الغناء الموريتاني من خلال الفنانة المعلومة بنت الميداح
العدد 34 - موسيقى وأداء حركي
في المجتمع البدوي في موريتانيا، ظلت الموسيقى والأغاني، حتى وقت قريب، حكرا على فئة اجتماعية محددة، وهي فئة الرجال على وجه الخصوص، الذين كانوا مغنين جوالين يلقبون ب (īggâwən) ولكن، شيئا فشيئا، بدأ هذا الوضع يعرف مجموعة من التغييرات. إذ تحول تدريجيا معظم الموهوبين منهم، عن دورهم التقليدي، الذي ينحصر في تأليف وغناء شعر الحماسة بين القبائل المحاربة الشجاعة، إلى احتراف الموسيقى، والغناء.
يعود تاريخ أصول الموسيقى الموريتانية من حيث تركيب آلات: «التدنيت» و«آردين» و«النفارة» و«أم ازغيبة» إلى أصول البنية التقليدية للموسيقى الموريتانية التي تنقسم إلى 3 جوانب هي:
- اجانبة البيظة
- اجانبة الكحلة
- اجانبة لكنيدية
وتتكون بدورها من 6 جوانب هي :
- اظهور - كر
- فاغو - لبياظ
- لكحال - لبتيت
وهـــذه الأسمـــاء تتغير حســب الجـــوانـــب الثلاثـــة، ويمكن ردها الى أصول أمازيغية مثل: «آردين والتدنيت والتامونانت والتيشبطن». ويقول الكثير من الدارسين إن الموسيقى الموريتانية تنحدر من أصول عربية أندلسية استجلبها الموسيقار العربي المشهور زرياب، من المشرق الى الأندلس، على الخصوص آلة التدنيت التي تعتبر بشهادة المتخصصين وريثا شرعيا لآلة العود العربي. لكن لا يمكن لباحث في الموسيقى استثناء التلاقح الثقافي وتبادل المعارف في اتجاه الجنوب بحيث نجد بعض الملامح للموسيقى الإفريقية الزنجية التي أثرت بشكل أو آخر في المقامات الموسيقية الموريتانية.
في السنوات الأولى لموريتانيا المستقلة، تمكنت بعض العائلات من هؤلاء المغنين من احتلال مكانة مهمة على الصعيد الوطني وداخل هذه الأسر التي يعتبر الشعر والموسيقى جزءا لا يتجزأ من نمط حياتها. في هذه الفترة بالذات بدأت تبرز بعض المغنيات المحافظات على التقاليد الموسيقية ومن بينهن المعلومة بنت الميداح التي أصبحت أيقونة موسيقية عالمية. رغم الصعوبات الاجتماعية التي اعترضت مسيرتها الفنية.
تنحدر الفنانة المعلومة من عائلة أهل الميداح المشهورة، ولدت سنة 1960 بميديردرا «جنوب غرب موريتانيا» تعلمت الموسيقى والغناء وهي ما تزال طفلة، كما أتقنت العزف على آلة الأردين. وعندما تسأل عن ذكرياتها الخاصة التي عاشتها تستدعي أمرين حاسمين في تكوينها الشخصي. كان والدها المختار ولد الميداح معلمها الأول إذ كان يتوفر على ثقافة موسيقية واسعة، فبالإضافة إلى العزف كان مولعا بسماع موسيقى العالم على أسطوانات أو على الراديو. كانت ثقافة المعلومة متعددة موسيقيا فعن طريق السماع ما بين الستينيات والسبعينيات اغترفت المعلومة موسيقى العالم: الموسيقى الشرقية. الموسيقى الكلاسيكية. موسيقى البلوز الأمريكية. أما الجانب الآخر في تكوينها فيتمثل في حساسيتها صوب ما يحدث أمامها من صراعات اجتماعية سياسية، فطورت موقفا حادا صوب التفاوتات الطبقية. تقول أنها لاحظت الظلم الممارس على فئة «الحراطين» العبيد الذيـن يعــامــلـون مــعامــلــة تمييز وهي لا تتوقف عند هذا الحد بل تطالب بوضع اجتماعي لائق للفنان الموريتاني عامة وللفنانة خاصة مستشهدة ببعض الأسماء التي أصابها الغبن والتهميش مقابل عطائها الفني المذهل، مثل «ديمي منت أبا» .
صارت بنت الميداح واحدة من الأصوات الأكثر شعبية منذ صدور ألبومها «دنيا» الذي سجلته في نواكشوط في ديسمبر 2002 تحت الإشراف الفني لكامل زكري، ومن هنا بدأ العالم يتعرف على قصتها، قصة المغنية المتمردة التي كانت تُرفَض أغانيها في بلادها
لأنها تستحضر العلاقات الزوجية، ووضع المرأة المتدني، كما تدعو إلى مكافحة الإيدز، والزيجات المدبرة، وتطالب بالعناية الصحية بالأطفال وتدعو أيضا إلى محو الأمية وتنمية المرأة. كان غناؤها يشكل خطرا على المؤسسة التقليدية. فخضعت وصلاتها الإشهارية التي أنجزتها لصالح اليونيسيف للرقابة والمنع. كما تم تعليق خط هاتفها الشخصي، ومنعت أغانيها من البث في وسائل الإعلام السمعية والبصرية الوطنية في موريتانيا منذ عام 1998.
إذا كانت المعلومة قد أزعجت الطبقة الحاكمة آنئذ، فإنها بالمقابل حصلت على تقدير كبير من طرف الشباب الذين أعربوا عن اعجابهم بصراحتها وصدق مشاعرها وطريقتها في تجديد الموسيقى الموريتانية الموازية بين الماضي والحاضر. لكن جرأتها الموسيقية دفعتها إلى الذهاب بعيدا في التجديد إذ مزجت ما بين الموسيقى التقليدية وموسيقى البلوز الأمريكي. وبذلك اخترعت أسلوبها الخاص. بألبومها الرائد «نور» الذي سجلته تحت إدارة الفرنسي فليب تيسيي. دخلت عالما موسيقيا على حافة الماضي والحاضر. «نور» يراهن على موسيقى الانفتاح، ويفتح آفاقا مبتكرة لمقطوعات موسيقية موريتانية جديدة.
بعد سنوات طويلة من النفي تعد اليوم المعلومة بنت الميداح شخصية غير عادية في موريتانيا. في عام 2007 انضمت لمجلس البرلمان، لتتوج التزامها السياسي القوي ولتواصل نضالها من أجل العدالة الاجتماعية محافظة على نهجها الفني الجامع بين التراث والحداثة الذي جعل منها نجمة الغناء في مطلع التسعينيات. ورغم الاحتجاجات واصلت بلا هوادة فنها متجاهلة الإدانة ومتحدية بقدرة عجيبة الإكراهات جميعها، التي تعد في المجتمع الموريتاني جسيمة وخطيرة. وأخيرا كان قطاف المعلومة على قدر عزمها وسخائها، فجاء مكللا بثلاث ألبومات غنـــائية ذات مــواصـــفات عـــــالــمـية هــي: صـحـــراء وجــنة (1999)، ودنيــــا (2003)، ونـــور (2007).
بعد هذه السنوات كلها من النضال السياسي، تعود المعلومة إلى مادتها الموسيقية التي تتحكم فيها وتشكلها وفق تصواراتها الرائدة. فجاء «كنو» رابع ألبوم دولي جسدت فيه إلهامها وتجديدها الموسيقي. استغرق إعداده ثلاث سنوات. ومذاك اعتزمت المعلومة أن تترك السياسة وتخصص وقتها لموسيقاها، وإبداعاتها ولهذا الكنز الموسيقي الملقب بـ«إغاوين». في عام 2011 أنشأت مؤسسة خاصة به للدفاع عنه أحسن الدفاع.
تقول المعلومة عن مؤسستها: «تتوفر موريتانيا على كنز ثقافي غني جدا، وخاصة في مجال الموسيقى، حيث يتعايش الأفارقة السود والعرب والأمازيغ. وموسيقانا تمثل هذه الثقافات. هذه الموسيقى الأصيلة، الموروثة عن الأجداد، بدأت تختفي بسبب العولمة.هناك قنوات تلفزيونية تستورد أنماطا ثقافية بعيدة عما لدينا. وهدف مؤسستي أن تجمع وتحافظ على الخصائص الموسيقية جميعها التي تمثل الثراء والتنوع لتراثنا. نحن بصدد إنشاء بنك كبير للصورة والصوت عبر أنحاء موريتانيا. كما تهدف المؤسسة إلى تسليط الضوء على الموسيقى والترويج لها عبر العالم».
الغناء والموسيقى عند المعلومة بنت الميداح صنوا الحرية ووسيلة لتحقيقها عبر التأكيد على أن الفن يمكن أن يغير شيئا ما في المجتمع التقليدي. طموحها الفني تجسد هذا العام في ألبومها العالمي «يا حبيبي» 2015 الذي لقي انتشارا كبيرا ويمكن تتبع عدد مستمعيه ومشاهديه الهائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لنكتشف كيف استطاعت هذه الفنانة أن تنبعث كالفنيق من رماد مجتمع أبيسي حاول بشتى الوسائل إسكات صوتها المرتعش بصلابة والمترسب بثبات في وجدان الموريتانيين والعالم بأسره. صوت لا محيد عنه بمجرد الإصغاء إليه والانفتاح علـــى ذوقـــه الفنـــي وتجـــديــده للمقـــامـــات التقليدية للموسيقى الحسانية والإفريقية.