التاريخ الثقافي في مجتمعات الخليج: إشكالية التأصيل
العدد 34 - التصدير
تطرح كتابة التاريخ الثقافي وتدوينه أكثر من إشكالية في ظروف المجتمعات النامية، حيث كانت الثقافة السائدة حتى حين قريب ثقافة شفاهية، حين أدت العزلة الطويلة التي فرضت على هذه البلدان من قبل القوى الخارجية إلى الحيلولة بينها وبين امتلاك أدوات التدوين بسبب الأمية التي سادت طويلا. وحين نشأت الدول الحديثة بعد انحسار الكولونيالية، فإن أولويات هذه البلدان توجهت نحو مجالات أخرى غير مجال كتابة التاريخ الثقافي الذي لم يحظ بالاهتمام العائد له، مما أدى في حالات كثيرة إلى اندثار الكثير من الحرف والمهارات والألعاب وحتى الرقصات الشعبية، وتحت ضغط عوامل التحول الثقافي الناجمة عن الانفتاح على العالم الخارجي وتشكل أنماط سلوك جديدة فإن الموروث الشعبي توارى إلى الخلف، ومع وفاة الرواة وحافظي الذاكرة الشعبية فإن بلداناً عديدة فقدت الكثير من مخزونها الثقافي التقليدي.
ولا تشكل دول الخليج العربي، استثناء في هذا المجال، بل لعل الأمر يتجلى هنا في صورٍ أكثر فداحة مما هو عليه في البلدان الأخرى، بالنظر إلى فجاءة التحولات الاجتماعية وسرعتها، وتغير الكثير من مظاهر السلوك الاجتماعي، وتشكل أنماط وعي مختلفة، فحتى عهد قريب جداً كانت الثقافة السائدة في مجتمعات الخليج ثقافة شفاهية، وكانت رموز الثقافة تستجيب لحاجات البيئة المحدودة في مجتمع كان أقرب إلى السكون منه إلى الحركة.
أحدثت الطفرة الاجتماعية - الاقتصادية مع النفط هزة عميقة، هددت معالم الثقافة الشفاهية السائدة بالاندثار قبل أن توثق أو تجمع مادتها، وكان حجم القطيعة مع الماضي كبيراً، الأمر الذي بات يهدد المجتمع بأن يصبح مجتمعاً بلا ذاكرة، تحت سرعة وتيرة التحولات المشار إليها، مما أحدث من الآثار السلبية ما لم يحدث سابقاً، فخلال عقود قليلة جداً، لا تتجاوز الثلاثة، جرى ما يشبه الانقلاب القيمي الذي نجم عنه تصدع في منظومة القيم، وأزيحت الكثير من الحرف والمهن لصالح شيوع نمط إنتاج جديد جلب معه ثقافة فيها الكثير من مظاهر التشوه، بوصفها في الغالب الأعم، ثقافة استهلاكية تتوسل السهولة والاسترخاء والاتكالية، ويغيب عنها، أو يكاد، التأصيل الضروري.
ومع الوقت صُدّرَت صورة سلبية عن المجتمعات الخليجية بوصفها مجتمعات نشأت مع اكتشاف النفط، فيما الدراسة التاريخية تشير إلى وجود نماذج ثرية ومتعددة في حقول الثقافة والفنون والحرف والأشعار والأمثال الشعبية التي تلخص الخبرة الشعبية المديدة في الفترة السابقة لاكتشاف وتسويق النفط، وأن جزءاً كبيراً من هذه النماذج قد اندثر فيما يهدد الاندثار ما تبقى منها.
لذا تنشأ الحاجة الماسة إلى دراسة التاريخ الثقافي لمجتمعاتنا وتسليط الضوء على رموز هذا التاريخ ومعالمه، بيد أن مثل هذه الدراسة لن تكون ميسرة، ما لم يجرِ تأصيل منهج البحث نفسه، لأن كثيراً من الكتابات في هذا المجال مازالت تفتقد المنهجية، وتميل إلى الانطباعية، وأحياناً الجمع العشوائي، وإذا كانت هذه الجهود تحقق فائدة في أنها تيسر للباحث المادة الخام المطلوبة للدراسة، إلا أنها تظل بحاجة لأن تنتظم في نسق منهجي- معرفي يدرس التاريخ من حيث هو فعالية إنسانية، ومن حيث هو حراك اجتماعي متصل، وللثقافة في هذا الحراك دور اللحمة التي تعبر عن الوجدان الشعبي العام عبر رموزها وتعابيرها المختلفة.
وإضافة إلى الاهتمام الرسمي الذي ظهر على شكل دعوات ومبادرات من أجهزة حكومية، فإن مبادرات فردية متعددة على أيدي مجموعة من المهتمين والباحثين الشباب وجامعي المواد التراثية قد أثمرت في السنوات الأخيرة جهداً محموداً، لكن يظل هذا الجهد محدوداً وغير كافٍ، ومازال من المتعين بذل المزيد من الجهود على شكل استراتيجيات واضحة مدعومة من الجهات الرسمية لكتابة التاريخ الثقافي في بلدان الخليج، بوصفه حقلاً مستقلاً، ولو في حدود نسبية عن التاريخ عامة، وإن كانت مثل هذه الكتابة للتاريخ الثقافي ليست منفصلة عن التاريخ ككل من حيث هو ملابسات وأحداث اجتماعية وسياسية ألقت بآثارها، في هذه الصورة أو تلك على حقل الثقافة.
وغني عن القول أن الوقت لغير صالحنا، فما لم تقم مثل هذه المبادرة التي جرت الدعوة إليها طويلاً، فإننا قد نصبح بلا ذاكرة في زمن يبدو إيقاع كل شيء فيه سريعاً ورافضاً للتأني أمام هذه التفاصيل المهمة التي لا يمكن معالجتها إلا بالدراسة والتأني، فالموضوع يستحق الكثير من الندوات والدراسات المتخصصة، وحسبنا هنا أن يطرح الموضوع على شكل إشكالية بحاجة للبحث. إن الصياغة الصحيحة للسؤال هي نصف الإجابة.