فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

راهن التحولات الثـقـافـية فـي الخليج العربي: مشروع أجندة دراسية

العدد 33 - التصدير
راهن التحولات الثـقـافـية فـي الخليج العربي: مشروع أجندة دراسية
كاتب من البحرين

 

ليس بدعاً أن تُعيد العلوم الاجتماعية والإنسانية النظر في موضوعاتها ومنهاجها ونظرياتها بين حين وآخر، وعليه فإن تلك الحقول الفرعية منها والمعنية بدراسة الثقافة عموماً، والتراث الشعبي والثقافة الشعبية خصوصاً، مثل علوم الأنثروبولوجيا والفولكلور، ليست استثناءً أيضاً. فقد توقفت تلك العلوم أمام العديد من الإشكاليات التي كانت تعاني منها على مستوى نظرياتها وأدواتها التحليلية ومناهجها البحثية، بل، وأيضاً، على مستوى الموضوعات والظواهر التي كانت تقوم بدراستها. وهكذا أخضعت تجاربها ومسيرتها للدراسة والنقد، وفي ضوئه أصبحت من أيقونات تلك المرحلة الأبحاث التي وجدت طريقها للنشر في أعمال بارزة مثل: «كتابة الثقافة»، «الأنثروبولوجيا عبر النافذة الزجاجية»، «تشكيل علم الفولكلور»، «الأنثروبولوجيا النقدية الآن»،  «مأزق الثقافة» و«الأنثروبولوجيا بصفتها نقداً ثقافياً»،(1) والحال، فإن مع نهاية القرن العشرين لم تعد العلوم المعنية بدراسة الثقافة والثقافة الشعبية، هي نفسها  تلك العلوم السابقة، لا من حيث نظرياتها ولا موضوعاتها. لقد جرت، على سبيل المثال، مياه كثيرة تحت جسور علوم الأنثروبولوجيا والفولكلور، وقد ترتب على جريان تلك المياه أن تغيرت تلك الموضوعات التقليدية التي كانت تقوم بدراستها، وحلت بدلاً عنها موضوعات جديدة فرضتها التغييرات الاجتماعية والاقتصادية السياسية المحلية منها والأخرى الكونية. فقد طالت تلك التغييرات العديد من المجتمعات والثقافات في العالم، ولم تكن منطقة الخليج العربي استثناءً عن مسار تلك التغييرات. وهكذا تعرضت جوانب عديدة من الثقافة والمجتمع الخليجي لتغييرات تفاوتت من حيث الحدة والاتساع، فقد بدأت، على سبيل المثال، تطل على الحياة العامة مظاهر ثقافية شديدة التأثير في البنى الاجتماعية والثقافية، واستطاع بعضٌ من تلك التغييرات أن يصيب جوانب أساسية من الهوية الوطنية والثقافية، لذلك أصبح من غير المعقول والمنطقي أن لا تُعير الدراسات الأنثروبولوجية أو الفولكلورية تلك التغييرات الأهمية العلمية اللازمة.

وعليه، سوف نوظف هذا التصدير للعدد الحالي من «الثقافة الشعبية» لمحاولة لفت الانتباه لما نعتقدُ أنه يقع في إطار من التغييرات الاجتماعية والثقافية الكبرى التي مرت بها مجتمعات الخليج العربي خلال العقود القليلة الماضية. تلك التغييرات التي يتطلب الالتفات إليها من قبل الباحثين في تلك العلوم، سواء بهدف التعرف على خصائصها وآثارها، أو باستخلاص العبر والدروس اللازمة منها.

فإذا كانت حقول الإبداع والممارسة الثقافية الرائجة في المراكز الحضارية كالمدن وغيرها، تُعد من الثوابت الرئيسة للهوية والانتماء الحضاري العربي، فإن تلك الحقول كانت ولا تزال سائدة في أوساط النُخب الاجتماعية والثقافية في المراكز الحضرية، كالمدن الكبرى وغيرها من الحواضر، التي كان لها نصيبها، ولا يزال، من سياسات الدعم والرعاية. على أن الاعتقاد في وجود تلك الانماط من الثقافة الرفيعة ما يُعّد كافٍ بحد ذاته، فإن في وجود تلك الرؤية وانتشارها ما يُعد مدعاة للنظر في أنماط ثقافية شعبية كتلك التي تعيش وتزدهر في تخوم المدن أو مناحٍ بعيدة عنها، أي في الأطراف والهوامش البعيدة عن الحياة الاجتماعية والثقافية للنُخب الكبرى المتمركزة في المدن، على أنها ليست ذات جدوى أو تأثير أصيل على فكر وفلسفة وروح الإبداع السائد بين ثقافة النُخب في الحواضر.

ولن نذهب بعيداً إذا قلنا إن سيادة مثل هذا المنظور المتعالي بين النُخب الكبرى المهيمنة في الحواضر والمدن في العالم عموماً والعالم العربي خصوصاً، كان له من الأضرار السلبية، التي استدعت توجيه النقد إليه وإجراء العديد من المراجعات بشأنه وللسياسات التي ترتبت عنه، خاصة الخلل الناتج عن اضطراب علاقات القوة والسلطة غير المتكافئة في البنية الثقافية التي تجمع الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية، سواء في المدن والحواضر أو الريف والبادية. والحال، أنه لولا وجود الثقافة الشعبية ومواصلة استهلاكها لكل منتجات الثقافة، لما استطاع مبدعو الثقافة الرفيعة مواصلة إبداعهم تجديداً وابتكاراً.

بعد هذا التقديم، نقول إذاً إن المتتبع لمسيرة السياسات والمشروعات الوطنية في مجال رعاية الثقافة عموماً، والثقافة الشعبية خصوصاً، في منطقة الخليج العربي لا يستطيع إنكار وجود تلك السياسات، بل وتنفيذها لمشروعات قائمة وملموسة على أرض الواقع، وإن اختلفت من حيث النوع والنطاق. ففي مقدمة تلك المشروعات التي نُفذت منذ مطلع السبعينيات من القرن العشرين وظلت متواصلة: المتاحف الوطنية التي أصبحت اليوم بمعمارها المادي جزءاً لا يتجزء من شخصية العواصم والمدن الكبرى في دول الخليج العربي، وهكذا أصبحت تلك المتاحف تقف شامخة بجوار مراكز ثقافية أخرى، مثل المسارح الوطنية ودور الأوبرا والمكتبات الوطنية، مشكلة بذلك الدلالة الرمزية لانتقال مجمتعمات وثقافات دول الخيج العربي إلى عصر الحداثة، من جهة، واستكمال تشييد الدولة الحديثة التي عُدَّ من أبرز معالمها الرمزية والطقوسية حضور الدولة، عبر معمارها المادي المتمثل في المباني العامة في الفضاء العام، حيث يأخذ معمار المؤسسات الثقافية، بكل الرموز والجماليات المتضمنة فيه، الدور في إعادة إنتاج الهويات الثقافية والوطنية بما يتناسب وعصر الحداثة الذي انتقلت إليه.

كما لن يغيب عن المتتبع، أيضاً، التوقف أمام تجارب وطنية وإقليمية أخرى تفاوتت من حيث  نطاقها ونوعيتها، إذ أولت تلك التجارب عبر مشروعاتها المتنوعة الثقافة الشعبية جل اهتمامها، وهكذا فقد شهدنا خلال العقود القليلة الماضية ولادة مهرجانات التراث في معظم الدول الخليجية، ومع مرور الوقت مهدت تلك المهرجانات الطريق لوجود نماذج لأسواق وقرى وأحياء شعبية احتضنت العديد من الحرف والصناعات التقليدية لأبناء الحضر والبادية، وهي اليوم، أي تلك المهرجانات والأسواق والساحات الشعبية والتراثية، تشهد رواجاً شعبياً  كبيراً إلى الدرجة التي تكاد لا تخلو منها أية مدينة خليجية.

الملاحظة الأخرى والجديرة بالاهتمام أيضاً، هو أن هذا الحضور الثقافي المادي للدولة الحديثة في الساحات والميادين العامة، إنما يُعد بمثابة مظهر آخر من مظاهر الحضور الثقافي المادي والبصري في الفضاء العام، وهو حضور أرادت من خلاله الدولة الحديثة العمل على إعادة إحياء الثقافة الشعبية من أجل مواصلة تغذيتها للوجدان الشعبي وللشخصية الثقافية والهوية الوطنية. وعليه بالإمكان الاستنتاج، وبقدر كبير من الاطمئنان، إلى أن السعي إلى تنفيذ تلك المشروعات الوطنية، كان في جزءٍ كبير منه تعبير عن الاستجابة وردة الفعل الوطنية تجاه التأثيرات السلبية الكبيرة التي نتجت عن التغييرات الاقتصادية والاجتماعية  التي أتى بها النفط على مستوى الهويات الوطنية والثقافية للمجمتعات الخليجية، سواء من خلال عقود من الاقتصاديات النفطية، أو ما تلاها من تغييرات أتت بها قاطرة العولمة بكل بريقها وزوابعها .

كما ظهر في الفضاء العام، حضور ثقافي من نوع آخر، وهو حفلات نجوم الغناء التي أصبحت تنتقل سنويّاً من أوبريت الجنادرية في الرياض، إلى هلا فبراير في الكويت، ثم جنوباً إلى بقية المدن الكبرى في الخليج. من المنامة، والدوحة، وأبوظبي، ودبي، إلى مسقط وصلالة. وبخلاف سنين مضت، حيث كانت تشهد بعضٌ من مدن الخليج، مثل المنامة والكويت وغيرهما، حفلات كبرى يتقدم فيها نجوم الغناء العربي من مصر وبلاد الشام والعراق منصة تلك الحفلات الغنائية، إلا أنه ومنذ السبعينيات أصبحت فنون الموسيقى والغناء العربي في الخليج حقلاً ثقافيّاً قائماً بذاته، فبرز في هذا الحقل العديد من نجوم الغناء، وآخرون من المبدعين كالشعراء من كتاب الأغنية والملحنين، وكذلك آخرون ممن أصبحت إبداعاتهم جزءاً لا يتجزأ من هذا الحقل الثقافي الإبداعي الذي أصبح يتقاطع بشدة بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية؛ وهكذا أصبح هذا الحقل شديد التأثير في الوجدان والحياة اليومية للناس في الخليج، بل وفي قطاعات عديدة من مجمتعات عربية أصبح لفنون الموسيقى والغناء الخليجي تأثيراً هائلاً على ذائقتها الفنية. وعليه، أصبحت هذه الفنون التي صعدت للفضاء العام الخليجي، منذ السنوات الأولى للطفرة النفطية، عاملاً مؤثرًا جدّاً في تشكل الثقافة والهوية الوطنية للعديد من المجتمعات والدول الخليجية.  

دخلت أيضاً في حقل الثقافة الشعبية في منطقة الخليج العربي العديد من الفنون والرياضات والهوايات الشعبية التي كانت على وشك الإندثار، وهكذا بدأت العديد من المجتمعات الخليجية تشهد موجة من الاهتمامات الشعبية للعودة إلى التراث الشعبي المحلي بهدف إعادة إحياء تلك الفنون، مثل سباقات الخيول والهجن، والقنص أو الصقارة والعناية بكلاب الصيد العربية «السلق» وقد شكلت ثقافة البادية وتراثها الثقافي، المعنوي والمادي معاً، مخزوناً كبيراً تتم العودة إليه كلما دعت الحاجة لإحياء تلك الفنون والهوايات وألعاب اللهو. وهكذا لم تعد مدرجات كرة القدم التي شُيّد العديد منها منذ سبعينيات القرن الماضي، الميادين العامة الوحيدة التي يتجه إليها أبناء المنطقة، بل أصبحت هناك ميادين أخرى جديدة ومنافسة مثل مضامير سباقات الخيل والهجن، وأخرى أيضاً لكلاب الصيد. وقد يكون نطاق الاهتمام بهذه الفنون والهوايات أقل قياساً بألعاب شعبية كبيرة مثل كرة القدم، لكن وجودها أصبح متعاظماً، وموازياً مع رياضة سباق السيارات التي أخذت تحتل حلبات السباق الخاصة بها مواقع مهمة في الخارطة الجغرافية لدول المنطقة، فأصبحت حلبات سباق السيارات ومضامير سباق الخيل والهجن منصات وميادين عامة يتم من خلالها الإفصاح رمزياً عن ثقافة شعبية شاسعة ومتنوعة قد تم إعادة إنتاجها، وأخذت تلعب دوراً هاماً في صياغة الهوية الوطنية والثقافية لدول ومجتمعات الخليج العربي.     

ما نراه إذاً من تحولات في المعالم الرئيسة للثقافة عموماً والثقافة الشعبية خصوصاً في مجتمعات ودول الخليج العربي، يتطلب من الباحثين في ميادين علوم الأنثروبولوجيا والفولكلور التوقف أمامه بعناية كبيرة جداً، بل وعدم التقليل من آثاره على واقع عمليات تشكل وإعادة إنتاج الهويات الوطنية والثقافية لهذه المجتمعات، وتأثيره كذلك على المعالم العامة للشخصية الوطنية لشعوب المنطقة. نحسب إذاً أن هناك أجندة دراسية جديدة قد اكتملت بعض من معالمها منذ سنوات، وأصبحت تطل برأسها منادية الباحثين والعاملين في تلك العلوم لتحديد أولوياتها، وعدم الهروب منها نحو إعادة اجترار الموضوعات المكررة والمُعادة في حقول دراسة التراث الشعبي والثقافة الشعبية.

 

الهامش:

(1) Clifford, J. & Marcus, G. (eds)., Writing Culture, Berkeley, (1986); Clifford, J., The Predicament of Culture, Cambridge, (1988); Herzfeld, M., Anthropology through the Looking-Glass, Cambridge, (1987); Marcus, G. E., & Fischer, M. J., Anthropology as Cultural Critique, Chicago, (1986); Marcus, G. (ed.), Critical Anthropology Now, Santa Fe, (1999)’ Gencarella, S. O., “Constituting Folklore: A Case for Critical Folklore Studies”, (2009).

أعداد المجلة