فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

بين الحكاية الشعبية وموت المـؤلف

العدد 11 - آفاق
بين الحكاية الشعبية وموت المـؤلف
كاتب من سوريا

قد يكون في الحديث عن وجود علاقة مركَّبة، بين كل من الحكاية الشعبية وما سمّي حديثاً بـ(موت المؤلف)، ما هو أبعد من حدود المبالغة، إنه ربما يكون التعسف والتحوير في التركيب نظراً للعالم الدلالي والقاعي لكل منهما.

لكن مهلاً! هلا ساءل المعترض عن نوعية السرد ومآله الجمالي في الحكاية الشعبية أولاً، باعتبارها الأقدم، ومن ثم المغزى الفعلي لمفهوم (موت المؤلف) وحكايته، وعم يتساءل صاحبه ويرتئي، أو ما الذي يراد عموماً منه؟ 

إن ممعن النظر في الحراك القيمي لكل منهما، لا يقصي أياً منهما عن الآخر، بقدر ما يسعى جاهداً إلى إثراء فعل الزمن الثقافي، هذا الذي يمتلك أدواته المعرفية الخاصة، حيث الناطق في الحكاية تلك، يكاد يستجيب بأكثر من معنى لرغبات(موت المؤلف)، كون الأخير يعيش متعة الانتشار وازدهار القيمة في الآخر، لحظة تجلّي خطاب السارد في كل منهما، وكيف يتحدد القارىء كعنصر إحيائي مخصب للنصين معاً، رغم أن الوقوف على الأرضية التي تسند كلاً منهما، يجلو جانب الفتنة الجاذبة في الحكاية أكثر، أما الآخر فيحتفظ بطيف اسمه. الحكاية التي تحتفظ بقصب السبق الزمني، وقبل كل شيء، لأنها تمثّل فضاء جمالياً حياً يقيم فيه(موت المؤلف) أوده، إنها قدوته، وإن لم تُسمَّ، فاعله، وإن لم يشَر إليه، من خلال الوظيفة المركبة التي تضطلع بها في السرد خصوصاً.

هل نحن إذاً إزاء مواجهة عاصفة وغير مسماة، لأزمنة كتابة بينهما تباعد قصيٌّ، وتؤكد تداخلاً في مسارهما؟

أي لعبة مفارقات سردية تتبدى من خلال حركية الحكاية، والحراك الاعتباري في شعارية (موت المؤلف)؟

إن إطلالة على عالم الحكاية الشعبية، وهو مفتوح الجهات قاطبة، تظهِر رحابته، وقدرته على الاستئناس ومن ثم الإيحاء مباشرة إلى أن ثمة تنوعاً هائلاً من الأصوات، يقيم في أركانه، وهو العالم الذي يكاد يشبه المتاهة، بالنسبة للذين ليس لديهم ملَكة تذوق ِنصوص منتمية إلى العالم ذاك، واعترافاً بذوات تفرض حضورها عليه، وتستدرجه إلى نطاقها ليتعمق وعيه بما هو حياتي، وليكون أكثر تحرراً من أناه القارئة والكاتبة، لحظة إقامة العلاقة مع النصوص المنتمية إلى خانة الأدب المعتبَر: في الرواية أكثر من غيرها، دون أخذ العلم بأن الرواية كمخلوق فني وقولي حديث النشأة، ويمكن التأريخ لها، وهي لا تقارَن بالحكاية عموماً، حيث تضرب هذه جذورها في أعماق التاريخ الشفهي، إلى درجة أن اعتبار بدايات نشأة الإنسان، وهو يشير إليها من الذاكرة، قبل ظهور الكتابة بعد زمن طويل، يخص المسافة الجغرافية والتاريخية التي قطعها الإنسان من سلسلة ارتحالاته وهو هائم على وجهه في الأرض، ليكون جسدُه كلّية ذاكرته (الجسد المترَع بالطبيعة وتحولاتها، وأسئلة الكون المصيرية وتلك التراجيدية التي تخص كينونته)، إلى مناطق توزعه واستقراره، وانتظاره لزمن إضافي، لا زال يجتهد في البحث عنه، ومساءلته، دون القدرة على التحرر من أثريات الحكاية ومخيالها السحري والملهِم، ولن يقدر على ذلك البتة مستقبلاً طبعاً، باعتبارها تؤاسيه وتعزّز حضوره حتى وهو في وحدته وانكفائه على نفسه، وكون الرواية منحدرة من صميم الحكاية وتتوسلها، وتستلف منها باطراد ما هي بحاجة إليه ثم تخضعه لمنطق أزمنة خطابية تتناسب وقدرته على وعي عالمه، وفهمه لمحيطه ومغزاه من الكتابة، أي عندما تكون البوليفونية التي تمثّل خميرة الأدب الحي، واكتشاف النقد الأدبي والمعوَّل عليه كثيراً (نتذكر ميخائيل باختين أكثر من غيره)، حجر الزاوية في الكتابة، وشاهدة على مدى انفتاح الكاتب، أي على مدى انخراطه في لعبة الكتابة التي تنحّي الأنا واستبدادها، ليكون مفهوم (موت المؤلف) المشكَل استعارة حكائية، ومغازلة للسلف التليد، وإن لم يصرَّح بذلك بدقة.

إن مقاربة أولية، تضاريسية المشهد، لبنية العلاقة بينهما، تضعنا إزاء عالم أكثر إثارة، أكثر دافعية، لتغيير مسار الحديث نفسه، هذا الذي يحرّك في منحى بحثي واحد، وما فيه من قسر وتجيير، ومفارقة المفهوم، بقدر ما تلفت أنظارنا إلى خصوبة الحكاية الشعبية، وهي تتقدمنا، وأننا إذ نلتفت إليها، إنما نصحح وضعية علاقة ثقافية، وكذلك نولي اعتباراً لقوىً فاعلة في تكويننا النفسي والأخلاقي والحيوي، ونحن نوسّع في مفهوم الزمن، بقدر ما نفتح ملف ( موت المؤلف) على أنه ليس معدوم الصلة بالحراك الدلالي للحكاية الشعبية، وأن جانب الوشاية القاعية العلامة، وقد تستَّر عليها طويلاً، يتخذ صفة الإيجاب، وينزع عن الذين عولوا على حداثة (موت المؤلف) كثيراً، صفة الريادة أو المبادرة الطازجة والمباغتة في المعنى، كما لو أن خلقاً من عدم قد تم، بينما في الواجهة وعميقاً، تتراءى الحكاية الشعبية، وقد اكتسبت كينونة مجسَّدة، وهي ترسل قهقهتها الساخرة على الجاري.

في الحكاية الشعبية: البنية والثَّنية:

1- في متصوَّر الحكاية

لا تتكلف الحكاية بإقامة عقد صلات بيننا وأشخاص معينين يخصونها، لأنها لا تنتمي إلى أحد بعينه، إن من يرويها، وهو يعيش أحداثها، ويستسلم طواعية، بنوع من الجذب الوجداني، إنما يثمله لاتناهي حدودها مقارنة بحدوده الفردية، فثمة سرد لها يمارس دوره المرغوب فيه، ليمكّنه من الخروج من ذاته أكثر، وينتمي إليها. إن الحكاية متتاليات سحرية، في منطقة فقدان التوازن، حيث لا يعود في وسع أي كان، التحكم بجسده دلالياً، لأنها منذ اللحظة الأولى، تشدد على أهلها، على المعنيين بها، واستحالة قابليتهم للتشكل أحياء يمكن مجالستهم، أو الشعور بهم كما هو وضعنا، حتى وإن برزت الحكاية لصيقة الواقع، بما أنها ترسل بثها من مواقع متحركة، وأنها تسمح للمحكي في أن يبث صوته، إنما التعريف الدقيق بخاصيته، فثمة ما يشبهنا في الحكاية وهي مسرودة، ولكن ثمة ما يفارقنا في الحال، ما يقبل التوكيل المتعدد، لأن الحكي تعميم الذات، بوصفه مرآة تستجيب لكل وجوهها، وهذا يعني أن ثمة نزوعاً إلى التطهير (الكثارسيس) يتمثل له راوي الحكاية، والمتجاوب لها، وشعوراً بأمان أكثر في حالته. فما يُروى لا يقصيه عن ذاته، بقدر ما يوسّع عالمها، يعرّفها بالآخرين كذوات تشاركها في الحياة.

إن الانغواء بالحكاية تعبير ضمني عن انتماء لنا، له عراقته وسلاسته، يعدُنا بما هو عظيم الأثر والقيمة، وهو يمتّن حدود قوانا الذاتية ويؤنسنها، إن عمَّقنا خطوط تماسها وهي متحركة، تبعاً لذواتنا الشخصية، ومدى استجابتنا للنقلة التي تأخذ بنا بعيداً، فنحن في الحكاية، وهي في منطوقها الشعبي، لا نعود نعرَف بأسمائنا، وإنما بتقبلنا لأدوار تصهرنا جميعاً في بوتقتها، وهنا تكمن عذوبة الاستسلام الطوعي لسلطتها، واكتشاف كونيتنا بالذات.

ومن يجد صعوبة في التكيف مع الحكاية، يكون المأخوذ بسلطة أناه، وانغلاق عالمه إلى درجة مريعة وبائسة!

2- في جنسية الحكاية

الحكاية تخص كائنات مختلفة: أشخاصاً وغيرهم، ولكنها تتجاوزهم، فلا تستثني أحداً، أو شيئاً، إلا وتجعل له موقعاً أو مكانة في عالمها، وما في ذلك من فتح حدود خفية، وقدرة على التفاعل البيني. إنها في الوقت الذي تسمي شخصياتها، أو ألقاباً تحل محلها، أو رموزاً لبناء أحداثها، وفي أمكنة مختلفة، تنبّهنا إلى أن ذلك لا يعدو أن يكون أداء إجرائياً، ليكون في وسع المستمع أو القارىء، وبلغة معينة، الانسجام معها، لأن ثمة ما يشبهها، ما يشدها إلى نظيراتها في جهات مختلفة، كما لو أن أصلاً ما، لكوننا وقد تناثر أو شهد انفجاراً كبيراً، وفي زمن معلوم، أو يؤرَّخ له ولو افتراضياً، وغمر الحدود كلها، واندفع كل مشتق منه، أو متفرع عنه، يصيغ حكاية الأصل، رغبة في الانشداد إليه، إنما استجابة ضمنية إلى وحدة الكائن، والشعور المشترك بحيوية ذلك الأصل..

لا جنسية للحكاية إذاً، لحظة النظر في مكوّنها الرئيس، والبحث في الأشباه والنظائر، كما هو دأب الأثنوغرافيين بامتياز، حيث إن كل حكاية، بمجرد تسميتها، تتجاوز قائلها ومدوّنها، وتنادي شقيقاتها موحَّدة في الموضوع ذاته.

إن اللغة ليست أكثر من وسم جسدي، كما أن الصوت العائد إليها ليس أكثر من وسيط لإخراجها من صمتها، لأن الموعود به يسمّي اللغة وما لم تفصح عنه، وهي في حدوديتها، أبعد من سلطة الأسماء. فالحكاية موحدة مصائر.

إن في وسع أي كان، أن يتعرض لتأثير أي علامة جسدية، لإيماءة، يتعرَّف إليها بالنظر، بالنسبة لفرد في جماعة، ليكون ذلك له حافزاً، بتوسيع حدود بحثه الميداني، ومكاشفة تكرارها، أو طرق تجلّيها في أفراد آخرين، لدى جماعات أخرى، وفي أماكن نائية. إن فولكلورية الحكاية تكون مستدعية لغات وثقافات لتعاين قواسمها المشتركة.

إن مشاهدتنا لحكايات عالمية وهي متلفزة، أو قراءتنا لها، وفي لغات مختلفة، لهي نابعة من شعورنا على أن الذي يحدث يكون تأكيداً على أن الحكاية (الحكاية الشعبية دائماً بالذات)، تمتلك أصلاً واحداً لها، بغض النظر عما هو مختلف بين البشر، إنه اختلاف يصرّح بثراء العالم والكون، وقدرة الإنسان على التكيف، على تجاوز الاسم الواحد، فاللامسمى في الحكاية يعني أنها تخص الجميع وليس شخصاً أو فرداً بعينه.

3- تسمية المجهول الحكائي

إن وجود أشخاص في الحكاية (أي حكاية)، ونوعية الحوار الدائر فيها، وطبيعة الموضوع ومغزاها، ومن خلال تسميتها، ليس أكثر من وجود الملح في الطعام (الحدث روح الحكاية الحية)، ليكون تذوقه أكثر، والذين سعوا إلى وضع قواعد، أو ما يشبه القواعد، تخص ما أسمّيه بـ(الحلف المشترك) بين البشرية جمعاء، ولكل سهمه ونصيبه فيه، تبعاً لدوره وعطائه، يمكن العودة إليها والانطلاق منها، بغية التعرف إلى حقيقتها الإنسانية، وبلغات شتى.

على سبيل المثال، إن فلاديمير بروب، لم يخترع الحكايات، ولا كان له يد في تسميتها، بقدر ما كان له مساهمة قيّمة، وهو يبحث في الموّحد فيما بينها، فيما يجعلها واحدة، رغم اختلاف المجتمعات وثقافاتها، فلا يعود الاسم مؤثراً، بما أن ثمة زخماً فاعلاً فيها ووراءها، يكون شعبياً بجلاء، وتحديداً، لحظة الربط بين ما هو إنساني ونباتي في (مورفولوجيا الحكاية الخرافية)، فالمورفولوجيا تعني(دراسة الأشكال. وتعني في علم النبات دراسة الأجزاء المكونة للنبات وعلاقتها ببعضها البعض وبالكل)، ثمة ما يماثلها فينا نحن البشر، وفي حكاياتنا (فمن الممكن فحص أشكال الحكاية التي ستكون مطابقة تماماً لمورفولوجيا التكوينات العضوية)، من الممكن لقاء مكونات الحكاية هذه، وفي أساساتها الكبرى من خلال المَعلم الميثولوجي- السحري- البيولوجي- الحيواني- النشوئي البشري- الهزلي- الأخلاقي1، وهذا ما يمكن تتبعه في نصوص مختلفة تخص الإنسان في وحدته2.

إن الحكاية لا تقبل احتكاراً لها، ووضع الاسم على أي نص يعني حيازته، يعني إلحاق النص به، ومنطق الحكاية وهي في تشكلها، تبز خيال أي بارع في الوصف، والمواءمة بين الواقعي والخيالي، وليس قدرتها على الاستمرار وسرعة انتشارها، وتقبلها في أوساط مختلفة، وفي عصرنا بالذات، نظراً لأهميتها المكتشفة حديثاً، إلا دليلاً على أن الموعود به لا زال ينتظر مبدعين من نوع آخر، وهم ينشغلون بأوجه الإبداع فيها من جهة، وينهلون من معينها الجمالي ما يسهم أكثر فأكثر في ملامسة ما يعيشونه، كما هو الكامن في لا مرئي النبات، والحكاية باعتبارها قرينة نباتية، تكون هائلة الثراء، احتضانية وليس احتوائية، موهوبة للآخر. أي ما يكون عليه صدى برج بابل في النفوس، وكيفية الاتعاظ بما جرى، حيث الحكاية تتقدمنا ولا تكون وراءنا فقط..

الحكاية الشعبية ولاحكاية

 «موت المؤلف»

ربما لا تجوز المقارنة بين مفهومي كل من الحكاية الشعبية وموت المؤلف، لانتفاء التكافؤ تاريخياً وقيمياً.

لا تاريخ دقيق للحكاية الشعبية، إنها غائرة في التاريخ وتغري التاريخ ذاته بالمزيد من التحرك، للمزيد من الانفتاح، بما أن حدود الحكاية الشعبية تمثّل عالمها الخاص والذين يعيشونها وفي عالمها، والتاريخ له شأن آخر إلى درجة التعارض الكلي أحياناً مع الحكاية هذه. إن مجرد دخول الحكاية في التاريخ لا تعود وحيدة ذاتها، إنما منسوبة إلى التاريخ، ممثَّلة به عبر اسم هو ذاك الذي يضطلع بشؤونها أو تتسلسل بإيعاز منه، الحكاية بهذا المعنى أكثر من التاريخ من خلال المؤثرات الفاعلة فيها، ونسبة أسهمها، والتاريخ له كتابه وحماته وإيديولوجياته.

ما يثار هنا ليس من باب الإيقاع بينهما. إن لكل منهما مداره الخاص، والحديث ينصب على جدة الحكاية، الحكاية الشعبية الطراز ملء مفهومها، وقابليتها للتنوع، للسرد بطرق متنوعة، لكأنها تعلِم دائماً بعدم الإنجاز بما أنها تحيا بدوام الألسن، فالصوت هو رمز بقائها، وحتى وإن دوّنت فهي تبحث عن ممثليها الصوتيين، والتاريخ يعرف بأسماء كتبته وموضوعاتهم والأحداث التي سطّرت بطرق قابلة للنقاش والاختلاف عليها، و«موت المؤلف» ينتمي زمنياً وقيمياً إلى التاريخ بجلاء، وهو مولود حديث، حيث يحضر رولان بارت هنا، منذ عام 1968.

أن يكون النص أكبر من قائله، من خلال مكوناته وتاريخية المكونات هذه، شكَّل ولازال يشكل تحدياً لأي كاتب، لإثبات أن ما يقوله ويكتبه، يعنيه وحده، لتأكيد أن ما يعنيه يمكن الرهان عليه، وليس أن ينخرط في نصه، أن يتوارى وراءه مهما كان مستوى إبداعه، ويترك النص في معية القارىء «عهدته» ليقرر ذلك، إنه قارىء من نوع معين، وليس أي قارىء، ما إذا كان النص يقبل بكاتبه، أن ثمة مطابقة بينه كمكون لغوي ودلالي، وجينة الكاتب، أي ما إذا كان في مقدور النص إعداد القارىء بما يبقي كاتبه وراءه وهو زاخر بالتنوع من جهة، ويسمّيه، لحظة شعور القارىء أن حضور الكاتب باسمه، تم على أثر شعوره بما هو أكبر منه، في تعددية أصواته من جهة ثانية، أي فيما إذا كان النص المطروح في عداد الاستراتيجيا وليس التكتيك، كما هو المعهود كثيراً هنا (فأن يكوّن المرء نصاً يعني أن يضع حيّز الفعل استراتيجية ناجزة تأخذ في اعتبارها توقعات حركة الآخر- شأن كل استراتيجية)3.

الحكاية، أي حكاية استراتيجيا نافذة المفعول، ولو بزاوية معينة، وثمة حكايات  «نفاثة»، إن جاز التعبير، تتعدى حدود المعنيين بها مباشرة، دون أن تغفل عنهم، إنها تسمّيهم لأنهم تمكنوا من معايشة نوع من الإبداع غير مسبوق، فتكون الحكاية نتاج زمن طويل، وقابلة للتكون في أي زمن، قابلة للتحول، دون إغفال النظر عما تكونه تاريخياً، كما هو شغف النقاد التاريخي والثقافي بها، بقدر ما تكون الحكاية عرَّابة لقائنا بالمفارقات...

هذا لا يتوفر في الاسم: اسم الكاتب الثلاثي، وربما علامة أخرى تميزه، وإجراءات حفظ الاسم ولغته وبيئته، والاسم دائماً يشغل حيّزاً ما من الحكاية، لتكون دعوى» موت المؤلف» استلهاماً حكائياً، وإن لم يصرَّح بذلك !

ربمكا أمكن اعتبار الحكاية جنساً ثقافياً، وليس أدبياً  فقط، نبعت منه أنواع مختلفة من الآداب والفنون، وبالتالي فإن هذه، ومن خلال اللغة التي نتحدث بها أو لغتنا المحكية، تدين لها كثيراً، بما أن الذي يعنيها يضعنا في متن تاريخ مفتوح على الجهات الأربع، وكونها تتمتع بفضيلة خطاب تسمح لأي كان في أن يلجأ إليه والاحتماء به، ومن ثم الاستفادة منه في تطعيم أو تلوين خطابه الأدبي، أو توشيح لوحته الفنية، وفي الوقت ذاته، في تحويله إلى أثر مرئي أو حسي اعتماداً على الجسد، اعتماداً على العلامات التي تسمه محلياً أو جماعياً أو دينياً... الخ، إنه خطاب الماضي دون أن يفارقنا، خطاب الغائب الذي يمتلك قدرة فائقة على استدراجنا الذاتي إلى حماه والنهل منه، في أزمنة وأوقات متفاوتة، وكأنها رصيد مصرفي غير قابل للإفلاس، نستلف منه ما يؤاسينا ويعزينا..

في هذا السياق، يمكن تقدير المنظور الأدبي المركَّب عند كل من الجاحظ والتوحيدي والأصفهاني، ونحن نشهد حضوراً للظل الحكائي، وجماليات السرد الحكائي، لدى الأول في ( الحيوان- البخلاء)، والثاني في مجمل كتبه وربما دون استثناء( البصائر والذخائر- الإمتاع والمؤانسة) بصورة خاصة، والثالث في ( الأغاني)، وما يمكن استشفافه في ذهنية هؤلاء وسواهم ممن مزجوا بين السرد الحكائي والمقاربة البحثية الخاصة لموضوعاتهم.

الحكاية الشعبية التي تكون ملتقى كل الصيغ الحكائية وموتيفاتها، قابلة للتجدد من خلال الكشف المستمر عن رقائقها، وهي عبارة عما لم يُسَم فيها، كما هو المفهوم العلمي لأي مادة حية، إنها الرقائق( السيليكوم)، وكيف أنها تختزن ما من شأنه إحياء تواريخ مختلفة، بينها غاية التعارض، والمناسبات تنتمي إلى خانة الحكاية هذه، مثلما أن المهرجانات التي تثيرنا أو تستثيرنا عبر معاودتها، تضعنا في متن التاريخ، الماضي الذي يمضي إلينا، أو تلك الشعائر والطقوس بأطقمها المتنوعة: الأشخاص، واللباس، والأصوات، والمكان المعَد، والنظارة ...الخ، حيث تكون تحت رعاية حكائية، بما أن حضوراً شعبياً هو الذي يضفي على المناسبة أو الحدث المستعاد، تلك القيمة أو الأدائية التعزيزية، وفتح المعابر التي تُسد وتفتَح دورياً، بيننا والذين نتفاعل معهم من خلالها، كما لو أن الحكاية حاضرة بكل هيبتها ونكهتها ولحظتها التليدة المكثفة، أعني خميرتها التي تبقينا على مباشر بمن سبقونا.

في الحالة هذه نكون إزاء تحول كيميائي، إخصابي لمفهوم الحكاية والتي تمثّل نسخاً غير قابلة للتزوير، إنما تقبل التوالد أو التكاثر، انطلاقاً من بذرتها التكوينية الأولى، لتكون هذه بالذات قابلة للمساءلة تاريخياً، وكيف يكون المتاح لأي كان، شريطة توافر الذوق الحكائي، والوعي الحكائي، فاعلاً في تجديد العهد بها، لا بل والمساهمة في تعزيزها، لأن لا حكاية دون أشخاص يروونها، دون رواة يمنحونها ألقاباً وجماليات تركيب وانطباع، بأصواتهم، وكذلك بما تهيأ لهم من محاسن التعبير القولي، والزيادة والتعديل، لتكون هي علامة وجودهم واستمرارهم..

إن شعور المرء أنه مقروء بكل اللغات، أو بكم كبير منها، من خلال جملة حكاياته، لهو عرفان بجميل الحكاية تلك، علامة امتياز لها، وتصريح بمدى الحاجة إلى مضاعفة الجهود للاهتمام بها، حيث تتشابه حكايات بينها حدود وسدود، وكأنهاتنتظر لحظة إلغاء الحدود والسدود تلك، وما مفهوم (الحكايات العالمية) إلا هذا البعد الرئيس في الحكاية عموماً، هذا الاعتبار الذي يصعد بنا عالياً، والإصغاء إلى صوت الآخر ولو أنه في أقصى الأقاصي.

كون الحكاية تنفتح على أسماء مختلفة، وتصل فيما بينها في النهاية، لأنها الغفل من الاسم، فمؤلفها عام جداً.

إن الحكاية التي تسمّي نصها لا مؤلفها، عناصرها لا أشخاصها بالتفصيل، تعمد جاهدة من خلال قواها الحية على البقاء، وتلك التي تمثل جمعاً بشرياً على الأقل، وفي الآن عينه وعياً إنسانياً للوجود وبصيغ مختلفة، تمتلك جملة قدرات على تدعيم مركزها، بحسب القيم التي تبثها، تحيل إليها المؤلف الذي لا يمكن التأكد منه، أو الوصول إليه، لا بل إن ظهور الاسم يفقدها خاصتها الحكائية، يحيلها نصاً أدبياً يمكن الاختلاف عليه أو حوله كثيراً، وبالتالي، تكون على أهبة الاستعداد لتلبية رغبة أي كان، ولو من باب الفضول، لسماع صوتها، أو هسهستها، فهي لا تكف عن بث مؤثراتها الجمالية، لا تنفك ترسل صوتها المترجم عبر كلماتها، إلى من فيهم شغف  بها كحكاية، وزيادة عدد زبائنها، خلاف التفكير في مفهوم المؤلف هذا الذي يعمل على العكس من عمل الحكاية، إنه السعي الدؤوب والمناوراتي وهو في سن حداثته، وأوج وعيه بواضعه اسماً ومكاناً وتاريخ ولادة، ولغة وانتماء عقيدياً، لمنافسة الحكاية في طريقة عملها ولو ندّياً، كما لو أن عدم التذكير بالاسم، يرفع عن النص المؤلَّف، تلك  «التهمة»، أعني  لوثة التأليف جهةَ الصنعة الأدبية وفحواها أو مبتغاها، ويكسِب النص هذا قيمة عالمية أو مجتمعية في الحال.

إن المؤلف وإن غاب أو غيَّب اسمه، أو محاه، يلاحقه أثر كتابته، أو يسمّيه أسلوبه، أو أنه هو ذاته لا يني يبحث عن تلك المحفّزات والممرات التي تصله بنصه ومصيره، ومدى انتشاره، وكيفية استقبال الآخرين له، والحكاية أبعد من أن تكون هكذا، إنها الآخرون في الصميم، أعني بهم من هم في القاع، كقوة ملحمية متراصة، لكنها ليست جبهاتية إنما مضيافية، خلاف النص المنسوب إلى اسم، أو الممهور عليه بتوقيع معين، حيث إن الجبهاتية أو الخندقية لا تغادره، إنما فلنقل: ما يدخل في حالة التمويه لتنشيط فعل القراءة، وزيادة أسهم الكاتب ذاك.

ثمة من يقف للكاتب ، أي كاتب،بالمرصاد، وهو يحاول طرح نصه دون اسم، وسياسة الإجراء هذا، وفي الحكاية تذلَّل الصعاب، لا بل إن وجود حكاية كحكاية، يعني مباشرة، وبقدر مضمونها الاعتباري الإنساني، عالميتها.

إن سطوة أو غواية ضمير المتكلم الـ»أنا» لا تفارق نصه المكتوب،  وهي سطوة مرغوبة في ذات الكاتب هذا، وهو ممعن النظر في كيفية رواج الحكاية، وكيف تمارس حضورها، بعيداً عن الـ«أنا»، فحضور هذه في الحكاية ليس أكثر من إجراء نصي حكائي لا يسمّي أحداً، لا يخرج عن نطاق لغته، لأن ثمة تمثيلاً من نوع مختلف لهذا الضمير، ولو أن الاسم مشاع وسط الناس، بما أن الـ«نحن» هي القائمة بسطوتها المحببة، لأنها تعني أياً كان وليس أيَّ أحد، وتلك ميزة لافتة نافذة في النص الحكائي، وهو يطرح نفسه في أمكنة مختلفة بألسن مختلفة.

في هذا المضمار، يسهل النظر في البعد الحركي والدلالي للعبارة المتداولة في وسطنا، عندما يتكلم أحدهم، باعتباره شخصاً، فرداً، ليستدرك مباشرة( وأعوذ بالله من قولة أنا)، إنها القولة التي تضعه في موقع المساءلة، وهو يتحدث في موضوع لا يعنيه هو نفسه، والمتكلم يدرك بوعي أو من خلال المتوارث، ماذا تخفي القولة في داخلها، ماذا تحوز سلطوياً، أو أي سلطة معنوية تلوّح بها، تلك القولة تعيد المتكلم إلى نصابه المعهود، إلى بث الطمأنينة فيه، حيث التنسيب إلى الجماعة، وكأنه يقدم طلب انتسابه إلى ما هو جماعي: حكائي، ليسهل عليه القيام بالدور الذي ألزم به نفسه، ويكون في وسع الآخرين من حوله الانفتاح عليه، وكأنه الغائب الذائب في حكايته!

إن المقدرة الفائقة في ديمومة الحكاية، واستجابتها لرغبات مختلفة من ناحية التأويل، تسمّي عناصر تكونها، كما هي معزّزات القوة والرهبة فيها، كما هي حالة غموضها الآسر، وإشكالية المادة التي تعنيها، هذه التي بقيت طويلاً طويلاً طي الإهمال، واُعتبر الباحث فيها، أو المنشغل بها، من به لوثة، وتقل قيمته بناء على ما تقدم، وكان ذلك يقابل المنبع الرئيس لها، أي من يكون البطل الفاعل والمنفعل فيها، وكيف أن منحها قيمة تنامت تدريجياً، كما تنوع الدراسات التي تخصصت فيها منذ قرابة قرنين من الزمن، وربما لاكتشافات الاثنوغرافيين والرحالة، ذلك الأثر الكبير في بروزها، إضافة إلى تنامي القيم الإنسانية والبحث عن متضمناتها شعبياً.

إنه لاكتشاف حديث رغم أنه قديم جديد، هذا المتعلق بالحكاية، وما جعل الحكاية حكاية بالذات، ما دفع بالشعب لأن يكون في الواجهة، وكأن الباحث الذي تفرَّغ كلياً أو جزئياً لمقاربة بنيتها، إنما يعيش ارتحالاً إلى الجذور التي تتأصل عميقاً فيه، وأن ما ظهر على السطح يشي بما هو كامن أو ينتظر الاكتشاف في القاع، وهذه المسافة الواصلة بين السطح والقاع، وهي تمثّل حواراً قائماً، تلهم الأديب والفنان مثلما تشغل ذهن الباحث والمفكر والفيلسوف بالذات، ومن يتفانى استجابة لروح الحكاية المسماة، وتأكيد انتماء ذاته إليها في مجموعها.

وأن تكون الحكاية حكاية، وقابلة لدوام النظر فيها، فلأن ثمة ثراء في فروعها، ثمة إمكانية للتحدث عنها، وهي أكثر من تأطيرها في منظومة لغوية وأفراد يهتمون بها، أو يستأنسون بقراءتها أو بالإصغاء إليها عبر تعدد الحكواتيين، وفي أمكنة مختلفة، إنها إمكانية وضعها في ساحة مفتوحة، تطل على جهات مفتوحة مدهشة:

- أسمّي هنا الحكاية مرئية من خلال الجسد الذي يحمل قسماتها، أو رموزها أو علاماتها( الوشم والحناء، وإشارات تنسيب لجماعة أو ثقافة خاصة) وفي منحى توارثي جماعي أو فئوي أو أكثر من ذلك. إن الجسد الذي يندغم مع المسمَّى بصرياً، ويعهَد برعايته إلى جماعة ما ليس أكثر من إعلان ولاء وانتماء للجماعة تلك، لأن ثمة سرداً لقصة ما، لأمثولة ، أو حكمة متوخاة من خلال حركية الجسد، وسط أجساد متشابهة، وكأن المرئي يميت الاسم الفردي، مثلما يحيل فردانية الجسد، أناه بالذات إلى عالم أوسع وأعمق، تتمثل في الجماعة كرونولوجياً، الفرد بجسده لا يعود بحاجة ماسة للتعريف بمن يكون كثيراً تبعاً لثقافته، إن جسده يعرّف به، حيث إنه يعيد سرد حكاية أهليه، جماعته وآدابها، فهو  المطل الجمعي والمروّج والداعية نوعاً لما يحمله جسدياً من الخارج.

- أسمّي الحكاية من خلال السمعي، وهنا تتداعى إلى الذهن أو الذاكرة تلك الموسيقى الشعبية، أو الفلكلورية، وهي لا تعدو أن تكون نسيج حكاية إنما خلل الصوت، حكاية توقف عمل الترجمان، لنفاذها الكبير في الحاسة السمعية.

- أسمي الحكاية هنا اعتماداً على ما هو شمي، حيث إن البخور والروائح، قد تدخل في عداد المأثور الشعبي، تذكيراً بمناسبة دون أخرى، واتصالاً بمن سلف ذات يوم عبر الشم، إنها حكاية اكتشفت هذا المشترك الجمعي.

- أسمي الحكاية كذلك من خلال اللمسي، بما أن اللمس يتجاوز حدود الطبيعي أو الغريزي فيه، كما في العلاقة مع الآثار القائمة أو أضرحة الأولياء والتبرك الجسدي بهم. إن اللمس يحيل اللامس إلى واحد من كل، إلى تنحية الاسم الشخصي، وتزكية الجمعي، ضماناً أوفر لبقاء الروح، وإشعاراً بسعادة لا تخفى في الملامح وغيرها.

- أسمي الحكاية أيضاً اعتماداً على ما هو ذوقي. إن لحكاية الذوق رصيداً بيّناً، يعزز علاقتنا بأفراد لا يمكن الانفصال عنهم تاريخياً، ليكون التواصل الذوقي جزءاً مما هو شعائري، لكنه الموازي لحكاية متداولة نصياً..

إن التَّماس المباشر مع الحكاية، يوجّه أنظارنا نحو التاريخ البادي الاستقلالية في نصوص مغايرة لها ظاهرياً، ولكن إمعان النظر في فعلها الموجي المحيطي( الأوقيانوسي) بالمعنى الأدق، يعرّفنا بعراقتها، حيث يسهل علينا ملامسة ظلال وارفة لها في البنى السردية لنصوص ملحمية وروائية وقصصية لاحقة وبغزارة.

في( ملحمة جلجامش) منذ أكثر من أربعة آلاف عام، يمكن التعرف على صنعة الحكاية في البناء الملحمي، من خلال أولي الأمر في « أوروك» والعلاقة بين جلجامش وأنكيدو، أو العلاقة المركَّبة بين جلجامش وأمه، جلجامش وصاحبة الحانة، جلجامش وعشتار، أي على مستويات ثلاث، وكيفية تجلي أثر المرأة في التاريخ الحكائي، وما يخص فكرة الموت وطقوسه، أعني ما كان متوارثاً من قبل تدوين النص الملحمي، مروراً بشهرزاد، وليس انتهاء بأي امرأة تمثل أدواراُ مختلفة في حياتنا اليومية، إنها ضروب بطولة وحيل وتفان ٍ على صعيد الواقع.

فثمة حنين ما إلى الأصول، على طريقة ميرسيا إلياد، إنه ليس حنيناً بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما هو ارتحال الإنسان في ذاته بذاته، شعوره أنه الواحد في التاريخ رغم الموت المقطّع في مسيرة البشرية، وما الحكاية إلا الصدى الأبدي لحدث موغل في التاريخ، يتجاوز قدراتنا الطبيعية، حدث يعمُّنا جميعاً، فلم نجد بداً من نسجه بالطريقة التي توهمنا أننا قادرون على فهمه، ووضعه تحت السيطرة دلالياً، وأن أقصى ما يمكن للفرد أن يقوم به، هو محاولة مغازلة هذا الأصل المفترض، هو الاغتراف من المعين الفائض لنص حكائي، وتطويعه بإيقاع معين لذائقته الجمالية، وهو يضع اسمه، أو يحاول التنصّل من سلطته الاسمية، ليكون للنص حضور أمثل، وفي الحالات كافة، نكون في حضرة الحكاية، ومنتمين إليها، وليس خارجها، وإن ادعينا تحكماً بمنطوقها، كما هو شأن الحكايات الدائرة في فلك (ألف ليلة وليلة)، وما اقتبس منها ، وهو كثير، باسم أو بدونه أدبياً وفنياً..

إن هذا لا يتعلق بـ(ألف ليلة وليلة) وحدها، ولا حتى بنصوص (كليلة ودمنة)، وكيف تسنَّى لصاحبها «بيدبا» جمعها، ولا حتى بمجموعة مرويات متراصة، ملحمية من جهتها، لـ(الإلياذة) أو(الأوذيسة)، وهي المنسوبة إلى هوميروس: الاسم الملهم للشعراء والمسرحيين وحتى بالنسبة للفلاسفة اليونان بتفاوت، ولكنها تسمّي فضيلة الجمع والصياغة فيه كثيراً، وتأثيرها في الذين جاؤوا من بعده أدبياً وفنياً وفكرياً، بقدر ما يتعلق بصراع الإنسان المستميت ضد عامل فنائه، ضد محدوديته وغموضه4، وكيف يمكنه الانتشار باسمه أكثر فأكثر، وما الذي يشغله نفسياً وذهنياً في هذا المقام، وكيف يحدد علاقته بما هو خيالي وواقعي أو ميثولوجي، وتكون الحكاية في انتظاره على صعيد المعطى الجمالي، وإمكانية التكيف، كونها تسمّي فيه ما هو أرضي، وتعلو بشأنه سماوياً.

الحكاية لا تفرض نفسها على المعني بها، ولا تلزمه باتخاذ سياسة  معها، أو تقديم ولاء طاعة معينة لها، وهو يقرأها، أو يصغي إليها، أو يتمثلها، إن هذا ما يمكن التركيز عليه على السطح، إنها لا تشغل نفسها بأحد، حيث لا سلطة لها للتفريق بين أي كان وسواه، الآخرون هم الذين يصيغونها ويوجهونها، ولكنها في كليتها أغنى أو أعم قيمياً ممن يحاول وضع يده عليها، لأن لا اسم لها فيضمها إليه، إنها تمارس دوراً إسعافياً، أو تمارس دوراً إرشادياً وتنويرياً، من خلال إخراج الإنسان من محدوديته، ليكتشف ثراءه الإنساني، أكثر من اسمه الخاص، وما هذا الحنين المستمر إليها، إلا اعترافاً ضمنياً بمكانتها في عالم الميكروسكوبيات، كما لو أن المرئي مما هو تقني، أو منجَز تقنياً، في عالم المدينة اليوم، من أدق الأجهزة الألكترونية إلى أكثر الأبراج علواً، ليس أكثر من نفحة من نفحات الحكاية التي تقيم داخلنا، وأن ما يفكَّر فيه يستمد مقومات وجوده من هذا المتدفق الجمالي حكائياً .

موت المؤلف بين الحكي والزعم

يرتبط الحكي بما هو ممكن التقليد، لكنه التقليد الذي يمكّن من التواصل والاستمرار في الحياة. الحكي يستحضر ما له صلة بالمحاكاة، والمحاكاة تضعنا في نطاق ما كان، وما يمكن أن يستمر، كما لو أننا نعيد ما كان الذين سبقونا ان أعادوه، كأن ثمة نوعاً من الاستنساخ بالذات في الحياة، لكن المحاكاة لا تبقينا صورة طبق الأصل عمن كانوا قبلنا، ونحن نستعيد ما تميزوا به، فيما كانوا يقولونه ويفعلونه، ثمة فصل زمني وثقافي بيننا، بما أن الذين كانوا يعيشون خاصية الحكي، ينسبون أقوالهم وأفعالهم إلى الذين سبقوهم، وكأنهم كانوا أحياء بالفعل، وأن ما يأتي من خلال السرد يمثل بشراً فعليين. الحكي ليس التقليد بالمعنى الحرفي، إنه ادعاء التشابه في حالة تاريخية، تعزيزاً لقيم مشتركة ومتنازعة، تصل ما بين الأولين والسابقين، بقدر ما يكون اعتقاد  بأن الذي يُحكى يفلح في نيل الاعتراف بالوجود، إنه إجراء بالإخلاص للآخرين، ولكنه لا يدخل في نطاق مقايضة أو مساومة معينة، لأن ثمة غياباً لما هو مشخص، لأن ثمة تمثيلاً ظنياً أو وقفياً لمن نستعيدهم من خلال الحكاية، لا يؤخَذ به في كليته.

إنه إجازة بالتحرك بسهولة أكثر بين ماض له قيمته الرمزية، وحاضر يعني أهليه ومستقبل لا يكون نسخة عما كان. ثمة ترحيب بالذين يتمثلون في الحكاية، وإعلاء من شأن المتمثل بالحكاية قراءة أو إصغاء...

يعني ذلك أن ثمة فسحة من الحرية، من الهامش المخوّل بالاجتهاد، لأن لا وجود لاسم يثير حساسية معينة، وكأن الحكي يخفف من وطأة الحاضر، ويوجّه الأنظار صوب المتخيَّل. إنه درس في الاختلاف والائتلاف معاً.

المؤلف ذاته لا يخلو من نفاذ فعل الحكي، ولكن الذي يمكن إيجاده يكون من قبيل الإبداع، أو الإتيان من الذاكرة الحسية، مهما كان التناص موجوداً، ليكون للحكي شأن آخر، يتوقف في أهميته، على مدى براعة الكاتب، وفي هذا السياق، يكون حضور المؤلف قوة أو ضعفاً، بحسب روعة المأثور النصي أو الفني، أي رحابة المؤتى به.

لكن العملية تظل في حقيقتها، مبقية الحكاية في الصدارة، فلا يضاهي أهميتها أي نص موسوم بما هو فردي، وليس سعي الكاتب في تأكيد نصه أو نتاجه أكثر من اسمه، إلا دخولاً في رهان الحكي، إنه حكي واصف، يستدعي تدخلاً في مغزى هذا الإجراء، الذي يصرّح الكاتب فيه بتلاشيه، أو ينعى اسمه الشخصي.

إزاء ما تقدم، يمكن لمفهوم الزعم أن يثري هذه العلاقة، بما أن الزعم ذاته أقرب إلى الادعاء، إلى أن المسمى لا يخلو من شبهة، أو طيف توهم، الأمر الذي يسمح للآخر بالتدخل، أي بالتفاعل مع الحكاية باعتبارها حكايته.

ثمة زعم للكاتب، لمن يقوم في مقام السارد، وهو نفسه قائم مقام الحكواتي، فيكون الزعم إحالة على خطاب الحكي، وما يترتب عليه من إثارة للمتلقي، ما يتواضع عليه ذوقياً وقيمياً، مع التنويه بأن الحكي يعطف على نص حكائي، مشغول بحدث، تتنوع شخصياته الحكائية، ويكون السرد عامراً بالحركة، وما تمثله الحركة واقعاً، كأننا في حمى مشاهد فيلمية، أما الزعم فيقتضي تأنياً في البحث ومساءلة أكثر حول مصدر الكلام والغرض منه.

للكاتب المشغول بالتأليف زعمه أو مزاعمه، وليس من نص روائي أو قصصي، مثلاً، إلا وينطوي على نسيج  زعمي، بحسب نجاحه في بناء نصه، وهو المسؤول كلياً أمام نصه، وهو في وضعية الابتعاد عن سلطته الاسمية، لا يزعم بالحرف أنه يريد تحقيق الأفضل فيما جاء به، وإنما يترك ذلك للقارىء. إن القارىء- الناقد وحده في وسعه تتبع سياسة الكتابة عنده، وما إذا كان في الحالة هذه أو خلافها، قد أحسن صنعاً لا زعماً طبعاً!

 إن الزاعم يندمج في عملية السرد مع نصه، حين يكون كاتباً، بقدر ما يكون النص وجهاً من وجوهه الألف، لتكون الحكاية التي يخوض غمارها حكايته التي تعنيه أولاً وأخيراً حتى وإن ادعى التنازل عنها، عبرشطب اسمه، لأن لا موت لاسمه هذا، وتكون الحكاية قادمة من خارج السياق، حكايته هو، لحظة تسمية علاقته الخاصة بما يكتب، وما يضمّنه نصه من وقائع مختلفة على صعيد التخييل، وإن كان الضمير على منوال السارد الحكائي.

الزعم في الحالة هذه وجه من وجوه السرد المحفّز للفضول لتقصي حقيقته، والحكي( كما في « يحكى أن..»)، لا يستدعي تنصتاً على المهموس في المحكي، لأن ثمة إحالة على الغائب، وتخيير للقارىء أو المعني بالمتابعة.

وفي (كليلة ودمنة)  يسهل تعقّب الحراك الدلالي للسرد الذي يدشنه الزعم ويسميّه، ولكن مع توخي الحذر، لأن ثمة أمثولة يراد لها أن تتبلور في كل حكاية من حكايات العالم الحيواني والمسرودة بلسان فيلسوف مقرَّب من الملك دبشليم، ثمة تسجيل مواقف5، لأن الداخلين في نسج الحدث الحكائي المرتج دائماً مغايرون في طبائعم كثيراً لما هو كامن فينا، خلاف المتواتر أو طبيعة الحكي في  (ألف ليلة وليلة)، حيث نعثر على عالم كشكولي، عالم من أشباه البشر والحيوانات والسحرة والأفاكين والمثيرين للرعب، حيث يستساغ هذا العالم أكثر، ومن هنا كانت أهمية (ألف ليلة وليلة) وانتشارها مشرقاً ومغرباً، سواء عبر الاهتمام بها مباشرة، أو النهل منها في الكتابة والتصوير، وما أسهل ما يمكن تحديده من كتابات تستقي رموزاً لها من هذه، وليس من ( كليلة ودمنة)6.

إنها كتابة على كتابة، ولكنها لا تستطيع إزاحة الأولى، إزاحة الملهم أو إسكاته، نظراً لأن الأصوات التي ملأت أفق مجموعة الحكايات المتداخلة، تميزت ببراعة التحميل الرمزي والقدرة على الجذب، وإن ترجِمت إلى لغات أخرى، وقد لا نجانب الصواب، ومن خلال المثار عنها، أن ليس من روائي انشغل بالغرائبي، وليس لـ(ألف ليلة وليلة) أثر طائف في وجدانه أو عالمه النفسي حتى اللحظة، ولتكون الصياغة المتعلقة بـ(موت المؤلف) ضرباً من ضروب اليوتوبيا الحداثية غير الصالحة للاستعمال في مجالس الأنس والطرب، أو مجاراة الحكاية.

هنا، وليس أبعد من هنا، يبقى مفهوم«موت المؤلف» معطوفاً على ما هو حكائي، ويعيش ثراء عالمه اللاحدودي!

 

إشارات

1- انظر، فلاديمير بروب: مورفولوجيا الحكاية الخرافية، ترجمة وتقديم: أبو بكر باقادر- أحمد عبدالرحيم نصر،النادي الأدبي الثقافي بجدة- السعودية، ط1/ 1989، ص48-57 .

2- انظر حول ذلك، ما قام به جيمس فريزر، في كتابه المهم: الفولكلور في العهد القديم( التوراة)، ترجمة د. نبيلة إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1982، وبموازاة ذلك ما أثاره الكزاندر هجرتي كراب، في: علم الفولكلور،ترجمة: رشدي صالح، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967، وما يمكن أن نعتبره تطبيقاً، لبعض من تلك القواعد الموضوعة في كتاب بروب، لدى فردريش فون ديرلاين، في كتابه: الحكاية الخرافية» نشأتها – مناهج دراستها- فنيتها»، ترجمة د. نبيلة إبراهيم- مراجعة د. عزالدين اسماعيل، دار القلم ، بيروت،ط1/ 1973،  وشوقي عبدالحكيم، في كتابه: الحكاية الشعبية العربية، دار ابن خلدون، بيروت، ط1/ 1980، وكذلك عبدالحميد بورايو، في كتابه: الحكايات الخرافية للمغرب العربي» دراسة تحليلية في» معنى المعنى» لمجموعة من الحكايات»، دار الطليعة، بيروت، ط1/ 1992.....الخ.

3- إيكو، أمبرتو: القارىء في الحكاية» التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية»، ترجمة: أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1/ 1996، ص 67.. وانظر جانباً من تطبيق مفهومه ( المدار)، لدى علي الشدوي في كتابه ( مدار الحكاية» فرضيات القارىء ومسلماته»)، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط1/2008.

4- حول ذلك، يمكن قراءة ما أثاره رينيه جيرار، في كتابه: العنف والمقدس، ترجمة: جهاد هواش- عبدالهادي عباس، دار الحصاد، دمشق،ط1/1992، كما في: أصل الأضحية، ووحدة جميع الطقوس...الخ.

5- يقول عبدالفتاح كيليطو، في كتابه ( الحكاية والتأويل» دراسة في السرد العربي»)، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1/ 1988، ص40:( كل حكاية في كليلة ودمنة مبنية على استعمال الكلام من أجل المكر والخداع)، وتلك لعبة المفارقات، وإلا لما كان هناك من أصل لا للحكاية أو لأي نص أدبي، ويبقى الوسيط الدلالي المركَّب هنا.

6- ينظَر للتوسع حول ذلك، ما أثاره ياسين النصير في كتابه  (المساحة المختفية» قراءات في الحكاية الشعبية»)، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط1/ 1995. أما على صعيد المؤثر الحكائي في النص الروائي، وتحديداً(ألف ليلة وليلة) من ناحية التنويع السردي وإثرائه، عند طائفة كبيرة من الروائيين» نجيب محفوظ، سليم بركات، إميل حبيبي، إدوارد الخراط، مبارك ربيع، محمود المسعدي...الخ، فيمكن النظر فيما أثاره د. محسن جاسم الموسوي، في كتابه( ثارات شهرزاد» فن السرد العربي الحديث»)، دار الآداب، بيروت، ط1/ 1993...الخ

أعداد المجلة