السمك ورمزيته في جزيرة تاروت
العدد 37 - عادات وتقاليد
ظل أهالي جزيرة تاروت(1) ولا زالوا مكانا للتندر والسخرية نظير قيامهم بإعلان الخطوبة من خلال توزيع السمك على الأهل والجيران والأقرباء.
ولعل البعض في جزيرة تاروت لا يزال متمسكا بهذه العادة التي أخذت في الاضمحلال منذ النصف الثاني من التسعينيات الميلادية في القرن المنصرم.
وكان الأهالي في جزيرة تاروت عندما يقوم أحدهم بالتقدم لطلب يد إحدى الفتيات ويتم الرد عليه بالإيجاب والقبول تتوجه عائلته للاجتماع بعائلة الفتاة من أجل القيام بما يعرف بـ(قص المهر) أي التفاهم على المهر وشروط الزواج.
وبعد أن تتم عملية (قص المهر) والاتفاق على كل شيء يتم تحديد يوم (تسليم المهر) وما يرتبط به من أمور، وبعد ذلك تسأل عائلة الرجل المتقدم بطلب الزواج عائلة الفتاة المخطوبة كم (من)(2) من السمك يرغبون في إحضاره، وكذلك النوع الذي يرغبونه لتوزيعه على الأهل والجيران والأقرباء(3)، وهو أمر يسبق تسليم المهر، ويعتبر بمثابة إعلان لخطوبة الفتاة، حيث تعمد عائلة الفتاة بوضع 3 - 7 سمكات في صحن حسب علاقة العائلة المقدم لها السمك من الفتاة وكذلك حسب عدد أفراد العائلة المقدم لها السمك، إذ يتم توزيع السمك على أكبر قدر ممكن من الأهل والجيران والأقرباء، الذين يسألون بدورهم عمن تمت خطبتها، فهذه الطريقة تؤكد حدوث خطوبة فتاة من الجيران أو من العائلة أو من الأقرباء.
هذه العادة توارثتها الأجيال في جزيرة تاروت، التي ظلت لأكثر من سبعة آلاف عام مأهولة بالسكان، تتعاقب عليها الدول والحضارات الإنسانية المختلفة، بدءا من فجر السلالات الأولى لبلاد ما بين النهرين فيما يعرف بالعبيد، ومرورا بعصور أخرى وصولا للعصر الحاضر، وهذا ما يؤكده الباحث الأثري جيفري بيبي في كتابه الموسوم بـ(البحث عن دلمون) عندما يقول: (لقد أمضنا العذاب في معرفتنا بأن هناك موقعا، وموقعا واحداً فقط يمكن أن تقع القرون المفقودة من التاريخ من خلاله، وذلك هو تل تاروت، حيث تقع آنية العبيد بأسفلها وآنية باربار بطبقاتها العليا، ولا بد أن تقع فيها قصة كيفية تطور إحداها إلى الأخرى، ولا تزال تاروت موقعا يستحيل إتمام الحفر فيه كما كان دائما)(4).
وكانت جزيرة تاروت طوال تاريخها مطمعا لكثير من القادة والغزاة، نظرا لما تتميز به من مقومات الاستقرار والتوطن نتيجة توفر المياه وخصوبة التربة، إضافة لكونها موقعا استراتيجيا نظير وقوعها على خط التجارة المائية في الخليج، وكذلك لوجود المرافئ والمراسي الطبيعية، والتي ساهمت بدورها في نشاطات متنوعة في الجزيرة بين التجارة والزراعة وصيد الأسماك(5)، وهذا أيضا ما جعلها منطقة هجرة متبادلة لمختلف المناطق المحيطة بها من البصرة شمالا حتى عمان جنوبا ومن نجد غربا حتى لنجه والأهواز والمحمرة وضواحيها شرقا.
ولا تزال في جزيرة تاروت عوائل تتسمى بأسماء الأماكن التي نزحت منها كالبصري والصفوان والكويتي والبحــراني وأوال والدرازي والسماهيجي والحساوي والقطري ومشيرب والعماني، وغيرها من أسماء، سواء كانت أسماء قبائل أو أمكنة، طمستها المهن التي صعدت فوق اسم القبيلة واسم المكان الذي تنحدر منه العائلة، ولهذا نجد اسماء بعض العوائل مثل الخباز والقلاف والمهندر والحداد والمحسن والصفار والكواي والدهان والصيرفي والمعلم، منتشرة في جزرة تاروت شأنها في ذلك شأن أي منطقة متحضرة في العالم.
وقد شهدت جزيرة تاروت تأثيرات خارجية كثيرة على مر العصور بسبب الارتباط التجاري النشط بين منطقة الخليج العربي ككل وبلاد الشام خلال فترة الهكسوس(6)، ولم تكن بمنأى كذلك عن مختلف التأثيرات الحضارية منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، سواء على المستوى الديني أو الفكري أو على المستوى الثقافي العام.
ولعل رمزية السمك في جزيرة تاروت سواء في إعلانه للزواج بشكله الطازج الطري أو في غيره من المظاهر الاجتماعية فقد جاءت كلها نتيجة تأثر المنطقة ككل بالحضارات القديمة التي مرت عليها، ولا شك أن غالبية تلك الحضارات كانت فيها للسمكة مكانتها الرمزية الخاصة.
حيث أنه من المعلوم بأن للسمكة في مختلف الحضارات القديمة شأنا خاصا ورمزية خاصة، ولا شك أن أهالي جزيرة تاروت تأثروا بالحضارات المجاورة لهم في أرض الرافدين وفارس وبلاد السند وجنوب الجزيرة العربية.
وإذا كان السمك الطازج الطري يقدم في جزيرة تاروت كإعلان لخطوبة فتاة فإنه أيضا يقدم للضيوف في الليلة التي تسبق الزفاف، سواء مشويا أو مقليا مع الرز الأبيض المشخول أو مع الرز المطبوخ بعسل النخل المعروف محليا بطبق البرنجوش أو المحمر الذي يتم عمله خصيصا في الليلة التي تسبق ليلة الزفاف أو ما يعرف بليلة الغسالة، وهي الليلة التي يغتسل فيها العروسان ويقومان فيها بنزع الشعر غير المرغوب فيه(7).
وقد اعتاد الناس في جزيرة تاروت على أكل السمك بشكل عام طريا سواء بالشواء أو بالقلي أو حتى بالسلق سواء بصلصة الطماطم فيكون ما يعرف بـ(صالونة السمك) أو بسلق السمك مع البصل والليمون المجفف وشيء من قشر الرمان المعروف بـ(الكرورو) في الطبق المعروف بـ(السمك المطبوخ)، كما يتم أيضا طهيه بطرق أخرى مختلفة.
وتعد عادة أكل السمك وكذلك الربيان بعد تجفيفه بالملح في جزيرة تاروت من العادات المتوارثة، حيث يتم أكـــــل الســـمــك المــجــفــف بـــذاتـــه خشنا أو يـتــم نقـــعه في المـــــاء وأكـــلـــه بعــد ذلــك أو سلقه مـــع البـصل وأكــلـه بـــرفـقة الحشائش الخضراء كالفجل والقثتاء، وهي طريق متـــــدولـــــة في جزيرة تـــــــاروت وفي بعض دول الخليج، حيث تتــــم عمـــلــيـــة تـجــفــيــف الــســمــك والــربيـــان في مــخــتــلــف البــيـــوت، لـــلاســتــفـــادة مــنــه في أيـــام الـشــتــاء الـــقـــارس بــالخصوص.
وتعتبر عادة تجفيف السمك من العادات القديمة، وكانت شائعة بشكل واسع عند السومريين الذين كان لهم تأثير كبير على مختلف الحواضر التي تعيش بالقرب منهم والذين كانوا يرتبطون معهم بصلات تجارية(8).
وإذا كان الناس في جزيرة تاروت يقومون بتوزيع السمك الطازج كإعلان للخطوبة فإنهم لا يزالون يقومون بتوزيع السمك المجفف ضمن طقس خاص في تأبين السيدة العذراء عليها السلام في ذكرى يوم وفاتها(9).
ومن هنا يتأكد لنا أن للسمك رمزية خاصة غير محدودة في جزيرة تاروت فيما يتعلق ببناء بيت الزوجية حيث يسبق تقديمه طازجا قبل عقد القران ليؤكد على وجود تمخضات لبداية علاقة زوجية جديدة وبناء بيت جديد، بما يؤشر على حياة جديدة قادمة، كما يسبق تقديمه مشويا مع الرز المطبوخ بعسل النخل قبل ليلة الزفاف ليؤكد أيضا على إتمام تلك العلاقة، وإنها وصلت لمرحلتها النهائية، فيما يؤكد في طريقة أخرى على أنه إشارة للموت ونهاية الحياة عندما يقدم بشكل مجفف في يوم ذكرى وفاة السيدة مريم بنت عمران عليها السلام.
ومما يدلل على رمزية السمك في جزيرة تاروت ما وجده المنقبون الأثريون في جزيرة دارين(10) أثناء التنقيب في بيت العواد عام 2010م حيث وجدوا أربع قطع أثرية تمثل جرة من الفخار مرسوم عليها أربع سمكات، وقد أرجع الباحثون الأثريون تلك الجرة للقرن السادس أو السابع الميلادي مرجحين أنها تعود للفترة الإسلامية المبكرة(11).
فإذا علمنا بأن لا رمزية أو خصوصية للسمك عند المسلمين، مقابل رمزيته في الديانات القديمة الأخرى التي جعلت للسمك رمزية خاصة، فهذا يقودنا للبحث في رمزية تلك السمكات الأربع على إناء خزفي، ويقودنا كذلك للبحث أكثر في الآنية الأخرى التي وجدت في تاروت، وكان عليها رسومات للسمكة ودراستها والوقوف عـــلــى رمــزيتـــها، كــمـا يقودنا أيضا للبحث بشكل أوسع في مختلف الأماكن الأثرية التي لم يتم نبشها في جزيرة تاروت للوقوف على المزيد من القطع ودراستها بشكل أوسع.
خصوصا وأن جزيرة تاروت وبشكل واضح قد تأثرت بالعديد من الحضارات وكذلك بالديانات التي مرت عليها أو جاورتها، وكانت السمكة في غالبها إن لم تكن كلها تمثل رمزا هاما من رموزها.
فنحن نجد أن السمكة عند الشعوب السامية كانت تمثل رمزا للخصب والحكمة والحياة والسعادة، وعند الشعوب الهندية كانت تمثل المخلص لآدم(12) عليه السلام، فيما كانت عند الآشوريين الإله المخلص من الشر(13)، وقد نظر لها الفرس على أنها آلهة تعيش في عالم لا يستطيع البشر العيش فيه(14).
وإذا درسنا الحضارات التي تعاقبت على جزيرة تاروت، والتي عاصرت فترة وجودها فإننا سنجد أنها ضمن تلك الحضارات.
وبالعودة لما ترمز له السمكة فإننا نجدها أيضا في الديانة اليهودية ترمز للقيامة والماء الحي، وقد ارتبطت بلقاء النبي موسى بالخضر عليهما السلام، وهي قصة ذكرها القرآن الكريم(15). كما ذكر القرآن أيضا السمكة الحوت في خبر النبي يونس عليه السلام(16).
وفي المسيحية نجد أن السمكة رمزت للمسيح ذاته عليه السلام(17)، وإلى المؤمن المسيحي وكذلك إلى المنتصرين والمعمدين الجدد، وتعد إلى جانب الخبز من أهم المعجزات للسيد المسيح عليه السلام(18).
وكان السمك في الأدبيات العراقية القديمة يظهر في نصوص تتحدث عن الحكماء السبعة وهي الأبكالو أو الكائنات الأسطورية المركبة من الإنسان والسمكة، التي كانت موجودة في المياه العميقة قبل الطوفان وقد ظهرت لتعليم البشر المعرفة(19)، وقد رمز السمك ككائن أسطوري مركب من السمكة والجدي في الحضارة البابلية للإله (أيا/أنكي) المسؤول عن حماية البشر من الطوفان(20).
كما تظهر السمكة في الأدبيات العراقية أيضا ضمن التعاويذ والرقي وتدخل ضمن الإكسسوارات الخاصة بتراتيل طرد الأرواح الشريرة(21).
ومن خلال هذا نجد أن للسمكة رمزية اسطورية في مختلف الديانات، وبالعودة للشعوب التي ارتبطت بها المنطقة بصلات قديمة، نجد أن السمكة قد شكلت لدى السومريين قربانا خاصا لإحياء ذكرى الموتى، ولعل هذا يشابه إلى حد كبير ما يقوم به أهالي جزيرة تاروت عندما يوزعون السمك المجفف في ذكرى وفاة السيدة العذراء عليها السلام، ضمن مائدة تحتوى الخبز والبلح والهندباء والسمك المجفف.
وهذا يقودنا إلى ثلاث حالات للسمك ورمزيته في جزيرة تاروت فقد وجدناه في حالات ثلاث:
الحالة الأولى: يقدم طازجا وطريا لينبئ عن تمخض علاقة زوجية جديدة.
الحالة الثانية: وهي حالة ترتبط بالحالة الأولى عندما يقدم للضيوف مشويا أو مقليا مع الرز الأبيض المشخول أو الرز المطبوخ بعسل التمر، ليؤكد على كمالية التمخضات التي بدأت مسبقا بين علاقة الذكر بالأنثى وبداية تدشين بيت الزوجية.
الحالة الثالثة: تقديمه مجففا ضمن طقس جنائزي خاص في ذكرى الموتى احتفاء بذكرى وفاة السيدة مريم بنت عمران عليها السلام.
الهوامش
1 جزيرة تقع شرق المملكة العربية السعودية، وتعد ثاني أكبر جزيرة بعد البحرين في الخليج العربي، ويرتبط تاريخها بتاريخ ما يعرف بإقليم البحرين وجدت فيها آثار تعود لأكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد.
2 (من) السمك يساوي 16 كيلوجرام من السمك الصغير الذي لا يتعدى طوله طول الكف أو أطول قليلا، من سمك الصافي والقرقفان غالبا.
3 وفي الغالب لا يتم تحديد سمك بعينه خصوصا إذا كانت كميات كبيرة.
4 جيفري بيبي: البحث عن دلمون: ترجمة أحمد عبيدلي: دلمون للنشر نيقوسيا قبرص 1405/1985م ص 476
5 علي المغنم: مجلة كندة: الجمعية السعودية للدراسات الأثرية: العدد الأول عام 1414هـ ص 11،12
6 علي المغنم: مجلة كندة: مصدر سابق ص
7 الخوري ناصر الجميل: الرموز المسيحية: ط 3 بيروت 2011م ص 162
8 جواد مطر الموسوى: السمكة في الميثولوجيا العراقية القديمة: مقالة موجودة على الرابط التالي:
9 هذا الطقس تقوم بها النساء على وجه الخصوص في 25 صفر من كل عام في جزيرة تاروت وفي القطيف وكذلك في البحرين.
10 جزيرة دارين تعد من المستوطنات البشرية القديمة وبها ميناء قديم ترد إليه بضائع المسك والعطور والسيوف والمنسوجات والتوابل من الهند والبخور والمسك والأحجار الكريمة والعاج والخشب الفاخر والمنسوجات الحريرية من الصين واللبان والمر والعاج من الساحل الشرقي الأفريقي وهي جزيرة صغيرة ملاصقة لجزيرة تاروت ذكرها جملة من الشعراء أبرزهم الأعشى فقال: يمرون بالدهنا خفافا عيابهم، ويرجعن من دارين بجر الحقائب.
11 لم ينتهي الفريق البحثي من الحفرية حتى الآن، كما لم يتم إصدار تقرير نهائي عنها.
12 جفري بارند: المعتقدات الدينية لدى الشعوب: ترجمة إمام عبد الفتاح إمام: عالم المعرفة الكويت 1993 ص 142
13 عامر حنا فتوحي: الكلدانيون/ الكلدان منذ بدء الزمان: نسخة إليكترونية ص 164، 197، 283
14 الخوري ناصر الجميل: الرموز المسيحية: مصدر سابق ص 162
15 قرآن كريم: سورة الكهف آية 63
16 قرآن كريم: سورة الصافات 142
17 الخوري ناصر الجميل: الرموز المسيحية: مصدر سابق ص 162
18 الخوري ناصر الجميل: الرموز المسيحية: مصدر سابق ص 163
19 عمار طارق توفيق: التوظيف الحيواني في حضارتي بلاد الرافدين ومصر القديمة: مجلة كلية الأداب بجامعة بغداد: العدد 97 ص 163
20 عامر حنا فتوحي: الكلدانيون/ الكلدان منذ بدء الزمان: نسخة إليكترونية ص 253، 206، 258
21 عمار طارق نوفيق: التوظيف الحيواني في حضارتي بلاد الرافدين ومصر القديمة: مصدر سابق ص 163
الصور
https://www.google.com.bh/url?sa=i&rct=j&q=&esrc=s&source=images&cd=&cad=rja&uact=8&ved=0ahUKEwjgo_WEg93RAhVE0xoKHfBwAtAQjBwIBA&url=https%3A%2F%2Ffarm9.staticflickr.com%2F8214%2F8316177698_89cd260080_o_d.jpg&bvm=bv.145063293,d.d24&psig=AFQjCNGOsygu_QjfQlvrIvytw8DUKxMiCQ&ust=1485424315121648