعداد العام للسكان و السكنى لسنة 2004، السكان والأسر والمساكن حسب الوحدات الإدارية، العدد الثاني، المعهد الوطني للإحصاء، سبتمبر، 2005، ص، 125.
2 المرجع السابق، ص 712.
3 التعداد العام للسكان و السكنى لسنة 2004، السّكان والأسر والمساكن حسب الوحدات الإدارية، العدد الثاني، المعهد الوطني للإحصاء، سبتمبر، 2005، ص. 134.
4 لقاء مع أيوب مبروك أحد سكان بلدة " القدح" بتاريخ 15/02/2012 ( حارس المدرسة( .
5 فارح، سميحة، التحوّلات الثقافية الاجتماعية لسكّان القلعة المحضّنة "مائدة يوغرطة" دراسة اثنوموسيقية، تونس، المعهد العالي للموسيقى، 2007، ص.31.
6 جوليان، أندريه، شارل، إفرقيا الشمالية تسير القوميات الإسلامية والسيادة الفرنسية، الطبعة الثالثة، تونس، 1976، ص.22.
7 حنفي، حسن، التراث والتجديد، الطبعة الثانية، تونس، الدار التونسية للنشر، 1992، ص11.
8 بن حمّودة، (ريم)، الأغنية العربية النسائية بين "الإبداع والتهجين"، شهادة الماجستير في العلوم الثقافية، جوان، 2008.
9 حنفي، حسن، التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة 4، 1992، ص.10، 11.
10 وصفي، عاطف، الانتروبولوجيا الثقافية، بيروت، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 197، ص.26.
11 انظر تعريف "النجمة" ص 22.
12 Alexander (Buchner), les instruments de musique à travers les âges, traduit en français par konstantin JELINEK, Grund, Paris, 1972, p. 7.
13 حوار مع السيد منجي مبروك بالقدح بتاريخ 15/02/2012
14 يدَّرْوِلْ : يترهوج غناء السيدة غزالة سالمي.
15 سهرة "الوطية": في العصر الحالي يسمّى اللوحان بالوطيّة حيث يأتي أهل العروس لمنزل العروسة بعد ليالي الحنّة الثلاث ومعهم لباس جديد للعروسة يسمّى "الكسوة" كتعبير عن فرحهم بها واعتبارها فردا جديدا من العائلة وهي عادة موجودة في العديد من المناطق التونسية ومازالت تمارس إلى الآن.
16 حوار مع السيد العيد السالمي أحد سكّان بلدة القدح.
17 حوار مع السيدة عيدة مبروك بالقدح بتاريخ 2012.02.10.
18 حوار مع السيدة "غزالة سالمي" بتاريخ 23/03/2012.
19 نفس الحوار مع السيدة غزالة سالمي.
20 حوار مع السيدة شامة سالمي بتاريخ 03/07/2012.
21 الرايس، الحبيب، النظريات الموسيقية الموسّعة، تونس، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، ط. 1، 1996 ، ص. 125.
22 حدة الخنشة فنانة عاشت ما بين (1920-1992 ) و قد عرفت بغناء نمط معين من الأغاني التي وجدناها في رصيدنا المجمّع.
23 حوار مع السيد محرز البوغانمي.
24 مسقولة الناب : تكون مسقولة الأسنان و بالتحديد الناب
25 أبوسنّة، منى، نقد عقل المرأة، دار اقباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص.9.
26 الشدّادة : هنّ النساء الاتي يلتزمن بأداء المذهب
27 الجرّادة : هنّ النساء المؤديات للمقاطع الطويلة من الاغنية والتي تتطلّب امكانيات صوتية هائلة مع اضافة الآهات الخاصّة بالأغنية وتمديد الأحرف
28 خواجة، أحمد، الذاكرة الجماعية والتحوّلات الاجتماعية من مرآة الاغنية الشعبية، أليف منشورات البحر الأبيض المتوسط، الطبعة الأولى، ص. 161.
29 مراني ( ناجية)، صوت المرأة في الغناء الشعبي: أحاسيسها ومواقفها التراث الشعبي، العدد الفصلي 4، السنة 19، وزارة الثقافة والأعلام- دار شؤون الثقافية العامّة، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1986، ص 20.
30 جلالي، نوال، أغاني الطفولة في تراث مدينة الكاف، رسالة الأستاذية في الموسيقى والعلوم الموسيقية، المعهد العالي للموسيقى، الكاف، جوان،2009.
31 لقاء مع السيدة عيدة مبروك (9/ 10/ 1921) أصيلة بلدة "القدح" من عرش أولاد بلقاسم
32 عيد، منصور، كلمات من الحضارة، ط. 1، بيروت، دار الجيل، 1995، ص. 103.
33 حوار مع السيدة عيدة مبروك..
34 حوار مع العيد السالمي بتاريخ 26/02/2012.
الصور
1 من الكاتبة.
2، 3، 4 تصوير شخصي للكاتبة.