فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

طقوس العلاج الشعبي بالمغرب

العدد 34 - عادات وتقاليد
طقوس العلاج الشعبي بالمغرب
كاتب من المغرب

يمثل العلاج الشعبي في المجتمع المغربي ظاهرة اجتماعية بامتياز إلى الدرجة التي يجتذب إليها كثيرا من المهتمين به والمتحمسين له أو المشككين فيه. والملاحظ أن هذا النوع من التداوي يزداد اتساعا وانتشارا مهولا، وأن المقبلين عليه والواثقين في فعاليته لا يقتصر فقط على الشرائح الاجتماعية الفقيرة والبسيطة بل يتجاوز ذلك إلى الطبقات المتوسطة والغنية أيضا، كما لا ينحصر الاعتقاد فيه عند الفئات الاجتماعية غير المتعلمة بل حتى المتعلمة أيضا وذات مستوى ثقافي ومدرسي عال. ولعل هذا ما يجعل من هذا السلوك ظاهرة تتطلب من العلوم الاجتماعية وضعها تحت المجهر بهدف تشخيصها ودراستها.

 

لا آمل من هذه المحاولة تحليل الدوافع التي تجعـــل زبـــنــــاء الــتــداوي التقــلــيـدي والمـهـووسـين بـه يقبلون عليه في مختلف أرجاء المغرب لكون ذلك يقتضي التفرغ له وتتبع خطى هؤلاء منذ البداية إلى النهاية. لذلك فإن هذه المقالة ستحاول رصد أشكال وأساليب ممارسة هذه الطقوس والوقوف عند المكانة التي تحتلها في منظومة الحس المشترك وكذا العلاقة مع القوى الروحية والخارقة أثناء التداوي. وبعبارة أخرى، فإن هذه المساهمة ستحاول توضيح المفارقة التالية: لماذا يتم اللجوء إلى القوى السحرية والتصديق بها واعتبارها صادقة وطاهرة أثناء الشعور بمرض عضوي أو نفسي في مجتمع معاصر مفروض فيه أن يقطع مع هذا النوع من العلاج؟

لا شــــك أن تنــــــاول التـــــــداوي التقليــدي بــالكتابـــة والبحث يطرح إشكالا منهجيا ذا علاقة بالكيفية التي يمكن للباحث مقاربته بها. فمن المقاربة الإثنوغرافية مرورا بالمقاربة الأنتروبولوجية وصولا إلى المقاربة السوسيولوجية يجد الباحث/المهتم نفسه في متاهة اعتماد المقاربة الصائبة والفعالة دون التنقيص من نجاعة كل واحدة منها وأهميتها على مستوى تقديم فهم علمي للظواهر الاجتماعية والثقافية. في هذا السياق، أجدني مضطرا لاستلهام كل هذه المقاربات أخذا بعين الاعتبار خاصية انتمائها إلى مبحث واحد ألا وهو مبحث العلوم الاجتماعية.

وإذا كان البحث في الثقافة الشعبية يمتاز بالتعقيد لأنها على صلة دائمة بالمجتمع وتعبير معقد له، فإن التطرق للعلاج الشعبي في المجتمع المغربي كتجل من تجليات الثقافة الشعبية يبدو ذلك من السهل الممتنع سيما وأنه ينتشر بين جميع الأوساط الاجتماعية ولم يعد يقتصر على فئة اجتماعية دون أخرى كما أكدت على ذلك مجموعة من الطروحات الكولونيالية التي كانت تقرن الثقافة الشعبية بالتخلف والتأخر.

في ظل هذا الاعتبار أجد نفسي ملهما بالتصور الذي قدمه الأستاذ محمد الجوهري حول «المنهج في دراسة المعتقدات والعادات والتقاليد» حيث يعتبر «المعتـــقدات الشـــعبية» هــي الخـــريـــطة الكـــــلية - بـــيد الشعب - لتفسير الكون، وفهم الظواهر الطبيعية العادية والشاذة وكذلك تصوراتهم عن أسرار بعض الظواهر الفيزيقية والنفسية. فهي إرث مشترك بين كل الناس في كل مجتمع وفي كل عصر، ريفيين أم حضريين أم بدوا، أميين أم متعلمين، أغنياء أم فقراء»(1). لذلك فمقاربة ظاهرة العلاج الشعبي بالمجتمع المغربي مقاربة إبستيمولوجية تتطلب من المهتم الحذر المنهجي والمفهومي سيما وأن التعاطي لهذه الظاهرة محصور حسب الحس المشترك في الإنسان التقليدي البدوي والفقير، وهي مغالطة تستوجب إعادة القراءة والتصحيح.

بناء على ذلك، لا يجب حصر مهمة هذه الدراسة في عرض الأساليب والآليات المتبعة في التداوي التقليدي بالمجتمع المغربي بقدر ما ستحاول سبر الجانب الخفي في هذه الممارسة والكشف عن الميكانزمات الدفاعية التي تسترشد بها الشخصية الممارسة لهذا الطقس.

ويثـــير العـــلاج الشـــعبي إشـــكالا منهـــجيا آخــــــر علـى مســتوى التحديد المفهـومـي. فإذا كـان الرصـيد الأنتروبولوجي يتميز بتوافر مجموعة من المصطلحات التي تتداخل وتتكامل مع هذا المفهوم، وإذا كان استعمال الطب الشعبي التقليدي هو السائد في البلدان المتخلفة والنامية، فإن الطب البديل أو التكميلي هو الأكثر استعمالا وانتشارا في البلدان المتقدمة(2). وعلى الرغم من هذا التنوع والاختلاف معا، فإن العلاج التقليدي يجسد الصورة الجامعة لهما مادام الأمر مرتبطا بالعودة إلى المقدمات التقليدية في التداوي.

يجب التأكيد، ما دمنا في إطار التحديد المفهومي، بأن الضرورة المنهجية تفرض التمييز، ونحن نتحدث عن آليات التداوي التقليدي، بين العلاج بالأعشاب الــذي بــدأ يشــق طــريقه نحــو المــأســسة والتنظيم(3)علـــى الــرغـــم مـــن عتــاقـــته، وبـــين التعاطي للشعوذة كطريقة تحترفها النساء والرجال معا كشكل ثان للعلاج الشعبي وكمعتقد شعبي يلجأ إليه المرء قصد التداوي من الأمراض. فإذا كان العلاج بالأعشاب نال اعترافا من طرف الهيئات والمنظمات الصحية، فإن الشكل الثاني يثير كثيرا من التساؤلات والغموض ستحاول هذه المقالة أن تفرد حيزا للآليات التي يعتمدها والطرق التي ينهجها بالتركيز على أصناف ثلاثة وهي: العلاج بالتشوف من العين الشريرة، العلاج من الثقاف، العلاج من التوكال.

1.أركيولوجيا العلاج الشعبي:

القيام بالحفر الأركيولوجي لمعرفة تاريخ العلاج الشعبي، بشكل عام، يسوقنا إلى تأكيد أن العرب الأوائل، خاصة منهم المختصون في الطب العربي التقليدي، ساهم كل واحد منهم من زاويته في تأليف ووضع أسس وقواعد هذا الفن (العلاج الشعبي). فمن أبي بكر الرازي ومؤلفيه الشهيرين «الحاوي» و«من لا يحضره الطبيب» إلى ابن البيطار الأندلسي وكتابه الفريد «المفتي في الأدوية المفردة» مرورا بداود الأنطاكي وكتابيه المتميزين «زاد المسافر» و«سياسة الصبيان وتدبيرهم»...المتصفح لهذا الإرث العربي في التداوي الطبي سيجده بدون شك غنيا بمجموعة من الوصفات العلاجية الشعبية منها بالتحديد.

هذا الرأسمال المعرفي ساق إلى وضع قاعدة بيانات ومراكمة معارف حول طبيعة الأعشاب والنباتات المستعملة في التداوي التقليدي. وإذا كان تاريخ الطب العربي هم تحديدا رصد أنواع هذه الأعشاب وكيفية استعمالها أثناء ممارسة العلاج، فإن هذه الممارسة، في وقتنا الراهن، كثيرا ما أدخلت عليها اجتهادات عملت على تحويرها وإخراجها من سياق ممارسة مهنة الطب.

وهـكــــذا يـبـــدو مـــن خــــلال تـصــفـــحـنا لـمـجــــــمـوعــة مـن الكـــتـــابــــــات الســــوســـيـــولـــوجـــيــة والإثــنــولــوجــية والأنتــروبـــولـوجــية المحـــلــية مـنـها والأجنــبـية(4) التــي أنتجت حول المجتمع المغربي بأن الاعتقاد الشعبي في القوى الخارقة والخفية في إشفاء المرضى مترسخ في ذهن المغاربة.

وانتشار ظاهرة التعاطي للعلاج الشعبي في المجتمع المغربي ساهم فيه بشكل خاص ذلك الطوق والحجب اللذان مورسا عليه بعد الحماية من طرف الفقهاء والعلماء ورجال الدين والعلمانيين على حد السواء، والتهميش الذي لحقه في إطار الصراع مع الشعوذة والحرب ضدها نظرا لتناقضها كليا مع ما كان يدرس في المدارس القرآنية العتيقة. ورغم رفض علماء الدين لكتابة التمائم من طرف الفقهاء والطلبة (بتشديد الطاء ورفعها وتسكين اللام) التي اعتبروها منحرفة وهرطقة، فإن الطبقة الدنيا (من المجتمع)، وهي التي تمثل الأغلبية العظمى من زبناء هؤلاء النُسّاخ، لا تلقي بالاً لهذه الأفكار الدقيقة(5). ولعل ما يجسد هذا الاعتقاد ويدحض موقف المستشرق الألماني مايرهوف الذي يرى بأن التداوي بالأعشاب يسير في اتجاه الانقراض، هو أن الزائر لمدينة مراكش سينبهر عندما يلاحظ بأن ساحة «جامع لفنا» هي بمثابة ذلك الفضاء الرحب لممارسة العلاج الشعبي. وهو تفنيد أكدته إيفان ماتر(Yvan Matter) في عملها الوصفي لهذه الساحة(6).

2.العلاج الشعبي في المجتمع المغربي:

ولأن العلاج الشعبي في المجتمع المغربي، كما هو مغاربيا، كثير التنوع فذلك يدفع في اتجاه عدم اختزال ممارسته في فئة اجتماعية دون أخرى كالعشابين مثلا، بقدر ما سيلاحظ المهتم أن مزاوليه ينتمون إلى أصول اجتماعية متفاوتة ومتنوعة الانحدار. ليس الأصل الاجتماعي هو المحدد لممارسة العلاج الشعبي وإنما البحث عن الكارزما الاجتماعية. لذلك فالمزاولون الحقيقيون لهذه المهمة هم الفقيه والشوافة والعراف والعشاب والمشعوذ(ة) والعطار والكواي، غير أن المهام تختلف من هذا إلى ذاك. فإذا كان العطار هو الشخص الذي يقوم ببيع المواد المراد استعمالها في الوصفات العلاجية، فإن ذلك يتم بناء على ما يخططه الفقيه ويأمر به المشعوذ وتحدده الشوافة والعشاب. أما الكواي فله مهام أخرى لا يسع الحديث لذكرها.

أما القيمة الاجتماعية لممارسة العلاج الشعبي فهـــي تتفــــاوت حســـب الثـــقــة الاجتــماعية والأهـمــية التي توليها لها مكونات المجتمع المغربي من جهة، والشرعية القانونية التي تمارس في ضوئها من جهة ثانية. فإذا كانت هذه القيمة حاضرة في كل الأوساط الاجتماعية دون تحديد وتمارس، في جل الأحيان بصيغة الأنثى، فلأن ذلك نابع من فقدان هذه الثقة في الطب العصري بفعل عجزه عن إيجاد إجابات لبعض الأمراض العويصة. وأمام انتشار هذه الظاهرة كان لزاما على القانون أن يقوم بتقنين عملية التعاطي للعلاج التقليدي وتنظيمه. على هذا الأساس، شرعت وزارة الصحة في المغرب في سن قوانين تنظيمية للعلاج الشعبي ومحاربة التداوي العشوائي وإطلاق عملية التحسيس بخطورة هذه الظاهرة علما بأن المركز الوطني لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية سجل سبع حالات وفيات في عام 2013 وحوالي 30 حالة تسمم نتيجة الاستهلاك العشوائي لمستحضرات الأعشاب.

وعلى الرغم من هذه الطفرة التي شهدها العلاج الشعبي في المجتمع المغربي، فإنه لم يحظ بعد بثقة كاملة لدى كل مكونات المجتمع إما بفعل ممارسات وسلوكات بعض الفقهاء (الفقهاء هنا مستعملة كما يتداولها الحس المشترك) مما يجعلهم عرضة للتحقير والاستهزاء بهم خاصة منهم أولئك المتعاطون للشعوذة والسحر بمختلف الأساليب، كما هو الأمر بالنسبة لفقيه بمدينة خنيفرة المغربية يدعي العلاج بالتشوف إلا أنه منبوذ وسط ساكنة هذه المدينة وينعت بنعوت وأوصاف تلصق به (ولد الشوافة، ولد السحار...)، أما زبناؤه فهم القادمون من خارج المدينة(7). إنها أدلة كافية على دونيتهم في المخيال الاجتماعي المغربي وفي الهرمية الاجتماعية(8) رغم اللجوء إليهم في الأوقات الشادة.

3.أصناف ممارسي العلاج الشعبي:

يمكن تصنيف طرق العلاج الشعبي في المجتمع المغربي إلى:

- العلاج بالأعشاب النباتية المنصوص عليها قانونيا.

- العلاج بالطرق السحرية والشعوذة، وهنا ندرج العلاج بالتشوف بواسطة الورق، والعلاج عن طريق التعود (العوادة)، والعلاج عن طريق الطلاسم، والعلاج عبر الكي. وكلها طرق علاجية ينظر إليها حسب التمثلات الاجتماعية نظرة دونية وحقيرة ولو كان ذلك ظاهريا فقط، لأن الإقبال عليها كثيف ولا ينحصر في شريحة اجتماعية دون أخرى، ذكورا وإناثا، علما بأن الجنس النسوي هو الأكثر تشبعا وإيمانا بهذا النوع من العلاج وتعاطيا له.

واللجوء إلى ممارسة طقوس هذا العلاج والعادات القديمة العلاجية، والإقبال عليه من طرف جميع مكونات النسيج الاجتماعي ما هو، في الواقع، سوى ترسيخ للهوية الاجتماعية ما دام يجمع بين متعاطيه كل الشرائح الاجتماعية كما يؤكد السجلماسي بما فيهم ذوو الشهادات العلمية العليا والأطباء من بينهم(9)، وما ذلك إلا تثبيت لهذه التقاليد وترسيخ لها عند الإنسان المغربي، والتي لا تعبر سوى عن تأكيد للهوية علما بأن الغاية من التقاليد والعادات هو تأكيد استمرارية الوعي الجمعي كما يقول دوركايم(10).

وعلى الرغم من هذه الميزة الرمزية، يبقى التساؤل حول التعاطي للعلاج الشعبي والإقبال عليه وفقدان الثقة في العلم ـ حتى راح المفكرون والأطباء والمثقفون وأصحاب الحظوة الاجتماعية يستبدلونه بالميتافيزيقا مشروعا خاصة مع تنامي الظاهرة وانتشارها في الأسواق الأسبوعية والأحياء الشعبية والتصديق بالقوى الفوق طبيعية والروحية والقيام بزيارة المزارات والشوافات والأضرحة والمشعوذين في علاج المرضى.

4.العلاج الشعبي بالتشوف:

اللجوء إلى العلاج بالتشوف كثيرا ما نال اعتراف الباحثين والمهتمين بالثقافة الشعبية، ويزداد هذا الاهتمام كلما كان المقبلون عليه يتحدرون من نخب المجتمع (مثقفة وسياسية...) تعتمده في تحصين نفسها. لذلك فاللجوء إلى الفقهاء (الطلبة مفرد الطالب) والمشعوذين الممارسين لطقوس العلاج الشعبي المعتمد على القوى السحرية في المجتمع المغربي، في تزايد مستمر. ومن بين الدواعي التي تدفع إلى اعتماد العلاج بالتشوف يمكن ذكر:

4 .1.الوقاية من العين الشريرة (التقواس):

التقاليد الشعبية مليئة بالأمثلة التي تجسد الاعتقاد الشعبي بخطورة العين الشريرة (أو التقواس) مما يدفع المعتقدين بذلك إلى اتباع أساليب للوقاية منها(11). وتحتوي (العين الشريرة) على مادة عضوية وكميائية ذات شحنة سحرية تمر بشكل غير مرئي وخفي لتتسلط على الهدف وتصيبه بالضرر عبر نظرات العين. وتمر قوة التدمير والهدم هذه عبر قنوات الرؤية ـ وهي ممرات شعاعية للعين ـ أو قنوات مسموعة كالنميمة أو التواصل غير المباشر والذي يحدث بفعل النظر. وهذا ما يزيد من رهبة العين وقوتها إلى المستوى الذي جعل المرء يخاف منها.

تحول ذلك إلى معتقد شعبي مؤداه أن نظرات فلان خطيرة لكونها قادرة على تدمير الآخر أو أي شيء تصيبه. وتعبر نظرات كل عين شريرة على البغض والكراهية والحسد والغيرة والغدر من جهة، الشيء الذي يجعل هذه النظرات تكون قاتلة ومقصودة حسب الاعتقاد الشعبي، وقد تعبر من جهة أخرى عن إعجاب المرء بهذا الشيء المرئي فتكون نظرة العين غير مقصودة لذلك تستبق بـ «باسم الله، الحمد لله، خمسة وخميس...» اتقاء لقوة العين التدميرية. أما التعبيرات الدالة على ذلك فهي تكون في شكل لمس وإبداء الإعجاب والانبهار.

ولقد كان ذوو العيون الشريرة ينعتون بالسحرة كما كان الأمر في القرن 16، وبقي هذا الاعتقاد، وما زال، سائدا في بعض المجتمعات خاصة منها الإفريقية(12). لذلك يندرج ضمن أقدم المعتقدات السحرية والتي تمثل رأسمالا فولكلوريا متقاسما بين الشعوب ومن بينها العربية والمغاربية تحديدا.      

أما من الزاوية السوسيولوجية يمكن القول بأن العين الشريرة تعمل على إضفاء الطابع النزاعي على العلاقات الاجتماعية وتقوم بإفسادها، وبالتالي فهي بمثابة السلطة التي من المفترض أن يتسلح بها شخص ما لإيذاء شخص آخر سيما وأن الطبيعة الإنسانية تتميز دائما بالخشية والحذر والاحتراز كما تشير إلى ذلك الأدبيات الفلسفية. فالاعتقاد في العين الشريرة دائما ما كانت له جذور سوسيو  - تاريخية توارثتها الأجيال من الماضي حيث كانت تســود المجتمعات ثــقـــافــة السحــر والخرافة المبنية على ثنائية الصراع بين الخير والشر (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان: هوبز) لذلك كان العمل دائما هو تفادي ذوي العيون الشريرة وتفادي شرورهم. فالمرء في الحس المشترك المغربي دائما ما يخشى من الحساد والمتطفلين في إلحاق الضرر به.

بناء على ذلك، عادة ما ترى أمامك وأنت مسافر رسما لعين أو كف يد ممدودة عند أسفل مؤخرة حافلة أو شاحنة أو عربة وقد كتب إلى جانبه عبارة «عين الحسود فيها عود». ومؤدى ذلك أن كل عين شريرة قادرة على إلحاق الأذى بصاحب الشاحنة تواجه بذلك الرسم القادر على فك شفرة ذلك الضرر وتحطيمها، وفي ذلك مقاومة ووقاية منها. وهناك من يثبت صورة لكف اليد بأصابع ممدودة على أعتاب الدور والدكاكين والهدف هو الحفاظ على ممتلكاته وموارد رزقه والحماية من المصائب التي قد تلحقها بها عين شريرة لشخص ما (الحسود، الغيور...).

من جهة أخرى، تجد النساء اللائي يخفن على أطفالهن ذوي الجمال المثير (ذكورا وإناثا) على وضع تميمة معروفة عند كل مكونات المجتمع المغربي، وكل شعوب المغرب العربي عامة، باسم «لخميسة»، مصنوعة من المعادن، في عنق هؤلاء الأطفال ومازالت تستعمل في الوقت الراهن من قبل الراشدين سواء من باب الزينة أو الوقاية أيضا.

وفي بعض المواقف تلجأ الأم، كذلك، إلى تحصين ابنها أثناء ليلة العرس مخافة العين الشريرة، فتعمد إلى وضع المواد التالية في قطعة صغيرة لقماش أبيض: ثلاث حبات من القزبر، كمية قليلة من الملح على قياس ما يوضع بين الإبهام والسبابة. تقوم الأم بوضع ذلك في القماش الذي تعمل على تلويته وتربط إلى جانبه قطعة نقدية صغيرة وعتيقة من الزنك وبعض الحبات من العقيق حمراء اللون. وبالتالي يوضع كل ذلك في شكل خاتم في أصبع اليد اليمنى للعريس ( البنصر) يقيه من كل عين قد تترصده للإيذاء به (جعله غير قادر على ممارسة الجنس مع العروس خلال ليلة الدخلة أو بعدها). ولن يستطيع إلى ذلك سبيلا إلا بعد فك لغز العقدة التي وضعت له. فتفاديا لكل ذلك يقي العريس نفسه بهذه الطريقة ويتحرك في حرية تامة خلال ليلته.

أساليب الوقاية من العين الشريرة:

هذه التجليات للعين الشريرة التي نجدها في الحـــس الـــمشتــرك للمغــاربة وفي ثقــافتهم تــرافقها أساليب وآليات للوقاية منها. فإضافة إلى الطرق الواردة في الفقرات السابقة، يلجأ المغاربة إلى إتباع طرق أخرى لدرء قوى وسلطة العين الشريرة. من جملـــــة هـــذه الأسالـــيب تبقــــى «يـــد فـــاطـــمة»(13) (اليد اليمنى) أو «لخميسة» من أكثر الأساليب احتماء بها.

ولأن العـــين الشــريــــرة معتـــقد شعــــبي ومتـــــوارث بين الشعوب وحضاراتهم وثقافاتهم فإن القراءة السيميولوجية لطريقة (لخميسة أو يد فاطمة) صد نظراتها تفيدنا في تفسير أهمية الأصابع الخمس لليد. فهناك من يفسرها بإرجاعها إلى كتب التوراة الخمسة لليهود: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، سفر التثنية؛ أو إلى أركان الإسلام الخمسة للسنة؛ أو إلى أهل الكساء الخمسة من آل البيت للشيعة: (النبي محمد رسول الله (ص)، علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام)، الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)،  الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السَّلام).

أما على مستوى الحس المشترك، فاللجوء إلى استعمال اليد ليس إلا لتوقيف نظرات العين الشريرة التي تكون موجهة إلى شيء ما مميز اجتماعيا (سيارة فارهة، محل تجاري، شيء ما مدهش ومثير للإعجاب..) أو (لطفل آية في الجمال) أو العروسان...كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد فإن مالك هذه الأشياء أو والدي الطفل أو العرسان سرعان ما يستعينون بيدهم لإبعاد الشرور المنبعثة من الأعين الشريرة بمجرد ما يتم اكتشافها وترديد عزائم من قبيل «خمسة وخميس ف عينيك»، «الله يعمي عين الشيطان» مع القيام، في نفس الوقت، بتوجيه كف اليد في وجه من شك في نظراته أو عرف عنها بأنها تصيب الآخر بالأذى.

ومن بين الوصفات الجاهزة للحماية من العين الشريرة كتب أكضيض زكريا في الجريدة الإلكترونية «هسبريس»: «لحماية المولود حسب فاطمة، فإن أمه تهيئ له «وديعة»، تعدها من جلد أضحية «سبوع الـطــفل» الـمزداد (أي الــمولــود)، وتــمـــلأهــــا بـ«الشـــــبة»، و«الحرمل»، و«الشعير»، و«الملحة»، وتعلقها للطفل الصغير في عنقه لحفظه من «العين». وعندما يكبر الطفل تحتفظ أمه بالوديعة في ملابسها، حتى لا ينفذ مفعولها... وفي السياق ذاته، يبطل اللون الأسود أيضاً مفعول العين، لذلك تعلق الأمهات لأبنائهن الصغار «خميسة» سوداء على الجبين أو في معصم اليد بواسطة خيط أحمر، كما يلقين في ثياب رضعهن «صرة» من ثوب أسود، وذلك حفظاً لأبنائهن من العين الشريرة. وتتعدد آليات صد الأعين الشريرة، فالبعض يلجأ لحيوانات يقال إنها تبطل مفعول «التقواس»، كالسلحفاة البرية التي تدجن وتترك في البيت لطرد الأعين، والهيكل العظمي لـ «رأس الحمار الميت»، الذي يعلق في البيت لإبطال فعالية الأعين الشريرة»(14).

إن الشخـــص الـمــعــين - الـــذي تــقــع علــيه العــــين الشريرة - إذن قد يفقد ما هو عزيز لديه (أشياء مادية ومحبوبة، أبناء...) إذا لم يلجأ إلى الحماية من قوة هذه العين. ويتداول في الحس المشترك بأن ذوي العين الشريرة يتميزون بخاصيات تجعلهم عرضة للكشف من قبيل النظرة العميقة والمحدقة وذوي العيون الغائرة.

وغالبا ما تقرن العين الشريرة، بالنساء عامة، وتحديدا العجائز. لذلك ينصح، كما هو متوارث في الاعتقاد الشعبي المغربي، بالحذر منهن عبر إخفاء كل ما هو معرض لنظراتهن كالأطفال أو الأشياء المـــادية المــثــيرة لـــلإعــجــاب والانــدهــاش، وخــاصــة في المناسبات الاحتفالية.

كما يمكن للنساء الخائفات عن أبنائهن والمعتقدات أيضا في العين الشريرة إلى درء خطورتها بواسطة حجاب (طلسم) كتبت فيه آيات من الذكر الحكيم والتي غالبا ما تكون سورة الفاتحة. وينجز هذا الحجاب فقيه أو يتم شراؤه أثناء زيارة معبد أو مزار. وما زال البعض من الناس إلى حد الساعة يقــومـــون بتغــطــية مـقـتـنـيـاتـهـم بـوضـعها في حـقيـبة سـوداء، أو تفـادي الأكـل في إنـاء مكـشوف للنـظر كـما هــو الأمـــر في الأوســـــاط الاجـتـــمــاعـــــيــة الـشـــعــــبـيـة، أو تـجـنب اللـبـاس المـثـير، وبـكل بساطة التفاخر والتباهي بالذات.

   ويعتقد الإنسان المغربي بأن صفيحة الفرس هي الأخرى لها مفعولها في إبطال قوة العين الشريرة، لذلك نجد أولئك الذين يخشونها يقومون بتوطيد هذه الصفيحة عند مداخل المحلات التجارية أو الـبيوت. ويـفـسر الأنتـروبـولوجـيون الاسـتـعـانـة بـهـذه الصفيحة بكونها مجسم يبدو على شكل هلال أو قوس على غرار اليد المفتوحة أو العين اللتان توضعان في العنق ولهما نفس الشكل الهندسي القادر على صد نظرات العين الشريرة.

ويستعان أيضا بالتبخيرات وتحديدا عندما يكون هناك شعور بموعد زيارة شخص ما تكون نظراته تثير الشكوك والارتياب أو عيناه غائرتان أو معروف بشرارة عينيه. لذلك تستبق العائلة المستقبلة/المــضيفة لــهـذا الشخص بوضع بخور في كل أرجاء المنزل بدءا من عتبة الباب الرئيسي، أو ترديد بعض الآيات القرآنية، أو إعادة كلمات ذات شحنة سحرية كالقول مثلا: عينيك فيها عود، خمسة في عينيك دون إشعار هذا الشخص بذلك.

أما الأيام التي يجب فيها اتخاذ التدابير الواقية من العين الشريرة فهي أيام الاحتفال بمناسبة ما حيث يسود التزيين (أيام العيد، الأعراس...) كما أكد ذلك الأنتروبولوجي وسترمارك، أو خلال وضع امرأة لمولودها. فخلال هذه المناسبات من الواجب القيام بتبخيرات في كل أنحاء المنزل دون تحسيس أي شخص حاضر في هذه المناسبة بأنه هو المستهدف(15).

ولأن الوضع الاجتماعي الهش لبعض الأوساط الاجتماعية لا يسمح لها باقتناء هذه الصفائح المعدنية (عين سوداء أو يد مفتوحة) تلجأ النساء إلى الاستعانة بالوشم. فالوشم هو الآخر يستخدم للوقاية من الحسد والعين الحاسدة ومن الأمراض العصبية والنفسية(16). إذ تقوم النساء بوشم جبينهن عند ملتقى الحاجبين. إنه في الاعتقاد الشائع احتراز ووقاية من العين الشريرة أكثر مما هو زينة، لأنه بمثابة عين ثالثة بين العينين لإيقاف وإبطال مفعول نظرات العين. وقد يأخذ هذا الرسم شكل يد بأصابعها الخمسة. وهذا الاعتقاد الشعبي في الوشم يؤكد الحقيقة التي توصلت إليها الدراسات الأنتروبولوجية وهي أن الوشم يعود إلى تاريخ موغل في القدم، وهو في المجتمع المغربي ذاكرة ثقافية اجتماعية توارثتها الأجيال وتعايشت مع الديانة الإسلامية. إنها من المتبقيات العقائدية من الطوطمية التي ما زالت قائمة(17). ولا يقتصر الوشم على النساء فقط، بل تلجأ النساء اللائي لا يستطعن حماية أبنائهن من العين الشريرة، بواسطة الآليات التي سبق ذكرها (اليد المفتوحة، العين، الطلاسم)، إلى وضع وشوم لأطفالهن في أماكن بارزة من جسمهم كالوجه مثلا، وفي مناطق حساسة ومثيرة جدا.

  العلاج الشعبي من الثِّقَاف:

ظاهرة الثقاف من بين تمظهرات الثقافة الشعبية السائدة في المجتمع المغربي والتي يعمل الطب الشعبي على معالجتها. ولكونها ظاهرة اجتماعية وثقافية فهي كانت موضوع دراسة بعض الأبحاث الأنتروبولوجية التي انشغلت بالبحث وفهم السحر في المجتمع المغربي وانتشاره وسط كل أطياف هذا المجتمع وشرائحه.

ويشهد الحس المشترك في المجتمع المغربي على أن المصاب بالثقاف هو ذلك الشخص الذي يعجز عن ممارسة الجنس مع الطرف الآخر أو ينفر الزواج. هذا العجز يعود حسب الاعتقاد الشعبي إلى عامل السحر، ومن ثمة يصبح الثقاف أحد تجليات الممارسات السحرية، بل هناك من يرى بأن الثقاف من النواتج المرضية للسحر(18). فعوض القول بأن هذا الشخص أو ذاك غير قادر على ممارسة الجنس، يقال عنه بأنه مثقف (من الثقاف). ونفس الفهم ينطبق على المرأة التي لا تستطيع الإنجاب فيقال عنها بأنها مثقفة بفعل السحر. في هذه الحالة فالثقاف يرادف عدم قدرة الرجل على إتيان المرأة جنسيا وعدم توفر الرغبة عند المرأة للاستجابة الجنسية، أو التي تعاني من البرود الجنسي، أو ذات نفس باردة ولا تتحقق لديها الشهوة الجنسية. كل هذه التجليات ذات معنى واحد هو الإصابة بـ«الثقاف».

والثقاف كذلك، أو العكس والربط، وكلها مسميات لمعنى واحد هو عدم التمكن من تحقيق هدف معين في الحياة كالزواج أو الإنجاب بسبب وجود عائق معين يعتقد أنه وضع من طرف شخص أو عدة أشخاص في غالب الأحيان(19). وينظر إليه في كثير من الأحيان على أنه عمل شيطاني يستعان فيه بالجن السفلي لإنهائه.

متى ينجز الثقاف؟

ينجز الثقاف أو السحور بفعل الغيرة أو الحسد أو البغض أو الانتقام...ويتم ذلك إما لوضع حد لسيولة الحركة التجارية في متجر ما، وإما لجعل الزوج غير قادر على الممارسة الجنسية مع امرأة أخرى غير زوجته فيصبح ذلك حاجزا بينه وبين عشيقته. ويتم اللجوء إلى الثقاف أيضا لعرقلة إتمام زواج ما حيث تلجأ الأم إلى ثقاف ابنها الذي يريد الزواج من فتاة ما رغما عن أمه وعن عائلته. فخوفا منها وعليه تقوم الأم بهذه الوسيلة حتى تفشل هذا الزواج. وقد يمارس السحر أو الثقاف من طرف فتاة وعدها شخص ما بالزواج فتخلى عنها مفضلا فتاة أخرى من اختيار أمه أو أحد أفراد أسرته، فيصير الانتقام هو ثقافه حتى يبدو فاشلا أمام زوجته.

ويترتب عن الثقاف أيضا عدم الإنجاب بحيث، في الاعتقاد الشعبي، يتم تفسير ظاهرة عدم الإنجاب عند النساء المتزوجات بتفسيرات ميتافيزيقية وخرافية مؤداها وقوعهن تحت تأثير الثقاف. وهكذا تفسر إحدى النساء عدم إنجابها بعد خمس سنوات من الزواج بفعل السحر الذي وضعته لها حماتها أو إحدى قريبات الزوج. وحسب الاعتقاد الشعبي يتم إرجاع ارتفاع ظاهرة العنوسة إلى الثقاف(20).

وتورد إحدى الدراسات شهادات حول التفسير المعطى لبعض الممارسات السحرية، فيقال مثلا عن الثقاف على أنه تلك الحالة المرضية التي يكون عليها شخص ما (بارد) أو في حالة نوم دائم، أو يريد شخص ما أن يأتي المرأة فيصبح عضوه التناسلي رخوا (البرود الجنسي)، أو عندما يفقد الزوج الرغبة في ممارسة الجنس مع زوجته، فإن هذه الأخيرة تفسر ذلك بكونه ضحية الثقاف(21).

ويوضع الثقاف، كذلك، للفتاة من قبل أمها حتى تقفلها لتصبح معها كل محاولة جنسية  فاشلة منذ البداية. والدافع إلى ذلك هو خوفها من فقدان بكارتها. والأكثر تداولا في بعض جهات المغرب هـو لـجوء الأم إلـــى اخــتـــيــار خــيــط مــن قــطعــة نــسـجــيــة مستعــملـة في المـنــزل وتـقـطــيـعه بـحـسـب الـقـيـاسـات الطولية للبنت. وبذلك فإن أي شخص يريد إقامة علاقة جنسية مع هذه الفتاة، وحتى إذا كان ذلك برغبة منها، يفشل بمجرد البدء في إيلاج عضوها التناسلي لكونه يصبح عبارة عن صفحة مقفلة، أو لأن عضوه التناسلي يصبح رخوا فتصبح الممارسة الجنسية مستحيلة(22).

وهكذا يصبح ثقاف الفتاة وتصفيحها سحرا لتحصين عذريتها، لأن العذرية في المجتمع المغربي، شأنه في ذلك شأن باقي المجتمعات العربية المحافظة، تجسد ذلك الرأسمال الرمزي المقدس. إنها شرف الفتاة والعائلة معا الذي يجب الحفاظ والخوف عليه. على هذا الأساس تقوم الأمهات بوضع ثقاف لبناتهن قبل بلوغهن وربط عضوهن التناسلي بتمائم سحرية واللجوء إلى عالم الجن والخرافات والشعوذة حتى تضمن عذرية بنتها وسلامتها. وتقدم إحدى الممارسات لثقاف الفتيات بهدف الحيلولة دون فض غشاء بكارتهن التفسير التالي: «هو عبارة عن جروح خفيفة على فخذ الفتاة المراد ربطها وذلك عندما تكون صبية صغيرة باستعمال شفرة حلاقة، ثم يؤتى بمقفل أو ما يعرف بـ«الرمانة» أو مفتاح وتتلفظ المرأة التي تقوم بهذه العملية بكلمات سرية، ثم يغلق القفل أو يحرك المفتاح يمينا أو شمالا حينئذ تصبح البنت محمية من كل محاولة لفض غشاء بكارتها، ولا يمكن ذلك إلا بعد فتح المقفل أو تحريك المفتاح أو أكل شيء ممزوج بدم الفتاة(23).

ولا يقتصر الثقاف على النساء والفتيات فقط بل يشمل أيضا الذكور وتحديدا الرجال الأزواج. فالنسوة يلجأن إلى ثقاف أزواجهن خوفا من تركهن والسقوط في عشق بنات الهوى. لذلك تقوم هؤلاء النساء بقيد وربط أزواجهن وإقامة العقد لهم حتى يحافظن عليهم في منازلهم درءا للعلاقات الجنسية خارج إطار الزوجية. وقد تلجأ إحداهن، كذلك، إلى ثقاف عشيق لها حتى ينفر زوجته.

ويستعان في هذا السياق بأدوات بسيطة كما هي متعارف عليها وسط الممارسين لهذه الطقوس من قبيل المقفل والمقص وعود الثقاب، حيث يوضع ذلك بجانب أي مدخل من طرف ممارسة الثقاف حيث تنادي باسم المستهدف دون أن ترد على ندائها. كل ذلك يحدث بعد أن تفتح الأداة ويعاد إغلاقها. وهذا نموذج من نماذج ثقاف الرجال للحفاظ عليهم في بيت الزوجية حيث تبدأه بعض الشوافات باللازمة التالية: «السالبة والمسلوبة والغالبة والمغلوبة والساكنة والمسكونة ...» هي لازمة ترددها الشوافة في الوقت الذي تشير به إلى أعشاب والهدف هو تركيع الرجال وإخضاعهم لسلطة النساء. وتطلب إلى جانب ذلك، تلجأ إلى بعض المواد الأخرى من بينها منديل (أو الشرويطة كما في قاموسها) تحتاجه أثناء الجماع للمسح وتنظيف المني خلال المعاشرة الجنسية. وتنتقل في مرحلة لاحقة إلى أورق اللعب (الكارطة) فتقسمها إلى ثلاثة صفوف عمودية تأمر الزبونة بترديد العبارات التالية: قُولِي «هَا قَلْبِي هَا تَخْمَامِي هَا بَاشْ يَاتِينِي الله»(24).

ولا ينحصر الثقاف في مستواه الجنسي فقط، بل يمارس أيضا في عالم التجارة والشغل. إذ يوصف كل شخص، تكون تجارته في حركية مستمرة وسرعان ما تتوقف، بأن متجره تعرض لثقاف ما أثر سلبا على هذه الحركية.

بناء على ذلك، فالثقاف هو فعل يراد به إحداث الضرر والسوء إذا كان مقصودا، وفي هذه الحالة فهو يصنف في إطار السحر الأسود. أما إن كان غير مقصود ويتوخى منه الفعل الخِّير والحسن (كما في تحصين الفتاة، أو في تحصين الطفل، أو في تحصين التجارة...) فهو يصنف في إطار السحر الأبيض الذي لا يبتغي ممارسه إلا الخير للشخص/للشيء موضوع الثقاف.

حل الثقاف أو السحر:

من بــــين الأســـالـــيب التـــي يعتـــمد عليـــها في حــــل الثقــــاف وإزالـــته غـــالبــــــا مـــــا تستـــعين النســـاء بتــمائـــم وتعاويذ وجداول يكتبها الفقهاء، وهي عبارة عن كلمات وحروف ورموز غير واضحة ومستوحاة من كـــــتب صفراء قديمة. كما تتـــم الاستـــعانة بـــالشـــوافـــة والمشعوذين لفك هذا الثقاف وهو ما يتداول في الخطاب اليومي والعامي بـ «التّْفُوسِيخَة» أو «لَفْسُوخْ» وهي عبارة عن خليط قد يكون من الأعشاب أو المواد الطبيعية أو الحيوانية وحتى الإنسانية. إنها مكونات تصلح لأنواع كثيرة من التبخيرات والتعاويذ. على هذا الأساس يتم إعداد تمائم للوقاية من العين الشريرة مثلا، أو بخور مكونة من أعشاب صالحة للإنجاب تدعى بـ «عشوب النساء»، أو لاسترجاع الزوج وجعله وفيا لزوجته وخاضعا لها.

وعندما يتعلق الأمر بالحلول المملاة من طرف الفقهاء، فإن قراءة آيات الرقية كآيات لإبطال السحر ومفعوله على كل من الزوجين في وقت واحد، يكون مدخلا من مداخل فك الربط أو الثقاف/السحر. إذ يبدأ ممارسته باللازمة التالية: «َلْفِقيهْ بْبَرَاكْتُو، طْلَبْ التَّسْلِيمْ، لِّخَافْ نْجَا».

كما تتجسد عملية إزالة الثقاف بالنسبة للإناث (نساء وفتيات) في زيارة الأضرحة وأماكن التعبد والمغارات. فإذا كانت الأضرحة وأماكن التعبد تنال الـــمكــانـــة الـــرفيــعة في التـــعافي مـــن الثــقاف بـــالــنســبة للنساء، فإن المغارات هي الأخرى، ولو بدرجة أقل، لها موقعها الرمزي والمادي في المتخيل الشعبي في إطار إشفاء المريضات. والمثال الحي الذي نسوقه في هذا الخضم هو مكان، يقع جنوب شرق مدينة تازة بالمغرب بمنطقة جبلية، يدعى بـ «الواد البارد». والموقع عبارة عن مغارة تتدفق منها مياه باردة تزوره النساء المريضات «المسكونات» وأولئك اللائي يرغبن في فك ثقاف الإنجاب، والفتيات بهدف فك ثقاف الزواج. تعمد الزائرات إلى المكوث في هذا المكان لفترة زمنية (من نصف ساعة إلى نصف يوم تقريبا نظرا لبعده عن الساكنة وتواجده في منطقة وعرة وجبلية) مرددات دعاوى بحسب الهدف من الزيارة، وأثناء الاستعداد للمغادرة تترك الملابس الداخلية موطدة على باب هذه المغارة أو على شجرة قريبة منها بعد الاغتسال بمائها البارد والتضرع لله بالدعاء من خلال القوى الروحية القاطنة بهذه المغارة.

  خلاصة القول، إن فك الثقاف/الربط/العكس/العقد يعتمد فيه على طقوس يمكن أن تكون شفوية كما يمكن أن تكون يدوية أو هما معا. ففي الحالة الأولى، نجد الفتاة التي تريد فك ثقاف الزواج تقوم بترديد مجموعة من التمائم، التي قدمها لها الفقيه أو الشوافة أو العطار أو المشعوذ، وسط حشد من الشبان والهدف هو استمالة أحدهم حيث تظهر له غاية في الجمال. ونفس الشيء بالنسبة للذي تتعثر تجارته.

وهناك من يلجأ إلى الطقوس اليدوية والتي هي إعدادات وخلط لمجموعة من المواد ذات عناصر طبيعية (أعشاب) ومعدنية (رصاص، زنك، حديد...) وحيوانية (سلحفاة، حرباء، جلد الزرافة، مخ الضبع، عين الهدهد...) وإنسانية (دم الميت، بقايا جلده، الشعر، الأظافر...). ومن خلال هذه العناصر يتم تهييء وصفات سحرية حسب المراد علاجه من جهة، وحسب الذي يقصد لتحضير هذه الوصفة (فقيه، شوافة، مشعوذ، عطار...)، وتعد هذه الأخيرة هي الأكثر انتشارا في المجتمع المغربي وبين جل الشرائح الاجتماعية.

4 .2.العلاج الشعبي من ظاهرة التوكال:

ظاهرة التوكال، هي أيضا، متجل من تجليات السحر الأسود الذي يؤذي الجسد. إذ تبدو الحالة الجسمية للمستهدف منه هزيلة وتزداد بنيته الجسدية في تناقص مستمر باستمرار معاناته منها إن لم يبادر إلى علاجها علاجا شعبيا كما هو متعارف عليه في الحس الشعبي المشترك. وظاهرة التوكال، شأنها شأن الثقاف والعين الشريرة، تحدث بنية الإساءة للآخر الذي يكون المستهدف منه. إن الأمر يحدث نتيجة توتر في العلاقات البين - شخصية ينتج عنه توتر في العلاقات الاجتماعية.

وكما هو باد في الاعتقاد الشعبي هناك إيمان مطلق بحقيقة التوكال كظاهرة اجتماعية سائدة في كل الأوساط الاجتماعية، ويعرف عن ذلك في الطب المعاصر بالتسمم الغذائي.

والمصابون بالتوكال نتيجة الحسد أو الغيرة أو الانتقام أو الحقد كما هو شائع في التمثلات الاجتماعية لا يتريثون لعلاجه في البحث عن ممارسي الطب الشعبي (الأعشابي، الفقهاء، الشوافات، الكواي...) كل من موقعه؛ إما لأن الطب العصري عجز عن علاجهم وبالتالي تم فقد الثقة فيه، أو نتيجة الارتباط الوثوقي بالطب الشعبي.

أما أعراضه فتتمثل حسب شهادات المصابين به في الشعور بالألم في البطن، وصعوبة الأكل وابتلاع الطعام، وتساقط الشعر، وضيق التنفس، والسعال، وغياب شهية الأكل، وغياب الذاكرة...

فالتوكال إلى جانب الثقاف والعين الشريرة، ظواهر مرعبة في نظر كل مكونات المجتمع المغربي لما ينتج عنه من تدمير للإنسان بفعل احتواء الوصفات المقدمة للمستهدف من هذه العملية، لمواد سامة سواء كانت ذات طبيعة نباتية أو إنسانية أو معدنية.

لا يمكن القول عن هذه الظاهرة بأنها حديثة. إن المتصفح لكتب الطب الشعبي والتقليدي سيجد بأن ظاهرة التوكال عريقة في التاريخ وفي القدم. ويمكن ملامسته في كتابات الطب التقليدي العربية منها واليونانية والرومانية، فأخذت في التوارث والتناسل عند كل المجتمعات الإنسانية حتى عصرنا الحالي.

غير أن الاهتمام بمثل هذه الظواهر، بالنسبة للمجتمع المغربي، فهو ظهر مع الدراسات الكولونيالية والأنكلو ساكسونية حسب معرفتنا المتواضعة التي كان لها الأثر البالغ في مراكمة رصيد المعتقدات الشعبية في الطب الشعبي.

العلاج من الظاهرة:

طرق علاج ظاهرة التوكال متعددة بتعدد التمثلات الاجتماعية حول مصادرالظاهرة. وسنقتصر في حديثنا عن علاجها على الوصفات التي يقدمها كل من الفقيه والشوافة والعوادة.

علاج الفقيه:

تختلف عملية الإقبال على كل معالج حسب درجة الاقتناع به من خلال خبرته أو التجارب والشهادات التي قدمت في حقه من طرف الزبناء، وحسب موقعه في سوق العلاج الشعبي الذي هو فضاء لقياس كفاءة هذا المعالج أو ذاك.

فالفقيه يستعين في علاجه لظاهرة التوكال كباقي الظواهر الاجتماعية الشعبية (العين الشريرة، الثقاف...) بإعداد طلاسم وأحجبة عبارة عن بعض الآيات القرآنية أو جداول تتضمن حروفا ورموزا وأعدادا غير مفهومة إلا من قبله توضع في الجيب أو توطد في الأعناق ومعاصم اليد. ولا يقتصر الفقيه على هذه الوسائل، بل هناك من يلجأ إلى آليات أخرى تتجسد في التبخيرات  حيث يعد وصفات من البخور التي هي أخلاط من المواد السامة التي يعدها بنفسه أو يطلب من زبونه شراءها من عند الأعشابي/العطار. يشرع الفقيه في تهييء هذه الوصفات بعد أن يضرب موعدا مع المريض (ة)، حيث يقوم بترديد عزائم بينه وبين نفسه لا يمكن أن نميز فيها سوى تحريك شفتيه. وما أن تنتهي الحصة الأولى حتى يأمر الفقيه المريض بالانصراف مؤكدا عليه ضرورة النوم حيث يقف عليه الشخص الذي وضع له التوكال، وفي الصباح ينقل الخبر إلى الفقيه حيث يسهل ذلك علاجه.

علاج الشوافة:

وهو علاج مقرون بالدرجة الأولى بالنساء، لذلك يميز بتاء التأنيث وليس التذكير. تلجأ هذه الأخيرة في المسار العلاجي الذي تقدمه للمريض إلى مجموعة من التشكيلات العلاجية الغريبة. تؤكد الشوافة بأن المهمة التي تقوم بها هي بركة من الله التي منحها إياها أثناء زيارتها لبعض الأولياء والأضرحة والشرفاء الذين يعتبرون بمثابة واسطة بينها وبين الله، من ثمة فهي تمتاز بالقدسية والطهارة والصدق حسب زعمها. تقوم الشوافة بعملها استجابة لما تؤمر به من طرف ساكنيها ومالكيها (الجّْنُونْ). وإذا لم تقم بذلك، فهذا يعني أنها ستتعرض وذويها لمصيبة ما. من خلال ذلك فهي تحاول إضفاء الشرعية على العمل الذي تقوم به علما بأن ممارسة التشوف في الاعتقاد الشعبي كما في الحس المشترك وفي التمثلات الاجتماعية عمل منبوذ ولكنه يشهد إقبالا عليه من طرف الزبناء بكل انتماءاتهم الاجتماعية والثقافية شأنه شأن العوادة والفقيه والكُوَّايْ...

تعالج الشوافة زبناءها بأساليب مختلفة كاللجوء إلى ورق اللعب (الكارطة)، وهو العلاج نفسه الذي توظفه في إشفاء مرضاها من الظواهر المرضية التي سبق ذكرها، كما يوظف في قراءة الطالع والذي يعد تخصصا نسائيا تمارسه في منازلهن أو بجوار الأضرحة أو في الأسواق الأسبوعية حيث ترويج السحر بامتياز. وتستعين في ذلك، أيضا، بمجموعة من التقنيات التي تنهجها فتبدو للزبون، من خلالها، على أنها في علاقة وجدانية مع قوى خارقة وروحية، في علاقة مع جنها الذي يسكنها والذي يملي عليها وصفة العلاج والذي قام بفعل التوكال للمريض. وعلى الرغم من أن هذه الممارسة ومثيلاتها تبقى في نظر عامة الناس وخاصتها غير مقبولة لأنها تندرج ضمن السحر الأسود منه تحديدا، فإن الإقبال على هذا النوع من العلاج في تكاثر وتزايد، وقد يعود ذلك إلى عجز الطب الحديث على علاج الأمراض ذات الطبيعة الخفية: الأمراض العضوية والنفسية.

وقد تلجأ الشوافة، كذلك، إلى طريقة أخرى تتمثل في إعداد التمائم بواسطة المواد التي طلبت من زبونتها إحضارها من عند العشاب.

يتضح من خلال العلاج المقدم من طرف الشوافات أنه لا يدفع في اتجاه إشفاء المريض فحسب، بقدر ما يعمل أيضا على تعميق الخلافات الاجتماعية وتحديدا الخلافات العائلية ما دام الذي يقوم بالتوكال لن يكون سوى أحد الأفراد الذين تربطهم قرابة بالمريض. فالعلاج إذن هو في نفس الوقت علاجي ومدمر أيضا.

علاج العوادة:

من أبرز الممارسات الشعبية البدائية في علاج التوكال تحتل طريقة «العوادة» مكانا مرموقا في المتخيل الجمعي للمجتمع المغربي، إذ لا تخلو جل المدن المغربية وضواحيها من تواجد النساء الممارسات لهذا الطقس كعلاج شعبي. وعلاج العوادة هو «أسلوب تطبيب بدائي متوارث منذ أمد بعيد، منح اختصاصه للنساء الأرامل»(25).

ويشهد لمدينة تازة التفرد بهذه الظاهرة بالنظر إلى عدد العوادات اللائي يتواجدن في السوق الأسبوعي للمـــديـــنة، دون تنقـــيص مـــن حضــورهــن في بــاقــي المـدن المغربية. وفي إطار جولة استطلاعية قمنا بها في هذا السوق الذي يقام يومـي الاثنين والخميس، وهو فضاء رحب يمتد على مساحة شاسعة، تحتل فيه العوادات مكانا استراتيجيا يسهل عليهن استقبال الزبناء دون إثارة الشكوك وفي ذات الوقت على مرأى ومسمع الكل. إنهن يتواجدن بمحاذاة الطريق المؤدي إلى المدخل الرئيسي للسوق منتظمات في شكل صف وكل واحدة في خيمتها. عددهن سبع نساء يشارف عمرهن على الكهولة، اثنتان منهن تشهد إقبالا كثيفا من الزبناء، والأخريات يتراوح الإقبال عليهن بين الضعف والمتوسط. وفي الواجهة الأخرى من الطريق توجد امرأة في خيمتها وأمامها ورق اللعب (الكارطة) مرتبة في ثلاثة أعمدة تنتظر زبونا ما، إنها شوافة. بجانب هؤلاء النسوة يوجد شخص شارف على العقد السابع من العمر، هو الآخر في خيمته يدعو الزبناء للتفضل إليه، اقتربت منه فإذا بي أشاهد مجموعة من الجداول المكتوبة بالصمغ وبعض المواد الأخرى والأحجبة، إنه مشعوذ. استفسرته عن أهمية هذه الجداول والمواد فكانت إجابته هي حماية الشخص من الضرر والسوء ووقايته من الحسد والغيرة...

يمر أغلب المتسوقين والمتسوقات على هذه الطريق هناك من لا يأبه بما يجري داخل هذه الخيمات وآخرون يدفعهم الفضول والتطفل لمعرفة ما يدور عند هذه العوادات. وفي طريقنا إلى السوق لا تكاد تسمع إلا من يناديك للتفضل إلى داخل خيمته للخضوع لعملية التعواد كشكل علاجي للتوكال. وما يثير الانتباه أثناء زيارة هذا الجناح هو تكدس الزبناء على عوادتين في شكل منظم ومنسق وكل واحد من الزبناء/المرضى برقمه الترتيبي.

لا تمكث العوادة/العوادية في معالجة مريضها سوى بضع دقائق ليناولها بعد ذلك مبلغا من المال يتراوح بين 20 درهم و100 درهم كل بحسب طبيعة التوكال/المرض. أما طقوس العلاج فتتلخص في أغلبها في تقدم المريض (ذكر أو أنثى) إلى داخل الخيمة في إحدى زواياها المغطاة حتى يكون بعيدا عن نظرات المارة المتسوقين. يجلس جلسة شبه منحنية  وفي شكل قرفصاء، أو يجثو على ركبتيه بعد أن يكون لم يتناول وجبة الفطور. تناوله حثية ماء من كف يدها اليمنى ليتجرعها وتستتبع ذلك بالضغط بقوة بيدها اليسرى على رقبته إلى أن يسمع صوت الماء وهو يتحرك في فمه في شكل مضمضة إلى درجة اختناق المريض، يترتب عنه غثيان وتقيؤ في إناء تصفي منه تكثلات شعر وألياف رقيقة.

بعد أن رمقت شخصا داخل خيمة إحدى العوادات اللائي يشهدن إقبالا للزبناء عليها وهي تعالجه، أخذت وقتي وانتظرت إلى أن انتهت من علاجه، دنوت منه مستسمحا ومستأذنا إياه وموجها له السؤال التالي:

هل أنت مريض؟

 كان جوابه هو إحساسه بالفشل والدوخة مما جعله يأتي إلى هذه العوادية.

ولماذا هذه دون الأخريات؟

لأن تجارب زبنائها أثبتت حنكتها ومهارتها في العلاج من التوكال.

كيف؟

فهي تستمد قوتها من البركة التي اكتسبتها من زيارتها لإحدى الأضرحة، فهي استطاعت أن تشفي بعض الحالات المرضية التي أعرفها من أمراض عويصة عجز معها الطب الحديث.

إذن فهي لديها بركة؟ نعم.

وكيف؟

 لا أدري، إنها بركة إلهية.

والآن بماذا تحس؟

 أحس بنوع من الاطمئنان والراحة.

 يتضح من خلال هذه الشهادة، أن العلاج الشعبي عند هؤلاء (الشوافة، العوادية، الفقيه، الشريف...) يرتكز على طقس البركة الذي يخول لهؤلاء التميز عن بقية الناس. فبفعل بركة هؤلاء يشفى المرضى الزوار من أمراضهم كما تثبت ذلك التمثلات الشعبية. إنها تحتل موقعا مهما في تفسير وتأويل الظواهر الطبيعية وما فوق الطبيعة والظواهر الاجتماعية(26)، يتضح ذلك في الاستعانة بالطبيعة والقوى الخارقة والروحية لعلاج المرضى والارتباط الرمزي بالقدرة الإلهية في عملية العلاج هذه. يتجلى ذلك في كون الممارس للعلاج الشعبي لا ينسب الشفاء لنفسه وإنما لله، أما هو فليس إلا سببا.

5. خاتمـة:     

المحصلة النهائية أن استمرار الإيمان والاعتقاد في أهمية ونجاعة العلاج الشعبي عند جل مكونات المجتمع المغربي، على الرغم من بعده عن العلمية وقربه من السحر والخرافة، مرده إلى اندماجه في المحيط السوسيو - اقتصادي لهذه المكونات. فاستمرار المعتقدات الشعبية حول المرض في المغرب يعود إلى التنشئة والقــــيم الاجتـــماعية الســائـــدة في الأوســاط الاجتماعية المغربية؛ والتي لها دور كبير في ترسيخ الاعتقاد بأهمية العلاج التقليدي في التداوي من الأمراض ذات الطبيعة النفسية والعضوية من جهة، والنظر إليه كفن من فنون التطبيب من جهة ثانية.

بناء على ذلك، يسود الإيمان بصعوبة القطع مع العلاج الشعبي الذي يعد الذاكرة الثقافية والشعبية لكل الشرائح الاجتماعية في المغرب، وبالتالي القادر على الحفاظ على هويتها والمجسد لثقافتها الشعبية.

لذلك يتحتم على كل من الدين، الرسمي وليس الشعبي، والعلم معا التجاوب مع العلاج الشعبي عوض رفضه، والعمل على استيعابه والتعايش معه في ظل مجتمع مركب يتواجد فيه العقل والخرافة جنبا إلى جنب في رؤيتهما للكون وتفسيرهما لقضايا الصحة الإنسانية.

لن نبالغ في القول أن التعاطي للسحر والاعتماد على الفكر الخرافي كأشكال للعلاج الشعبي هو في حد ذاته نشاط إنساني كان منذ القدم وبقي محافظا على استمراريته إلى الآن، سينجم عنه وضع حد لنهايته. ولهذا لم يخطئ ليفي ستراوس عندما أكد في كتابه «الأنــتـروبــولــجــيا البـنـيـويــة» بأن «الأطــباء البــدائـيــين يشفون على الأقل، قسما من الحالات التي يعالجونها، ولولا هذه الفعالية لما شهدت هذه الممارسات السحرية هذا الانتشار الواسع في الزمان والمكان»(27). إن العلاج الشعبي إذن يتمم مهمة العلم عندما يعجز هذا الأخير عن إيجاد تفسيرات للمشاكل الصحية التي تواجه الإنسان الذي يعتبر لجوءه إلى العلاج الشعبي هو بحث عن الأمل الذي يقدمه له ويفتقده عند الطب الحديث. ومن ثمة فإننا سنمارس نوعا من التعسف إذا ما قلنا بأن العلاج الشعبي ساد في مرحلة تاريخية معينة انقضت، وبالتالي من المفروض أن ينتهي معها ليفسح المجال للعلم. 

 

 

الهوامش:

 1 . محمد الجوهري، المنهج في دراسة المعتقدات والعادات والتقاليد، مجلة الثقافة الشعبية، عدد 4، 2009، ص: 40.

2 . منظمة الصحة العالمية، استراتيجية منظمة الصحة العالمية للطب الشعبي، 2002-2005، ص: 1.

3 . الاعتراف به من طرف منظمة الصحة العالمية، ثم قيام وزارة الصحة بالمغرب في إعداد قوانين وتشريعات لممارسة هذه المهنة وتحديد الأعشاب الواجب استعمالها.

4 . E. (Doutée), Magie et religion dans l’Afrique du  nord, Paris : J.Maison-Neuve, P Geuthner, 1984 (rééd.1908).

  - W. (Westermarck), Ritual and belief in Morocco. London: Macmillan. 2vol, 1926.

  - H. (Pasqualini), Contribution à l’étude de la médecine populaire au Maroc, Rabat : Ecole du Livre, 1957.

- مصطفى واعراب، المعتقدات السحرية بالمغرب، منشورات الأحداث المغربية، 2008.

  -Saâdia (Radi), Surnaturel et société, l’explication magique de la maladie et du malheur à Khenifra,  Centre Jacques-Berque, 2013.

  - Mustapha (Akhmisse), Médecine, Magie et Sorcellerie au Maroc. Casablanca : Dar Kortoba, 2000.

 5. Paul (Pascon), 30 ans de sociologie au Maroc, Textes anciens et inédits, BESM, n double : 155-156, Janvier 1986, p : 76-77.  

6. Yvan (Matter), Charlatins, intermédiaires de Dieu, confidents ou attraction : ethnographie des pratiques d’herboristerie au Marakech, mémoire de licence, université de Neuchâtel, fac des lettres et sciences humaines, p. 25-26, 2005.

7. Saâdia (Radi), Surnaturel et société, l’explication magique de la maladie et du malheur à Khenifra, 2013, p. 103.

8. Yvan (Matter), op.cité, p. 30.  

9 . Abdelhadi (Sejilmassi), las plantes médicinales du Maroc, le fennec, Casablanca, 2003, p.7.

10 . Emile (Durkheim), les formes élémentaires de la vie religieuse: le système totémique en Australie, Paris, Alcan, 1912, p. 333.

11 . Emile (Mauchamp),  Sorcellerie au  Maroc, Bibliothèque nationale de France, département Philosophie, histoire, sciences de l'homme, hachette, sans date, p. 214-219.

12 . Lucien (Lévy-Bruhl), Le surnaturel et la nature dans la mentalité primitive, PUF, Nouvelle édition 1963. Collection: “ Bibliothèque de philosophie contemporaine ”, 1931, p: 140-143.

13 . يد فاطمة عبارة عن حجاب قادر على صد وحجب نظرات العين الشريرة أو الحقد أو الحسد أو الغيرة وتدعى بهذا الإسم عند العرب، كذلك، نسبة إلى فاطمة الزهراء بنت الرسول (ص)، وعند المغاربة يتم تداول تعبير «لخميسة» وهي كف اليد بأصابعها الخمسة المتلاصقة، وتستعمل بنفس الإسم السابق أيضا، وموجودة كذلك حتى في الثقافة الأوروبية. أما الأستاذ عبد الكبير الخطيبي فقد قدم تفسيرا سيميولوجيا ليد فاطمة (انظر كتابه: الاسم العربي الجريح، دار العودة، بيروت، ص: 65، 1980).

14. زكرياء أكضيض، «التقواس» عند المغاربة يفتك بالبشر والحجر، هسبريس، بتاريخ 16/11/2010.

15. Edward (Westermark), ritual and beleif, London and Mcmillan, 1926, p: 15.

16. بركات محمد مراد، فن الوشم، رؤية أنتروبولوجية ونفسية، مجلة الثقافة الشعبية، عدد 3، 2003، ص.ص: 66-77، ص: 68.

17. محمد أسليم، دراسة في كتاب السحر والتطبيب بالمغرب، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، 3 ماي 1987، عدد 178.

18. Saâdia (Radi), Surnaturel et société, l’explication magique de la maladie et du malheur à Khenifra, CJB, Maktabat al-Maghrib, 2013, p. 71- 80.

19. أمينة المستاري، الثقاف لتحصين البكارة والتشويش على الفحولة، هسبريس، 12-11-2007.

20. أمينة المستاري، نفس المرجع السابق ذكره.

21. Yvan (Matter), Charlatins, intermédiaires de Dieu, op cité, p : 52.

22. Saâdia (Radi), op. cité.p. 82.

23. أمينة المستاري، المصدر السابق ذكره.

24. نزهة بركاوي، الثقاف و»التباريد»و»المحبة»، أسلحة نسائية تقليدية لتطويع الرجال الجامحين ومقاومة هجرانهم، المساء، 2009.

25. عزيز باكوش، العوادة بين الهلوسة الاجتماعية والتصديق العلمي، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الملحق الأسبوعي، عدد 10768، 2014.

26. Abdelwahed (Mekki-Berrada), la portée thérapeutique et herméneutique de la baraka, Anthropologie des recherches de soins et des quêtes de sens dans le Maroc urbain, thèse des études supérieures, Université Montréal, Canada, 1997, p : 287.

27. كلود ليفي ستراوس، الأنتروبولجيا البنيوية، ت: مصطفى صالح، ج 1، توزيع دار الحوار، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977، ص. 197-220.

المصادر والمراجع:

1. أسليم، (محمد)، دراسة في كتاب السحر والتطبيب بالمغرب، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، 3 ماي 1987، عدد 178.

2. أكضيض، (زكرياء)، «التقواس» عند المغاربة يفتك بالبشر والحجر، هسبريس، تاريخ 16/11/2010.

3. باكوش، (عزيز)، العوادة بين الهلوسة الاجتماعية والتصديق العلمي، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الملحق الأسبوعي، عدد 10768، 2014.

4. بركاوي، (نزهة)، الثقاف و»التباريد»و»المحبة»، أسلحة نسائية تقليدية لتطويع الرجال الجامحين ومقاومة هجرانهم، المساء، 2009.

5. جوهري (ال)، (محمد)، المنهج في دراسة المعتقدات والعادات والتقاليد، مجلة الثقافة الشعبية، عدد 4، ص.ص: 14-51، 2009.

6. كلود ليفي ستراوس، الأنتروبولجيا البنيوية، ت: مصطفى صالح، ج 1، توزيع دار الحوار، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977.

7. مراد بركات، (محمد)، فن الوشم، رؤية أنتروبولوجية ونفسية، مجلة الثقافة الشعبية، عدد 3، ص.ص: 66-77، 2003.

8. مستاري (ال)، (أمينة)، الثقاف لتحصين البكارة والتشويش على الفحولة، هسبريس، 12-11-2007.

9. منظمة الصحة العالمية، استراتيجية منظمة الصحة العالمية للطب الشعبي، 2002-2005.

10. واعراب، (مصطفى)، المعتقدات السحرية بالمغرب، منشورات الأحداث المغربية، 2008.

11. Akhmisse, (Mustapha), Médecine, Magie et Sorcellerie au Maroc. Casablanca: Dar Kortoba, 2000.

12. Doutée, (E), Magie et religion dans l’Afrique du nord, Paris : J.Maison-Neuve, P Geuthner, 1984 (rééd.1908).

13. Lévy-Bruhl, (Lucien), Le surnaturel et la nature dans la mentalité primitive, PUF, Nouvelle édition 1963. Collection: “ Bibliothèque de philosophie contemporaine ”, 1931.

14. Mekki-Berrada, (Abdelwahed), la portée thérapeutique et herméneutique de la baraka, Anthropologie des recherches de soins et des quêtes de sens dans le Maroc urbain, thèse des études supérieures, Université Montréal, Canada, 1997.

15. Matter, (Yvan), Charlatins, intermédiaires de Dieu, confidents ou attraction : ethnographie des pratiques d’herboristerie au Marakech, mémoire de licence, université de Neuchâtel, fac des lettres et sciences humaines, 2005.

16. Mauchamp, (Emile),  Sorcellerie au  Maroc, Bibliothèque nationale de France, département Philosophie, histoire, sciences de l›homme, hachette, sans date.

17. Pascon, (Paul), 30 ans de sociologie au Maroc, Textes anciens et inédits, BESM, n double : 155-156, Janvier 1986.

18. Pasqualini, (H), Contribution à l’étude de la médecine populaire au Maroc, Rabat : Ecole du Livre, 1957.  

19. Radi, (Saadia), Surnaturel et société, l’explication magique de la maladie et du malheur à Khenifra,  Maktabat al-Maghrib, 2013.

20. Westermarck, (Edward), Ritual and belief in Morocco. London: Macmillan. 2vol, 1926.

الصور:

1. http://40.media.tumblr.com/tumblr_memj hm9EUP1qd8u63o1_1280.jpg

باقي الصور من الكاتب.

 

أعداد المجلة