الفضاء العجيب بنية الفضاء في سيرة الملك سيف بن ذي يزن
العدد 33 - أدب شعبي
الفضاء بمفهومه الحالي حديث حسب المفاهيم التي ترافقه، فالزمن؛ على سبيل المثال أقدم من مفهومي المكان والفضاء، ومن ثمَّ بدأ الكتاب والباحثون بالاشتغال على المكان بوصفه بنية مهمة في النص السردي، حتى بدأت الدراسات الحديثة بالاشتغال على مفهوم الفضاء بوصفه بنية جامعة للزمن والمكان.
قُدِّم خلال العقود القريبة أكثر من تصور عن الفضاء، فوضع غاستون باشلار خطة عمل، مقترحاً «إنشائية الفضاء» أو «علم النفس النسقي لمواقع حياتنا الحميمة»، دارساً بذلك القيم الرمزية والمرتبطة إما بما يراه الراوي أو شخصياته من مشاهد، وإما بأمكنة الإقامة كالمنزل والغرفة المغلقة، والسرداب والسجن، أي بالأماكن المغلقة أو المفتوحة، المحصورة أو الشاسعة، المركزية أو الهامشية، الجوفية أو الهوائية(1). فالفضاء بحسب مفهوم باشلار ممكن أن يكون عاماً متكاملاً كالعالم أو القارَّة أو الجزيرة، أو خاصاً كالبيت والغرفة والقبو. ويرى منيب محمد البوريمي أنه تتمظهر في الفضاء الروائي «الشخصيات والأشياء ملتبسة بالأحداث تبعاً لعوامل عدّة تتصل بالرؤية الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبي، وبحساسية الكاتب الروائي، وعلى هذا فالفضاء الروائي يتسع اصطلاحاً ليحتوي أشياء متباينة ومتعددة لا حصر لها، بدءاً من المساحة الورقية التي يتحقق عبر بياضها جسد الكتابة: إلى المكان والزمان، الأشياء، اللغة، الأحداث التي تقع تحت سلطة إدراكنا عبر أنماط السرد والتي تتجسد عالم الرواية»(2). وفي دراسته، يشير حميد لحمداني لوجود عدة أوجه لقراءة الفضاء، منها: الفضاء كمعادل للمكان، الفضاء النصي، والفضاء الدلالي(3). فدرس في الوجه الأول المكان بوصفه محوراً مهماً من محاور الفضاء، وفي الثاني فضاء الكِتَاب والكتابة من خلال قراءة الورقة كمبنى فضائي، وفي الثالث يشير إلى فضاء من نوع آخر له صلة بالصور المجازية وما لها من أبعاد دلالية. جمع لحمداني هذه الآراء من خلال فرضيات بناها حسب دراسات بحثت في مفاهيم الفضاء بشكل عام، وهو بهذا سعى للإحاطة به من الجهات جميعها، لكن ما يهمنا هنا هو الفضاء في النص السردي، وكيفية تشكله، وغرابته التي تنحو به نحو العجيب تارة، والواقعي تارة أخرى.
يُبيِّن حسن نجمي في كتابه «شعرية الفضاء»، أن الفضاء يُعد محايثاً للعالم «تنتظم فيه الكائنات والأشياء والأفعال، معيارا لقياس الوعي والعلائق والتراتبيات الوجودية والاجتماعية والثقافية، ومن ثم تلك التقاطبات الفضائية التي انتبهت إليها الدراسات الأنثروبولوجية في وعي وسلوك الأفراد والجماعات، والتي تنبه - ضمن ما تنبه إليه - إلى نوع من اختراقات الفضاء لنا، لأجسادنا، لأفكارنا، لوجداننا ولمعارفنا»(4). موضحاً أن الفضاء في النص موجود على امتداد الخط السردي، ولا يغيب مطلقاً حتى ولو كان النص السردي بلا أمكنة، فالفضاء حاضر في اللغة، في التركيب، في حركية الشخصيات وحتى في الإيقاع الجمالي للنص. و«عندما يرفض أن نسميه، أن نحدده، أن نمنحه هوية وأن تعبر عنه (لعجز في الإدراك أو رغبة في تحصين رغبة بناء نموذج نظري معين). فإنه لا يغيب، بل يظل كامنا هناك في الظل بانتظار لحظة إدراك ملائمة أو استجابة أكثر تعاطفا»(5). ومن هذا المنطلق يضيف نجمي أن الفضاء هو المادة الجوهرية للكتابة السردية، ولكل كتابة أدبية، وهو ليس مجرد تقنية أو ثيمة أو إطار للفعل السردي(6). إذ «يستحيل إلى ما يشبه الخطة العامة للراوي/ أو الكاتب في إدارة الحوار، وإقامة الحدث الروائي بواسطة الأبطال»(7).
من جانبه يرى الدكتور عبد الملك مرتاض في مسمى «الفضاء» قاصراً نسبة للمصطلح الذي اختاره «الحيز»، «لأن الفضاء من الضرورة أن يكون معناه جاريا في الخواء والفراغ؛ بينما الحيز لدينا ينصرف استعماله إلى النتوء، الوزن، والثقل، والحجم، والشكل... على حين أن المكان نريد أن نَقِفَه، في العمل الروائي، على مفهوم الحيز الجغرافي وحده»(8). مضيفاً أن حركة شخصيات العمل السردي تنتقل من حيز إلى آخر من خلال فعل الحركة، وهذا الحيز مظهر من مظاهر الفراغ والامتلاء. لكن حميد لحمداني يفهم الفضاء على أنه الحيز المكاني في الرواية أو الحكي عامة. و«يطلق عليه عادة الفضاء الجغرافي. فالروائي مثلاً- في نظر البعض- يقدم دائماً حداً أدنى من الإشارات (الجغرافية) التي تشكل فقط نقطة انطلاق من أجل تحريك خيال القارئ، أو من أجل تحقيق استكشافات منهجية للأماكن»(9)، وعلى الرغم من اختيار مرتاض ولحمداني المصطلح نفسه، لكن مرتاض اختاره للتعبير عن الفضاء بشكل عام، في حين يوضح لحمداني مفهوم الحيز على أنه الإشارات التي تحيل على مكان جغرافي ما، وليس ما حدده مرتاض بالحيز الجغرافي فقط.
1. الفضاء والمكان:
يشترك المكان والزمن في تشكيل ما يعرف بـ«الفضاء»، فهو بحسب هنري لوفيفر لا يوجد في أي مكان، «لا مكان له، ذلك لأنه يجمع كل الأمكنة ولا يملك إلا وجودا رمزيا». بل إن هذا «الفضاء المطلق ليس له إلا وجود ذهني، وإذن (متخيل).. سواء أثناء كتابته من طرف الكاتب (الروائي) أو تمثله من طرف القارئ (المتلقي)»(10). ومثلما يحتاج وصف المكان لتوقف الزمن، يحتاج الفضاء لحركة دائمة داخل المكان، إن كانت ظاهرة أو غير ظاهرة. ومن وجهة نظر فلسفية، فالفضاء سابق للأمكنة، «إن له أسبقية تجعله موجودا من قبل هناك حيث أن يستقبلها. هناك الفضاء إذن، وبعد ذلك تأتي الأمكنة لتجد لها حيزا في هذا الفضاء. (الأمكنة جزر في الفضاء، جواهر (أفراد)، أكوان صغرى منفصلة)، داخل الفضاء»(11). لهذا يعد حسن نجمي الفضاء نوعاً من الوسط غير المحدد، تتسكع الأمكنة فيه(12)، في حين يسمي حميد لحمداني مجموع الأمكنة فضاءً، «إن الفضاء في الرواية هو أوسع، وأشمل من المكان، إنه مجموع الأمكنة التي تقوم عليها الحركة الروائية المتمثلة في سيرورة الحكي سواء تلك التي تم تصويرها بشكل مباشر، أم تلك التي تدرك بالضرورة، وبطريقة ضمنية مع كل حركة حكائية»(13). مبيناً أن الأمكنة، من خلال تواترها في الرواية تخلق فضاء شبيهاً بالفضاء الواقعي.
يؤكد أغلب النقاد أن الفضاء أعم من المكان، فهو الذي يحتوي الأماكن من جهة، ويضم الحدث داخله كبنية زمنية، ومن خلال هذا التعالق؛ المكان والزمن، يتشكل الفضاء عموماً، «لأنه يشير إلى ما هو أبعد وأعمق من التحديد الجغرافي، وإن كان أساسياً. إنه يسمح لنا بالبحث في فضاءات تتعدى المحدّد والمجسّد، لمعانقة التخييلي، والذهني، ومختلف الصور التي تتسع لها مقولة الفضاء»(14). وعلى الرغم من كلام سعيد يقطين هذا، إلا أنه في تطبيقه للبنيات الفضائية في السيرة الشعبية، يشتغل على المكان بوصفه فضاءً، فقد حاول أن يقدم أي مكان؛ مهما كان صغيراً أو خالياً من ارتباطه بالحدث والحركة على أنه فضاء، فضلاً عن الفضاءات العامة، مقسماً مفاصل السير الشعبية جميعها لفضاءات طبيعية أو مصنوعة من جهة، ومن ثم هذين الفضاءين العامين إلى مباح ومغلق، وهو بهذا لم يطبق ما قاله في المهادات النظرية من أن المكان جزءٌ مشكّلٌ للفضاء، بل جعل كل مكان ممكن فضاءً، إن كان مفتوحاً أو مغلقاً.
في الوقت نفسه، بيَّنت نورة بنت إبراهيم العنزي، أن الفضاء أمكنة يفضي بعضها إلى بعض، «فلا يمكن دخول الثاني إلا بعد المرور بالأول، لتظهر الشخصيات مرتبة تباعاً بحسب ظهور الأمكنة، فالمكان السابق هو توطئة وتمهيد للبطل لمعرفة الشخصية العجيبة، والمكان اللاحق هو مكان اللقاء والمواجهة بين البطل والشخصية العجيبة، ومع هذه الشخصية العجيبة يتولد الحدث الخاص بالمكان في زمانه الخاص به»(15). ربما كان كلام العنزي يقترب من دراسة الجغرافية أكثر منها دراسة الفضاء، لكنها أيضاً تقترب من الفضاء في كون كل فضاء تدخله الشخصية في العمل السردي يأتي بعد فضاء سابق ويؤدي إلى فضاء لاحق، وهكذا تتوالى الفضاءات الخاصة لتشكل بذلك الفضاء العام للحكاية.
2. الفضاء والزمن:
يتشكل الفضاء من عناصر عدَّة، فضلاً عن المكان والزمن، فبعد أن ينتهي وصف مكان ما في العمل السردي، يبدأ الحدث والحركة، فالحركة بشكل عام مرتهنة بزمن وفضاء، وهي نتيجة لتضافرهما، تقاربهما وتباعدهما، «إن الحركة بهذا المعنى ليست في الكتابة الروائية نتاجا لمجرى الزمن الحكائي والسردي فقط، بل هي نتاج مشترك لهذين العنصرين السياميين: الزمن والفضاء»(16). فالفضاء بحسب هذا التصوّر لا يتكون من الأحداث، بل يؤطرها، فهو يوجد بالضرورة في أثناء جريان الوقائع، حسب وصف حميد لحمداني.
وعلى الرغم من تشكل الفضاء في الرواية كما في السيرة الشعبية من عدد غير محدود من الأمكنة، إلا أن المكان لا يمكن أن يشكل فضاءً إذا لم يتمثل الحدث فيه بشكل واضح، وهذا الحدث لا يستمر من دون حركية الزمن، فـ«لا يتحدد الفضاء الروائي في الأمكنة وحدها (وهي مجرد جزء، خصوصا في المحكى الفانتاستيكي) وإنما انطلاقا من علاقته بالزمن، ثم بانفلات الفضاء عن الأبعاد الإقليدية إلى أبعاد متعددة - مفتوحة، فالعالم الروائي لا يتكون من الوجوه الهندسية البسيطة ولكنه يستنتج من أشكال معقدة ومتنوعة تحقق الاختلاف عن الفضاء المألوف، والمتعارف عليه، بخلق تعددية في جغرافيا الأشياء والكيانات، ذلك أن المكان كما يقول ج. برنس: (يحتل دورا بارزا في النص، أو يشغل حيزا ثانويا فيه، قد يكون حركيا، فعالا أو ثابتا، سكونيا، وقد يكون متناسقا، أو غير متناسق، واضح الملامح أو غامضها مقدما بشكل عفوي غير مرتقب تتناثر جزئياته عبر فضاء النص)»(17).
في دراسة العجائبي والعجيب، لا يتشكل الزمن من توالي الأحداث فحسب، بل إن هناك زمناً خاصاً يتمثل في خرق دائم لحدود الطبيعي. فالأحداث العجائبية «تنبني على انهراق الزمن في فجوات الرهبة، التي تخلق جوا مشحونا بالخوف والتردد في قبول أو عدم قبول الحدث لا لشيء إلا لأن مكونات الفضاء الذي تجري فيه الأحداث المراوحة بين الراهن والغابر مكانا وزمانا مشكلة الفضاء الروائي (لا تتكون من الوجوه الهندسية البسيطة ولكنها تستنتج من أشكال معقدة، ومتنوعة تحقق الاختلاف عن الفضاء المألوف والمتعارف، لخلق تعددية في جغرافية الأشياء والكيانات)»(18). ويرى جيرار جينيت أنه «من الممكن أن نقص الحكاية من دون تعيين مكان الحدث ولو كان بعيداً عن المكان الذي نرويها منه، بينما قد يستحيل علينا ألا نحدد زمنها بالنسبة إلى زمن السرد لأن علينا روايتها إما بزمن الحاضر وإما الماضي وإما المستقبل. وربما بسبب ذلك كان تعيين زمن السرد أهم من تعيين مكانه»(19). لكن بما يخص الفضاء، يجب أن يكون هناك مكان وزمن معيّنان لكي نتمكن من تحديد معالم الفضاء الذي يبقى متخيلاً حتى في حال كان المكان الذي يؤشره السرد ويُحيل عليه واقعياً، وما سيتضح بدراستنا للمكان في الجزء الثالث من هذا الفصل.
3. الفضاء العجيب:
يتشكل الفضاء العجيب من ارتباط الواقعي بالمتخيل، فالخلفية التي تنبني عليها هذه الفضاءات غالباً ما توحي بمكان حقيقي، وربما معروف في بعض الأحيان، فالمدينة التي بناها وزير الملك ذي يزن، يثرب، ليست مدينة خيالية، لكن الكتاب الذي رافق إنشاءها، والذي ستنطق حروفه ما أن يُسلَّم للنبي محمد (ص)، يدخلها في الفضاء العجيب، إذ تتحول هذه الحروف إلى فواعل تحرّك الحدث، وترتبط بزمن قادم غير معلوم تحديداً.
من هذا المبدأ، يشتغل سعيد يقطين على إيضاح الفضاءات العجيبة، المرجعية والتخيلية، التي تنهض على أساسها أفعال الفواعل، «وحين نسم هذه الفضاءات ببعدها العجائبي فلأننا ننطلق من طبيعة تركيبها المخالف للفضاءات المرجعية أو الواقعية الأليفة، وإلا فالعديد من هذه الفضاءات له طابع واقعي أو مرجعي ما. ذلك لأن عجائبية الفضاء تتحدد من زاوية الرؤية التي نتخذها لمعاينته»(20). مؤكداً أن هذه الفضاءات تتجسد بعيداً عن الفضاءات المرجعية المركزية، وغالبا ما تكون متفردة وسط الخراب، أي بعيداً عن العمران(21). كلام يقطين هذا يتمثل بوضوح في سيرة الملك سيف بن ذي يزن، فلا يتشكل العجيب في الأماكن التي يعيش فيها، بل في رحلاته المستمرة، إذ تكون الصحراء أو الأماكن الواسعة مسرحاً لهذا الفضاء. فالعجائبي يظهر في الأماكن المشكلة للفضاءات المفتوحة، فتظهر الشخصيات العجيبة، وتمارس الأفعال العجائبية من دون أن يقيدها سقف أو جدار، وهي بهذا تبحث عن الحرية في ممارستها هذه الأفعال. إلا مع بعض الشخصيات العجيبة التي تكمن عجائبيتها في القدرات التي تستمدها من القدرات الإلهية والكرامات، مثل سطيح وسام بن نوح (ع)، وغيرهما من الشخصيات التي لا تظهر عجائبيتها إلا للملك سيف. وهناك بعض الشخصيات التي أوكلت بمساعدته أيضاً، لكن عجائبيتها تظهر في الفضاءات المفتوحة والمغلقة معاً، مثل إخميم الطالب:
«كان ذلك في اليوم الحادي والستين وهو سائر بالبراري كأنه مذهول أو مجنون نظر بين يديه فرأى جبلين على يمينه جبل أبيض وعن يساره جبل أحمر فسار حتى قاربهما فرأى بينهما راية مقامة إلى جهة الأحمر الذي على يساره ونظر إلى الجبل الذي على يمينه فرأى قصرا عالياً وهو من أعجب العجائب قام عن التراب وتعلق بأكتاف الغمام والسحاب وبين الجبلين بحر عجاج حائل بين هذين الجبلين وهو عميق وله موج يذهل الناظر إليه فطلع إلى الجبل الأحمر وهو على يساره لكون الجبل الثاني لا يمكنه الوصول إليه بسبب ذلك البحر الذي بينه وبينه فلما صار في الجبل لقي حصناً من الحجر الرخام وفي وسطه عمود طوله عشرون ذراعاً عليه أسماء وطلاسم ونظر إلى الجبل الثاني فرأى عليه قصراً عالياً في وسط الجبل عمود مثل الذي في الحصن والعمودان من بعضهما متقاربان وبالكتابة مرسومان فتعجب الملك سيف غاية العجب»(22).
تَعَجُّبُ الملك سيف مما رأى كان لأسباب عدَّة، أولها أن هذين الجبلين والعمودين والبحر الذي بينهما ظهرا له فجأة بعد تعب من السير مدةً طويلة، ومن ثم سيزداد هذا التعجب بعدما يرى أن هذا المكان أُعدَّ خصيصاً له، وأن هناك شخصاً كان ينتظره لأكثر من عشرين عاماً، وهذا الانتظار كان بسبب توكيل أبيه له عن جده وعن جده لأبيه وصولاً إلى حام بن نوح (ع)، من أجل أن يسلمه الذخائر التي تركها له حام، لكن الملك سيف لم يكن ليحصل على هذه الذخائر من دون أن يقوم بأعمال فوق طبيعية، لا يستطيع أي إنسان آخر القيام بها سواه:
«فسار معه الملك سيف حتى وصلوا (كذا) إلى برج العمود الذي في الحصن وقال له: أنظر إلى ذلك العمود فإن أول إمارة فيك أنك تطلع إلى آخر ذلك العمود فقال الملك سيف: يا حكيم أنا لم يصعب علي الصعود أني أرى درجات خارجة منه وحلقات لو أردت أن أضع يدي على الدرجة وأطلع إلى الثانية وأمسك في هذه الحلقات لفعلت. فقال له الحكيم: صدقت وإن غيرك لم ير ذلك لأن الأرصاد لا تكشف هذه إلا لك من دون غيرك فاصعد كما قلت والله تعالى يأخذ بيدك فعند ذلك صعد الملك سيف حتى بقي فوق ذلك العمود فقال له الحكيم إخميم: إيش رأيت فوق العمود؟ فقال له: رأيت بطر (كذا) في الحجر قدمين بجانب بعضهما مثل ما يؤثر في الرمل أقدام بني آدم فقال له ضع أقدامك فيهم (كذا) وقف وانظر إلى الجبل الذي قبالك في البر الثاني. فوقف وقال: يا حكيم إنني أرى قدامي عمود (كذا) مثل ذلك العمود المنقوش عليه قدمان (كذا) مثل هذين القدمين فنط الحكيم في (كذا) جنب الملك سيف ونظر إلى قدميه وتبسم، وقال له: أنت صاحب العلامات وأنت الملك سيف بن ذي يزن بن تبع اليمان ابن الملك أسد البيدا بن الملك سام أخو الملك حام وجدك نوح عليه السلام وهذه النسبة لم تكن لأحد سواك وأنت صاحب هذه الذخائر الموضوعة في هذا المكان فهناك الله بما أعطاك... قم يا ملك واصعد إلى العمود فإذا طلعت الشمس فاصعد أنت فوق العمود بكليتك حتى تصل إلى العمود الثاني فتنزل بأقدامك في قدمين مثل هذين القدمين فضع أقدامك فيها. فقال الملك سيف: يا حكيم إخميم ومن الذي يقدر على المسافة أن يتعداها وهي مقدار ثلثمائة (كذا) خطوة فلا شك أن كلامك هذا غير صحيح ولا شك أنني أقع في البحر وأغرق فيه فقال له الحكيم لا يا سيدي وإنما يلزمك الإجهاد (كذا) لأنك تساعدك الأرصاد حتى تبلغ المراد... ولما وضع رجليه في الأقدام التي في وسط العمود قوى عزمه ونط كما أمره إخميم الطالب فما وجد نفسه إلا واقف (كذا) على العمود الثاني ورجليه محكمة القدمين الذين (كذا) مثل الأولين واقدامه منقاسين (كذا) عليهما بالسوية فلما رأى نفسه الملك سيف بتلك القضية خر ساجداً شاكراً لرب البرية والتفت عن يمينه فوجد أخميم الطالب واقف (كذا) بجنبه كأنه قرينه فقال له: إيش رأيت يا أخميم قال: يا ولدي أنت الذي دلت عليك أرباب العلوم والأقلام وأنت صاحب الودائع والنعم»(23).
المكان في هذا الفضاء هلامي ولا يمكن أن يدل على أي مكان واقعي أو مرجعي، فالبحر الذي بين جبلين يوجد في أماكن لا يمكن إحصاؤها في العالم، لكن المنطقة التي تدور فيها السيرة، بحسب الفضاء العام لها، لا تتجاوز الجزيرة العربية واليمن، في زمن وصول الملك سيف لهذا المكان، وفيما بعد سينطلق ليصل الهند والصين ومصر والمغرب وغيرها من الأماكن.
فالفضاء العام للسيرة يبدأ من حمراء الحبشة ومن ثم ينطلق لأماكن بعيدة بحسب ما تصفه السيرة نفسها:
«فقالوا له هذا ملكنا واسمه الملك ابو تاج وهو حاكم على هذه الاراضي والفجاج، وهو من نواب الأراضي والبلدان التي تحت يد الملك الكبير المصاب صاحب الجنود والأعوان الملك سيف أرعد ملك الحبشة والسودان وأنه لما رآك قتلت الاسد وكان ناظرا قصد ان ينعم عليك فقال الملك سيف بن ذي يون (كذا): وكيف يحكم عليه الملك سيف أرعد وبينهم مسافة ستة أشهر؟ فقالوا له يا هذا اعلم ان ملك الحبشة والسودان طول ثلاث سنين تمام، فتعجب الملك سيف بن ذي يزن وقال الملك لله العزيز العلام»(24).
هذا الفضاء الذي تتحدث عنه السيرة له مرجع واقعي، فالحبشة والسودان (مسرح السيرة) مكانان يشكلان الفضاء الرئيس في رحلة الملك سيف، وكما تذكر كتب التاريخ، فإن الملك سيف أرعد موجود فعلاً وليس شخصية تخيّلها راوي السيرة؛ وهو ما اتضح في الفصل الثاني، لهذا فإن «الفضاءات المرجعية سواء من خلال أسمائها أو صفاتها توظف باعتبارها فضاءات واقعية لها تاريخها (زمن نشأتها)، وأسباب تأسيسها، وارتباطها بشخصية لها وجودها التاريخي والواقعي. وتبعا لذلك فإن وجودها ومصيرها مرتبط ارتباطا وثيقا بوجود ومصائر مختلف الشخصيات التي تتواجد في مختلف السير، وتتخذ تلك الفضاءات بوجه عام طابع العالم الذي تتحرك فيه الشخصيات، أو الموضوع الذي تتفاعل فيه فيما بينها بسببه»(25). لا تقف السيرة عند هذا الفضاء، السيرة تتسع وتمتدّ مع الرحلات التي يقوم بها الملك سيف، فالملك سيف يبتعد عن حمراء اليمن؛ مدينته، وصولاً إلى بلد شاه زمان، مدة عشرين عاماً للمجدِّ المسافر، وحين يسافر عيروض للحصول على مهر عاقصة، وهو بدلة الملكة بلقيس التي أهداها إياها النبي سليمان (ع)، ثلاثمائة عام إذا كان الإنسان يسير في الليل والنهار، «وهذا ما حدث تماماً مع البطل، فهو لا يضع القارئ على خريطة معروفة في سلسلة رحلاته، بل تتوالى الأمكنة غير المألوفة عليه، والتي ليس لها مقابل جغرافي واقعي؛ وإن اجتازها فإنه لا يعود إليها رغماً عنه؛ ويمثل انتقاله منها اجتيازاً للعتبات الفاصلة بين فضاءات السرد المكانية والزمانية، الممتدة والمتنوعة بامتداد وتنوع الرواية؛ بحيث تشكل هذه الأمكنة حلقات يُفضي بعضها إلى بعض، في حركة دائرية، تبدأ من مكان اللقاء لتنتهي عنده؛ ومع كل ظهور جديد لمكان، تظهر معه شخصية جديدة أو أكثر، تخرق الحدث الأساس الذي بنيت عليه الرواية في أولها، لتتوالد الأحداث وتتناسل، وتتعدد معها الشخصيات العجيبة والفاعلة»(26). وغالباً ما تكون الشخصيات الجديدة التي تظهر للملك سيف بعد خروجه من فضاء ودخوله لفضاء جديد شخصيات مساعدة تدعمه في الحصول على الذخائر العجيبة أو تساعده في تخطي العقبات التي توضع أمامه:
«صار يقطع البراري والآكام مدة ستين يوما بالتمام، وهو يقطع الطرقات في البراري المقفرات ولم يجد في طريقه أحداً من المخلوقات فأشرف على جبلٍ عالٍ وحوله روضة نزهة للناظرين بها أشجار باسقة، وأنهار دانقة وأغصان مورقة وماء (كذا) متدفقة والطير ناطق يسبح الله الخالق»(27).
وفي هذه المرحلة، مع خروجه من فضاء الصحراء ودخوله في مكان وردي، يلتقي بمساعد جديد، وهو الشيخ جياد بعد أن التقى عاقصة والشيخ عبد السلام.
4. تولد الفضاء:
تتولد الفضاءات في سيرة سيف بن ذي يزن على امتداد مساحة الحكي، منذ أول رحلة قام بها ذو يزن، حتى تمكن ابنه من نشر الإسلام في جميع البقاع التي مرَّ بها. فالرحلة كانت المحرك للكشف عن هذه الفضاءات، والدعوى التي بنيت عليها السيرة كانت الموئل الرئيس لبناء مدن، وتشريع قوانين لها، وحتى طبيعة إنشائها. لهذا فإن «أولى الفرضيات في دراسة الفضاء العجائبي منطلقة من خاصية (الارتحال والتنقل) الجوهرية، وهي أن المكان متحول عبر زمن ما، كما أن ما قد يتميز به (المكان) في الرواية من تنوع وتشظٍّ على امتداد الرواية، يمكن أن ينطبق في كثير من الأحيان على الزمن فيها»(28)، إن فكرة الارتحال والتنقّل تمنح الدارس فرصة للنظر في طبيعة التغيّر التي تحكم سرد السيرة وهي تقترح مع كل تحول منعطفاً جديداً تشهد معه مجمل عناصرها تعديلات وتغيّرات تتناسب مع تحوّل السرد وتتهيأ لاحتضانه.
وفي الوقت نفسه تتميز هذه السيرة بكونها تبني المدن سردياً بما تقدم لها من أساطير تتعدى أسباب بناء المدن للوقوف على كيفية بنائها؛ وهو ما سيُدرس في بحثنا عن المكان، ومن الجدير بالملاحظة إن أغلب الفضاءات التي شكلتها السيرة من خلال بنائها هذه المدن تدور في مصر وما يحيط حولها، فـ«يمكن اعتبار سيرة سيف بن ذي يزن بمثابة سيرة أصول أو بدايات تشكل العديد من الفضاءات المصرية خصوصاً. ذلك أن معظم أسماء هذه الفضاءات أسماء لبعض شخصيات أو فواعل السيرة، (مصر - اخميم - بولاق - تكرور - دمنهور)، وكذلك أسماء أنهار الشام التي تعود إلى اسماء الخرزة التي كان يملكها مصر»(29). كما تشتمل السيرة على فضاءات كثيرة أخرى، فكل فضاء يولد فضاءات جديدة، في سلسلة لا تنتهي بحسب الأماكن الكثيرة التي يفتحها الملك سيف أو ينهي السحر المرصود فيها أو يدخلها الإسلام بعد أن كانت تعبد زحل أو النار أو الحيوانات أو الأشخاص.
اشتغل الراوي في فضاءات السيرة على تقديم دلالات متعددة، وفي كل فضاء يدخله، أو مع كل فضاء يخرج منه، يبني عوالم سردية قائمة بذاتها، وفي الوقت نفسه تشكُّل حلقات تتصل مع بعضها لبناء الفضاء السيري العام. قدَّم الراوي فضاءات عجيبة مستنداً إلى فضاءات مرجعية، مستغلاً أماكن موجودة على أرض الواقع، مثل مصر ويثرب والسودان وغيرها.
سمحت الفضاءات المتنوعة من تقديم تجارب للملك سيف مكنته من أن يزداد قوة ووسعت من سلطته، ودفعته للقيام بأفعال عجيبة مستفيداً من الخبرات التي أضافتها له هذه الفضاءات، ومع كل تجربة يمرُّ بها، يختلف شكل الفضاء ويزداد عجائبيةً، فكانت الفضاءات تأهيلية في بناء شخصيته، إن كانت فضاءات مهلكة أم غير مهلكة، مفتوحة أم مغلقة، لأنه المستفيد الوحيد منها جميعاً، على الرغم من وجود أشخاص آخرين يرافقونه مع كل فضاء، أصدقاء أم أعداء، لكنها لم تغير في شخصية أيٍّ منهم.
لكن كان على الملك سيف لكي ينتقل من الفضاءات المختلفة، أن ينتقل من مكان إلى آخر، عبر زمن متغير.
5. الفضاءات الوردية:
يرسم راوي سيرة الملك سيف بن ذي يزن فضاءات عدَّة، وبين كل فضاء وآخر عتبات بعد كل مرحلة من التعب والشقاء والمشي لمسافات طويلة تستمر لشهور غير محددة. يسمي سعيد يقطين هذه العتبات بـ«الفضاء الوردي»، لأن الراوي يصفها كالجنة التي يحلم بها أي سائر في صحراء:
«وما زالوا سائرين في البراري القفار الليل والنهار حتى وقعوا في أرض خضرة وعيون جارية منحدرة، فتعجب الملك ذو يزن من تلك الأرض النقية البيضاء الكافورية، وفيها واد من الأودية الحسان قد زخرف بزخارف الجنان وفضَّله على جميع الأودية الملك الديان وهو ذو روح وريحان وروضة وبسان (كذا) وأدواح وغيطان وفنون وأفنان وجمال حسان، كأنهن متن حسام يمان مجرد من غمده أو ثعبان سُلخ من جلده يفيض ماؤه فيضانا وسواقيه وأشجاره باسقة وأطياره ناطقة تسبح من له العزة والبقاء، يتضاحك الزهر من جنباته وتعبق نفحات المسك من حافته وقد اجتمع فيه من الطيور البلبل والشحرور والزرزور والقمري والحمام والكركي إلى (كذا) والهزار والصقور والشواهين والجوارح والفواهد وطيور البحر والنسور العادية ووحش البرية والغربان النوحية والحمائم الاهلية، وتلك الاطيار تسبح على منابر الافنان الملك الديان وذلك الوادي كأنه روضة من الجنان»(30).
يشكل هذا الفضاء نقطة تحول في مسار السيرة الشعبية وحياة البطل، فهو فضاء جميل يحمِّله الراوي بكل الصور الجمالية الطبيعية التي تختزنها الذاكرة، ومن ثم «تتعدد هذه الفضاءات الوردية، وتأتي كخلفية للأحداث لتنقلنا من فضاء إلى آخر. وغالبا ما يتم دخول هذا النوع من الفضاءات بعد معاناة، او رحلة شاقة. ويسهم هذا التنويع في تحويل مجرى الحكي، وتحديد مسار الأحداث بطريقة تقوم على التحول والتغير»(31). فبعد أن جدَّ الملك ذو يزن بالمسير عبر صحارى شاسعة ليصل إلى مدينة بعلبك، يقف عند هذا الوادي العجائبي، الذي يمثل نقطة تحول في مسار السيرة عموماً، فمن خلال هذا الفضاء بنى ذو يزن فضاءً آخر وهو مدينة حمراء الحبش التي ستشكل فيما بعد مركز الصراع بين القوى المسيطرة على الحدث.
تتكرر هذه الفضاءات مع كل حادثة يمر بها الملك سيف وتؤدي لضياعه في الصحارى والخرائب، فبعد أن يمر على فضاء وردي يلتقي بالشيخ جياد الذي سيشكل مع الشيخ عبد السلام مساعدين يقفان خلفه ويخلّصانه من بعض العقبات التي تعترض رحلاته:
«ولما فرغ وحش الفلا من ذلك الشعر والنظام صار يقطع البراري والآكام مدة ستين يوماً بالتمام، وهو يقطع الطرقات في البراري المقفرات ولم يجد في طريقه أحداً من المخلوقات فأشرف على جبل عالٍ وحوله روضة نزهة للناظرين بها أشجار باسقة، وأنهار دانقة وأغصان مورقة وماء متدافقة (كذا) والطير يسبح الله الخالق، وفي جانب تلك الجبال من اعلاه صومعة»(32).
وبعد دخول الملك سيف هذا الفضاء ينتقل لفضاء آخر يمثل مرحلة جديدة من مراحل رحلته بحثاً عن كتاب النيل، ولولا هذا الفضاء والانتقال لم يستطع أن يصل لمدينة قيمر التي يعبد أهلها هذا الكتاب.
يقدم الراوي الفضاءات الوردية مستخدماً الوصف والمبالغة والتخييل معاً. فمع بداية الوصف يتوقف الزمن ويبدأ المكان بالتحدُّث من خلال ما يحتويه هذا الفضاء من أشجار ومخلوقات ومياه، تدخل جميعها في العجيب من دون أن تكون هناك أفعال عجائبية، لكنه في الوقت نفسها يجعل من المكان؛ ككل، مكاناً عجيباً فيبني عالماً مغايراً وفاصلاً بين عالمين: عالم سابق أصله التيه والهرب ومحاولات فردية للحفاظ على أن يُبقي الملك سيف نفسه على قيد الحياة فحسب، وعالم قادم فيه الخلاص من هذا الضياع، يتشكل من عجائبيات متعددة، شخصية عجيبة، ومكان عجيب آخر، وزمن عجيب. فالفضاءات الوردية عالم عجيب يفصل بين عالمين ينقلان السيرة والملك سيف من حالة إلى حالة أخرى، وبهذا الانتقال تدخل السيرة لفضاءات أخرى تُمكِّن الملك سيف من الاستمرار في رحلاته.
6. الفضاء المهلكـ و الفضاء غير المهلكـ:
تنقسم فضاءات السيرة الشعبية بشكل عام إلى قسمين رئيسين: مهلك وغير مهلك، هذان القسمان يجعلان من الفضاء العام لسيرة الملك سيف بن ذي يزن أقاليم مختلفة، يندرج كل إقليم فيها تحت أمرة شخص أو مجموعة أشخاص يشكلون مساعدي الملك سيف أو أعداءه، فمع كل منطقة أو مدينة يدخلها يوجد هناك شخص ينتظره، إن كان صديقاً أو عدواً، الصديق يحاول أن يكون مساعداً له لدخول هذا الفضاء، والعدو يسعى جاهداً لمنعه من الدخول.
يجعل سعيد يقطين هذين الفضاءين قسمين من فضاءين آخرين هما: الفضاء الطبيعي والفضاء الصناعي، وهذان الفضاءان بدورهما يخرجان عن فضاءين آخرين هما: ظاهر وباطن، فالظاهر هو الذي يستطيع الملك سيف أن يراه عياناً من دون الحاجة لتعازيم أو سحر أو جان، والباطن يكون غالباً بحاجة لمساعدين لكي يكتشفه، ومن ثم يأتي التقسيم الثاني لكي يكون الفضاء مباحاً أو محظوراً، والمباح هنا يكون طبيعياً أو صناعياً، ومن ثم الطبيعي والصناعي يكونان إما مهلكاً أو غير مهلك، والمحظور أيضاً يكون إما مهلكاً أو غير مهلك(33). لكن من خلال قراءة ما طرحه يقطين عموماً، يُلاحظ أن الجانب الرئيس في هذا التقسيم هو المهلك وغير المهلك، لأنهما يشكلان المحرك الرئيس لمراحل رحلات الملك سيف، ومن ثم يأتي الطبيعي والصناعي، والمباح والمحظور، تقسيمات ثانوية ليس لها تأثير مباشر.
يمكن تلمُّس الفضاء المهلك في عدد من الأماكن التي يمر بها الملك سيف، مثل مدينة قيمر التي يصل إليها من أجل الحصول على كتاب النيل:
«هذه المدينة لها أرصاد فإذا دخل غريب صاحوا عليه يقولون يا أهل مدينة قيمر دخل على مدينتكم غريب فادركوه فإذا خرج أهل البلاد إلى الخلاء يخرج شخص من السور اسمه الغماز يدلهم على مكان الخصم حتى يتبعوه ويأتوا به ويقتله ثم قالت لي يا طامة يا بنتي وكل هذه الأرصاد والغماز صنعته (كذا) الحكماء المتقدمون من خوفهم على هذا الكتاب تاريخ النيل وأن أهل مدينة قيمر جميعا وملكهم الملك قمرون يعبدون الكتاب وقد جعلوه معبودهم واتخذوا (كذا)، عن آبائهم وأجدادهم»(34).
الملك سيف ممنوع من دخول هذه المدينة، وبدخوله إليها سيكون هلاكه، لأن فيها كتاب النيل معبودهم، وقد ذُكر في كتبهم القديمة أن هناك شخصاً سيأتي ويسرقه منهم، لهذا بنوا لها أسواراً ووضعوا على هذه الأسوار الغماز الذي يُنذر بدخول أي غريب إليها. وعلى الرغم من حيل الحكيمة عاقلة لكي يتمكن الملك سيف من الحصول على كتاب النيل، إلا أن أهل المدينة يمسكون به في النهاية فيوضع في جُبٍّ لم يُفتح منذ ستين عاماً.
في حين نجد أن بدخوله للفضاء غير المهلك سيحصل على هدية يتغلب من خلالها على عقبات قادمة لا يعرف ما هي، مثل جزيرة العمالقة:
«وأما ما كان من أمر الملك سيف بن ذي يزن فإنه لما تركه عيروض في الجزيرة... صار يتمشى في تلك الجزيرة فرأى طابقا مفتوحا، فقال لا شك إن هذا كنزا ونزل في ذلك الطابق على درج قطع في الحجر، حتى انتهى إلى آخره، فوجد عين ماء جارية تخرج من مكان وتدخل في مكان آخر، ونظر الى جانب العين رجلا جالسا ولكن طول الملك سيف اربع مرات، عريانا من ثيابه مكشوف الرأس وهو ينظر إلى الماء الخارج من العين فسار الملك سيف عنده فلما رآه ذلك الرجل قام على الأقدام وصاح انا في جيرتك يا بطل الزمان... فقال له اعلم يا أخي ان هذه العين من ابتداء السنة أول آذار يتغير ماؤها من البياض الى الحمار، وبعد الحمار الى الخضار، والى الصفار والى السواد إلى عشرة الوان وبعد ذلك يخرج منها سرطان فيه العشرة الوان وانا اقعد انتظر خروجه فأقبض عليه واسير به الى قومي ندخره عندنا الى ان يأتينا التجار المتعودون علينا ومعهم مراكب موسوقة من بضائع وقماش، وسبب من كل الأجناس فنعطيهم هذا السرطان ونأخذ كل ما في المراكب من جميع البضائع والألوان ونعيش بهذه من العام الى العام، وهذه شيمتنا وخلقنا. فقال له الملك سيف: وإيش النفع في هذا السرطان فقال منفعته اذا كان إنسان اعمى من مدة من الزمان ولو عشرين عاما واخذ شيئا منه وسحقه بماء الورد البكر العم (كذا) ووضعه على عينيه زال ما به من العمى ونظر في الوقت والحال باذن الله الملك الكبير المتعال. فلما سمع الملك سيف ذلك المقال احتار في نفسه وقال ليتني ما حلفت له وكنت آخذ هذا السرطان واجعله ذخيرة على طول الزمان، ولكن اذا طلع هذا السرطان آخذ منه قطعة والسلام، فبالأمر المقدر كان ذلك اليوم الذي أتى فيه الملك سيف هو التاسع من شهر آذار فمكث الملك ثلاثة ايام الى تمام العاشر من الأيام، وإذا بالماء تماوج وارغى وازبد، وظهر في وسط الماء سرطانان اثنان سوا (كذا) بقدرة من على العرش استوى، فقال الرجل يا قصير انتظر (كذا) ما صنع الله تعالى فانه ارسل سرطانين فنحن نأخذ واحد (كذا) وأنت تأخذ الثاني وهذا دليل على وحدانية الله تعالى الملك الجليل»(35).
جمع الراوي أكثر من عجيب في هذا الفضاء، الأول أنه قدَّم عجيباً في فضاء مغلق، فبركة السرطان كانت في مغارة دخلها الملك سيف بالمصادفة بعد دخوله لجزيرة العماليق. العجيب الثاني تمثَّل بسكان هذه الجزيرة، فلم يسكن فيها إلا العماليق الذين فوجئوا بطول قامة الملك سيف التي لا تصل إلى ربع طول قاماتهم، ومن ثم السرطان العجيب الذي يظهر بعشرة ألوان بعدد أن ألوان البركة حتى يوم العاشر من آذار، ليظهر بعد ذلك سرطان يشتريه البحَّارة بكل ما تحمله سفنهم من بضائع، لأنه الوحيد القادر على إعادة بصر الأعمى بعد طحنه وخلطه بماء الورد. ومن خلال هذا السرطان العجيب سيتمكن الملك سيف من دخول فضاء آخر ليتمكن من شفاء الملكة ناهد بنت ملك الصين التي دعت عليه أن يصل إليها تائهاً عرياناً ودعا عليها بالعمى، فتحقق دعاء الاثنين والتقيا بعد أن حصل على هذا السرطان وشفى عينيها.
7. الفضاء المختفي:
تتشــكل الفضــاءات المختلـفة التـي تقـدمها سيرة الملك سيف بن ذي يزن من بنيات عدَّة، منها الطبيعية أو الصناعية، وغالباً ما ينبني الفضاء العجيب بتدخل الإنسان، عن طريق السحر أو الشعوذة أو تعازيم الحكماء الذين لا تخلو منهم مدينة من مدن السيرة. أغلب هذه الفضاءات تكون ثابتة وغير متغيرة لفترات طويلة تتجاوز قدرة الفضاءات العاديّة على الثبات والصمود أمام المتغيرات، حتى يأتي الملك سيف ويبطل عملها، إلا أن هناك فضاء قدمته السيرة يسمى «قلاع الضباب» يظهر ويختفي عن طريق سحر خاص، مختلفاً عن فضاءات السيرة جميعها:
«وكانت هذه القلاع سبعة وكل قلعة منها لها كهين الأول يقال له الشامخ والثاني يقال له السارق والبارق والسابق واللاحق وراصد الفلك وكان كل هؤلاء يحكمون على أعوان وخدام ولهم محبة وصداقة مع الثريا الزرقاء وهم يبغضون الثريا الحمراء لأن كلاً من هؤلاء كان قد خطبها لنفسه فلم ترض بهم (كذا) وكانوا إذا طلبوا هذه الملعونة فلا تمتنع عن أحد منهم وهذه القلاع كل قلعة لها قارورة من نحاس فإذا كانت القارورة معتدلة تنظر القلعة وإذا انقلبت القارورة غابت القلعة عن الناظرين»(36).
«(قال الراوي): ومـا زالوا سـائرين وهم يقطعون الأرض والفلوات حتى وصلوا إلى القلعة الأولى فأمرتهم الحكيمة بالنزول هنا فنزلوا ونصبوا الخيام فقال الملك سيف: لأي شيء نزلنا في هذا المكان يا أم الحكماء وهو خالي من السكان؟ فقالت له: أعلم أننا قدام القلعة الأولى وسبب عدم رؤيتها أن اللعين الشامخ صاحبها غيبها عن عيونكم وتحصن هو والثريا الزرقاء من داخلها وسوف تظهر لكم. ثم أنها بعد أن أنزلت الرجال أمرت أعوانها أن يدخلوا البلد ويعدلوا القارورة وقد أعلمتهم بمكانها، فذهب الأعوان وعدلوا تلك القارورة فظهرت القلعة للناظرين وكانت الحكيمة عاقلة أمرت بنزول قومها بين القلعة والقارورة خوفاً من اللعين أن ينزل إليها ويغيبها عن أعينهم مرة أخرى»(37).
تشكُّل هذا الفضاء واختفاؤه مرهون بقارورة لم توضح السيرة طبيعتها، لكن رؤية شخصيات السيرة لقلاع الضباب بعد أن كانت مختفية وخوفهم من ميلان القارورة مرة أخرى يجعل من هذا الفضاء مختلفاً عن جميع الفضاءات في سيرة الملك سيف بن ذي يزن. ومن خلال هذا الفضاء قدَّم الراوي تصوراً مغايراً لفضاء جديد لم يظهر إلا لمرة واحدة، مختلقاً بنية جديدة في أماكن السيرة، فهذه القلاع حقيقية، لكن رؤيتها مرهونة بقارورة. الراوي ترك تفسير هذا الفضاء للمتلقي، ولم يشر إذا ما كانت هذه القلاع تختفي حقيقة أو يؤثر ميلان القارورة على الرؤية، فلا يتمكن الواقف قبالتها من مشاهدتها، لكنه مع الاحتمالات جميعها برع في تخيل هذا الفضاء وبنائه، وجعله متفرداً عن الفضاءات الأخرى في السيرة.
الهوامش:
1. ينظر: معجم السرديات، مجموعة من المؤلفين، إشراف: محمد القاضي، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، ط1، 2010، ص306.
2. منيب محمد البوريمي، الفضاء الروائي في الغربة.. الإطار والدلالة، سلسلة دراسات تحليلية، دار النشر المغربية، المغرب، ط1، 1984، ص21.
3. ينظر: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، د. حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 2000، ص53- 61.
4. شعرية الفضاء.. المتخيل والهوية في الرواية العربية، حسن نجمي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 2000، ص32.
5. م. ن، ص65.
6. ينظر: م. ن، ص59.
7. بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، د. حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 2000، ص61.
8. في نظرية الرواية.. بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، كانون الأول 1998، ص141.
9. بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، م. س، ص53.
10. شعرية الفضاء، م. س، ص51.
11. م. ن، ص44.
12. ينظر: م. ن، ص45.
13. بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، م. س، ص64.
14. قال الراوي.. البنيات الحكائية في السيرة الشعبية، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1997، ص240.
15. العجائبي في الرواية العربية، نورة بنت إبراهيم العنزي، المركز الثقافي العربي والنادي الأدبي بالرياض، ط1، 2011، ص146.
16. شعرية الفضاء، م. س، ص65.
17. شعرية الرواية الفانتاستيكية، شعيب حليفي، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، دار الأمان- الرباط، منشورات الاختلاف- الجزائر، ط1، 2009، ص192.
18. العجائبية في الرواية الجزائرية، د. الخامسة علاوي، دار التنوير/ الجزائر، 2013، ص305.
19. معجم مصطلحات نقد الرواية، د. لطيف زيتوني، مكتبة لبنان ناشرون ودار النهار للنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2002، ص128.
20. قال الراوي، م. س، 253.
21. ينظر: م. ن، ص255.
22. سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1985، ج1، ص149.
23. سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج1، ص150- 151.
24. م. ن، ج1، ص208.
25. قال الراوي، م. س، ص246.
26. العجائبي في الرواية العربية، م. س، ص144- 145.
27. سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج1، ص65.
28. العجائبي في الرواية العربية، م. س، ص144.
29. قال الراوي، م. س، ص212.
30. سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج1، ص14.
31. قال الراوي، م. س، ص249.
32. سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج1، ص65.
33. ينظر: قال الراوي، م. س، ص255- 263.
34. سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج1، ص69.
35. م. ن، ج1، ص238-239.
36. م. ن، ج3، 95.
37. م. ن، ج3، 295- 96.
الصور:
من موقع: tlawey art
«رؤية تـشـكـيـلـيـة لـسـيـرة سـيـف بـن ذى يـزن»
/رؤية-تـشـكـيـلـيـة-لـسـيـرة-سـيـف-بـ/www.tlaweyart.wordpress.com