فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

سردية الطقوس في سيرة بني هلال «رحلة خضرا الشريفة إلى بلاد العلامات»

العدد 33 - عادات وتقاليد
سردية الطقوس في سيرة بني هلال «رحلة خضرا الشريفة إلى بلاد العلامات»
عضو هيئة التدريس، المعهد العالي للفنون الشعبية، أكاديمية الفنون، القاهرة، مصر

 

1. العلامات التنبؤية

ليس ثمة «رحلة» سردية يمكن أن تبدأ بلا «مهاد» سردي مضمر أو ظاهر؛ مُفَصَّل أو مُكَثَّف أو مُرَكَّب؛ مُقدَّم - في موضعه التقليدي - أو مُؤَخَّر أو مُوَسَّط.

على سبيل المثال التطبيقي(1)، عندما «نقرأ»  «رحلة خضرا الشريفة»، ابتداءً من مشهد خروجها من بني هلال، مطرودة من قبل زوجها - قبيلته، بسبب اتهامها في نسب مولودها الأسود؛ فإن التحليل السردي يعود إلى «القراءة» مجددًا، ليتتبع علامات ما قبل الخروج، أو ما قبل السفر ذهابًا، بوصفها العلامات الأولى (المؤَسِّسَة سرديًّا) للرحلة. ولأن تلك العلامات تمثل، على صعيد «زمن القصة»، استباقًا للزمن، وولوجًا في "الغيب"، فإن الموتيفات motifs (الحوافز؛ الوحدات) السردية التنبؤية(2)، أو التكهنية، بصياغة «جينيت» نقلاً عن «تودوروف»(3)، تضطلع بمهمة اختراق الزمن والعقل المنطقي، واختراق برزخ الرحلة بين الحياة والموت، وبين الماضي والمستقبل(4).

في «الأحلام»، مجال لالتقاء الموتى بالأحياء، ومواجهة النفس لانقساماتها السيكولوجية على ذاتها، فالنوم - في التمثيل المجازي الذي يجعل الموت موصولاً بالحياة، وجزءًا منه(5) - «أخو الموت»، والنائم «أخو الميت»، لكن النائم يضحى حرًّا، بل يعيش حرية أكثر مما في اليقظة. وسواء كان الحلم عالم «الموت المؤقت»، كما عند شوبنهاور، أم «بلسم الروح» كما سماه شكسبير(6)، أم مجال «الألفة غير المألوفة» unfamiliarity familiar كما لدى فرويد(7)، فإن تصورات المبدعين والمفكرين، بل الحضارات، عنه، تظل متعددة، كتعدد صور الأحلام، على صعيد الاتصال بالعالم الآخر، أو آلية الحلم، أو وظيفته. في الحضارة المصرية القديمة، يشتق لفظ الحلم من فعل اليقظة والاستيقاظ(8)، كأن يكون الحلم يقظة اللاوعي، أو لاوعي اليقظة. وعى المصري القديم بالاتصال الدائري بين النوم واليقظة، فنهضت إبداعاته على فنون اتصال الحياة بالموت(9)، ولاتزال تنهض إلى يوم الناس هذا.

الحلم - في النوم واليقظة على السواء، على الاختلاف النسبي بينهما - هو قوة سحرية تخاطب النائم لتملي عليه سلوكًا ينبغي عليه اتباعه، أو لإخباره بحدث وشيك الوقوع(10)، تبشيرًا أو تحذيرًا، أو بعيد التأويل - التحقيق، كقول «يوسف» مخاطبًا أباه في نهاية قصته التي يمثل الحلم فيها «سردية تضمينية»، وخيطًا سرديًّا تبدأ منه القصة وتنتهي: «هذا تأويل رؤياي »؛ أي هذا تحققها الناجز؛ أي تتحول الرؤيا إلى رؤية، فالحلم علامة الخيال، وتفسيره علامة اليقظة، وتأويله علامة الحقيقة.

إن المشاهد الحلمية تمثل حزمة سردية خاصة لتضمين الصيغ السردية المتصلة بـ خصائص السرد الحكائي التنبؤي - المتنبئ - الاستشرافي predictive narrative: التكهن divinatoire والذات المضادة antisubject، والحبكة المضادة counterplot، والقص المسبق - المتقدم anterior narration، والتوقع anticipation، والإعلان notice advance، والترتيب الزمني order، والتضمين الحكائي الذاتي autoenchassemen .. إلخ(11).

في «الطقوس» rituals، يمارس «الإنسان» شعائره في-مع - بـ«الطبيعة»، ليخلق من «الأسطورة» و«الغيب» واقعًا. والوظائف نفسها، بصيغ ومستويات متعددة، تنهض بها الأشكال التكهنية الأخرى: «الوحي»؛ و«الهاتف»؛ و«خط الرمل»، و«الهدي بالنجم»، و«الطرق بالودع»، و«عيافة الطير»، و«الجداول السحرية بالأحرف والأرقام والرموز الخطية»،.. إلخ(12).

سواء كانت الطقوس «أساطير تتحرك وتتجدد»، حسب «فان در لو»، وفق قواعد دقيقة وثابتة، حسب «ج. غازنوف»، أم نشأت مستقلة نسبيًّا عن الوقائع الدينية أو الأسطورية الثابتة، حسب «كلود ليفي شتراوس» و«ج. شيلهود»، أم تمثل تعبيرًا رمزيًّا عن الأفكار والمشاعر عبر الفعل، حسب «إيرك فروم»، ومهما تكن الدوافع الدينية والاجتماعية التي تستبق تفسير النشاطات الطقوسية، فإنه توجد كذلك دوافع سيكولوجية ذات أبعاد دفاعية عن الذات الفردية أو الجمعية، فعبر «الطقوس»، يتفادى الإنسان القلق اليومي أو الوجودي إزاء تقلبات العالم، وإزاء القواعد الاجتماعية التي تحاصره، ليستعيد توازنه، ويزوِّد قواه الغريزية المتصارعة، وأسراره الخفية الغامضة، بالهدوء والاطمئنان(13).

إن الطقوس في منزلة «مسقط رأس» الإبداع على تعدد فنونه وممارساته الشعائرية، فالطقس يتكون من التكرار النمطي المغلق، لنشاط ما، استجلابًا لأثر سحري، ولا يتكرر النمط السلوكي نتيجة للعادة فحسب؛ ولكن أيضًا لأنه اكتسب دلالة باطنية عميقة. قد تبدو جذور هذا النشاط في الماضي عشوائية أو من قبيل المصادفة، أو تم نسيانها، أو إغفالها لغموضها، لكنها صارت مجالاً للتأويل السيميائي الكاشف عن مغزاها الرمزي والقيمي والاجتماعي والديني(14).

إذا كان الأثر السردي الأدبي يتوسل، بطبعه، بالتخييل fiction، فإن سردية الأحلام وسردية الطقوس، هما سرديتان مولِّدتان لموتيفات «العجائبي» fantastic، حيث نجد تجليات السرديات العجائبية في الشعر وفي النثر وفي الدراما وفي المسرح وفي السينما وفي النحت وفي التشكيل وفي الموسيقا. تستقطب السيرة الهلالية السرديات العجائبية، وتضمنِّها في رحلاتها، بوصفه موتيفات مؤثرة، تضخ في عروق السيرة أحلامها وطقوسها، وتشكل الوجه العجائبي (الأسطوري) للهلالية ذات الألف وجه.

 

2. سردية الطقوس

تنهض «رحلة خضرا» على عدد من المشاهد الطقسية التي يمثل كل منها تمهيدًا، أو تهيئة، أو بذرة سردية، للرحلة. ومن ثم، فإنها تتضمن علامات تنبؤية، أبرزها مشهد «بركة الطير»، ومشهد «سبوع المولود»، ومشهد «توديع (الانفصال عن) المكان» الذي يأتي إضاءته في سياق ورقة أخرى تقارب «سردية الخروج».

على «بركة الطير» التي يسميها المؤدي حسين مسعود «بركة المُنَى»، تتمنى «خضرا» على طير أسود (أسمر زبيبي) فائق وفريد من لدن الألوان والطيور التي حطَّت على وجه الماء، فغلبها(16). ويتحول ذلك «التمهيد» إلى «إعلان»(17)، عندما يضيء بعض الساردين - المؤدين وعي «خضرا» الصريح بأن ذلك التمني محفوف بالاتهام، لكنها تصر: «برضو أنا هـ استمنَّاك»، على نحو يمهد لـ«حتمية» رحلة «خضرا»، بتحقق نبوءة الاتهام.

يمثل مشهد بركة الطير فعلاً سرديًّا نسويًّا خالصًا، على صعيد الشخصيات، بدءًا بشكوى «خضرا» إلى «شمَّا»(18) من «معايرة» رزق لها، في إطار وعيها بأن حالة تأخر إنجاب الطفل - الذكر، ليس من شأنها، بوصفها امرأة، حصرًا: «ياك ه اخلق عيال بِيْدِي!»، مرورًا بخروجهما (خضرا وشمَّا، بدعوة من شمَّا) بصحبة أربعين (وفي روايات أخرى: تسعين) من نساء بني هلال إلى «الجناين - البساتين». وفيها تقع بركة الطير، حيث يمارسن طقس «التمنِّي»، بوصفه معتقدًا يؤمنَّ به:

بين الجناين، إللي همَّ راحوا إليها دي، في بِرْكِةْ ماء تُسَمَّى بِبِرْكِةِ الطَّيْرْ، وسَمُّوْهَا بِرْكِة الطَّيْرْ لِقُبُوْلْ الطيور عليها. فعندما وَصَلُوا البنات، وكانت لهم في الوَقْفَه عادات، صَلُّوا علي صاحب المعجزات. كانت عَادْةِ النساء العرب يأتوا إلى بِرْكِة الطَّيْرْ في حالة التمنِّي؛ عندما يكون في خاطرهم شيء يريدوا أن يِتْمَنُّوا عليه يأتوا بِرْكِة الطَّيْرْ دي، ودي كانت عقيده يعتقدوها ويؤمنوا بيها؛ إن هُمَّ إذا تمنُّوا وطَلَبُوا من الله يستجيب لهم الدعاء في المكان، مكان الماء الطاهر ده. فآتوا على  بِرْكِة الطير، وجُمْ واقفين (19).

الملاحظة الجديرة بالذكر هنا، هي أن الطقوس تمثل ممارسة جماعية إرادية للصور والرموز التي نجدها في الأحلام. أما الأحلام، فتمثل ممارسة لاإرادية فردية للصور والرموز التي نجدها في الطقوس. فالأحلام تحفظ صور الطقوس وأصواتها ورموزها. وبالطقوس، يؤول الإنسان الأحلام واقعًا حسيًّا مجسدًا(20).

ينطوي «طقس التمني» في مشهد «بِرْكَة الطير» على علامات رمزية للعمليات النفسية الإيحائية التي تقوم بها النساء في حالات تأخر الحمل، أو العقم. وتمثل «البِرْكَة» علامة أيقونية للحيز المكاني (مقام ولي؛ مزار قديس؛ معبد قديم؛ محيط شجرة، فضاء الزار، مزلقان، دَحَرُوجَه (كَحَرُوْتَه)، بئر، مُرَدَهْ.. إلخ) الذي تقصده النساء في سياق الممارسات الاعتقادية الشعبية النسوية المتطلعة لـ«الحمل»، ونجد بعض الروايات تستبدل بـ«البركة» «قصعة»(21). أما «الطير»، فإنه إشارة سيميائية للأدوات السحرية المتصلة بفك عقدة المرأة في الإنجاب، قبل أن تصبح «أم غايب»(22). وتتحول علامة الطير، في رواية عز الدين، إلى علامة أيقونية ثابتة ومتطابقة في كل روايات الهلالية التي تضمنت ذلك المشهد الدال على الممارسة الطقوسية التي تمثل مسقط رأس نبوءة ميلاد البطل.

لا تنحصر الدلالة السيميائية لمشهد «بركة الطير» في نبوءة ميلاد البطل «أبو زيد»، عبر «طقس التمني» الذي مارسته «خضرا» على طائر أسمر، كما لا تنحصر في نبوءة ميلاد بعض الأبطال الذين تمنت أمهاتهم معها، على ألوان طيور أخرى: حسن، دياب، بدير؛ بل كذلك: «أبو القمصان» الذي تمنَّت أمه «سعيدة» على طائر مرافق لطائر «خضرا»، وهو ما يمثل علامة لنبوءة «البطل المصاحب»(23). لا تنصرف الدلالة السيميائية، أو تُحْتَكَر، لصالح العلامة الأيقونية الراسخة لمفهوم «البطل» و«البطل المصاحب - المساعد» في هذا السياق، حيث لا تُختزل البطولة في «أبو زيد»، والبطولة المساعدة في «أبو القمصان»، فعلامات البطولة والبطولة المرافقة تتأسس، هنا، على تلازم شخصيتين نسويتين: «خضرا» و«سعيدة»، بدءًا من مشاركة «سعيدة» في ممارسة طقس التمني على بركة الطير، وإلى عودة «خضرا» فوق جمل يمشي على الحرير، حيث تنتهي الرحلة التراجيدية لـ «خضرا الشريفة» (24):

- سعيدة قالت:

يا خضرا يا نور العين

حرَّة وظريفة معاني

يعني اتمنيتِ يا نسل الزين

واشمعنى انا ليه ما استماني! (أستمنى؛ أتمنى)

خادمة خضرا طلبت من الله

مُرباية عروضها نضيفة

قالت أستمنى اللي وراه

ويطلع خادم ابن الشريفة

وإنما تتسع الدلالة السيميائية للمشهد بعودة الطائر الأحمر إلى بركة الطير، ليناور الطائر الأسمر، فيتعاركان، فيهزم الأسمرُ الأحمرَ، لتتكوَّن نبوءة ما يسمى بـ «البطل المضاد»، أو «المعادي»، وهي النبوءة المتمِّمة لـ «طقس التمني»، فتكتمل، من ثم، «نبوءة البطل»، في مشهد دال، نشير إلى علاماته من بعد، على دوران أحداث «الهلالية»، وتفاعل علاماتها التضمينية، ودراميتها:

.. عندما نزلوا التِّنِيْنْ دول على البِرْكَه ما خلُّوش طيور، الطِّيْرْ لاُحمر طار مع الطيور؛ إنما ده راجع على البِرْكَه تاني..

الطير لاُحمر بعد ما طار

عَاوَدْ يشرب على البِرْكَه تاني

عامل نفسه صاحب مُقْدَار

قال الطير ظريف المعاني

- فجا لاِسْمَرْ اتلاطم معاه

الطير لاِسْمَرْ اتلاطم معاه

من البركه مَنَعُوا الشَّرَابي (شرب الماء)

والتاني اللي جاي وياه

نزلوا في بعضٍ شرابي (أبديا شرًّا)

خدوا بعض ضرب لاتنين

بمنقارهم والجُنَاحي

يا سامعين صلوا على الزين

على كل ناحية جُنَاحِي (جو ناحوا؛ جاؤوا وناحوا)

- لاسمر اعتدل وليه دار (استدار نحوه)

لاسمر اعتدل وليه دار

زادوا البَلَا والمراضي (الأمراض)

ضرب لاحمر بمنقار

لاحمر وَقَعْ عَ الأراضي

- عندما وقع الطير على الأرض..

- قُوم خضرا بعينها وراعت له

على الطير خضرا راعت له

قالت يسلمك يا حبيبي

فرحت الشريفة زغرتت له

قالت دا انا اريد زَيُّه نصيبي(25)

في مشهد «بركة الطير»، تقترن علامات حطّ الطيور على البركة وقيامها بممارسة الشجار والزجر في ما بينها، بممارسة اعتقادية عربية موسومة بـ«عيافة الطير»؛ وهي طقس يستهدف سبر الغيب من خلال رؤية الطير وزجره، وتحديد نوع الفأل به، وبأسمائه، وبأصواته، وبألوانه، وباتجاهات طيره(26). يتحول ذلك الطقس إلى موتيف متكرر في رحلات السيرة الهلالية، نجده في مطلع «رحلة أبو زيد إلى بلاد الأندرين» (إيران الحالية؛ حسب تحديد الشاعر عز الدين)، ونجده في مستهل «رحلة الريادة» إلى تونس، عندما غادر «أبو زيد» وأولاد أخته يحيى ويونس ومرعي نجع بني هلال، حيث عرضت لهم أربعة طيور، ويتشاءم «أبو زيد» من الطائر الذي غاب ثم عاد وحيدًا، ومثلما قام الطير، في مشهد التمني على البركة، بتمثيل (استشراف) مستقبل بعض الشخصيات والأحداث في السيرة الهلالية، فإنه قام بتمثيل مستقبل الرواد الأربعة في رحلة الريادة(27):

لُقُوْهُمْ أربع طيور

شايلين في حُوْمْةِ الجِمَالْ

وفيهم تلاتة بَلَدِيْ

رابعهم أسمر بِعَكَارْ

وغابوا سَاعِةْ مِغْرِبْ

وعَاوَدْ النُّوْحِي لْوَحْدُه

على راس سلامة وحَوَّمْ

على راس سلامة وحَامْ

أبو زيد استفال منه

سلامه من الطير استفالْ

في رواية «عوض الله عبدالجليل»، تؤسس «رحلة خضرا» لكل رحلات الهلالية، حيث تتسع علامات النبوءة في مشهد «بركة الطير» بملفوظ «تونس» الذي تصرح به «خضرا»، وتستبق به الأحداث، لتتموضع «تونس» بوصفها علامة كبرى تتكثف فيها أحداث رحلتي الريادة والتغريبة، حيث تدعو «خضرا» رَبَّهَا، في فضاء بركة الطير، أن يرزقها غلامًا في قوة ذلك الطائر؛ ليفتح تونس(28):

خضرة تقول إديني غلام أسود كيف الطير ده

لاملكه تونس ووادي حماه

أَمَلِّكُه تونس بحدّ الحسام

من لَجْلْ يقولوا خضرا جَابَتْ غلام

من الهلالي ابن نايل رزق مُوَافِي الزمام(29)

يتمدَّد الأثر السردي لمشهد «بركة الطير»، في رواية عز الدين، فيتحول من مشهد نبوءة مولد «أبو زيد» إلى علامة رحيله - موته، أي يتحول المشهد المؤسس لرحلة «خضرا» إلى علامة أيقونية على بداية الهلالية ونهايتها في آن، أو إلى «قصة - إطار» لدورة حياة البطل (أبو زيد)، بل دورة حياة «السيرة الهلالية» برمتها، حيث يظهر الطائر الأسود في هيئة غراب في مشهد رحيل «أبو زيد»، حيث «قيل» إنه مات بـ«غزة»، ليتحول الغراب إلى علامة عِلِّيَّة في مشهد موته، مثلما كان علامة رمزيَّة في نبوءة مولده.

عزم «أبو زيد» على السفر، في رحلة عكسيَّة من الغرب (تونس) إلى الشرق (الحجاز)، لأداء شعائر الحج، كما أداها أبوه في رحلة زواجه بأمه. وفي طريقه، يمر بـ«العلمين»، حيث ضرب بحربته في الأرض، ويُقال إن مكانها موجود إلى الآن يتفجر منه الماء العذب (وقيل إنه «نَكَتْ حربته» في القلعة، وكلما حاول أحد خلعها من موضعها، ازدادت تشبثًا بالصخر). وعندما قطع مسير رحلته في صحراء سيناء، ودخل في صحراء غزة، يتسلط عليه غراب، فيجادله، ودون أن ينتبه يثقب الغراب قربته، فتهدر ماؤها، وعندما ينتبه يسلم نفسه للعلامة القدرية، فيموت وحيدًا عطشًا في الصحراء التي طالما مرَّ بها في رحلاته شرقًا وغربًا(30).

يمثل مشهد «بركة الطير» نموذجًا منتخبًا لتحليل «سردية الطقوس» في السيرة الهلالية، بوصفه طقسًا ينطوي على علامات تنبؤية (مولد البطل - الاتهام في الشرف) مؤسسة لـ«رحلة خضرا». لكن الهلالية تنفتح على عدد هائل من السرديات الطقوسية، بل إن «رحلة خضرا» تحتوي على موتيفات طقوسية متعددة تتكرر بمستويات متراوحة في مواضع كثيرة من قصص الهلالية ورحلاتها وبرامجها السردية: رحلة الحج والزيارة؛ «التطلب» (التمني الطقوسي)؛ الاحتفال بالمولود الذكر؛ توديع المكان؛ حق المرأة في المال؛ تفسير الحلم؛ تأويل الرؤيا؛ استقبال الضيوف؛ لعبة البرجاس؛ الحرب؛ رحلة العودة. وفي مختلف تلك الطقوس، تتموضع الوظيفة الأساسيةcardinal function لسردية الرحلة ومقاماتها؛ أي تلك الوظيفة التي تمثل موتيفة مقيدة bound motif، أو نواة nucleus-kernel، لا يمكن استبعادها، دون أن يؤدي ذلك إلى تدمير التماسك السردي لتلك الروايات المصرية المعتقة، ذات البواطن الأسطورية، لـ «سيرة بني هلال».

 

الهوامش:

1.    نعتمد، في هذه الورقة، نصًّا مرجعيًّا لسردية الرحلة في سيرة بني هلال، من رواية المؤدي عز الدين نصر الدين (من بر خيل-البلينا-سوهاج، ولد في عام 1967، وتوفي في عام 2009) لحلقة "التكوين" (المواليد)، وهو نص "رحلة خضرا إلى بلاد العلامات". العناصر السردية المفتاحية: ما قبل رحلة "خضرا": رحلة "رزق": وصف شخصية "رزق" - رحلة صيد – المرور على جبل الكروبات - نوم - حلم رزق - مشورة سرحان - دعوة للحج بمال "رزق" - رحلة حجية بهدف الزواج - وصف فروسية "رزق" الأخلاقية – وصف "قرضة الشريف" وابنته "خضرا" - امتناع "خضرا" عن الزواج بطلاَّبها - حلم خضرا - تفسير الحلم - الذهاب إلى الحجاج - إعجاب "خضرا" بـ"رزق" - دعوة "رزق" إلى سماط "قرضة" - حوار "قرضة" و"رزق"- حوار "خضرا" وأمها "طيبة" - حوار "طيبة" و"قرضة" - زواج "رزق" و"خضرا"، و"نجاح" و"سعيدة" - مشهد العودة. رحلة "خضرا": ولادة "شيحة" - توقف الإنجاب لعشر سنوات - حزن "رزق" - حوار "رزق" و"عزقل" - حوار "رزق" و"خضرا" - دعوة "شمَّا" لـ "خضرا" ونساء بني هلال إلى بركة الطير: رحلة تنزه: النساء يمارسن طقس التمني على ألوان الطيور - خضرا تتمنى على طير أسود - تنبوء "خضرا" بالاتهام في نسب وليدها - العودة - أشهر الحمل - ولادة مولود ذكر - طقس احتفالية سبوع المولود في ديوان السلطان "سرحان" - حوار "غانم" و"عزقل" - صدمة "رزق" وغضبه - حوار "رزق" و"خضرا" - قرار رزق برحيل خضرا وابنها - حوار "رزق" و"سرحان" - الخروج: إقرار "سرحان" بحقوق "خضرا" - ظهور الخضر - "خضرا" ترفض أن يرافقها أحد في الرحلة - انضمام "سعيدة" إلى رحلة "خضرا" - مسير الرحلة: مونولوج "خضرا": توديع وشكوى - مسير - ولادة أبي القمصان - ظهور عطوان العقيلي قُرب أرض العلامات - ذكر "فاضل بن بيسم الزحلاني" - مشهد السطو على المال ومحاولة اغتصاب "خضرا" - "فرس خضرا" يحمي "خضرا" - "سلمان" يُعارض ابن عمه "عطوان" وينازله حتى فراره - "الخضر" ينقذ ابن خضرا ويسميه "بركات" وتسميه "سلامه" - استكمال المسير - حلم فاضل - تفسير الحلم - عبور الذهاب: استقبال "فاضل" لـ "خضرا" - قسم "فاضل" برعاية "خضرا" وابنها - مرور خمس سنوات - تدريب "خضرا" لـ "سلامه" على ركوب فرسته (العامرية) - التحاق "سلامه" بكُتَّاب "الشيخ صالح" مع أطفال "بني زحلان" - تفوق "سلامه" معرفيًّا - غيرة أم جودة بن أخي فاضل - تآمر "الشيخ صالح" على "سلامه" - "سلامه" يقتل "الشيخ صالح" - "عثمان العقيلي" يرفع جثة أخيه "صالح" - لعبة البرجاس في أرض العلامات - انتصار "سلامه" على جودة في البرجاس - مرور ثلاث سنوات - خطاب العقيلية بقيادة "جايل" لـ "فاضل" - سفر "ياقوت" عبد "جايل" لتسليم الخطاب - جواب "سلامه" - "قمصان" و"ياقوت" في جناين العلامات - عودة "ياقوت" بالرد - معارك حرب "سلامه" والعقيلية: مقتل "عطوان" و"جاسر" و"جسار" و"طلحة" و"جايل". معارك حرب "سلامه" وبني هلال: مقتل "عزقل" وهزيمة "حسن" و"دياب" و"غانم" - "سرحان" يطلب الهدنة - كتاب "سرحان" لـ "رزق" - سفر "دياب" - "دياب" يسلم الكتاب لـ"رزق" - "رزق" ينشد على إيقاع الساقية - رحلة "رزق" الحربية إلى بلاد العلامات - استقبال الهلايل لـ "رزق" - "رزق" في ميدان الحرب - انتباه "خضرا" إلى "رزق" - حوار "خضرا" و"سلامه" - منازلة بين "رزق" و"سلامه" - تعرُّف فرسة الأب على ابنتها فرسة الابن - رفع علم الانفصال - حوار "سلامه" و"خضرا" - حوار "رزق" و"شيحه" - مرافقة "شيحه" لأبيها إلى الميدان - استئناف المنازلة - "سلامه" يأسر "شيحه" - تعرُّف "خضرا" و"شيحه" - "سلامه" يعيد "شيحه" إلى أبيها - حوار "شيحه" و"رزق" - حوار "خضرا" و"فاضل" - "فاضل" يدعو عرب بني هلال إلى السماط - إطلاع "سلامه" على الأحداث - فاضل يكلف "سلامه" بدور النقيب - "سلامه" يتخطى أباه في توزيع "النوايب" - تعاتب "رزق" و"سلامه" - "سلامه" يفرض مرور ركوبة أمه على الحرير حتى نجد شرطًا لعودتها - "الجازية" تحل العقدة - زواج "سلامه" من "نجديه بنت فاضل" - تسمية "رزق" لابنه بـ "أبو زيد" - رحلة العودة إلى بني هلال، الوصول-إيابًا. ما بعد رحلة خضرا: ..

2.    حول مقاربة "الموتيف" بوصفها أداة للتحليل، راجع: سليمان العطار، الموتيف في الأدب الشعبي، سلسلة الثقافة الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012.

3.    انظر: جيرار جنيت، خطاب الحكاية: بحث في المنهج، ترجمة: محمد معتصم - عبدالجليل الأزدي - عمر حلي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص 230.

4.    انظر: أحمد مرسي، الإنسان والخرافة: الخرافة في حياتنا، دار مصر المحروسة، القاهرة، 2010، ص 148.

5.    انظر: مرسي، في الأدب الشعبي: كلٌّ يبكي على حاله؛ دراسة في العديد، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، 1999، ص 67، 67.

6.    انظر: إريش فروم، الحكايات والأساطير والأحلام: مدخل إلى فهم لغة منسية، ترجمة: صلاح حاتم، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية-سوريا، 1990، ص 6، 29.

7.    انظر: شاكر عبدالحميد، الفن والغرابة؛ مقدمة في تجليات الغريب في الفن والحياة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010، ص 22.

8.    انظر: فراس محمد، الأحلام بين علم النفس والميتافيزيقيا، الرافد (الشارقة)، العدد 171، نوفمبر 2011، ص 63.

9.    انظر: فرانسوا دوما، حضارة مصر الفرعونية، ترجمة: ماهر تويجاتي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998، 739.

10.    انظر: مصطفى واعراب، المعتقدات السحرية وطقوسها، دار الحرف للنشر والتوزيع، القنيطرة-المغرب، 2007، ص 186.

11.    انظر: جيرالد برنس، قاموس السرديات، ترجمة: السيد إمام، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 2003، ص 17.

12.    راجع نموذجًا لعرض تصنيفيّ وافٍ للأشكال التكهنية-التنبؤية-التوسمية وطقوسها وعلاماتها في الثقافة العربية، في: محمد محمد أحظانا، معقول اللامعقول في الوعي الجمعي العربي: صورة المغيب في المخيلة الشعبية الموريتانية "نموذجًا"، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2002 (انظر: الباب الأول: الزيجرة والطيرقة: العرافة وطرق الودع وخط الرمل "الأكـزانه" - استحضار المغيب بتغييب الحاضر، ص ص 141 : 356). وانظر إشارات مهمة حول "ضرب الرمل" و"التاقزة" في السيرة الهلالية المدونة والشفهية وصلاتهما بالمجال الاعتقادي داخل السرد وخارجه (المجال الاجتماعي البدوي)، في: صلاح الراوي، الثقافة الشعبية وأوهام الصفوة، دار الحضارة العربية، القاهرة، 2002 (انظر: السيرة الهلالية بين الشفاهية والتدوين، ص 217، 218).

13.    راجع: نور الدين طوالبي، الدين والطقوس والتغيرات، ترجمة: وجيه البعيني، منشورات عويدات (بيروت-باريس)، ديوان المطبوعات الجزائرية (الجزائر)، 1988،  ص ص 34 : 43.

14.    انظر: جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء، ترجمة: شاكر عبدالحميد، مراجعة: محمد عناني، عالم المعرفة (الكويت)، العدد 258، يونيو 2000، الكويت، ص 59.

15.    انظر: تزفيتن تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة: الصديق بو علام، مراجعة محمد برادة، دار شرقيات، القاهرة، 1994، ص 167، 168، 169.

16.    في تلك اللحظة السردية الدقيقة، يبدأ، بالعلامات التنبؤية، ميلاد أبطال الهلالية حاملين للقيم الرمزية لألوان الطير: الأبيض والأخضر والأحمر والأسود، ولا يفصح الرواة عن أنواع الطير الثلاثة الأولى، فهي متروكة لتأويل الرموز اللونية، ويخصون الطير الأسود بـ"الغراب" في معظم الروايات، و"العقاب" في روايات أخرى. ويبدأ ميلاد "أبو زيد" التراجيدي؛ من نبوءة ميلاد بطل أسود غطيس ينتسب لزوج متماثل في بياض البشرة. تتحقق النبوءة، فتستثير الذعر، وتنسج دليل الإدانة الذي دفع به بعض وكلاء القبيلة (عزقل وغانم على وجه الخصوص): "خضرا" تخون زوجها وشرف نسبها مع عبد أسود هو بالضرورة أبو المولود الأسود، فتطردها القبيلة - رغم تحفظ حسن السلطان - بلسان رزق، إثر ممارسة رجالها لطقس الاحتفال بالمولود الذكر، حيث كشف فيه عن سواد المولود، فتخوض رحلة بلا هدف محدد أو محطة سفر مقصودة، وتمضي نحو مجهول وغامض، لتمثل "خضرا" الباطن الأنثوي لـ "بنثيوس" الذي يمثل بشريتنا بضعفها وقوتها. ليتكون البطل في أرض غريبة ابنًا لرجل غريب، قيَّضته الأسطورة للحنو عليه والرفق بأمه المنفية، وكأننا أمام أوديب جديد، ستأنف الأسطورة من أن يقتل أباه، وسيلتصق بأمه التصاق الابن اليتيم الذي يقوم مقام الزوج من حيث الحماية والرعاية والإجلال، وفق إيقاع سردي صوفي ينتصر لحنين الدم. تبرع الرواية الشفهية المصرية في تسريد أسطورة السيرة، ففي إطار ثنائية أسود-أبيض، ومحمولها العلامي، يمثل "الأسمر" العلامة البارزة للرواية المصرية للسيرة الهلالية بوصفه لونًا رمزيًّا مجاوزًا للثنائية، وبوصفه خيارًا ثالثًا في الصراع التراجيدي. انظر: شكري محمد عيَّاد، البطل في الأدب والأساطير، دار المعرفة، القاهرة، 1959، ص 144. و: أحمد شمس الدين الحجاجي، ميلاد البطل في السيرة الشعبية العربية، الفنون الشعبية (القاهرة)، العدد 32-33، يوليو- ديسمبر 1990، ص ص 45 : 48. و: سليمان العطار، إنما الأسود عربي، الفنون الشعبية (القاهرة)، العدد 68-69، يناير-فبراير-مارس 2006، ص 12. ويتكرر حدث ولادة أسود لأبيضين في جلِّ نصوص السيرة الشعبية (الهلالية؛ ذات الهمة؛ عنترة)، وإن اختلفت التمثيلات السردية في كل نص. فضلاً عن اختلاف تمثيلاتها السردية (في حالة السيرة الهلالية) بين الروايات الشفهية والمدونات المطبوعة. وإذا جمعنا جمعًا رياضيًّا بين أبي زيد وعبدالوهاب وعنترة، ندرك دور الأم في تشكيل هوية البطل، وبالرغم من أنها لا تمثل - في النظام الأبوي - شرطًا للهوية من حيث الدم والوراثة، لكنها تمثل الوعي المضيء بهوية الابن، والعلامة الرمزية المتمثلة في لبن أمومي يحمل، ثقافيًّا، كل شروط الأب الغائب دائمًا عن تكوين الهوية والقيم داخل الابن الأسود الذي يتجمع في إهابه "السمار" الذي طالما وصف به النيل، ولون الطين الذي طالما حملته الأنهار الحضارية. في التاريخ الرسمي العربي الإسلامي، لم يكن ذلك الحدث (ولادة أسود لأبيضين) منعدمًا؛ يذكر ابن حزم الأندلسي، في "طوق الحمامة"، خبرًا أقرب ما يكون لحدث ولادة أبي زيد، يقول: "... أُتي بابن أسود لأبيضين، فنظر إلى أعلامه فرآه لهما غير شك، فرغب أن يوقَف على الموضع الذي اجتمع عليه، فأُدخل البيت الذي كان فيه مضجعهما، فرأى في ما يوازي نظر المرأة صورة أسود في الحائط، فقال: من قِبَل هذه الصورة أتيتَ في ابنك"، لتمثل صورة الأسود المعلقة على الحائط الموازي للمرأة علامة موازية للطائر الأسود الذي تمنت عليه "خضرا" في بركة الطير. وقد رويت في هذا أخبار كثيرة، معظمها عن وقائع حدثت في عصر النبي محمد، ويذكر الرواة مثل هذه الأخبار في أبواب: "النكاح" و"الطلاق" و"اللعان" و"القذف بالفاحشة". يروى، في "صحيح مسلم"، أن رجلاً من بني فزارة جاء "إلى النبي (صلعم) فقال إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي (صلعم) هل لك من إبل؟ قال نعم، قال فما لونها؟ قال حُمْرٌ، قال هل فيها من أَوْرَقَ - أسمر؟ قال إن فيها لَوُرْقًا، قال فأنَّتى أتاها ذلك؟ قال عسى أن يكون نَزَعَه عِرق - جذبه وأخرجه، قال وهذا عسى أن يكون نَزَعَه عِرْق". ويتكرر الحدث في سنن النسائي وسنن ابن ماجه. إن الرجال الذين توجهوا إلى الرسول لا يحملون الاستفسار، قدر ما يحملون ملاعنة زوجاتهم وقرارت طلاقهن والتبرؤ من بنيهم السود. وتفسر المدونات المطبوعة لسيرة بني هلال سواد لون "أبو زيد" تفسيرًا علميًّا يركز على عوامل الوراثة، فقد كانت جدة "خضرا" لأمها سوداء، كما كان جدها كذلك. راجع: نادر كاظم، تمثيلات الآخر؛ صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004، (انظر: الفصل الثالث: الأسود والتمثيل السردي، ص ص 309 : 318). وانظر: الحجاجي، مولد البطل في السيرة الشعبية، دار الهلال، القاهرة، 1991.، ص ص 114 : 116. و: العطار، إنما الأسود ..، مرجع سبق ذكره، ص 13.

17.    التمهيد [المهاد السردي] mention advance: عنصر من عناصر السرد، تكتمل دلالته في ما بعد، ولا يمثل نموذجًا للاستباق؛ أي لا يشير صراحة إلى ما سيقع من أحداث. أما الإعلان advance notice، فيقوم بتلك الوظيفة (جينيت، 1980). انظر: برنس، مرجع سبق ذكره، ص 12، 13.

18.    لا تحدد الروايات المصرية الشفهية لـ الهلالية ملامح واضحة لـ شخصية "شمَّا"، وأحيانًا تختلط بشخصيات أخرى أبرزها "شامة بنت الملك عطَّاب" ملك اليمن. ويختلف شعراء السيرة في وضعها السردي، فبينما يرسمها عز الدين بوصفها زوجًا لـ"سرحان"، وهي صاحبة العقد - مضرب المثل في صعيد مصر - الذي حظي يونس بفرع (فَرْدَة) منه، في رحلة الريادة، حيث كان لـ"عقد شمًّا" دورًا محوريًّا في تلك الرحلة، فإن عبدالباسط نوح يرسمها بوصفها الابنة الكبرى لـ "عطور الجيب" (بت عبدالرحمن البرزخي) التي تزوجها "سرحان" وفق أحداث الرحلة نفسها المسرودة في بعض الروايات المطبوعة التي تقص حكاية زواج "سرحان" بـ "شما". في منظور عبدالباسط نوح، "عطور الجيب"، هي صاحبة العقد الذي ورَّثته لابنتها "شمَّا". و"شمَّا"، من هذا المنظور، هي الأخت الشقيقة لـ"الجازية" وحسن من "عطور الجيب" و"سرحان"، وشقيقة "مرعي" و"يحيى" و"يونس" من "سرحان" و"شيحه". أما محمد نصر الدين، فيرى أن "عطور الجيب" و"شمَّا" و"شيحه" هن زوجات سرحان، ويحدد "شمَّا" بأنها بنت زيد ابن حارث أحد حراس مكة، تزوجها سرحان في الرحلة نفسها التي قصدها "رزق" بغرض الحج والزواج بـ"خضرا". ويذكر حسين مسعود أن ذلك العقد ورثته "شمَّا" عن فاطمة بنت النبي، حيث أهداه إليها جبريل عليه السلام ليلة عرسها. أما "شمَّا" في المدونة المطبوعة، فهي ابنة زين الدين أحد ملوك بلاد الحسب والنسب، وهي زوجة سرحان ابن حازم، ولزواجه منها قصة رحلة طويلة، ضمَّنها ساردوها جانبًا وافرًا من القيم. وفي طريق عودة سرحان بها من بلاد أبيها، تعرض كل منهما - منفردًا - إلى الوقوع في أسر عبيد خطَّافين من الإفرنج، ونقلوا "سرحان" بالمركب إلى بلادهم ليرعى الخنازير. وتتسق تلك الرواية مع الخط السردي الذي انتهجته تلك المدونة (انظر: سيرة بني هلال، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، عبدالحميد أحمد حنفي، القاهرة، ط 2، 1963، ص ص 67 : 110). انظر: الراوي، مرجع سبق ذكره، الحاشية 23، ص 213.

19.    دي: هذه؛ تلك. ده: هذا؛ ذاك. وجم: وجاؤوا.

20. انظر: محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، دار محمد علي للنشر-تونس، دار الفارابي-بيروت، 2005، ص 69.

21.    يستبدل المؤدي "الشيخ حسنين عمران" (واحة الداخلة المصرية) "القصعة" بـ "حيز البركة"، ويستبدل بـ علامة "الماء في البركة" علامة "الطعام في القصعة"، بينما تظل موتيفة "الطير" مشتركة وثابتة بلا استبدال. يقول: "في الزمن القديم كانوا يعملوا ايه؟ كانوا ياخدوا أكل ويروحوا يُحُطُّوْه عَ البَحْ، ويتمنُّوا عَ الطير، ينزل الطير، كل وحده ينزل لها طير تتمنى عليه، تقول: أنا عايزه ولد زي ده، كان ربنا سبحانه وتعالى يجيب لها الولد زي ما هيَّ تَمَنَّات، وطبعًا راحت أم السلطان حسن، وأم أبو زيد، وأم دياب، وكل وحده حطِّت قصعة، نزل الطير، نزل طير مِزَوَّقْ واخضر.. حلو. أم دياب قالت ربنا يعطيني ولد زي دَاه. نزل طير أبيض.. أم السلطان حسن قالت: أنا ربنا يعطيني طير زي داه.. يعطيني ولد زي الطير داه، نزل طير أسود وراح مِكَوِّشْ عَ الكل، وكَلْ منهم الحاجات اللي معاهم، أم أبو زيد قالت: ربنا يعطيني ولد يِكَوِّشْ عَ الكون كله.." (جمع: أيمن عيسى، واحة الداخلة، محافظة الوادي الجديد). يمزج ذلك الاتجاه السردي الواحاتي المصري بين موتيفة "الطير"، كما لدى رواة الصعيد والدلتا، ورمزية "القصعة" التي تمتد إلى روايات بلاد المغرب، كالرواية التي جمعها التونسي عبدالرحمن قيقة عن شيخ ليبي (راجع: عبدالرحمن قيقة، من أقاصيص بني هلال، رواية شفوية عن شيخ ليبي من جادو، قدم لها ونقلها إلى العربية الفصحى: الطاهر قيقة، الدار التونسية للنشر، تونس، 1985)، حيث تصدقت "خضرا" بقصعة من الكسكسي للطيور للتوسل بها إلى الله، لعله يرزقها ولدًا، ووضعت القصعة في البرية، فكان أول طير وقع عليها غراب، فدعت ربها:

اللهم يا رب يا رباه

يا غاية البكماء بدر السحاب وماه

أن ترزقني بوليد صفته هذا الطير وحلاه

اللي يضربه بالسيف يسيل دماه

انظر: الحجاجي، مولد البطل ..، مرجع سبق ذكره، ص 52.

22.     راجع Marcia Inhorn, Quest for Conceptin:Gender, Infertility and Egyption redical Tradition, 1994. & Inhorn, Infertility and Patriarchy: The Cultural Politics and Family Life in Egypt, University of Pennsylvania Press, 1996.

23.    انظر: الحجاجي، مولد البطل..، مرجع سبق ذكره، ص ص 63 : 83. وراجع: مصطفى جاد، الشخصية المساعدة للبطل في السيرة الشعبية، سلسلة دراسات الثقافة الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2007.

24. من تلك الزاوية، تنظر المقاربة السيميائية السردية إلى جنوسة البطولة والبطولة المصاحبة في مختلف رحلات السيرة الهلالية. ففي الرحلة الوسطى (الريادة)، يمكن تتبع "ميّ الهلالية" بوصفها عين (كاميرا) السرد الرابط بين الشرق والغرب، فقد كانت "ميّ" خادمة "شمَّا" في نجد، وسيقت إلى تونس في عهد الأشراف، ثم صارت خادمة "عزيزة بنت معبد السلطان"، ومن قبلها خادمة "سُعْدَى" حسب روايات أخرى، فصارت جسرًا لدخول الهلاليين تونس، ومن السيميائي - كمن الطبيعي - أن تمتلك "ميّ الهلالية" التي وُصفت في مرحلة الريادة بـ الحزينة، موقع الراوي الخفي لسردية الغرام في قصة "عزيزه ويونس"، أو قصة "سعدة ومرعي" في روايات أخرى. ومن الزاوية نفسها، يُنظر إلى "الجازية" في الرحلة الكبرى (التغريبة)، خاصة في مرحلتها المتأخرة (رحلة الأيتام)، دون أن يكون مهمًّا توصيف مستوى البطولة بين البطل والبطل المصاحب؛ أو بينها و"أبو زيد". المهم هو أن البطولة في تلك السياقات السردية الفاصلة - تتحرر من المنظور الذكوري للبطولة.

25.    فجا: فجاء. التِّنِيْنْ: الاثنان. لاُحمر: الأحمر. لاِسْمَرْ: الأسمر. راعت له: نظرت إليه. زغرتت له: زغردت؛ الزغرودة علامة إشارية صوتية غير لغوية دالة على الفرح.

26.    انظر: عجينة، مرجع سبق ذكره، ص 325

27.    انظر: الراوي، مرجع سبق ذكره، ص 203، والحاشية 38، ص 216.

28.    انظر: الحجاجي، مولد البطل ..، مرجع سبق ذكره، ص ص 45، 46.

29.    اديني: اعطني؛ امنحني. من لجل: من أجل؛ لكي. جابت: أتت بـ، أنجبت. موافي الزمام: ممتلك الأرض الشاسعة، والمسيطر عليها.

30.    انظر: عبدالحميد حواس، تباريح "حزينة"، ألف (القاهرة) العدد 30، 2010، ص 30.

 

الصور:

من الكاتب.

أعداد المجلة