التجربة والطب الشعبي لدى ابن الجزّار
العدد 37 - عادات وتقاليد
اخترنا في هذا البحث تسليط الضوء على طبيب مسلم عاش في القيروان خلال القرن الرابع للهجرة هو ابن الجزار، وقد اعتبر هذا الطبيب طبيب عامة الناس رافضا أن يكون طبيب السلطان، وانحاز إلى الفقراء فألّف كتاب “طبّ الفقراء” ونهل في تجاربه الطبية من الثقافة الشعبية في عصره مخالفا بذلك فريقا من الأطباء اعتمد على النظريات والفلسفة.
بناء على هذا كانت البيئة القيروانية مصدرا أساسيا لتجارب ابن الجزار الطبية منها ينطلق وعليها يعتمد، ففيها موروث شعبي طبي استفاد منه أيّما استفادة ممّا جعل تجاربه تمتاز بالتنوع والأصالة، وهذا ما شجّعنا على محاولة سبر أغوار التجربة عند هذا الطبيب القيرواني .
وتعدّ التجربة ركيزة أساسيّة من ركائز الممارسة الطبية لدى الطبيب القيرواني ابن الجزّار لذلك رمنا تحليل بعض العناصر التي قامت عليها تجاربه الطبيّة فتوقفنا في البداية عند المصادر الملهمة له وانتهينا في هذا السياق إلى أنّ مصادره ثلاثة هي الطب اليوناني والطب القيرواني وتجربته الشخصية. وأوضحنا إثر هذا مراحل التجربة عند ابن الجزّار. وحاولنا بعد ذلك استخلاص أهمّ خصائص التجربة عنده ومنها التنوّع والتكرار والأصالة. وختمنا هذا البحث بالإشارة إلى أنّ ابن الجزّار نأى بنفسه عن المنهج الفلسفي النظري الخالص الذي كان يغلب على الأطباء اليونانيين مركّزا على التجارب والتطبيقات. واستطاع بذلك أنّ يتجاوز مرحلة الاقتباس والأخذ عن أسلافه من الأطبّاء العجم والعرب وأن يضيف إضافة حقيقية إلى علمي الطب والصيدلة.
لقد تميز ابن الجزار بصفات خلقية فاضلة، وقد أخذ لنفسه مأخذا عجيبا في سمته، فلم يحفظ عنه بالقيروان زلة قط(1)، ولم يتعاط مهنة الطب ترزقا بل إنه فتح باب داره لمعالجة المرضى، يقول ياقوت الحموي: «كان له معروف كثير وأدوية يفرقها على الفقراء ويوزعها على المعوزين بدون مقابل احتسابا لله»(2).
ومن صفاته علو الهمة وشرف النفس لذلك كان يختار الابتعاد عن أصحاب النفوذ والسلطة حتى روي عنه أنه «لا يركب قط إلى أحد رجال إفريقية» ولا يتقرب إلى سلطانهم لذلك لمّا عالج ابن القاضي النعمان رفض ما أرسل إليه القاضي من كسوة ومال، فلمّا قيل له في ذلك قال: «والله كان لرجال معد قبلي نعمة»(3).
ولمّا كان ابن الجزار ابن بيئته وثقافته الشعبية ابتعد عن أخلاق التكبر والغرور واختار الأمانة والتواضع ديدنا له لذلك صرّح أنه ليس سوى جامع لعيون ما ذكره أفاضل الأطباء من مكنون علمهم وصحيح تجربتهم، إلاّ أن هذا القول لا يحمل إلاّ على تواضعه ذلك أنه يردف شواهده من أقوال القدامى والمحدثين بنتائج مجرباته الشخصية وثمرة ما أدّت إليه تحقيقاته الذاتية فلا يعتمد على قول من قال بل يختبره ويحققه فيبقى «ما صحّ لديه بالخبرة لا بالخبر»، ويستغني عمّا لا ينسجم مع الواقع الملموس.
اخترنا على هذا الأساس أن نولّي وجهة بحثنا شطر التجربة في بعض كتابات الطبيب القيرواني ابن الجزّار. فلفظ التجربة ومشتقاته متواتر لديه تواترا غير طبيعي فما هي ماهيتها في مصنّفاته؟ وما هي خصائصها وأبعادها؟
التجربة عند ابن الجزار
لا يعتبر موضوع التجربة بعيدا عن شواغل الطبيب القيرواني أحمد بن الجزّار بل لعلّه في صلب اهتماماته، والأدلّة التي تعضد هذا الرّأي كثيرة منها أنّ من كتبه كتابا يسمّى «مجرّبات الطب» توجد منه نسخة بالقسطنطينيّة حسب بعض الباحثين(4).
وإضافة إلى هذا فإنّ الطب عند ابن الجزّار تخلّص من الفلسفة إلى حدّ كبير فهو يمثّل فريق الأطبّاء الذين لم يكونوا فلاسفة. وعلى أيديهم تمّ العدول الفعلي عن المبادئ الجالينوسيّة. وهؤلاء قد ظهروا في المشرق والمغرب الإسلاميين، لكنّ ظهورهم في المغرب كان أسبق. ولعلّ ذلك راجع إلى ضعف الفلسفة في بلاد المغرب خلال القرون الهجريّة الأولى إذ لم تصبح مبحثا حقيقيا إلاّ في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي في الأندلس(5). وقد أدّى هذا إلى ظهور فرقة من الأطباء الأندلسيين الجالينوسيين يمزجون بين القياس بوجهه الفلسفي والتجربة بوجهها التطبيقي(6).
ويعدّ ابن الجزّار أوّل أطبّاء المغرب الإسلامي الذين تخلّص الطب في مؤلّفاتهم تخلّصا تامّا من قسمه النظري وما يعنيه من دراسة المبادئ العامّة والطبيعيّات، وأصبح مركّز اهتمامه الرّئيسي الأمراض وطرق معالجتها والأدوية وطرق صنعها. وهكذا أهمل ابن الجزار الكليات النظريّة للطب معتنيا في المقابل بالجزئيّات(7). ولعلّ النزعة الإنسانيّة هي التي تفسّر اختياره المنهجي هذا فالطب لديه فيما يبدو رسالة إنسانيّة ترمي إلى خدمة الناس كافّة وليست جسرا للعبور إلى منصب سياسي. ومن المعلوم أنّ ابن الجزار لم يكن من محبّي ارتياد البلاطات والوقوف على الأعتاب والبحث عن المناصب العليّة وإنّما كان طبيب عامّة النّاس ومؤلّف كتاب «طبّ الفقراء» لذا غلبت على كتاباته روح الطبيب العملي الممارس. وتوسّعت نزعته العمليّة لتشمل مجال الأدوية والعقاقير التي اعتمد في إعدادها على تجارب غيره مثلما اعتمد على تجربته الشخصيّة.
وعلاوة على هذا فإنّ وزن التجربة في كتابات ابن الجزار لا يقاس حقّا إلاّ عندما نطالعها ونقف على التواتر الكثيف لكلمة التجربة ومشتقاتها ومرادفاتها. وتنمّ هذه المؤشّرات اللغويّة عن ثقة ابن الجزّار بفائدة التجربة(8) في مجال الطب ممّا يعني أنّها مصدر للمعرفة أكيد عنده خاصّة إن تدعم بتجارب السابقين. يقول «وتستعمل هذه الأدوية المركّبة التي عرفنا فضلها بالتجربة وامتحنها من كان قبلنا من الفضلاء فوجدها جيّدة فحمدها وحمدناها أيضا غاية الحمد»(9).
وتثير هذه القولة إشكاليّة مطروحة في تاريخ العلوم الإسلاميّة عامّة والعلوم العقليّة خاصّة تتمثل في حالة ابن الجزّار، في بيان مدى أخذه عن سلفه من الأطباء اليونانيين والمسلمين ومدى أصالته وفرادته وإبداعه من خلال تجاربه الشخصيّة وارتباطه ببيئته القيروانيّة.
مصادر التجربة لدى ابن الجزّار
1. المصدر اليوناني
إن مصادر التجربة عند ابن الجزّار متنوّعة فهو يستمدّها حينا من الطب اليوناني وحينا من أطباء بلده وحينا آخر من تجربته الذاتيّة. ويرى بعض الدّارسين أن مؤلفات ابن الجزّار فيها الكثير من آثار أبقراط باعتباره طبيب تجربة يستعين بالقياس وليس فيها من آثار جالينوس باعتباره طبيب قياس يستعين بالتجربة إلاّ ما أفاد الحديث عن تشخيص المرض وعلاجه(10).
والأكيد أنّ ابن الجزّار تجاوز الإشكاليّة المطروحة في العلوم الدينيّة المتعلّقة بما سمّي في علم أصول الفقه شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ فمجال الطبّ لا يتعلّق بالاعتقادات والأحكام الفقهيّة التي يمكن قبولها أو رفضها وإنّما مداره صحّة الإنسان. وما يفيد هذا الغرض يؤخذ منه دون أن ينظر معتقد صاحبه. وقد كان ابن الجزّار واعيا بأنّ أخذه عن الأوائل إنّما هو للمصلحة لذلك يقول «إنّما لمّا قرأت ما في كتب الأوائل الذين تكلّموا في قوى الأدويّة المفردة ومنافعها ومضارها فوجدتهم قد ذكروا أدوية تفسد النطفة في الرحم وتمنع من الحمل وأدوية تقتل الجنين وتخرجه من الرحم رأيت أن أذكرها في هذا الباب لتعرف وتحذر النساء من استعمالها إذ كانت مفسدة للأجنّة»(11).
وبناء على هذا لا يستنكف ابن الجزّار من ذكر أسماء الأطبّاء اليونانيين الذين ينقل عنهم آراءهم وتجاربهم. فهو في هذا المضمار مثال العالم الذي يتحلّى بالأمانة العلميّة عندما ينقل أفكار غيره. يقول مثلا: «وينبغي أن لا تترك الأدوية في السّمع كثيرا لأنّه عضو على قلّة الاحتمال مطبوع وأنفع الأدوية له الأدهان.. كذلك قال جالينوس في الكتاب المسمّى العشر مقالات»(12).
ولئن استند ابن الجزّار في أخذه عن تجارب الطب اليوناني إلى مقياس أوّل هو المصلحة والفائدة التي ستعود على المسلم فإنّه استند أيضا إلى مقياس آخر هو ثناء الطبيب القائم بالتجربة على نتيجة تجربته، وهذا الأمر يتكرّر كثيرا من خلال عبارات على غرار «ذكر قسطا بن لوقا إنّه جرّبه فحمده»(13).
ومن الواضح أنّ ابن الجزّار أدرك أنّ الطبيب لا يستطيع في ميدانه أن يبدأ من الصّفر إذ لا بدّ من الانطلاق من تجارب سابقيه في المقام الأوّل. وهذا ما عبّر عنه الرازي قائلا: «هذه صناعة لا يمكن الإنسان وحده إذا لم يتخذ فيها على مثال من تقدمه أن يلحق فيها كثير شيء ولو أفنى جميع عمره فيها لأنّ مقدارها أطول من مقدار عمر الإنسان بكثير. وليست هذه الصناعة فقط بل جلّ الصناعات كذلك. وإنّما أدرك من هذه الصناعة إلى هذه الغاية في ألوف من السنين ألوف من الرجال، فإذا اقتدى المقتدي صار كمن أدركهم كلّهم في زمان قصير، وصار كمن قد عُمّر تلك السنين»(14).
ومع هذا فإنّ ابن الجزّار لم يكن مجرّد ناقل سلبي لآراء اليونانيين وتجاربهم، وإنّما كانت له في كثير من المناسبات آراء نقديّة واحترازات عليهم. وهي تتجلّى من خلال استهلاله بعض الأخبار بفعل زعم من ذلك قوله «وزعم جالينوس أنّه ليس يوجد في هذه العلّة دواء أقوى من هذا»(15) إنّ هذا الحكم المطلق الذي لا يراعي مبدأ الحركة والتطوّر التاريخي مناف للموضوعيّة لذلك اعتبره ابن الجزّار من قبيل الرّأي المزعوم. وقد تجاوز هذا الطبيب القيرواني مستوى النقد ليلج مجال الإضافة فيما قصّر فيه أطبّاء اليونان. وقد لخّص أوجه النّقص عند سابقيه في مقدّمة كتابه «الاعتماد في الأدوية المفردة من خلال قوله: «إنّ معرفة الأدوية المفردة ومنافعها باب عظيم القدر جليل الخطر في صناعة الطب ولم أر لأحد من الأوائل المتقدّمين ولا لمن تشبّه بهم وقَفَا آثارهم من المتعقّبين في ذلك كتابا جامعا مرضيّا ولا كلاما شافيا بحسب ما يجب أن يؤلّف في هذا الباب الكريم المنفعة العظيم الفائدة في معالجة الأسقام والأدواء إلاّ الرجل الذي يسمّى دياسقوريدوس وجالينوس، فإن هذين الرجلين لا نهاية وراءهما ولا حجابة بعدهما فيما عانياه من هذا الفن. غير أنا وجدنا ما عانيا من ذلك قد لحقه التقصير عن بلوغ نهاية المدح في ثلاثة أوجه أحدها أن دياسقوريدوس ذكر أكثر منافع الأدوية ومضارها ومناسبها والمختار منها، ولم يذكر طبائعها ولا كميتها وقوّة كلّ واحد منها في أيّ درجة هو من حرارة أو برودة أو رطوبة أو يبوسة. فأما جالينوس فإنّه ذكر قوى أكثرها ولم يبالغ في ذكر منافعها ومضارها وخواصها المخصوصة بها...»(16).
وهكذا يقطع ابن الجزّار مع عادة الإجلال المطلق لبعض الأطباء اليونانيين وخاصّة جالينوس الذي كان في الطب في نفس منزلة أرسطو في الفلسفة وظلّ المرجع الأوّل والأخير لأغلب المسائل الطبيّة إلى بداية النهضة الغربيّة(17). ويكفي دليلا على ذلك أن ابن أبي أصيبعة يسمّي الرازي جالينوس العرب. وهذا القطع لا يعني التخلّي عن الطبّ اليوناني وعدم الأخذ عنه فذلك كان أمرا مستحيلا في ذلك العصر لكنّه يعني النقل الواعي لا الأعمى والنّقل الانتقائي لا الشامل. إنّه نقل مشروط بموافقة المنقول للحق وخدمته للمصلحة(18).
2. المصدر القيرواني :
إنّ من أهمّ خصائص التجربة الطبيّة عند ابن الجزّار أنّها متأصّلة في بيئتها القيروانيّة. ويظهر ذلك من خلال نماذج كثيرة منها نقله نتائج غيره من أطبّاء بلده واختبارها والثناء عليها. وقد ذكر في هذا الصدد طرق صنع عدّة أدوية ألّفها عمّه أبو بكر. ولم يسلّم بنفعها إلاّ بعد اختبارها والتأكّد من قيمتها. من ذلك قوله «صفة شياف ينشف الدّمعة ويجلو الضبابة والأكحال والاحتراق من تأليف عمّي أبي بكر. وقد جرّبته فحمدته»(19).
كما أثنى ابن الجزّار في مناسبات عدّة على الطّبيب القيرواني إسحاق بن عمران. وهو من أنشأ المدرسة الطبية القيروانية، وقد استقدمه زيادة الله الأغلبي الذي حـكم بيـن سنتي 280هـ و284هـ وقد اطّلع ابـن الجزار على كتبه. وأخذ بما فيها بعد تجربتها من ذلك قوله: «صفة أقراص ذكر إسحاق بن عمران أنّها تتولّد عن أقراص الكبّار المعروفة تغلظ الطّحال(20) وقد جرّبتها فحمدتها»(21).
وممّا يبرز مكانة البيئة في طب ابن الجزّار اعتباره البلد أي بلد المريض من العوامل الخارجيّة المساعدة على المعالجة. يقول: «فإن كان العلّة متولّدة من قبل الدم ودلّ على ذلك البرهان الذي ذكرنا أمرنا العليل بفصد القيفال(22) ويخرج له من الدم على مقدار قوّته وذلك إن أمكن الزّمان والسن والبلد»(23).
وهذا العامل الجغرافي وإن لم تكن له قيمة كبيرة في الأدوية الحديثة فإنّه كان له شأن مهمّ منذ الطبّ اليوناني إذ من الحكم المأثورة عن أبقراط قوله: «يتداوى لكل عليل بعقاقير أرضه فإنّ الطّبيعة تفزع إلى عادتها (أهلها)» وقد كان ابن الجزّار ممّن يؤكّدون على هذه القاعدة لذلك راعى في مؤلفاته وما تتضمّنه من علاجات ما يتوفّر في بلده من وسائل مداواة كالنباتات الطبيّة والحيوانات. وهذا ما جعل أحد الأطبّاء الحفصيين في ق 10 هـ يعتبر أن مؤلفات ابن الجزار هي التي تناسب الإقليم التونسي لأنّ صاحبها إفريقي أي من إفريقيّة يقول هذا الطبيب وهو أبو العباس أحمد الخميري المغازلي في مقدّمة كتابه تحفة القادم: «إنّ المصنّفات الكبار التي تنظر في علم الطب مصنّفوها من غير هذا الإقليم كابن سينا إنّما هو بخاري، والمجوسي صاحب الكامل إنّما هو من مجوسة من أرض العراق، وكذلك سائر التصانيف من غير هذا الإقليم، والمناسب للنظر بهذا الإقليم تصانيف ابن الجزار لأنّه إفريقي. وأمّا سائر المصنّفات فلا ينبغي لغير الطّبيب الماهر المداواة بنصّها على ما هي عليه إلا بعد مراعاة قدر اختلاف الطبائع باعتبار القطر وتأثير الأدوية في قطر دون قطر بحسب عروض الأقاليم والعادات»(24).
وقد اعتبر التأكيد على دور عامل البيئة في مجال التداوي من أهم مواطن الطرافة في عمل ابن الجزار.
نرى ابن الجزار بناء على هذا يحقق أشخاص النبات ويضبط أسماءها بالعربية أو بلهجة إفريقية مشيرا أحيانا إلى منابتها في القيروان أو تونس. ومن ذلك ما نقله محمد السويسي عنه في تعريفه للقيسوم بأنه عرق شجر، وهو العبيران بالعربية، والكبير منه شجر صغير جعد الورق، له نقارس في رأسه ونوار أبيض، وورقه بين الخضرة والغبرة، وقد ذكر إسحاق بن عمران أنه ينبت في القيروان في قصر حفص.
ومن الاستعمالات المستمدة من لغة التخاطب التونسية اعتماده صيغة فعولة لا فعلة للدلالة على اللون كالصفورة والخضورة، وكذلك لحم حولي الضأن الفتي ولحم الفلالس، ومن البقول البلوكيا أو الملوخيا وهي البقلة المعروفة بالحاذي الشامي، ويتخذ منها ضماد يسكن وجع الأورام الملتهبة.
ونشاطر رأي الأستاذ محمد السويسي الذي ذهب إلى أن قصد ابن الجزار من وراء استعمال لهجة أبناء بلده وثقافته الشعبية تعميم الفائدة وإرشاد العامة إلى منافع الأعشاب والأدوية والتحري من الخلط وتحقيق المادة الطبية.
ويلاحظ الناظر في موادّ تجارب ابن الجزار أنها كلها تقريبا مستخرجة من المحيط الطبيعي ومن بيئته وواقعه برّا وبحرا حيوانا ونباتا وإنسانا فمن الموادّ التي ترجع إلى أصل حيواني جلد القنفد وبعر الماعز وخرو الحمام والذباب والسلحفاة البحرية والعجل، ومن المواد ذات الأصول النباتية العرعار والرند والفجل، ومن البحر استخدم ماء البحر وأصدافه مواد طبية، واستعمل من الأصول البشرية البول.
مراحل المنهج التجريبي عند ابن الجزار
لسنا نتهيّب من وصف منهج ابن الجزّار بالتجريبي لكنّنا ندرك طبعا أنّ المقصود ليس المنهج التجريبي بمواصفاته الحديثة وإنّما هو المنهج المرتبط بالسّقف المعرفي الذي بلغه علم الطبّ في عصره.
ويوضّح ابن الجزّار منهجه في التّأليف في كتابه «زاد المسافر» ومنه تتّضح مراحل منهجه التجريبي. يقول في المقالة الثالثة «في علاج البدن أجمع»: نبتدئ بذكر الأعراض التي تعرض في الأعضاء التي تتولّى خدمة القلب الذي هو مصباح البدن، وأفرد كلّ داء منه باسمه وأذكر موضعه والسبب الفاعل له والبرهان الدالّ عليه وعلاج طبّه كما فعلنا في سائر المقالات»(25).
وما يستخلص من هذا الشاهد أن المنهج التجريبي لابن الجزّار يقوم على مرحلة أولى أساسيّة هي الوصف والملاحظة وفيها يقوم بتعريف المرض وتحديد مكانه في الجسم ثمّ يذكر الأسباب أو العوامل التي أدّت إلى هذا المرض ثم يذكر البرهان الدالّ عليه أي العلامات والأعراض. أمّا المرحلة الثانية فتتمثّل في العلاج الطبّي لهذا المرض. ومرحلة العلاج تتضمّن في رأينا الفرضيّة والتجربة. ويتّضح هذا المنهج الذي اعتمده ابن الجزّار في أجلى مظاهره في الباب السابع عشر من كتابه زاد المسافر «في القولنج»(26). فهو يستهلّه بتحديد موضع هذا الداء من الجسم. يقول: «أمّا القولنج العارض لكثير من الناس، فعِلّة تحدث في اليقاء الخامس المسمّى قولون أي الأجوف. وموضعه من الجوف ممّا يلي الناحية اليمنى من أسفل البطن. ثم يستدير كالمنطقة معترضا إلى الجانب الأيسر»(27).
ثم يتطرّق إلى سبب تسمية هذا الدّاء «وإنّما سمّي هذا الداء قولنجا باسم العضو الذي يكون فيه وهو من الأمعاء الغلاظ»(28). وينتقل بعد ذلك إلى بيان أسباب نشأة هذا المرض ويصف هذه الأسباب بصفة الحسيّة أي الأسباب المادية الملموسة بالحس. ولا شكّ في أنّ النظر في أسباب الظواهر المدروسة من علامات المنهج العلمي الموضوعي في البحث، يقول: «والأسباب الحسيّة التي يتولّد منها هذا الدّاء في الأمعاء(29) تنقسم إلى سبعة أسباب»(30). ويبدو أنّ هذه الأسباب ممّا توصّل إليه ابن الجزّار بعد طول ممارسته الطبيّة لأنّه ذكر إثر تفصيلها سببين فحسب أوردهما الأطباء وبيّن أنّه غير مقتنع بهذا العدد من الأسباب لذلك نقدهم قائلا: «وقد زعم كثير من الأطباء أنّ أكثر ما يكون القولنج إمّا لضعف القوّة الدافعة في الأمعاء وإمّا لقلّة حسّ الأمعاء»(31).
ويوضّح ابن الجزّار إثر هذا أعراض هذا المرض وعلاماتِه ويقسّمها إلى أعراض عامّة وأخرى خاصّة. ومـن شـــأن هــذا الــوضــوح المنهـجي أن يســاعد علـــى تشخيص المرض وتحديد العلاج المناسب له. يقول «ولهذه العلّة أعراض عامّة تعمّها من أيّ صنف عرضت لها، ولها أعراض خاصّة تابعة لهذه الأسباب السّبعة الحسيّة المتولّد عنها هذا الدّاء»(32). ولعلّ الطّريف في هذه الأعراض أنّها تتجاوز الملاحظة الحسيّة البسيطة لأعراض مشاهدة من قبيل حرارة الجسم وانتفاخ البطن لكي تدمج معها فحص براز المريض، وهي من خصائص التشخيص الطبّي الحديث. يقول : «وربّما ظهر في برازه خلط زجاجي»(33).
ويصرّح ابن الجزار إثر انتهائه من عرض علامات مرض القولنج وأسبابه أنّه لم يذكر هذه المعطيات بشكل اعتباطي وفوضوي وإنّما ذكرها وفق القانون الفلسفي والمنهج الطبّي يقول: «فهذه دلائل القولنج وأسبابه وقد أتينا بها على القانون الفلسفي والمنهج الطبي»(34) ولعلّه يقصد بذلك أنّه اعتمد على الضوابط المنهجيّة والمنطقيّة في مستوى التأليف والتبويب والتصنيف وعلى القواعد الطبية في مادّة تأليفه.
يمرّ ابن الجزّار بعد مرحلة الملاحظة والوصف والتصنيف لمرض القولنج إلى علاجه. ويمثّل العلاج في نظرنا مرحلة الفرضيّة ضمن مراحل المنهج التجريبي حيث يقوم من خلاله الطّبيب بافتراض الدواء المناسب للمرض بعد تشخيصه. وينتظر من هذه المرحلة أن تنهي معاناة المريض نهائيّا يقول ابن الجزّار: «فلنذكر الآن علاجه فنقول إنّه يجب في معالجة كلّ مرض أن يكون القصد فيه إلى حسم مادّته ونفيها إلاّ أن تكون أعراضه صعبة يُخاف منها التّلف فإنّه حينئذ ينبغي أن يكافِئ العرض بالمداواة حتى يهدأ ثم تصرف العناية إلى تنقية المادة وتنظيف البدن منها»(35).
إنّ هذا القول النظري العام بمثابة المبدإ الذي يضعه ابن الجزّار وهو يفيد أن هدف الطبيب في معالجته كلّ مرض من الأمراض هو القضاء الجذري عليه إلاّ أنّه إن اصطدم بصعوبة أعراض المرض فإنّه لا يبقى له من حلّ سوى محاولة التريّث في العلاج بالتركيز على مداواة الأعراض المؤلمة وتسكين أوجاعها.
ينتقل ابن الجزار بعد هذه المقدمة النظريّة إلى الفرضيّة التي تتضمّن افتراض سبب المرض يقول: «فإن لم يبلغ العليل ما أراد من زوال العلّة ومضى اليوم الثالث ودخل الرابع فينبغي عند ذلك أن ننظر من أيّ سبب تولّد هذا الدّاء فإن كان تولّد من قبل المرّة الصفراء ودلّ على ذلك البرهان الذي قدّمنا»(36).
إثر الفرضيّة التي تعني عمليّة تفسير الظواهر الملاحظة وبيان الروابط بينها ووضع فرض يمكن أن يكون رأيا تفسيريا لمجموع هذه الظواهر(37) يمرّ ابن الجزّار إلى التجريب ويتمثّل في حالة المريض بالقولنج في فصد(38) عرق الباسليق(39) من اليد اليمنى وشرب دواء مستحضر من الأعشاب يذكر صفاته ومقاديره. أمّا مرحلة القانون فإنّنا لا نجدها في زاد المسافر. وقد تكون ضمن كتب أخرى لابن الجزّار لم تصلنا كأصول الطبّ.
وتجربة قطع عرق الباسليق تعتبر تجريبا لأنّ التجريب كما بيّن المنظّرون للمنهج التجريبي يأتي دائما عن طريق استثارة ظواهر ثم مشاهدتها. لكن ما هي أهمّ خصائص التجربة لدى ابن الجزّار؟
خصائص التجربة(40)
1. التنوّع
من أهمّ خصائص التجارب التي أجراها ابن الجزار ابتغاء مداواة المرض أنّها متنوّعة. ويتجلّى هذا التنويع من خلال تغيير المواد المكوّنة لطرق العلاج وتعديل خصائصها وطبائعها وتبديل العناصر الفاعلة فيها. ومن الأمثلة على هذه الخاصيّة الباب الخامس والأربعون في علاج ضروب الاختلاف (الإسهال) في كتاب «طب الفقراء» فقد عرض فيه سبعة طرق علاج وكلّ طريقة تخفي وراءها تجربة سابقة استخلص من خلالها مقوماتها. ويتكثف التنويع في هذا المثال عندما يضيف إلى الطرق السبعة حبوبا أو أقراصا وسفوفا تنفع للإسهال(41)ويخبر تنويع التجارب لدى ابن الجزار عن ثقافة طبية غزيرة وتجربة فرديّة كبيرة.
2. تكرار التجربة
قد يكون تكرار التجربة من خلال عدة تجلّيات منها إعادة التجربة ذاتها أي طريقة العلاج ذاتها لتحقيق النتيجة المرجوّة يقول ابن الجزّار : «فإن لم يلين البطن في أوّل مرّة يعاد ثانية على حسب ما وصفناه إن شاء الله»(42).
ومن التجلّيات الأخرى للتجربة تكرارها على أكثر من مريض للتأكد من نجاعة الدواء. يقول ابن الجزار في هذا الصّدد : «فمن ذلك أنّني ألّفت لرجل كان به داء الثعلب(43) قد أفرغ منه رأسه دواء فلم يستعمله إلا يسيرا حتّى برئ واستعملته في غيره فحمدته...»(44).
وتتولّد عن خاصّيتي تنوّع التجربة وتكرارها خاصيّة طول التجربة فلا شكّ في أنّ الخاصّيتين السابقتين تقتضيان مدى زمنيّا طويلا يستغرقه عمل الطبيب المجرّب. وهذا أمر كان معروفا منذ الطب اليوناني إذ يقول ابن الجزّار نقلا عن جالينوس: «ولجالينوس في مقالته في المرّة السوداء فصل قال فيه: أنا قائل في المرّة السوداء بحسب ما ظهر لي من أمرها بطول التجربة»(45).
3. التجربة المسندة بالعقل
إنّ كلّ ما يذكره ابن الجزّار من تجارب وطرق علاج وأدوية تدلّ على عقل فذّ وطاقات ذهنيّة فريدة يتمتّع بها لكنّه قلّما يشير إلى العقل في ما يكتب غير أننا عثرنا على بعض الإشارات منها استخدامه عبارة الاجتهاد أي إعمال النظر العقلي والحيلة لإيجاد الدواء. يقول في الباب الثامن عشر «في الدود والحيّات المتولّدة في الأمعاء»: «فينبغي لنا أن نجتهد في إخراجها إذا رأينا هذه العلامات التي ذكرناها فإنّها إذا طال مكثها أفسدت الأحشاء وأنهكت البدن»(46).
ويقول في شاهد أكثر إفصاحا عن ارتباط التجربة بالعقل: «فإنّه نافع مجرّب مختبر بإذن الله فانظر بعقلك واختبر تجد إن شاء الله»(47).
4. أصالة التجربة
أصالة التجربة عند ابن الجزار تتجلّى من خلال ذكر تجارب أطبّاء آخرين وقيامه باختبارها حتّى يتأكّد عمليّا من صحّة ما يقوله غيره وإن كان علَما عظيم الشأن في تاريخ علم الطب.
يقول في هذا السياق على سبيل الذكر لا الحصر: «صفة طلاء نافع من الرضة والهزّ الذي يصيب الأعضاء من السقطة والضربة والصدمة ألّفه يحيى بن ماسويه وقد جرّبناه»(48).
لكن أصالة التجربة تظهر خاصّة من خلال أدوية يصرّح بأنّها من صنعه وتأليفه. يقول مثلا: «صفة أقراص ألّفتها ولطّفت في تركيبها وجمعت فيها قوى شتّى وجرّبتها فوجدتها نافعة بإذن الله في قطع الدم من فوق ومن أسفل»(49).
يبرز هذا الشاهد النادر من ناحية مضمونه بعض مراحل تجربة صنع الدواء قبل تجريبه على الإنسان إذ يتدخّل ابن الجزّار في تركيبة الدواء من حيث مكوّناته ومادّته التي يصنع منها ومن ناحية قواه (Principe actif) ويمرّ إثر ذلك إلى تجريبه ويستخلص من ذلك النتيجة وهي أنها نافعة.
والملاحظ أنّ التجربة الفرديّة والأصيلة التي يذكرها ابن الجزار قد تكون موازية ومكمّلة لتجارب أطباء سابقين(50) وقد تكون متجاوزة لهم(51) إمّا لأنّ نتيجتها كانت أفضل وإمّا لأنّ تجربة الطبيب السابق غير مقنعة وفي هذه الحالة يستخدم ابن الجزّار فعل زعم من ذلك قوله في الباب العشرين «في علاج البياض الحادث في العين»: «وزعم أرسـطـطاليس إن سحق الحجر الذي يتولّد في الناس وخلط مع الأكحال نفع من بياض العين نفعا نفيسا»(52) وإثر ذلك يذكر صفة دواء لبياض العين القديم والحديث يختلف تماما عن دواء أرسطو.
ولعلّ أصالة تجربة ابن الجزّار تكمن أيضا في بعدها عن اعتبار الطبّ إلهاما والنّأي به عن الرّوحانيّات والشعوذة واعتباره علما له قوانينه الضابطة له يقول: «وفيما ذكرنا من علاج الصّداع على سبيل القانون الطبي العلمي كفاية لمن فهم»(53).
وعلى هذا الأساس لم يكن ابن الجزّار مجرّد آخذ ومقلّد للأوائل والسّلف من الأطباء من العجم أو من العرب وإنّما قدّم إضافة حقيقيّة قدّرها أهل الطبّ والصيدلة قبلنا ومنهم الأستاذان الراضي الجازي وفاروق عمر العسلي حيث ذكرا في تحقيقهما كتاب «طب الفقراء والمساكين» «أنّه قسّم العلوم الطبيّة إلى اختصاصات عدّة ألّف في جميعها وأثرى ميدان الصيدلة والأدوية وزاد الكثير في مواد الأقراباذين (Pharmacopée) فاخترع أدوية جديدة مشتقّة من الأصول الثلاثة النباتي والحيواني والمعدني (أضيف الأصل الإنساني)... كما تطوّرت التقنية الصيدلانيّة عنده فاستعمل أشكالا متنوّعة(54).
الخاتمة
إن موضوع التجربة في العلوم العربيّة الإسلاميّة يحتاج إلى مزيد درس وغوص في كثير من خفاياه لتحديد منزلته الحقيقيّة في الفكر المنتج لهذه العلوم.
ولا شكّ أننا قد أهملنا كثيرا من المسائل المتصلة بالتجربة عند ابن الجزّار على غرار علاقة التجربة بالشرع وهل كانت التجربة عنده مرتبطة بآلات مساعدة لها؟ وأنّى للباحث أن تحيط بحوثه بكل جوانب الموضوع المدروس.
لكن المهمّ في نظرنا بيان مركزيّة التجربة في ذهن ابن الجزّار وفي ممارسته لعلمي الطب والصيدلة. ويترتّب على ذلك أنّه يصنّف بذلك في خانة الأطبّاء الذين يرون أنّ الطبّ صناعة محدثة استمدّ من خلال التجربة لا عن طريق الإلهام كما كان يعتقد كثير من الأطبّاء اليونانيين وفي مقدّمتهم جالينوس.
وبناء على هذا التصوّر لمحوريّة التجربة في الطبّ تولّدت طرق علاج ومداواة كثيرة ومتنوّعة لا شكّ أن المستفيد الأوّل منها كان الإنسان المسلم الذي عاصر ابن الجزّار. وقد عبّر ابن سينا عن نفس النتيجة بقوله: «تعهّدت المرضى فانفتح عليّ من أبواب العلاجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف»(55).
وهكذا نأى ابن الجزّار عن المنهج الفلسفي النظري الخالص الذي كان يغلب على الأطبّاء اليونانيين واعتمد في المقابل على التجارب العمليّة والتطبيقات الواقعيّة. وهو في نظرنا لا يبتعد عن المفهوم الكانطي للتجربة من حيث أنّها معرفة تجريبيّة أي معرفة تحدّد شيئا أو ظاهرة ما من خلال الحس(56). إلاّ أن هذا التشبيه لا يعني بحال من الأحوال أن نتخذ المعايير التي يعمل من خلالها العلم الحديث أساسا للحكم على علم أنتجه الفكر الإسلامي منذ أكثر من ألف عام. لذلك فإنّ التجربة عند ابن الجزّار يقصد بها خاصّة معناها الأوّل أي الخبرة والحنكة. وبهذا المعنى فإنّنا عندما نتكلّم عن المنهج التجريبي فإنّما نقصد جملة من الإجراءات منطلقها ملاحظة وخلاصتها امتحان لفرضيّة(57). وتعني الفرضيّة في هذا السياق افتراض وجود علاقة بين ظاهرتين أو أكثر والتفسير السببي للظاهرة المدروسة. أمّا المعنى الثاني للتجربة فيختلف عن المعنى الأوّل في مستوى الفرضيّات التي تتميّز بالصبغة الرياضيّة الداليّة. وبهذا المعنى لا يكون الهدف من الفرض التفسير العِلّي للظاهرة المدروسة وإنّما الضبط الرياضي لأنواع العلاقات التي قد تربط بين العناصر التي اعتبرت جدلا مساهمة في وصف الظاهرة(58).
وهذا التمييز لا ينقص في شيء من قيمة إسهام الطب العربي عامّة وابن الجزّار خاصّة في تمهيد الطريق لترسيخ المنهج التجريبي في الغرب. فقد تعلّم علماء الغرب علوم المسلمين ومنهجهم التجريبي واعترف بعضهم بذلك. وقد كان روجر بيكون في أواخر القرون الوسطى يرجح الطريق التجريبي على منطق أرسطو وقد تأثر في ذلك ببعض علماء المسلمين مباشرة. يقول برتراند راسل: «حيث أثّروا عليه أكثر من معظم الفلاسفة المسيحيّين»(59).
وبناء على هذا يعلن محمد إقبال أنّه ليس لروجر بيكون ولا لسميّه (فرانسيس بيكون) الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي. فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحيّة وهو لم يملّ قطّ من التصريح بأنّ تعلّم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقّة... وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارا واسعا وانكبّ الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوروبا»(60).
ولعلّ أهمّ درس نستخلصه من سيرة الطبيب ابن الجزار تواضعه ونبل الممارسة الطبية لديه فهي لا ترمي إلى جمع المال وغنما تنشد خدمة أبناء العامة من الفقراء لذلك نراه يصرّح قائلا:» إلاّ أنّي لمّا رأيت كثيرا من الفقراء وأهل المسكنة عجزوا عن إدراك منافع ذلك الكتاب (زاد المسافر وقوت الحاضر) وغيره من سائر الكتب التي ألّفتها الحكماء في حفظ الصحة على الأصحاء وإبراء المرضى من وجعهم لفقرهم وقلة طاقتهم عن وجود الأشياء التي هي مواد العلاج... رأيت عند ذلك أن أجمع لمحبي الطب ومن قد يتمهر في قراءة كتابنا هذا المسمى بزاد المسافر وعلم من العلل وأسبابها ودلائلها بطرق مداواتها بالأدوية التي يسهل وجودها بأخف مؤونة وأيسر كلفة فيسهل عند ذلك علاج العوام على الأطباء من أهل الفقر والمسكنة منهم بهذه الأدوية التي جمعتها من كتاب جالينوس»(61).
ويبقى ابن الجزار رغم ما تقدم ابن بيئته وثقافته الشعبية فلئن عبّر أحيانا عن نزعة نقدية من طرق التداوي الطبية الدارجة في بيئته وعصره على غرار قوله:» وزعمت الأطباء أنّ كبد الذئب إذا جففت وسحقت ناعما...»(62) وقوله:» وزعم بعض الأطباء أنّ بول الحمار إذا شرب أبرأ من وجع الكلى»(63)، فإنّ في بعض الوصفات التي ذكرها ما هو قريب من الشعوذة من ذلك ما نجده في حديثه عن علاج الورم العارض خلف الأذن :» يؤخذ بعر الشاة ويخلط بروث الثور ويضمد به الموضع فإنه نافع»(64).
الهوامش
1 محمد السويسي، ابن الجزار الطبيب القيرواني، ضمن كتاب أبحاث ودراسات ، الندوة العلمية لألفية احمد ابن الجزار ،12-15أفريل 1983، ص19.
2 المرجع نفسه، ص19.
3 المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
4 ذكر هذا العنوان ضمن كتب ابن الجزار في عدة مصادر منها «عيون الأنباء» و»كشف الظنون» و»سلّم الوصول» و»هديّة العارفين». ويروي (Le clerc) أن منه نسخة بالقسطنطينية، راجع مقدمة تحقيق كتاب ابن الجزار، «سياسة الصبيان وتدبيرهم» ،بيت الحكمة، تونس، 2009.
5 هذا الرأي ذكره الأستاذ إبراهيم بن مراد في بحث له بعنوان «في الطب الإسلامي، منشور على الأنترنت عنوانه (www.islamset.com)
6 يقول ابن زهر الأندلسي عن منهجه : «وفرقتنا معشر الجالينوسيين إنّما مدار أمرنا على التجربة مع القياس» كتاب الأغذية، تحقيق محمد العربي الخطابي، ضمن كتابه «الأغذية والأدوية عند مؤلّفي الغرب الإسلامي» 1/137.
7 انظر في مقابل هذا الاتجاه مثال الرازي الذي تأثّر بالفلسفة في طبّه، وقد تجلّى هذا التأثّر من خلال القسم النظري من كتابيه «المنصوري» و»الحاوي»، وكذلك من خلال كتاب «الطب الروحاني» الذي أراده قرينا لكتاب «المنصوري».
8 انظر مثالا آخر على الثقة في التجربة لدى الرازي القائل : «نضيف إلى ذلك ما أدركناه بالتجارب وشهد لنا الناس به، ولا نحلّ شيئا من ذلك عندنا محلّ الثقة إلاّ بعد الامتحان والتجربة له». نقلا عن سلمان قطاية، في التراث الطبي العربي، منشورات إيسيسكو، 2005. وهو بالأنترنت في موقع إيسيسكو.
9 ابن الجزار، زاد المسافر 2/573.
10 إبراهيم بن مراد، في الطب الإسلامي، المرجع المذكور.
11 ابن الجزار، زاد المسافر، 2/565.
12 المصدر نفسه.
13 المصدر نفسه، 1/155.
14 راجع بركات محمد مراد «الرازي بين الطب التجريبي والملاحظة الأكلينيكيّة» مجلة حيرة، العدد 14 جانفي ، مارس 2009 www.hiramagazine.com
15 ابن الجزار، زاد المسافر، 1/213.
16 ابن الجزار، الاعتماد في الأدوية المفردة.
17 راجع منصف المرزوقي، الطب الإسلامي وجالينوس، بحث منشور بالأنترنت على الموقع التالي : www.islamset.com
18 انظر قول ابن رشد : «علينا أن ننظر إلى ما قالته الأمم السابقة وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وما كان غير موافق للحق نبّهنا عليه وحذّرنا منه...» نقلا عن مرسي محمد عرب، لمحات من التراث الطبي العربي، الإسكندريّة، 1975، ص 51.
19 ابن الجزار، زاد المسافر، 1/155.
20 الطحال : لحمة سوداء عريضة اسفنجية، في يسار جوف الإنسان وغيره من الحيوانات تحت الأضلاح، بطرس البستاني، محيط المحيط، بيروت 1977، ص 545.
21 ابن الجزّار، زاد المسافر، 2/463.
22 القيفال : عرق في الذراع يُفصد لأمراض الرأس. معرّب كيفاليكي باليونانيّة ومعناه رأسي.
23 - ابن الجزار، زاد المسافر، 1/210 وقيل عربي، بطرس البستاني، المرجع المذكور، ص 750.
24 انظر محمد السويسي، ابن الجزّار الطبيب القيرواني، بحث منشور ضمن كتاب جمع أعمال الندوة العلمية لألفيّة ابن الجزّار، ط1، تونس، 1987، ص 21.
25 ابن الجزّار، زاد المسافر، 1/207.
26 القولنج : انسداد المعي وامتناع خروج الريح منه، وهو مشتق من القولون. وهو اسم معي بعينه، وهو الذي فوق المعي المستقيم الذي هو آخرها (العامية التونسيّة : المصران الخشين أو الغليظ) راجع معجم المصطلحات والنباتات الطبية الواردة في كتاب زاد المسافر لابن الجزار، 2/752.
27 ابن الجزار، زاد المسافر، 1/359.
28 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
29 ورد خطأ مطبعي في كتاب زاد المسافر يتمثّل في كتابة كلمة الأمعاء دون همزة (المعاء).
30 المصدر نفسه، 1/359-360
31 المصدر نفسه، 1/360.
32 المصدر نفسه، 1/361.
33 المصدر نفسه، 1/362.
34 المصدر نفسه، 1/363.
35 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
36 المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
37 راجع عبد الرحمان بدوي، مناهج البحث العلمي ط3، الكويت، 1977، ص 128.
38 الفصد : ترك الدم يخرج بعد فتح وريد جراحيا.
39 الباسليق : عرق في الذراع يُعرف بعرق البدن، وهو لفظ يوناني.
40 استفدنا في إنجاز هذا العنصر من فصل بعنوان «خصائص التجربة عند بيكون» ورد ضمن كتاب الدكتور الحبيب الشارني، فلسفة فرانسيس بيكون، ط1، دار التنوير، بيروت، 2005، ص 73.
41 ابن الجزار، طب الفقراء،صص175-177.
42 ابن الجزار، زاد المسافر، 1/368.
43 داء الثعلب : مرض تفسد به أصول الشعر فيتساقط, وسُمّي داء الثعلب لعروضه للثعالب.
44 المصدر نفسه، 1/71.
45 المصدر نفسه، 2/654.
46 المصدر نفسه، 1/372.
47 ابن الجزار، طب الفقراء، ص 113.
48 ابن الجزار، زاد المسافر، 2/672.
49 المصدر نفسه، 1/350.
50 راجع مثلا قوله: «ذكر علماء الطب أنّه إذا طبخ الفيجن بالزيت وشرب أخرج الدود، ومما ينفع لذلك أيضا أن تطبخ الجعدة ويشرب ماء طبيخها، طب الفقراء الباب 47 : في علاج الدود والحيات المتولدة في البطن، ص 182.
51 انظر مثلا قول ابن الجزّار في صفة أقراص ألّفها لوجع الطحال والصلابة الحادثة فيه : «وقد جرّبتها فوجدتها أسرع نجحا من أقراص الكبّار بإذن الله عزّ وجلّ» زاد الفقراء، 2/464.
ويعني بهذا أنها أفضل من الأقراص التي ألّفها الطبيب إسحاق بن عمران.
52 المصدر نفسه، 1/113.
53 المصدر نفسه، 1/89.
54 راجع مقدّمة المحققين لكتاب طب الفقراء والمساكين، ص 22.
55 إبراهيم بن مراد، منهج إسلامي فريد لدراسة الطب، بحث منشور بالأنترنت على العنوان www.
56 يعرّف كانط (ت 1781 م) التجربة قائلا :
« L’expérience est une connaissance empirique, c›est-à-dire une connaissance qui détermine un objet par des percéptions » critique de la raison pure, Paris, P.U.F. 1944, p. 174.
57 راجع محمد علي الحلواني، مفهوم التجربة في الطب العربي من خلال الباب الأوّل من كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، ضمن كتاب جماعي بعنوان «مقاربات حول تاريخ العلوم العربية» كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس ودار البيروني، صفاقس 1996.
58 المرجع نفسه، ص 17.
59 تاريخ فلسفة غرب من راسل، ترجمة نجف دربا بندري، كتاب المثاني، ص 863 (الترجمة بالفارسية) نقلا عن مصطفى طباطبائي، المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني، ترجمه من الفارسية إلى العربية عبد الرحيم ملازئي البلوشي ط1 دار ابن حزم 1990، ص 127.
60 محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ص 149.
61 ابن الجزار، طب الفقراء،ص76.
62 المصدر نفسه، 185.
63 المصدر نفسه، 202.
64 عبد الرحيم حجازي، كتاب طب الفقراء ، ضمن كتاب الندوة العلمية لألفية ابن الجزار، المرجع المذكور،312.
الصور
1 www.lh5.ggpht.com/_ut6Ghph6oio/S26YW0_DPQI/AAAAAAAAAkg/FKXPLIH7lho/225px-Ibn_al-Haytham_thumb%5B3%5D.png?imgmax=800
2 www.noonpresse.com/wp-content/uploads/2016/10/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%B1.jpg
3 www.iiim.org/MScholars/IBN%20AL%20JAZZAR.png
4 www.muslimheritage.com/sites/default/files/kairouan_capital_11.jpg
5 www.medievalists.net/2015/04/medie val-viagara/