في مئوية رائد الثقافة الشعبية العربية تحية لعالم عاش حياته مدافعاً عن الفولكلور
العدد 12 - جديد النشر
نحتفل في هذا العدد بالذكرى المائة لعالم جليل تأثرت به عدة أجيال منذ منتصف القرن الماضي حتى الآن.. عالم وضع حجر الأساس لبحث ودراسة التراث الشعبي العربي منذ نهاية الأربعينيات، عندما اخترق أسوار الجامعة ببحث الماجستير حول سيرة الظاهر بيبرس (1946)، ثم الدكتوراه ببحث السيرة الهلالية (1950).. نحتفل هذا العدد بمئوية رائد الدراسات الشعبية الدكتور عبد الحميد يونس (1910-1988).
والدكتور عبد الحميد يونس لا يحتاج منا إلى تعريف فمعظم الباحثين في الثقافة العربية تتلمذوا على يديه بشكل مباشر أو غير مباشر..
عالم رقيق المشاعر
وأسمح لنفسي في هذا المقام أن أستدعي بعض المواقف التي جمعتني مع هذا العالم الجليل الذي كان له فضل في تكويني العلمي والثقافي.. فقد كان لعبد الحميد يونس شخصية مميزة وكاريزما خاصة رسمت على وجهه ملامح شموخ تجعلك دائماً في حالة انجذاب إليه.
وقد كانت لقصة فقد بصره وهو في زهرة العمر الأثر البالغ في تكوينه الصلب القائم على التحدي ورفض مصطلح «مستحيل». وكنت أحب دوماً أن أتذكر ذلك اليوم الذي احتفلنا فيه بعيد ميلاده الخامس والسبعين بمركز دراسات الفنون الشعبية بالقاهرة، فعندما أردنا أن نطفىء الشمعة – كما هي عاداتنا في أعياد الميلاد – أطلق ساعتها مقولته الشهيرة: بل أضيئوا شمعة.
وهي عبارة تكشف عن فلسفته في الحياة ورؤيته للعالم. وعندما التقيت به لأول مرة في أحد المؤتمرات بجامعة القاهرة سألني عن اسمي، فقلت له: أحلام أبوزيد...قال: وأنا يونس؛ يعني هلالية زي بعض وضحك مازحاً.. وهو موقف يكشف عن شخصيته التي تبحث دوماً عن العلاقات بين الأشياء، فأنا نفسي لم أدرك علاقة اسمي بالبطل الشعبي «أبو زيد الهلالي».. بل إن الاسم الثالث هو «رزق».. مما جعل الدكتور يونس يعلن أنني هلالية بجد لأن أبا زيد اسمه «أبو زيد رزق».. وفي لحظات جعل لإسمي تاريخاً وجعلني أبحث في السيرة الهلالية وأستمع لرواتها.. كل ذلك من موقف عابر مع شخصية غير عادية.
حياة حافلة بالعطاء
وقد برز نشاط دكتور يونس منذ عقد الثلاثينيات بترجمة دائرة المعارف الإسلامية، ثم حصل على الدكتوراه في السيرة الشعبية نهاية عقد الأربعينيات، وأسس كرسي الأدب الشعبي ومركز دراسات الفنون الشعبية عام 1957. وقام بالتدريس في العديد من الجامعات العربية، كما مثل مصر في عشرات المحافل الدولية. وله ما يقرب من عشرين كتابا متخصصا في موضوعات الثقافة الشعبية عامة والأدب الشعبي خاصة.
كما نشر مئات المقالات والأبحاث في عشرات الدوريات العامة والمتخصصة. كما حصل على العديد من شهادات التقدير منها جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1980 من مصر، وجائزة التقدم العلمي عام 1985 من الكويت.
وعلى الرغم من مرور ما يقرب من اثنين وعشرين عاماً على رحيله، فلا زالت دراساته وأبحاثه العملية تمثل حجر الأساس في مجال الفولكلور العربي.. وتمثل سيرة حياته نموذجاً فريداُ للريادة الحقيقية. وسنحاول في احتفالنا بالعالم الجليل أن نقف على بعض أعماله التي شكلت علامات مضيئة في تاريخ العلم، ولا يزال يعاد نشرها حتى الآن، حيث خرج إلى الوجود المجلد الثاني لأعماله الكاملة منذ شهور قليلة عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة. وكان المجلد الأول قد نُشر عام 2007.
ومن ثم فنحن عندما نتعامل مع شخصية في حجم الدكتور يونس بباب جديد النشر، فإننا نضع أعماله في مقام الدراسات التي لا تزال تتسم بالحداثة وتقديم الجديد في علم الفولكلور رغم رحيل صاحبها منذ ما يقرب من ربع القرن.
أبحاث دكتور يونس في السيرة الشعبية العربية
في عام 1943 تقدم الدكتور عبد الحميد يونس لكلية الآداب جامعة القاهرة بطلب التسجيل لنيل درجة الماجستير حول سيرة الظاهر بيبرس، وكان الموضوع جديداً حينذاك على الوسط الأكاديمي بالجامعة وجاهد يونس حتى أتم أطروحته عام 1946.. ثم نُشرت في كتاب بعنوان «الظاهر بيبرس في القصص الشعبي» عن دار القلم عام 1959 في117صفحة من القطع الصغير، وأُعيد طبعه- بعد عشرة أعوام من رحيله- بالهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عام 1997عن سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية رقم 16.
وقد بدأ الدكتور يونس كتابه ببحث الدوافع التي جعلت الوجدان الشعبي ينتخب شخصية الظاهر بيبرس لينسج حولها هذه السيرة. والفرق بينها وبين السير الشعبية الأخرى. ثم عرض للبحور الخمسة التي تتألف منها السيرة الظاهرية وهي: الأكراد الأيوبية، الظاهر بيبرس - الفداوية - أمراء البحر – الخرافة. كما تناول «فن المحدّث المحترف» وهو راوي القصص الشعبي الذي احترف رواية الظاهر بيبرس، شارحاً العلاقة بينه وبين الجمهور المتلقي لهذه السيرة بالمقاهي الشعبية التي كانت منتشرة بالقاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي.
ثم قدم دكتور يونس رؤية الراوي الشعبي لشخصية الظاهر بيبرس فهو فهيم وفطيم.. ويحفظ القرآن.. إلخ، وإذا غضب يكون وجهه جدريات تملكه من الطارقة اليمنى إلى الطارقة اليسرى، ويكون بين عينيه شعرة أسد وبين حاجبيه سبع من اللحم، وإذا راق لم يكن لذلك عنده أثر». كما يشير للشخصية المساعدة له وهي «عثمان بن الحبلى» الذي رافقه مشوار البطولة»، ويكمل تحليل باقي أبطال السيرة وهم: المقدم جمال الدين شيحه - جوان - عثمان بن الحبلى – معروف بن حجر. كما يرصد في الفصلين الأخيرين حوادث السيرة وأسلوب سردها.
وبعد حصول يونس على الماجستير في السيرة الظاهرية، ورغم الصعاب التي واجهها، فقد أصر على استكمال ريادته في الطريق نفسه، وتقدم ببحث الدكتوراه عام 1947 في السيرة الهلالية التي أتمها عام 1950 بعد مقاومة شرسة من الهيئة الأكاديمية بكلية الآداب للموضوع.. وقد نشر الأطروحة بعد ذلك في كتاب بعنوان «الهلالية بين التاريخ والأدب الشعبي» عن دار المعرفة بالقاهرة عام 1968 ونُشرت طبعته الثانية في 234صفحة عن دار الكتب المصرية عام 1995 أي بعد وفاته بسبعة أعوام. ثم أًعيد نشره مرة ثالثة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ضمن سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية عام 2004.
والكتاب في قسمه الأول يبحث عن التسلسل التاريخي للنسب الهلالي منذ العصر الجاهلي بدءًا من قيس عيلان ونسبه حتى وصول شجرة النسب إلى «هلال»، ثم يتتبع النسب في العصر الإسلامي من «هلال» حتى يصل إلى «رزق» و«سلامة» المشهور بأبي زيد الهلالي، و«سرحان» و«دياب بن غانم» وهم يمثلون أبطال السيرة الهلالية. أما القسم الثاني فيحمل عنوان «الهلالية في الأدب الشعبي»، ويلخص فيه الدكتور يونس أحداث السيرة الهلالية من الجيل الأول وميلاد أبي زيد.. ثم الجيل الثاني والريادة.. حتى يصل إلى التغريبة الهلالية الكبرى التي تحكي صراع الهلالية مع الزناتي خليفة بتونس، وينتهي الحدث بالجيل الثالث الذي عُرف بجيل الأيتام.
وأشار الدكتور يونس إلى أن سيرة بني هلال «إذا كانت قد قامت في مجتمعها العربي الأول بوظيفة حيوية خطيرة، هي ترسيب التراث القبلي العام وادخار التجارب والاحتفاظ بالمقومات الجماعية، فقد قامت في البيئة المصرية بوظيفة لا تقل عنها خطرًا، وهي إذكاء الشعور بالذاتية الوطنية. ويتنبأ في نهاية بحثه بأن السيرة الهلالية سوف تعيش ولن تزول مع الزمن كغيرها من الإبداعات الأخرى، حيث أنها ترتبط باستعادة الشعور القومي العربي.
وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور يونس له عشرات الأبحاث حول السير الشعبية العربية ومفهوم البطولة، كما تناول سيراً أخرى في أبحاثه كسيرة عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن والزير سالم وغيرها، مما يستعصي علينا حصره وعرضه في هذا المجال.
اهتمام يونس بفن الحكي العربي
يمثل اهتمام الدكتور يونس بمجال الحكاية الشعبية العربية امتداداً طبيعياً لاهتمامه بالسير الشعبية العربية.. حيث آثر البحث في مفهوم الحكي وفلسفته في المجتمع العربي.. ثم شرع في البحث عن الحكي في التراث العالمي ليقدم لنا مجموعة دراسات لا تزال تمثل حتى الآن النواة الأولى لبحث الحكي الشعبي العربي.
ومن المهم أن نتوقف في رحلة بحثه عند كتابه الأشهر «الحكاية الشعبية» الذي صدرت طبعته الأولى عن دار الكاتب العربي عام 1968، ثم توالت طبعاته عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1997في 201 صفحة ضمن سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية رقم 17، ثم أُعيد نشره مرة أخرى ضمن المجلد الأول من أعماله الكاملة التي تحمل اسم «عبد الحميد يونس رائد التراث الشعبي عام 2007. ويشرح الدكتور يونس خصائص الحكاية الشعبية التي تتسم بالعراقة والتناقل الشفاهي والمرونة. ثم يرصد الخصائص الأسطورية للحكاية الشعبية، ويصنف أنواع الحكاية الشعبية إلى: حكاية الحيوان-حكاية الجان-السير الشعبية-حكاية الشطار-الحكاية المرحة-الحكاية الاجتماعية- حكاية الألغاز. وفي كل فصل يحدد المؤلف خصائص كل نوع ويشرح مفهومه كما يقدم نماذج تراثية وميدانية لكل منها.
وقد قدم يونس العديد من الدراسات حول الحكاية الشعبية بحثاً وتحليلاً في العديد من الدوريات، كما اهتم ببحث الحكاية الشعبية المقارنة من خلال مقدمات الكتب التي عكف على ترجمتها من الإنجليزية إلى العربية ومنها: مجموعة حكايات البنجاتنترا أو الأسفار الخمسة لمؤلفه فرانكلين أدجرتون الذي صدر في 270 صفحة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1980 وأُعيد نشره مرة أخرى عن دار الكتب المصرية عام 1955، كما طبع بالكويت ضمن سلسلة دراسات في التراث العربي. وتقوم البنجاتنترا على مجموعة من الحكايات يقدمها حكيم من البراهمة بغرض تعليم أصول تدبير الملك لثلاثة من الأمراء الذين غلب عليهم الجهل والتبلد، ويستعين الحكيم بالحكي والسرد القصصي لتعليمهم. وتشمل المجموعة خمسة حكايات رئيسية هي: التفريق بين صديقين أو الأسد والثور- كسب الأصدقاء أو الحمامة والغراب والفأر والسلحفاة والغزال- الحرب والسلام أو الغربان والبوم- الخسران أو القرد والتمساح- العمل الطائش أو البرهمي والنمس.
كما اهتم الدكتور يونس بنقل بعض الحكايات النوبية المصرية التي كُتبت باللغة الإنجليزية، على نحو ما قدمه من ترجمة لكتاب حكايات «سيرة شرق» بالنوبة السودانية للمؤلف السوداني جمال محمد أحمد. وصدر الكتاب المترجم عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1987 في 151صفحة. وضم أربع عشرة حكاية هي: فاطمة ذات الخلخال – رجل الحمار – لا تستبدل بيوم سعيد يومًا شؤمًا – الخاتم الذي يحقق الأماني – زينب السكر الأحمر – ترتر علي بك – ألف لذكائي وألف لمهري – وجه قمري ووجه شمسي – صادق وخديجة آمنة – حمي النصاب – كيف توصل حمي إلي الزواج من امرأة عمه – ثلاث زوجات وثلاثة أزواج – صانع الشربات – صباح الخير يا من لم تنجب إلا إناثًا ولم تنجب ذكورًا. وتنتهي كل حكاية بعبارة واحدة هي: «إننا نحفر الأرض ونبذر الحب ونلوذ بشباك النبي محمد (صلعم)».
وفي إطار اهتمام دكتور يونس بفن الحكي الأوروبي ومقارنته بفن الحكي العربي قام بترجمة كتاب «حكايات كانتربري» بالإشتراك مع الدكتور مجدي وهبه، للمؤلف الانجليزي جيفري تشوسر (1340-1400)، وقد صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1983 في510 صفحة. وهو عبارة عن مجموعة قصصية شعرية تناولت موضوعات مختلفة ألفها تشوسر في انجلترا في أخريات حياته. وقدم الدكتور يونس دراسة قيمة في مقدمة هذا الكتاب بعنوان «التراث الشعبي في حكايات كانتربري» تناول فيها تأثر تلك الحكايات بمجموعة ألف ليلة وليلة.
وفي إطار اهتمامه بالحكي الأوروبي أيضاً قام بترجمة كتاب «حكايات أندرسن» للمؤلف الدنماركي هانس كريستيان أندرسن Hans Christian Andersen) 1805 - 1875) الذي اشتهر بحكاياته الخرافية. ويضم الكتاب عشرين حكاية هي: القداحة – العندليب – ملكة الثلج – الراعية ومنظف المدخنة – شجرة التنوب – الحقيبة الطائرة – جندي الصفيح الثابت – عقلة الإصبع – رفيق السفر – شجيرة البلسان الأم – البجع البري – الراعي – الأسرة السعيدة – ملابس الإمبراطور الجديدة – الضفدع البري – عروس البحر الصغيرة – الأميرة الحقيقية – فرخ البط القبيح – حصالة النقود – أزهار أيدا الصغيرة.
الإبحار في عالم الأسطورة
لعل المتابع لمؤلفات الدكتور عبد الحميد يونس سيلحظ بوضوح تأثره بالأسطورة كعلم وفن في الوقت ذاته.. فالحكايات الشعبية لها أصولها الأسطورية.. والعادات والتقاليد والطقوس تنحدر عن شعائر أسطورية... كما تحوي فنون التشكيل الشعبي العناصر الأسطورية. وللعالم الجليل كتاب متخصص في هذا المجال بعنوان «الأسطورة والفن الشعبي» الذي صدر عن المركز الثقافي الجامعي عام 1980 في 127صفحة، ثم أُعيد نشره ضمن المجلد الأول من أعماله الكاملة عام 2007، تناول فيه العديد من القضايا عن الأسطورة وفنون الأدب الشعبي، شارحاً للمناهج العالمية لبحث الأساطير.مشيراً إلى أن الأسطورة عريقة من حيث المادة والعلم وهذه العلاقة جعلتها وثيقة الاتصال بالعناصر الفولكلورية على مدى التاريخ الإنساني. ثم يبحر يونس في عالم الأساطير والرموز والدلالات المصاحبة لها، فيتناول أساطير «الشمس والقمر والزهرة». كما تناول نماذج متعددة من الأساطير المصرية والعربية والأفريقية المرتبطة بالسحر والحيوانات والطيور كالأسد والحمام والغراب والثعبان... ويرى الدكتور يونس أن الباحث في الأساطير من وجهة النظر الفولكلورية مطالب بأن يعنى بالشكل القصصي أو التسجيلي عنايته بالشعائر والطقوس. وهذه العناية تكاد ترجح الارتباط العضوي بين المضمون القصصي والأعمال التي تحاكيها، طبقاً للقواعد المقررة في التراث الديني للشعوب البدائية أو القديمة.
ويؤكد يونس أيضاً في بحثه عن علاقة الأسطورة بالتراث شعبي على أن الأدب الشعبي باعتباره حلقة كبيرة من حلقات الفولكلور، يُفيد من الدراسات المتخصصة في الميثولوجيا، ولا يستطيع أن يستغني عن هذه الدراسات بحال من الأحوال. ومن دلائل التوفيق- يضيف يونس- أن الاتجاهات الأخيرة في الدراسات الأدبية في العالم العربي قد فطنت إلى طبيعة التراث الثقافي، وأدخلت في حسابها العناصر الميثولوجية في الثقافة العربية.
فنون خيال الظل
اهتم الدكتور يونس في كتاباته حول التراث الشعبي العربي برصد فنون الأداء قدر اهتمامه بالنص الشفاهي. وقد أسس في كتابه «خيال الظل» لفنون مسرح خيال الظل والذي أطلق عليه «المسرح الليلي المقفل» وهو عبارة عن شاشة بيضاء وراءها مصباح كبير من مصابيح الزيت، وكانت تتحرك بين المصباح والشاشة رسوم من الجلد، فتظهر ظلالها على الشاشة أمام الجمهور.. ويقوم بالأداء اثنان من الفنانين يقومان بتحريك تلك الرسوم، يلونون أصواتهم بحيث تلائم الشخوص والمواقف المعروضة. ثم تناول خيال الظل من حيث النشأة والتطور، متناولاً فنون الشاعر الساخر والكاتب المسرحي محمد بن دانيال الموصلي (646-711هـ) الذي اشتهر بتأليف تمثيليات خيال الظل، ومن بينها تمثيلية «الأمير وصال، وتمثيلية عجيب وغريب، وتمثيلية المتيم والضائع اليتيم». أما نماذج تمثيليات خيال الظل المصرية فقد اختار المؤلف ثلاثة نماذج منها هي: «لعبة التمساح» و«حُسن ظني» و«حرب العجم».
ولسنا في حاجة هنا إلى الإشارة للعديد من دراسات يونس في مجال مسرح الفولكلور والدراما الشعبية وفنون الفرجة على مدى نصف قرن أسس خلالها للملامح المنهجية لهذا الجانب المهم من تراثنا الشعبي.
معجم الفولكلور أول معجم عربي في المجال
ارتبط تاريخ الدكتور عبد الحميد يونس بعالم الموسوعات والمعاجم ودوائر المعارف منذ العشرينيات من عمره عندما أسهم مع زملائه ابراهيم زكي خورشيد وأحمد الشنتناوي وأحمد ثابت الفندي في ترجمة دائرة المعارف الإسلامية.. كما شارك في ترجمة الجزء الخاص بالعصور الوسطى من موسوعة «قصة الحضارة». وشارك في وضع موسوعة الآداب والفنون الشعبية في الستينيات. كما شارك في وضع الموسوعة المصرية (الجزء الخاص بتاريخ مصر القديمة وآثارها). وقبل وفاته أشرف على وضع موسوعة الفنون الشعبية بالهيئة المصرية العامة للاستعلامات. غير أن الحياة الثقافية ظلت - منذ بدء حركة الفولكلور العربي المعاصرة- خالية من معجم عربي متخصص ومباشر في المجال.. وقد ظل الدكتور يونس على مدى سنوات يدعو تلامذته وأصدقاءه للتكاتف لعمل موسوعة للفولكلور، حتى اضطر إلى أن ينجز العمل بمفرده وظهر قبل وفاته بخمسة أعوام (عام 1983) عن مكتبة لبنان في 234صفحة، وقد صدرت طبعة جديدة للمعجم عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2010. والمعجم على هذا النحو يعد الأول في المنطقة العربية. وهو ما جعل الدكتور يونس يشير إلى أن هذا المعجم إنما هو عمل تجريبي، أو ريادة لطريق غامض، مع طوله وعرضه، وحسبه أنه بدأ الخطوة الأولى في هذا السبيل.
وكما تشير مقدمة المعجم فقد جمع الدكتور يونس كل ما استطاع الحصول عليه من المواد الفولكلورية المأثورة والمشهورة في مصر والعالم العربي وغير العربي، والتي حفرت لها مكانًا في ذاكرة الشعوب، وما سجله المؤرخون في الحضارات القديمة والوسطى والمعاصرة. وقد احتوى المعجم مواد عربية وأفريقية وعالمية.. فحفل بمواد حول الفولكلور المصري والقبطي واليوناني والروماني والسومري. كما سجل عادات وتقاليد الشعوب كعادات دورة الحياة والاحتفالات الشعبية كالربيع ومواسم الحصاد وعادات الطعام.. كما اهتم بموسيقى الشعوب والآلات الموسيقية وأنواع الأدب الشعبي كالحكاية والفزورة والنكتة والمثل. وسجل تعريفات للسير الشعبية وأبطال الملاحم الغربية.
كما تناول شخصيات تاريخية عربية كالجاحظ وابن دنيال وابن عروس، وشخصيات غربية كماسبيرو وأندرو لانج وماكس مولر. وقد تتبع الموضوعات في أصولها التاريخية ومأثوراتها المتداولة. واختلفت أحجام كل مادة تبعاً لأهميتها ما بين الفقرة والصفحة الكاملة. حيث احتوى المعجم على حوالي 1200 مادة قُسمت على ثلاثة أعمدة في كل صفحة. وقد اتبع في المعجم منهج الإحالة من الموضوع غير المستخدم للموضوع المستخدم.. كما قدم المفاهيم اللغوية والثقافية والدلالية الرمزية للمواد التي قام بتوثيقها في هذا المعجم المهم.
ونعرض هنا لنموذج اخترناه من مواد المعجم، وهو مادة «سندباد» حيث يرد بها أن السندباد يُعد من أشهر الحكايات الشعبية عند العرب والفرس.
وقد ذهب بعض الدارسين إلى أنها عُرفت باسم «سندباد نامة»، وتقوم على الوظيفة التقليدية لبعض أجناس الأدب الشعبي، وهي استغلال القصص في التوازن وعدم الشطط في السلوك. وقد روي أن أحد الملوك عهد بتأديب إبنه إلى الحكيم سندباد. فأمر هذا الحكيم أن يمنع الأمير عن الكلام سبعة أيام، ولكن الملكة تشي بالأمير ويهم الملك بقتله، وهنا يبادر سبعة من الوزراء يتفننون في سرد القصص حتى يحولوا بين الملك وبين تنفيذ الحكم على الأمير. وتحققت براءته.وضُمت حكايات السندباد بعد ذلك بفترة غير قصيرة إلى مجموعة «ألف ليلة وليلة»... وعلى هذا النحو يعرض الدكتور يونس لعلاقة السندباد بألف ليلة وليلة وخصائصها الأدبية.
في النقد الأدبي
وخلال رحلة الدكتور عبد الحميد يونس العلمية الحافلة بالتأسيس لعلم الفولكلور.. سنجد أن هناك محطة مهمة في حياته العلمية، تلك المرتبطة باهتمامه بالأسس المنهجية للعلم.. ويتضح ذلك من خلال منهجه التاريخي والوظيفي في بحث السير والحكايات الشعبية، حتى أنه أقدم على وضع دراسة منهجية في النقد تحت عنوان «الأسس الفنية للنقد الأدبي» الذي حصل فيه على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1959، وصدرت طبعته الأولى عام 1961، وطبعته الثالثة عن دار المعرفة بالقاهرة عام 1979 في 151 صفحة. وأُعيد نشره ضمن المجلد الثاني من أعماله الكاملة عام 2010. وقد أسس يونس في هذا الكتاب لمفهوم «الفن» وعلاقته بـ«النفع العام».
وعلاقة فن الشعر والفن التشكيلي بالمحاكاة. ثم ينتقل لتناول مفهوم الحرفة والصناعة في مقابل التسلية والترفيه ليبحث في وظيفة الإبداع الفني والفنان والتجربة. ثم يقدم في النهاية فصلاً حول اللغة الفنية والذوق الفني لدى المتلقي.
وقدم الدكتور يونس قبل هذا الكتاب عشرات المقالات في النقد الأدبي متناولاً العديد من الأعمال الإبداعية الشعرية والمسرحية والروائية سواء على المستوى العربي أو العالمي. غير أنه أصدر كتاباً نقدياً بعنوان «فن القصة القصيرة في أدبنا الحديث». الذي صدر عن دار المعرفة عام 1973، ثم أُعيد نشره ضمن المجلد الثاني من أعماله الكاملة عام 2010.
وقدم فيه تاريخ الرواية العربية منذ البدايات الأسطورية مروراً بالإبداع المتمثل في تراثنا العربي ووصولاً لفن المقامة وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. ثم تناول بعض كتاب القصة المعاصرين أمثال «مصطفى المنفلوطي» والأخوين محمد ومحمود تيمور، ثم الجيل التالي لهما ممثلاً في محمود البدوي وعبد الرحمن فهمي ويوسف إدريس. وقد رصد الدكتور يونس تأثر القصة المعاصرة بأدباء الغرب أمثال تشيكوف وإدجار آلان بو وغيرهما.
أما تجربة يونس الثالثة في النقد الأدبي فكان من خلال كتابه «في الأدب المغربي المعاصر»، الذي وضعه بالاشتراك مع الدكتور فتحي حسن المصري، وصدر عن دار المعارف عام 1982. وقد تناول الدكتور يونس في هذا الكتاب شعراء الجيل الأول والثاني والثالث في المملكة المغربية. كما تناول الإبداع القصصي المغربي من خلال بعض أعمال الرواد من أدباء الطليعة مثل عبد الجبار السحيمي، كما تناول بشيء من التفصيل إبداعات القاص المغربي محمد عز الدين التازي.
كتابات مؤسسة لعلم الفولكلور
سنتوقف هنا قليلاً لنعرض لثلاثة كتب نتصور أنهما يؤسسان لدراسة المجتمع والبعد الاجتماعي للظواهر الفولكلورية سواء في مصر أو المنطقة العربية. ونستطيع أن نضعهما في مرتبة الكتب المؤسسة لعلم الفولكلور. الأول نُشر في عقد الخمسينيات ويحمل عنوان «مجتمعنا».
ويكشف الكتاب بمنهجية رصينة عن ملامح المجتمع المصري، ومقوماته، وعلاقة الفرد بالجماعة. ثم يحدد من خلال فصل بعنوان «اكتشاف الوطن» ثلاث ظواهر كونية لمصر هي الشمس والنيل والصحراء، ويقترح صلاحيتها لأن تكون رمزاً للدولة.
ثم يعرض لإبداعات الوطن الشعبية التي لم يلتفت إليها الكتاب الرسميون كالملاحم الشعبية، مشيراً إلى أن الشاعر الشعبي يبدأ كلامه بالصلاة على النبي مقرونة دائمًا بصفة مميزة هي «نبي عربي» أو «نبي تهامي» أو «سيد ولد عدنان». وهو ما يؤكد النزعة العروبية للمصريين. ويسترسل الدكتور يونس في دراسته الممتعة حقاً ليرصد العلاقة بين الوجدان الشعبي والخرافة، وارتباط المجتمع بالمثل العليا في أدبه الشعبي. كما ينتقل لبحث اللغة القومية وتواصلها، ثم يبحث في الإشكاليات الخاصة باللهجات المحلية.
كما يبحث عادات دورة الحياة مشيراً إلى أن الأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع الذي يراه متدينا بالفطرة. كما يرصد شخصية الفلاح المصري ذو الجلباب الأزرق في مقابل مجتمع المدينة والثورة الصناعية.
أما الكتاب الثاني الذي يدخل في إطار التأسيس لعلم الفولكلور فقد وضعه الدكتور يونس قبل وفاته بعشرة أعوام، وهو كتاب «التراث الشعبي» الذي نُشر عام 1979 عن دار المعارف بالقاهرة ضمن سلسلة كتابك رقم 91 وقد أُعيد نشره ضمن المجلد الأول من أعماله الكاملة عام 2007.
وهذه السلسلة تقدم العلوم المختلفة في أسلوب مبسط للجمهور العام، وقد أسهم هذا الكتاب في تعرف الجمهور على تراثنا الشعبي العربي. ورغم ذلك نجد أن الباحثين المتخصصين يستعينون به في دراساتهم الأكاديمية. ويقوم الكتاب في بدايته على تعريف مفهوم التراث الشعبي والثقافة الشعبية. ثم يشرع المؤلف في شرح الموضوعات التي تندرج تحت التراث الشعبي كالعادات والتقاليد والطقوس ودورة الحياة. ثم ينتقل إلى شرح مفهوم «الأدب الشعبي» والأنواع التي تندرج تحته كالنوادر والأمثال والأحاجي، ثم الفنون الشعبية والتي تتضمن الغناء والموسيقى والرقص والدراما الشعبية. وينهي الكتاب بشرح لموضوعات الطب الشعبي والحرف وعلاقة الفولكلور بالتكنولوجيا.
أما الكتاب الثالث الذي يدخل في إطار التأسيس لعلم الفولكلور، فقد ناقش فيه الدكتور عبد الحميد يونس العديد من القضايا الرئيسية في التراث الشعبي العربي، وأطلق عليه عنواناً اشتهر بين الأوساط الثقافية على مدى عقود وهو كتاب «دفاع عن الفولكلور» الذي نُشر عام 1971 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في272صفحة، ثم أُعيد نشره ضمن المجلد الأول من أعماله الكاملة عام 2007. وعنوان الكتاب هو نفسه عنوان المقال الذي رد فيه الدكتور يونس على الدكتور لويس عوض الذي كتب مقالين عن «الفولكلور والرجعية» (نوفمبر 1969)، و«الفولكلور والاستعمار» (ديسمبر 1969). ليطلق يونس عبارته الشهيرة أنه لم يكن يتصور أن الفولكلور لا يزال في حاجة إلي دفاع.
وأن النتائج الباهرة التي انتهت إليها الدراسات الإنسانية في مجال الحياة الشعبية أخرجت الفولكلور من النظرة التقليدية التي يتهمه فيها البعض بالرجعية. فالفولكلور يتسم بالمرونة والتطور في آن.
ويحوي كتاب «دفاع عن الفولكلور» العديد من الدراسات المؤسسة للعلم عامة والأدب الشعبي خاصة كان قد نشرها في عقد الستينيات ومطلع السبعينيات، منها: إنشاء مركز عربي للفولكلور ومعهد للفنون الشعبية- مكانة الفولكلور بين العلم والتكنولوجيا- صيانة التراث الشعبي- البطولة في سيرتي عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي- جحا العربي- القدس في الأدب الشعبي- الدراما الشعبية – خيال الظل – مسرح الفولكلور- -الفنون الشعبية في وادي القمر وأرض الفيروز.
الإبحار في عالم يونس
هذه الدراسات المتنوعة هي شهادة تؤكد على ريادة عبد الحميد يونس في تأسيس علم الفولكلور في سنوات مبكرة.. كما نستطيع أن نلحظ أن مؤلفاته لم تحتل صفحات كثيرة، بل إن أكثرها لم يتجاوز المائتي صفحة، غير أن كل فصل فيها قد يمثل اتجاهاً جديداً ومنهجاً مميزاً في علم الفولكلور..
ولسنا في حاجة هنا إلى الإشارة إلى أننا قد تناولنا بعض كتبه في هذا المقال.. ولم نتناول دراساته المنشورة التي تجاوزت الثلاثمائة دراسة.. لم نتناول مشاريعه في تأسيس مراكز التراث الشعبي والدوريات العربية المتخصصة في التراث الشعبي.. لم نتناول إشرافه العلمي على العديد من الأطروحات العلمية.. لم نتناول علاقته بتلامذته.. لم نتناول جهوده في ترجمة دائرة المعارف الإسلامية.. وإشرافه على موسوعات الفنون الشعبية.. وتقديمه لعشرات الدراسات المتخصصة.. بل لم نتناول ترجماته وإبداعاته الأدبية إلخ.
لن نستطيع في هذا المقام أن نعبر الشاطئ الآخر في بحر عبد الحميد يونس العالم والمفكر والأديب.. بعد مائة عام من ميلاده، وبعد اثنتين وعشرين عاماً من رحيله.. لا يسعنا سوى أن نرسل له كل التحية وكل التقدير من تلامذته ومحبيه.. كل الحب وكل العرفان لرجل عاش مدافعاً عن علم الفولكلور وحسبنا أن نستكمل بعده الطريق.