فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الأساطير والحكايات الشعبية المرتبطة بالمخلوقات البحرية في البحرين (دراسة تحليلية)

العدد 33 - أدب شعبي
الأساطير والحكايات الشعبية المرتبطة بالمخلوقات البحرية في البحرين (دراسة تحليلية)
كاتب من البحرين

 منذ القدم، وعبر قرون، كانت الناس تشاهد المخلوقات والظواهر الطبيعية، وقد كونت في فكرها الجمعي العديد من التساؤلات والتخيلات، التي تحولت، خلال سنوات طويلة من الملاحظة الدقيقة، إلى أساطير وحكايات، يتم من خلالها خلق مخلوقات أسطورية أو إيجاد حكايات أسطورية تعلل وجود بعض الظواهر الطبيعية. فالعقل البشري، يبحث دائماً عن حالة من الاتزان الداخلي، بين الأفكار، أو بين المعتقدات، أو بين الظواهر الطبيعية ومسبباتها، وهكذا، فالعقل البشري، يطلب دائماً، معرفة الأسباب بشكل ملح. وكثير من الأحيان، وقبل التطور العلمي والتكنولوجي، يفشل العقل البشري في إيجاد إجابات مرضية للعديد من التساؤلات التي كانت تشغله. فيعمل ذلك العقل على نسج حكايات خيالية وأساطير، ليحقق من خلالها ذلك الاتزان الداخلي الذي يسعى له. وأحياناً، تكون هناك بعض الحقائق العلمية وراء تلك الأساطير، وأحيانا أخرى، تكون الحكاية كلها من نسج الخيال.

 

 

وقد ارتبطت تلك الأساطير والحكايات بالعديد من الكائنات الحية، وسوف نخصص هذه الدراسة لدراسة الأساطير والحكايات الخرافية التي ارتبطت بالكائنات الحية البحرية في البحرين. ويمكن أن نقسم تلك الأساطير والحكايات إلى ثلاثة أقسام: الأول حول المخلوقات الأسطورية البحرية، والثاني يتناول الأساطير والحكايات الشعبية المرتبطة بالأسماك، أما القسم الثالث فسوف نخصصه لنقاش أسطورة حديثة نسبياً ويرجح أنها من صنع المكنة الإعلامية وهي مرتبطة بالمحار العملاق.

 

1.  المخلوقات الأسطورية البحرية

يقال «مخلوقات أسطورية» و«حيوانات أسطورية» و«كائنات أسطورية» ويقصد بها كائنات لا وجود لها في الطبيعة لأن وجودها يفتقد للدليل الفيزيائي، وهي كائنات وصفها من يؤمن بوجودها أو مَن زعم أنه رآها بصفات غريبة، وهذه الكائنات ليست حصراً على ثقافة دون أخرى بل يمكن العثور في جميع الثقافات المعروفة على كائن أسطوري واحد على الأقل، خاص بكل ثقافة. وفي كل ثقافة هناك من لا يؤمن بوجود تلك الكائنات الأسطورية، ولكن دائماً ما يكون هناك البعض مِن مَن يعتقدون بوجودها خاصة بعد دخول تلك الكائنات الذاكرة الشعبية للجماعة.

ونجـــد في كــــتـب التـــراث العــربي وكتب المثيولوجيا للثقافات المختلفة ذكرا لمخلوقات بحرية أسطورية، ويتم وصفها على أنها مخلوقات وسطية بين الإنسان والكائنات البحرية، فنجدها في التراث العربي تحت مسميات مختلفة مثل بنات الماء وإنسان الماء وفي التراث الفارسي ملك درياه، وشبيه لها المخلوقات الأسطورية في الثقافة الغربية المسماة mermaid (فتاة البحر) وmerman (رجل البحر) وكذلك Sirens في المثيولوجيا اليونانيه، وأصل هذه الأساطير كلها الأطوم والفقمة، وبالتحديد الفقمة الراهبة Monk Seal (معلوف 1985، ص 89).

إلا أن هـــــذه الأســاطـــير تطـــورت، بــفـعــل الــكتابــات القصصــية، وتــم ابتــكار أســـاطير ثــانــوية منبثـــقة مـــن الأساطير القديمة، كعروس البحر وحورية البحر وهذه أسماء لم ترد في التراث العربي وإنما هي أسماء ابتدعتها العامة وروجت لها المكنة الإعلامية وهناك من ربط هذه الأساطير بالأطوم أو بقرة البحر. وقد تداخل جزء من هذه الأساطير في الثقافة الشعبية في البحرين، والخليج العربي بصورة عامة، ونتج عنها المخلوق الأسطوري المسمى «بو درياه».

 

1.1. أبو دريا وإنسان الماء:

أبو دريا هو مخلوق بحري أسطوري كانت تعتقد بوجوده العامة في البحرين، والخليج العربي بصورة عامة، وأصل الأسطورة لمخلوق أسطوري يعرف بالفارسية باسم «ملك دريا» أي ملك البحر (معلوف 1985، ص 89)، وقد انتقلت أساطير هذا الكائن للعرب في الخليج العربي مع تغير اسم الكائن لعدد من الصيغ، فقد ذكره فالح حنظل في معجم ألفاظ الإمارات:

 - أبُو دَريا، وبَابَه دَرْيا: كائن خرافي يعيش في البحر، قيل إنه يظهر على شكل انسان مخيف الخلقة، يسمعون صياحه في البحر كأنه غريق فإذا أنقذوه أكل طعامهم وربما أتلف شيئاً في السفينة. ولذا فإنهم إذا ما عرفوا أنه أبو دريا تصايحوا: «هاتوا الجدوم والمنشار» (والجدوم نوع من الفؤوس) فإذا سمعهم خاف وعاد إلى البحر. وقصة بابه دريا ترويها الأمهات لأطفالهن لتخويفهم من شرور الذهاب والعوم في البحر» (حنظل 1978، ص 40).

أما سيف الشملان في كتابه «الألعاب الشعبية الكويتية» فقد ذكر هذا الكائن باسم أبو درياه و بو درياه وقال عنه:

- «كنت اسمع من البحارة أقوالاً عن أبي درياه وأنه حيوان بحري على شكل الإنسان يصعد إلى ظهر السفينة ليمسك من يصادفه من البحارة ويلقيه في البحر ليفترسه. وإنهم إذا شاهدوه صاعداً إلى ظهر السفينة صاحوا به وأخرجوا السكين ونحوها فيلقي بنفسه في البحر طلباً للنجاة، والعجب أن البحارة يعتقدون بوجوده ويقصون قصصاً عنه» (الشملان 1978 - ج1: ص 145).

 

1 .2.أصل أسطورة أبو درياه:

سبق أن ذكرنا أن الاسم أبو درياه وكذلك الأسماء الأخرى كلها مشتقة من الاسم الفارسي «ملك دريا» إلا أن هناك مخلوقا له نفس المواصفات، وله ذكر في كتب التراث العربي ولكنه مشهور بمسمى «إنسان الماء» و«الشيخ اليهودي» و«شيخ البحر»، وقد جاء عنه في كتاب «عجائب المخلوقات» للقزويني:

- «إنسان الماء: يشبه الإنسان، إلا أن له ذنباً، وقد جاء شخص بواحد منه في زماننا في بغداد، فعرضه على الناس وشكله على ما ذكرناه، وقد ذكر أنه في بحر الشام ببعض الأوقات، يطلع من الماء إلى الحاضرة إنسان وله لحية بيضاء، يسمونه شيخ البحر، ويبقى أياماً، فإذا رآه الناس يستبشرون بالخصب. وحكي أن بعض الملوك، حمل إليه إنسان مائي، فأراد الملك أن يعرف حاله فزوجه امرأة، فجاء منها ولد يفهم كلام أبويه، فقيل للولد: ماذا يقول أبوك؟ قال: يقول أذناب الحيوان كلها على أسافلها، ما بال هؤلاء أذنابهم في وجوهم؟» (طبعة مؤسسة الأعلمي 2000، ص 125).

وقد زعم بعض الكتاب ومنهم الشملان أن أصل أسطورة أبو درياه هو الأطوم (الشملان 1978، ج1: ص 145)، وهو احتمال لا يمكن استبعاده، إلا أن إنسان الماء هو الفقمة التي تعيش في البحر المتوسط والمعروفة باسم Monk Seal أي الفقمة الراهبة (معلوف 1985، ص 161 و222). أما الأطوم فالمرجح أنه أصل أسطورة «بنات الماء».

1 .3.الأطوم وأسطورة بنات الماء

أصل أسطورة بنات الماء هو الكائن البحري الذي ينتمي إلى الثديات والمسمى الأطوم Dugong، والاسم العلمي القديم للأطوم هو Halicore وهو مشتق من كلمتين يونانيتين معناهما فتاة البحر وليس عروسة البحر (معلوف1985، ص88). ويعرف الأطوم عند العامة في الخليج العربي باسم «بقرة البحر» وهو اسم وارد في كتب التراث العربي (معلوف1985، ص88).

وللعرب فرضية عن كيفية تكون بنات الماء وهي جزء من فرضية عامة تفسر وجود حيوانات تحمل صفات حيوانات مختلفة، وقد ذكر هذه الفرضية الغريبة بصورة مفصلة بزرك بن شهريار الرامهرمزي وذلك في كتابه «عجايب الهند: بره وبحره وجزائره»، والذي صنفه حدود سنة 950م:

- «وحدثني بعض من دخل الزيلع وبلاد الحبشة أن في بحر الحبشة سمكاً له وجه كوجه بني آدم وأجسامهم لها الأيدي والأرجل وأن الصيادين المعتزبين الفقراء المتطرفين في أطراف السواحل المهجورة والجزاير والشعاب والجبال التي لا تسلك المعالجين فيها طول أعمارهم إذا وجدوا ذلك السمك المشابه لبني آدم اجتمعوا به فيتوالد بينهم نسل شبيه لبني آدم يعيش في الماء والهواء وربما كان الأصل في هذا السمك من بني آدم اجتمعوا بجنس من أجناس السمك ويتوالد بينهم هذا السمك الشبيه لبني آدم ثم كذلك على مر الدهور والأزمنة كما يجتمع الآدمي ببعض الوحش مثل الضبع والنمر وغيره من حيوان البر فيتوالد بينهم القردة والنسانيس وغير ذلك مما يشبه ابن آدم» (Ibn Shahriyar 1883 - 86, pp. 39-40).

2. الأساطير والحكايات الشعبية المرتبطة بالأسماكـ:

تزخر الذاكرة الشعبية في الخليج العربي بالعديد من المعارف المرتبطة بالأسماك؛ فهناك العديد من الأساطير والحكايات والأمثال الشعبية التي ارتبطت بالعديد من أنواع الأسماك في البحرين، والخليج العربي بصورة عامة. من تلك الأساطير الشعبية ما تفسر ظاهرة شاهدها البحارة وعجزوا عن فهمها، فحاولوا تفسيرها بحكاية شعبية أو أسطورة خيالية. وهكذا، لعبت الأساطير دوراً في سد الفراغ الفكري في تعليل ما لم يقدروا على تعليله. بالطبع، قد يكون هناك تعليلات علمية لتلك الظواهر، أو أنها قد تكون ظواهر خيالية تخيلتها العامة وصاغتها في حكاية شعبية. ولا يقف دور الحكاية الشعبية التي ارتبطت بالأسماك، عند حد تفسير ظاهرة ما، بل تعدت ذلك لتشمل العبرة والحكمة؛ وبذلك تعدت كونها حكاية وتم اختزالها في مثل شعبي لتؤدي الغرض ذاته. وسوف نحاول في هذه الدراسة جمع أكبر عددٍ من تلك الأساطير الشعبية، والحكايات الشعبية التي ارتبطت بالأسماك في البحرين، ومقارنتها بحكايات أو أساطير شبيهة تم توثيقها في مناطق أخرى في الخليج العربي.

2 .1. أسطورة سمكـ موسى :

سمك موسى Sole هو الاسم الشائع في الدول العربية بصورة عامة لطائفة من الأسماك التي تنتمي إلى رتبة الأسماك المفلطحة Flatfishes. وتتميز هذه الأسماك بشكلها المفلطح وأن كلا العينين تكونان على جهة واحدة، أي أنها تبدو وكأنها نصف سمكة. وعندما تخرج صغار هذه الأسماك من بيضها تكون طبيعية كباقي الأسماك، ولكن خلال فترة النمو تنتقل إحدى العينين إلى الجهة المقابلة لكي تلتقي بالعين الأخرى فتصبح العينان على جهة واحده إما اليمنى أو اليسرى. وأغلب أفراد هذه الأسماك تسمى سمك موسى في البحرين، ومن أسمائها الأخرى عند العامة، أيضا،ً خوفعة وأرزجه أو أرزيه (بقلب الجيم ياء) ويقال، أيضاً، عرزجه (بقلب الألف عين)، وتسمـــى كـذلـك، طبگ عـجـوز (أي طَـبـق عجـوز)، وقـد شبهت بالطبق بسبب شكلها المفلطح.

ويقصد بموسى، نبي الله موسى عليه السلام؛ فقد زعمت العامة في البحرين إنه لما ضرب نبي الله موسى عليه السلام البحر بعصاه فانشق البحر، قُطعت هذه السمكة إلى نصفين، وقد تناسلت هذه السمكة لتنتج هذه الأسماك والتي تشبه نصف سمكة، ولذلك سميت سمك موسى. وهذا الاعتقاد سائد في دولة الإمارات العربية والأردن ودول عربية أخرى (انظر على سبيل المثال حنظل 1978، ص 374). وهذه الأسطورة ليست حصرية على الثقافة العربية فقط؛ حيث يوجد نوع من أنواع سمك موسى يسمى باللغة الإنجليزية Moses Sole نسبة لنبي الله موسى عليه السلام، وقد ذكرت الأسطورة ذاتها لسبب التسمية (ذُكرت هذه المعلومة في العديد من المقالات على شبكة الإنترنت انظر على سبيل المثال مقال الويكيبيديا حول النوع Pardachirus marmoratus).

هذا، وقد ذكرت هذه الأنواع من الأسماك في الكتب والمؤلفات العربية باسم حوت موسى وهوشع أو يوشع؛ وقد سُمي بذلك، لأن العامة زعمت إن هذا السمك من نسل حوت نبي الله موسى عليه السلام وصبيه يوشع (معلوف 1981، ص 108). وقصة هذا الحوت أن نبي الله موسى عليه السلام وصبيه يوشع لما خرجا للقاء الخضر عليه السلام، وكان دليلهم إلى موضع الخضر حوت، قيل إنهم أكلوا من الحوت فأحيا الله نصفه المأكول وسبح في البحر ودلهم على موضع الخضر (القزويني، طبعة مؤسسة الأعلمي 2000، ص121). ولما كان هذا السمك كأن نصفه مأكول ونصفه الآخر سليم قالوا بأنه من نسل حوت موسى ويوشع. وورد وصف هذا السمك في كتب اللغة بوصف لا يختلف عليه أحد إنه هذا السمك، قال القزويني في كتابه (عجائب المخلوقات) عن هذه الأسماك أن الناس يتبركون بها ويهدونها إلى المحتشمين، ويشويها اليهود ويقددونها ويحملونها إلى الأماكن البعيدة (القزويني، طبعة مؤسسة الأعلمي 2000، ص121). وكذلك، ذكرها الدمشقي في كتابه «نخبة الدهر في عجائب البر والبحر» وقال عنها «والصيادون أيضاً يتباركون بها ولا يأكلونها ويقولون هذا من نسل حوت موسى ويوشع» (طبعة دار إحياء التراث العربي1988، ص194).

وهذا دليل على أن الاسم يبقى ثابتاً بينما الأسطورة أو القصة أو المفهوم الذي أدى لهذه التسمية قد يتغير مع الزمن، ومن مكان لآخر.

2 .2. أسطورة عصب الكنعد:

ينتمي سمك الكنعد  لمجموعة من الأسماك تعرف بــاسـم الإسقـمـــري Mackerel، وهــــذا الاســــم الأخـــير تعريب للاسم اليوناني Skombros واللفظة شائعة على ألسن العامة في مصر والشام لهذه المجموعة من الأسماك (معلوف 1981، ص 219)، وقد اشتهر اسم «الإسقمري» لهذه الأسماك في العديد من المؤلفات. هذا وقد عمم الاسم «إسقمري»، على جميع الأنواع التي تسمى Mackerel، على رغم أن منها أنواعاً لها أسماء عربية واردة على ألسن العامة في دول الخليج العربي، وموثقة في المعاجم اللغوية القديمة؛ حيــــث تــرجـــــم الاســـــم King Mackerel بـــالإسقــمري الملكي، وهو السمك المشهور باسم «الكنعد». وكذلك الاسم Spanish Mackerel يترجم باسم الإسقمري الإسباني وهو مشهور باسم «الخباط».

وفيما يخص أسطورة «عصب» الكنعد، فقد روى لي بعض أهل الاختصاص بصيد الأسماك من العامة، أن سمك الكنعد به عصب (أي أعصاب) بمعنى أنه مريض بالعصبية فإذا اقترب من الشبك لا يستطيع الرجوع إلى الخلف وما أن تلامس مقدمة رأسه الشبك يقوم الكنعد بقتل نفسه، وقيل أيضاً أن «سمك (الكنعد) سمك يعتد بنفسه كثيراً، ولكونه لا يعتقد أن يصطاده الصياد بسهولة فإن الإحباط يتسلل إليه بسرعة لكونه تم صيده، فيموت قهراً دون أن يحرك ساكناً بعد صيده» (البحراني 2015).

وهذه أسطورة طريفة في تعليل ظاهرة شاهدها الصيادون وعجزوا عن تفسيرها؛ فغالباً ما تلجأ العامة لحياكة الأساطير في حال عجزت عن تفسير بعض الظواهر الطبيعية. أما الظاهرة التي شاهدها الصيادون، فهي موت سمك الكنعد مباشرة في حال إخراجه من البحر، وذلك عندما يتم اصطياده بالشبك. ولهذه الظاهرة تفسيرعلمي؛ حيث يتميز سمك الكنعد، وكذلك جميع أفراد العائلة التي ينتمي لها، بطريقة تنفس معينة تختلف عن باقي الأسماك، لكنها مشابهة لطريقة تنفس أسماك القرش. حيث يتوجب على هذه الأسماك أن تسبح باستمرار لكي تتمكن من تحصيل الأوكسجين الذائب في الماء، وذلك لكي يمر الماء المحمل بالأوكسجين على خياشيمها. وهذا يعني، أنه في حال توقفت هذه الأسماك عن السباحة، بسبب وقوعها في الشبك، فإن تدفق الماء للخياشيم يتوقف، ويتوقف معه تدفق الأوكسجين الذائب للخياشيم، مما يؤدي لاختناق هذه الأسماك، أي مما يؤدي لموتها السريع. وهكذا، فالكنعد يبدأ بالموت أول ما يتم إيقافه، وحال إخراجه من الماء يموت. وهذه الطريقة في التنفس تسمى علمياً ram ventilation.

2 .3.سطورة قشور سمك الصافي:

الصافي هو الاسم المحلي الشائع في الخليج العربي لمجموعة من الأسماك تعرف في الكتب العلمية باسم أرانب البحر أو الأسماك الأرنبية Rabbitfish وهي جمع والمفرد أرنب البحر والاسم مترجم. وقد شبهت هذه الأسماك بالأرنب لأنها تحرك شفتها العليا باستمرار كالأرنب. أما الاسم «صافي» فهو في الأصل إحدى الصفات التي تطلق على أنواع من السمك الجيد، فقد ورد هذا الإسم كصفة في إحدى قصائد السري الرفاء المتوفى العام 972م، وهو من شعراء القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) الذين برعوا في وصف صيد الأسماك والتي اعتبرت قصائدهم من النوادر في الشعر نظراً إلى قلة من وصف البحر والصيد من الشعراء. وقصائد الرفاء في وصف صيد الأسماك وطرقه تعتبر أروع ما وصلنا، ففي إحدى قصائده (انظر ديوان السري الرفاء، طبعة دار صادر 1996، ص 12) يصف فيها رحلة صيد بالشبك يتضح من خلالها أن الشبك الموصوف يرمى باليد؛ أي كشبك السالية في الوقت الحاضر، إذ قال:

وأقبلَتْ تملأُ عينَ الرائي

بكل «صافي» المتنِ والأحشاءِ

أبيضَ مثلِ الفِضَّةِ البيضاءِ

أو كذِراعِ الكاعبِ الحسناءِ

فحازَ إذ خاطرَ بالحوباءِ

سعادةَ الجَدِّ من الشَّقاءِ

ويمكننا أن نلاحظ من قول الرفاء أن صفة «صافي» من الصفات التي أطلقها العرب على الأسماك الجيدة. وربما تطورت هذه الصفة وخصصت بأنواع بعينها من الأسماك حيث أن الإسم «صافي» ورد أيضاً بمعنى سمك وذلك في شعر للشاعر ابن المقرب العيوني وهو من شعراء البحرين في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث قال:

وَمِن لَحمِ صافٍ في أَوَال وَكَنعَدٍ

 ضِبابٌ وَجُرذانٌ كَثيرٌ خُدُوعُها

وجاء في شرح الديوان «الصافي: جنس من أجود السمك، وكذلك الكنعد» (شرح ديوان ابن المقرب، الجنبي وآخرون 2012، ج2 ص 1066). وبذلك يكون الإسم «صافي» تسمية عربية قديمة لهذه الأنواع من الأسماك التي عرفت بجودتها منذ القدم.

يذكر أن هناك أنواعاً من سمك الصافي فهناك نوع من الصافي كان مشهوراً عندنا في البحرين ألا وهو «الصافي الصنيفي» أو كما يسميه البعض «صافي كيس» والذي لم يعد له وجود حالياً في الأسواق. أما سبب تسميته بالصافي فقد ذكر الناصري في كتابه «من تراث شعب البحرين» بانه سمي بالصافي لأنه لا يكدر صفوه شيء كغيره فليس عليه سفط (قشور) ولا شوك ولا جلد سميك. وقال أيضاً يقال للعريضة «عربيه» ويقال للقبيبة أي المسلوبة «الوحم» (الناصري 1990، ص 160). وقد زعمت العامة أن سبب عدم وجود القشور أو الفلوس على هذه الأسماك هو «أن سمك (الصافي) كان يغضب عندما يتم صيده فيلقي فلسه في الماء قبل إخراجه» (البحراني 2015).

وعلى الرغم من عدم وجود قشور على هذه الأسماك، إلا أنها تتميز بصلابة أشواكها، وبالخصوص أشواك الزعنفة الشرجية، والتي تكون لسعتها مؤلمة جداً حتى شبهت العامة كل لسعة أو وخزة شديدة بلسعة سمك الصافي، فتقول العامة في التشبيه، والذي جرى مجرى الأمثال، «چنها (كأنها) ضربة صافية». من الناحية العلمية، أثبتت التحاليل أن أشواك زعانف الصافي تتصل بغدد تفرز سموماً ولسعتها مؤلمة ولكن لا يدوم الألم أكثر من نصف ساعة ولتخفيف الألم يوضع العضو المصاب في ماء حار (قرابة 55 درجة مئوية) (Woodland 1986, p. 824).

2 .4. حكاية شوكـ الجواف والحف:

هناك العديد من الحكايات والأمثال الشعبية في البحرين التي ارتبطت بالعديد من الأسماك، ولا نعلم بالتحديد، هل هذه الحكايات والأمثال هي أساطير تعليلية ارتبط بالأسماك ثم تحولت لحكايات وأمثال؟، أم أنها حكايات تحمل في طياتها الحكمة والعبرة. وهنا نستعرض حكاية شعبية وهي تحمل عبرة معينة، وفي نفس الوقت تعلل لوجود ظاهرة معينة في الأسماك. الحكاية تعلل سبب وجود الشوك في سمك الجواف Gizzard Shad وعدم وجود الشوك أو ندرته في سمك الكنعد. والظاهرة ذاتها تصاغ في مثل شعبي، لكنه يعلل سبب وجود الشوك في سمك الحِف بدلاً من الجواف. وسوف نتطرق هنا لتفاصيل كل من الحكاية والمثل الشعبي.

حكاية شوك الجواف:

تسمى هذه الأسماك في الخليج العربي جواف والمفرد جوافة وقد تلفظ الجيم ياء فيقال يوافه وايوافه. والجواف هو الاسم العربي الفصيح لهذه الأسماك والذي ورد في معاجم اللغة، جاء في معجم «تاج العروس» مادة (جوف):

 «الْجُوفِيُّ ككُوفِيٍّ وقد يُخَفَّفُ لضِرُورَةِ الشِّعْرِ والجُوَافُ كغُرَابٍ: سَمَكٌ نَقَلَهُ الجَوْهَرِيُّ وأَنْشَدَنِي أَبو الغَوْثِ قَوْلَ الرَّاجِزِ :

إِذا تَعَشَّوْا بَصَلاً وخَلاًّ

وكَنْعَداً وجُوفِياً قَدْ صَلاَّ

بَاتُوا يَسُلُّونَ الْفُسَاءَ سَلاَّ

سَلَّ النَّبِيطِ الْقَصَبَ الْمُبْتَلاَّ

وفي النِّهايَةِ في حَدِيثِ مَالِكِ ابنِ دِينَارٍ: (أَكَلْتُ رِغيفاً وَرَأْسَ جُوَافَه فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ) الجُوَافَةُ بِالضَّمِّ: ضَرْبٌ مِن السَّمَكِ وليس مِن جَيِّدِهِ».

وعن سبب تسميته باسم الجواف، قال الناصري في كتابه «من تراث شعب البحرين» إن الجواف عرف بهذا الإسم بحيث يكون بجوفه الشوك وخاصة في ظهره وقرب الرأس بصورة مكثفة إلا أن الشوك غير قوى، وقال عنه أيضاً، إن الجيد من هذا السمك هو العريض أما إذا كانت مسلوبة فيختلف طعمها وتسمى گردة (الناصري 1990، ص 160 - 161).

وعن حكاية شوك سمك الجواف، فقد أفرد جعفر البحراني مقالاً مطولاً عنه، وروى حكاية عن جدته تعلل وجود هذا الشوك، جاء فيها:

«في انبثاق مملكة البحار وتوزيع الأدوار على المخلوقات البحرية، وتقسيم الإمكانات لكل سمكة، لم تحصل سمكة الـ(جواف) على أي سلاة (شوكة) في جسدها سوى عمودها الفقري فقط، ولهذا أخذت تبكي لعدة أيام وهي مختبئة في جحرها، فلما سمعت سمكة الـ(الكنعد) بكاء سمكة (الجواف) رق لها قلبها فسألتها عن سبب بكائها فقالت سمكة الـ(جواف): وزعوا السلة (الشوك) على كل السمك وأنا ما عطوني منه شي. قالت سمكة الـ(كنعد) التي كانت تريد أن تتخلص من أشواكها: أيش رايك أعطيك الأشواك إللي عندي كلها. فرحت سمكة الـ(جواف) بهذا العرض وطلبت من سمكة الـ(كنعد) أن تعطيها كل الشوك الذي في بدنها وبذلك أصبحت سمكة الـ(جواف) مليئة بالأشواك، فيما أصبحت سمكة الـ(كنعد) خالية منه تماما» (البحراني 2015).

    وقد تم اختزال حكاية مماثلة لها في مثل شعبي، لكنه يجمع بين الكنعد والحِف Wolfherring، إلا أن الشائع المثل الشعبي الذي يساق كعبرة أو حكمة.    

«لايمو للحف سلة»

العامة في البحرين تسمي هذه السمكة «حِف» بكسر الحاء و«شيمة» وفي الإمارات تسمى «حَف»، بفتح الحاء، وتسمى أيضاً «حُف»، بالضم، أما في الكويت فتسمى «حَف»، بفتح الحاء، وهذا الأخير هو اللفظ الفصيح لاسم هذه السمكة فقد جاء في معجم تاج العروس: «الحَفُّ: سَمَكَةٌ بَيْضَاءُ شَاكَةٌ». وهذا الوصف ينطبق على هذه الأسماك فهي فضية اللون تعلوها زرقة ولحمها كثير العظام أو بمعنى آخر شائكة اللحم.

ومن الأمثال الشعبية القديمة، التي ارتبطت بهذه الأسماك، المثل الشعبي «لايمو للحف سلة يا بنات الچنعدة (الكنعدة)» (الناصري 1990، ص 167). (لايمو) فعل أمر بمعنى اجمعوا، مشتق من اللَم بمعنى الجمع، والحديث موجه لأسماك الكنعد الصغيرة. ومعنى المثل «أجمعوا يا صغار سمك الكنعد السلة أو الشوك لسمكة الحف». يلاحظ هنا التشابه في المعنى العام الظاهري لهذا المثل والحكاية الشعبية السابقة التي تربط سمك الجواف بسمك الكنعد.  إلا أن هذا المثل الشعبي يساق بأسلوب التهكم، فهو يطلب من «بنات الكنعد» أي الصغير من سمك الكنعد، وهي أسماك قليلة أو نادرة الأشواك، أن «تلايم» أي تجمع «السلة» أي الأشواك لسمكة الحف. ويضرب هذا المثل للمكثر من الشيء يطمع فيما لدى المقل منه ومن يندر وجوده عنده. وهو شبيه بالمثل الشعبي الآخر «أهل البقر يطلبوا من أهل الغنم زبدة».

3.  أسطورة المحار العملاق القاتل:

لا يوجد العديد من الحكايات أو الأساطير التي ترتبط بالأصداف البحرية؛ فهناك أعداد بسيطة من الأصداف ارتبطت بحكايات وأساطير، وأشهرها نوع ضخم من المحار Giant Clam، يصل قطر صدفته إلى أكثر من 40 سم، والذي يعرف في الخليج العربي بعدة أسماء، مثل الليَّان (أحمد 2002، ص 169)، أو البزمة أو الزنية (الشملان 1987، ج2: ص 360). والليَّان، كما هو معروف حالياً عند العامة، هو طشت صغير من الحديد، يستخدم في عملية البناء، حيث يوضع فيه الأسمنت المخلوط أو الجص أو الطين قبل استخدامه في عملية البناء. إلا أن الليَّان، كان في السابق يصنع من الفخار، وكان الخرازون يستخدمونه لتليين الجلود فيه قبل استعمالها، ومنه سُمي بالليَّان (الخرس والعقروقة 2003، ص 131).

أما المحار المعروف بالليَّان، فهو نوع من أضخم أنواع المحار، ويتكون من صدفتين، وكل صدفة تشبه شكل الطشت الذي كان يسمى الليَّان، وربما استخدمت تلك الأصداف عوضاً عن ذلك الوعاء الفخاري. ومن هنا جاءت تسمية هذا المحار باسم الليَّان. أما الإسم الآخر، وهو البَزمة، فربما اشتق هذا الإسم من البَزم، وهو «شدَّةُ العَضّ بالثَّنايا والرَّباعِيَات وقيل هو العَضُّ بمقدَّمِ الفَمِ وهو أَخف العَضِّ» (لسان العرب، مادة بزم). وربما سمي بذلك، لتخيل العامة أنه يقبض بصدفتيه الضخمتين على الغاصة.

يذكر، أن هذا النوع من المحار قد صور في أساطير شرق أسيا، على أنه وحش ضخم؛ فمرة، كما في الصين، هو تنين بحري يمكن أن يتشكل في أكثر من صورة، وتارة أخرى، كما في جزر البالاو، هو ذلك الوحش الذي خرج من جوفه الكائنات البحرية (Fredericks 2014, p. 45). إلا أنه في الخليج العربي ارتبط هذا النوع من المحار بأسطورة أخرى لا علاقة لها بأساطير شرق أسيا، والمرجح أنها من الأساطير الحديثة نسبياً والتي روجت لها المكنة الإعلامية؛ حيث أن شهرته كانت بسبب ارتباطه باللآليء العملاقة التي عثر عليها في بعض أفراده. وأشهر تلك اللآليء هي التي عرفت باسم لؤلؤة الإله The Pearl of Allah، والتي اعتبرت، حتى العام 2013م، أكبر لؤلؤة في العالم. وقد أقتنى هذه اللؤلؤة Cobb في ثلاثينيات القرن المنصرم، وذلك من إحدى القبائل في الفلبين. وتزعم القبيلة أن اللؤلؤة، التي تزن قرابة 7 كيلوجرام، تم استخراجها من محار عملاق بعد أن التهم هذا المحار أحد الغاصة وتسبب في وفاته، وقد سميت بلؤلؤة الإله لأنها كانت تشبه العمامة (Cobb 1936). نشر Cobb القصة في العام 1936م، ومن هنا اشتهرت قصة المحار العملاق الذي يتسبب في موت الغاصة، وشاعت أسماؤه الأخرى، مثل المحار القاتل.

يذكر، أن اللؤلؤ الذي ينتجه المحار العملاق، يكون من نوع اللؤلؤ الذي لا يحتوي على طبقة لؤلؤية Non-nacreous Pearls، لكنه مع ذلك له ثمن مرتفع. وهناك أكثر من لؤلؤة عملاقة من هذا النوع، وقد كانت لؤلؤة الإله أكبر لؤلؤة حتى العام 2013م، وذلك عندما كشف في الفلبين عن لؤلؤة أضخم منها، وهي من محار عملاق أيضاً، وتسمى Pearl of the King.

المحار القاتل في الأفلام:

ارتباط قصة أكبر لؤلؤة في العالم بقصة إغلاق صدفتي المحار العملاق على أحد الغاصة والتسبب في موته، أدى لترويج تلك القصة، ومعها قصص التهويل من المحار العملاق. ومن أوائل الأفلام التي، ربما، اقتبست هذه الفكرة، فلم Wake Of The Red Witch، الذي عرض في العام 1948م. وقد ظهر في الفيلم، الغواص الذي نزل البحر ليلتقط لؤلؤة وقعت في الماء، وأثناء صعوده للسطح وقعت قدمه بين صدفتي محار عملاق، والذي أحكم إغلاق صدفتيه على قدمه، إلا أن بطل الفيلم تمكن من تخليصه منها وعاش الغواص. ومشهد آخر مشابه لهذا المشهد، ظهر في الفيلم الكويتي «بس يا بحر» الذي عرض في العام 1971م، وذلك عندما أغلقت محارة عملاقة على يد الغواص «مساعد» وتسببت بغرقه، ولم يتمكن صاحبه من تخليصه من صدفتي المحار، فقام بقطعها، وتوفي لاحقاً. وقد علق سيف الشملان على هذا المشهد ووصفه بالخيالي؛ حيث كتب:

«وهذا (أي المشهد) ليس صحيحاً بل فيه تجن على الحقيقة والواقع. ولم يحدث في تاريخ الكويت أن بزمة أو زنية أو (لحف) أمسك بيد الغواص فكانت وفاته. وهذا من الخيال للإثارة وتشويق المشاهدين تشويقاً كبيراً جداً على حساب الحقيقة، والغوص بريء من ذلك. يجوز أن تمسك البزمة أو الزنية بأصبع الغيص مسكة خفيفة إذا أدخل أصبعه بداخلها، ولكنها لا تسبب وفاته» (الشملان 1978، ج2: ص 360).

المشهد أو القصة الخيالية المستوحاة من شكل المحار الضخم، لاقت رواجاً كبيراً، ليس فقط في بعض الأفلام، بل تعدت ذلك للقصص والكتابات ذات الخيال العلمي، والمقالات وغيرها. حتى أنها ألهمت بعض الرسامين، ونذكر هنا الفنان عبدالله المحرقي ولوحته الشهيرة التي تمثل مأساة غواص اللؤلؤ الذي قبض المحار العملاق على إحدى قدميه، فأخرج سكينه ليحاول قطع قدمه، كي لا يموت غرقاً (Vine 1986, p. 115).

وهكذا، ساهمت المكنة الإعلامية بالترويج لزعم ليس له أساس من الصحة حتى تحول إلى أسطورة.

 

أعداد المجلة