فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الـحكاية الـخرافية الـجزائرية قراءة سيميائية سرديّة لـحكاية «طولا»

العدد 32 - أدب شعبي
الـحكاية الـخرافية الـجزائرية قراءة سيميائية سرديّة لـحكاية «طولا»
أستاذ محاضر جامعة أبي بكر بلقايد - الجزائر

كثيراً ما يستند دارسو النّصوص السّرديّة الشفويّة، في بعض المُقارَبات العربية، إلى المنهج المورفولوجي لفلاديمير بروب في تحليل الحكاية. وعلى الرّغم من وجاهة هذا المنهج النّظريّة والتّطبيقيّة واستجابته لرغبة أولئك الدّارسين في الكشْف عن نسق الوظائف الّذي يؤسِّس بنية الحكاية الخرافية على وجه الخصوص، إلاّ أنّ النّموذج الّذي استنبطه الدّارس الشّكلاني يتضمّن وظائفَ كثيرةً يُمكِن اختزالها إلى وظائفَ أقلّ، مثلما اقترح بروب نفسُه.

 

ومن ثمّ، نهض الدّارس السّيميائي ألجيرداس جوليان غريماس بإعادة صياغة الوظائف لتكثيف النّموذج ولتطبيقه على نصوصٍ شفويّة وغير شفويّة في آنٍ معاً؛ فكان أن اهتدى إلى إمكان تقليص الأفعال الّتي تقوم بها الشّخصيات من إحدى وثلاثين وظيفةً إلى عشرين وظيفةً فقط، ثمّ اصطنع مفهوماً جديداً يؤلّف بين الأفعال العشرين إمعاناً في الاختزال، وهو مفهوم الوحدة السرديّة unité narrative الّذي يتّخذ ثلاثة صنوفٍ تكوِّن نسقَ الحكاية كلّها أو أنساقَ مقطوعاتها، وهي: وحدة الانفصال، ووحدة التّعاقد، ووحدة الاختبار.

ويُعتبَر مفهوم الوحدة السّردية حالةً وسطى بين مفهوم الوظيفة لدى بروب ومفهوم البرنامج السّردي الّذي استقرّ معناهُ ومضمونُه بعد اضطلاع غريماس بتقليص الوظائف واستحداث الوحدات السرديّة؛ فبينما يُستثمَر المفهوم الأوّل، غالباً، في تحليل الخطابات الشّفوية مثل الحكاية وأنواعها (الحكاية الخرافية، والحكايــــة الشّعبــــية، والحكايــــة الأسطـــوريـــة، والحكايـــة العجيبة، وحكاية الحيوان،...)، يُوظَّف المفهوم الثّاني، عادةً، في تحليل الخطابات النّصيّة مثل القصّة والرّواية، مثل تحليل غريماس لقصّةٍ من قصص غي دو موباسان guy de maupassant، وهي قصّة «صديقان». وبذلك، يمثّل مفهوم الوحدة السّردية المرحلة البنيويّة في دراسة السّرد لدى غريماس، وهي المرحلة الّتي تتوسّط المرحلتيْن الشّكلانية (مفهوم الوظيفة) والسّيميائية السّردية (البرنامج السّردي)، باعتبار أنّ هدفَ غريماس كان بَنْيَنَةَ structuration الوظائف الّتي خلُص إليها بروب، ومن ثمّ، إدراجها في وحداتٍ سرديّةٍ لاستخدامها في دراسة أكبرِ عددٍ من الخطابات الأسطوريّة وليس الحكاية الخرافية فحسب؛ بمعنى إنّ مفهوم الوحدة السّرديّة، الّذي هو صورةٌ مُعدَّلةٌ لمفهوم الوظيفة، هو أداةٌ إجرائيّةٌ بنيويةٌ تستجيب، أكثر، لتحليل الطّبيعة الشفويّة للخطاب السّردي، ولكنّها، في الوقت نفسِه، أداةٌ إجرائيّةٌ سيميائيّةٌ كونها مفهوماً دلاليّاً sémantique يحيل إلى المعنى لا إلى الشّكل كما تحيل إليه الوظيفة. وهو ما مهّد الطّريق أمام سَمْيَأَةِ التّركيب السّردي بعد أن كان مُجرَّدَ تسلسل منطقيّ من الوظائف مُقيَّدٍ بعمليتيْ الشَّكْلَنَةِ formalisation والبَنْيَنَةِ.

على هذا الأساس، سنحاول توظيف مفهوم الوحدة السّردية في قراءة حكايةٍ شاع تداولها في بعض الأوساط الشّعبية بالجنوب الغربي من الجزائر. وعنوان هذه الحكاية هو «طولا» الّتي جعلها المصنّف أسـطورةً (1)، بينما هي أدنى، في بنائها ونسق وحداتها السّرديّة، إلى الحكاية الخرافية، كما سندلّل على ذلك في تضاعيف هذه القراءة السّيميائية السّردية. وقبل ذلك، نروم الإلماح إلى الخلاصة النّظرية الّتي انتهى إليها غريماس بشأن بَنْيَنَةِ النّموذج الوظائفيّ وتحديد الوحدات السّردية.

1 . من مفهوم الوظيفة إلى مفهوم الوحدة السّردية:       

قام غريماس بتكثيف الوظائف الواحدة والثلاثين على النّحو الآتي: رحيل، منع - خرق، استخبار - إطّلاع، خداع - تواطؤ، إساءة - افتقار، وساطة - بداية الفعل المضاد، انطلاق، وظيفة المانح الأولى - ردّ فعل البطل، تسلّم الأداة السّحرية، انتقال بين مملكتيْن بصحبة دليل، صراع - انتصار، علامة، إصلاح، رجوع، مطاردة - إغاثة، الوصول خفيةً، مهمّة صعبة - مهمّة مُنجَزة، تعرّف، اكتشاف - تجلّي، عقاب - زواج (2).

وبعد بَنْيَنَةِ الوظائف في ثنائيات، تبيّن لغريماس أنّ بعضَها لا يُمكِن أن يندمج في أزواج وظيفيّة عكس ما كان يبتغيه بروب، كما تبيّن له، أيضاً، أنّ النّموذجَ، الّذي توصّل إليه، غير قابلٍ، هو الآخر، للاستعمال وفق الإحصاء الجديد الّذي يظلّ طويلاً على الرّغم من تقلُّـــصـه؛ فـــراح يوظّف مصطلح الوحدة السّردية ذا المحتـــــوى اللّســـانـــي في تحـــديـــد المُــركَّبــات السّـــرديـــة syntagmes narratifs الّتي يُمكِن أن تشكّل هيكل الحكاية، ذلك أنّ غريماس قد ميّز بين ثلاثة أنماط من تلك المُركَّبات على سبيل الافتراض النّظري الّذي تتطلّبه منهجيّة التّحليل السيميائي السّردي فقط، والمُركَّبات هي:

أ - المُركَّبات الإنجازية (الاختبارات)،

ب - المُركَّبات التّعاقدية (تشكيل التّعاقد وإبطاله)،  

ج - المُركَّبات الانفصالية (انطلاق  ورجوع) (3).

يُمكِن أن تتألّف الحكاية إذاً، من ثلاثة مُركَّبات سرديّة أو وحدات سرديّة تُختزَل فيها الوظائف  العشرون، حيث تشمل الوحدة السّردية الإنجازية ثلاثة اختبارات يتألّف كلّ اختبارٍ منها من وظائف معيَّنة، وهذه الاختبارات هي: الاختبار التّأهيلي (وظيفة المانح الأولى / ردّ فعل البطل  تسلّم الأداة السّحرية) والاختبار الرّئيس (صراعٌ/ انتصارٌ  إصلاحٌ) والاختبار التّمجيدي (مهمّة صعبة / مهمّة مُنجَزة تعرّف). وتشمل الوحدة السّردية التّعاقدية، بدورها، ثلاثة تعاقدات، هي:  التّعاقد الإلزامي - التّعاقد التّرخيصي - التّعاقد الائتماني.

وتنبني كلّ صيغة تعاقدية على جملةٍ من الوظائف تكـون، غالبـاً، ثلاثيــةً، شــأنهــا شـــأن الـــوحــدة الســرديّة الإنجـــازيـــة؛ فالتّعــــاقــدان الأوّل والثّـــانـــي ينهضان على الثّنائيـــة الـــوظيفــية وســاطــة/ردّ فعــل البطــل ونتيجتهـــا وظيفــــــــــــة الانطــــلاق، مـــــع وجــــــــود اختـــــــــلافٍ في مضــمـــون التّعاقديْن؛ فالتّعاقــد الإلزاميّ يتطلّب أمراً من المُرسِل وقَبولاً من المُرسَل إليـــه - الذّات، في حـين يقــوم التّعاقد التّرخيصي على الالتمــاس مـــن المُرسَـــل إليــه - الــذّات والتّرخيـــــص مـــــن المُرسِــــل. وإذا كـــان التّعــاقد الإلزاميّ يؤسّسه الأمر والقَبول، فإنّ خرق المنع يُفضي إلى إبطـــال التّعـــاقد.

أمّا التّعاقد الائتماني فيعكسه مفهوم الزّواج الّذي لا يُمثّل «وظيفة بسيطة، كما يسمح تحليل بروب بافتراضه، ولكنّه تعاقدٌ مُبرمٌ بين المُرسِل الّذي يعرض موضوع البحث على المُرسَل إليه والمُرسَل إليه - الذّات الّذي يقبَله. إنّ الزّواج ينبغي أن يُصاغ، إذاً، بالطّريقة نفسِها الّتي يُصاغ بها الأمر / القَبول، مع الفارق، بالمقابل، من حيث إنّ التّعاقد، حين يتمّ، يكون مُحْكَماً بالتّواصل حول موضوع الرّغبة» (4). إنّ العلاقة الّتي تربط بين المُرسِل والمُرسَل إليه - الذّات، في حال الزّواج، هي علاقة  تقوم على الائتمان والصّدق، بحيث يجري التّواصل بينهما ابتغاء تبادل المواضيع؛ فالمُرسَل إليه - الذّات يحوّل إلى المُرسِل موضوع الرّغبة لقاء الزّواج الّذي يُعَدُّ شكلاً من أشكال المكافأة الّتي تتعدّد بحسب سيرورة الحكايات؛ فقد تكون المكافأة زواجاً أو مالاً أو قصراً...، سواء أأعلن الطّرفان ذلك، سلفاً، أم لم يُعلِنا.       

وتضمّ الوحدة السّردية الانفصالية الوظائف الدّالّة على الانتقال من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، وهو ما يُسمّى انفصالاً فضائيّاً تمثّله أربع وظائف، هي: رحيل وانطلاق وانتقال بين مملكتيْن بصحبة دليل ورجوع. وتختلف تمظهرات هذه الوظائف باختلاف الحكايات؛ فقد يكون الرّحيل، مثلاً، مؤقّتاً كالذّهاب إلى  الصّيد أو إلى العمل، وقد يكون رحيلاً نهائياً مثل الموت والهلاك والفناء. ومن ثمّ، فإنّ الرّحيل النّهائي يحمل معنييْن اثنيْن؛ معنى يشي بالانفصال الفضائي من حيث انتقالُ الشّخصية من عالمٍ دنيويٍّ إلى عالمٍ أخرويٍّ، ومعنى آخر يحيل إلى انفصال الشّخصية عن موضوع القيمة الّذي هو الحياة واتّصالها، بالمقابل، بموضوع قيمةٍ آخر هو الموت. وبناءً على هذا، لا يكون الانفصال فضائيّاً فقط، بل يكون، كذلك، انفصالاً عن موضوع القيمة الّذي يغدو موضوعاً للبحث حين تستفزّ وظيفتا الإساءة والافتقار المُرسَل إليه - الذّات من أجل القيام بالوساطة استجابةً لرغبته الشّخصية أو لرغبة المُرسِل؛ ففي حال رغبة المُرسَل إليه - الذّات، يصبح موضوعُ القيمة موضوعاً للبحث وموضوعَ رغبةٍ في آنٍ واحدٍ. وفي حال رغبة المُرسِل، يصبح موضوعُ القيمة موضوعاً للبحث بالنّسبة للمُرسَل إليه - الذّات وموضوعَ رغبةٍ بالنّسبة للمُرسِل.     

وتنضوي هذه الوحدات السّردية الثّلاث تحت هيكل الحكاية أو المقطوعة séquence الّتي تُعَدُّ جزءاً لا يتجزّأ من الحكاية؛ «ففي المقطوعة، الّتي هي وحدة لسانيّة من الخطاب، ركَّبنا شبكةً من الوحدات السّرديّة، ذات التّرتيب الدّلالي، الّتي تبرز من خلال معرفتنا بهيكل المحكيّ عموماً. وتحتوي هذه المقطوعة، كما نرى، على العناصر الضّرورية كلّها لوجود المحكيّ؛ إنّها بعدَد ثلاثة: انفصالٌ، وتعاقدٌ، واختبارٌ. إنّ المقطوعة، إذاً، - وهنا واحدٌ من تحديداتها المُمْكِنة - وحدة مستقلّة من الخطاب السّردي، قابلة لأن تشتغِل مثل المحكيّ، ولكن يُمكِن، أيضاً، أن تكون مندمِجةً كواحدةٍ من هذه الأجزاء المُكوِّنة داخل محكيٍّ أكثر رحابةً، والموضع الّذي تحتلّه يحدّد وظيفتها في التّناسق الكليّ للبنية السّردية» (5).  

2 . البنية السّردية لحكاية «طولا»:  

يتألّف هيكل أو البنية السرديّة لحكاية «طولا» من سبع مقطوعات، هي:

2 _ 1.المقطوعة الأولى:

 تتوفّر هذه المقطوعة على الوحدات السّرديّة الثلاث الآتية:

الانفصال: ويتمثّل في خروج النّسوة للاستسقاء وجمع الحطب، وتوغلهنّ في غابة مُخيفةٍ أثناء ذهابهنّ إلى منبع الماء. إنّه انفصالٌ مؤقّتٌ عن الفضاء الأليف والحميم الّذي هو الدّيار واتّصالٌ مؤقّتٌ، أيضاً، بالفضاء الغريب والمُعادي الّذي هو الغابة؛ فالدّيار فضــــاء ثقــــافي يـــوحـــي بقيـــم الاجتماع والتّضامن والدفء والأنس، بينما الغابة فضاء طبيعيّ يوحي بقيم التّشتّت والخوف والشّر والوحشة.        

التّعاقد: في فضاءٍ طبيعيّ كهذا، يصيب النّسوةَ هلعٌ شديدٌ؛ فيجمعن الحطب في صمتٍ، وتهُمّ إحداهنّ، وهي حُبلى، بحمْل ما حزمت من حطبٍ؛ فيصير حديداً، ويتملّكها الخوف. وحين تريد وضعه على الأرض، يتحوّل العود إلى غولٍ يتنبّأ بأنّها ستلد بنتاً تملك سِنّاً خضراءَ ويأمرها بأنّ تُسمّيها «طولا» ويخبرها بأنّه سيختطفها حين يتعرّف عليها. إنّ التّعاقد، في هذه المقطوعة، تعاقدٌ إلزاميٌّ يربط بين الغول الّذي يتّصف بالقوّة والسّلطة والبطش والمرأة الحُبلى الّتي تتميّز بالوهْن والضَّعف والقابلية للخضوع.     

الاختبار: تؤوب النّساء إلى الدّيار. وبعد شهورٍ، تضع المرأة حملَها، وتستجيب لأمر الغول؛ فتسمّي ابنتها «طولا»، وتحاول جاهدةً إخفاءها دون جدوى، حيث يشيع أمر حبسها بين النّاس. وبالتّالي، تخفق الأمّ في الاختبار الرّئيس الّذي ينجرّ عنه حــدوثُ الإســـاءة فـــي المقطـــــوعة الثّانيــــة، ذلـــــك أنّ مثلَ هذا الاختبار هــــــو الّـــذي يحسم، عادةً، حالة الاختلال ويُحقّق حالة التّوازن بإصلاح الإساءة أو ســــدّ النّقــــص. ولكــــنّ الفشــــل فــي تحقـــيق حـــالـــة التّوازن، في هذه المقطوعة، من خلال عدم التّوفيق في الحفاظ على البنت وإبعادها عن أنظار أترابها سيُفــضي إلــى استمـــرار الخــطر المتربّص بوليدتها؛ إذ لو نجحت الأمّ في الاختبار الرّئيس لاتّقتا شرّ الغول وأخذت حياتهما مجراها الطّبيعي. ويمثّل إخفاق الأمّ، من جهةٍ أخرى، إبطالاً للتّعاقد المُبْرَم بينها وبين الغول؛ فقد خرقت المنع الّذي تبدّى في شكل أمرٍ لم تلتزم به.

2 _ 2.المقطوعة الثّانية:

تركَن هذه المقطوعة إلى ثلاث وحدات سرديّة، هي:

الانفصال: تبدأ المقطوعة بانفصالٍ فضائيٍّ آخر حين ترضى الأمّ بذهاب «طولا» رفقة ابن عمّها يوسف والصّبية إلى المراعي الّتي تمثّل فضاءً مكانياً مقابلاً espace hétérotopique وفضاءً مكانياً مجاوراً espace paratopique في الوقت ذاته؛ فهي فضاءٌ مكانيٌّ مقابلٌ لأنّ المراعي ستحتضن فعل الإساءة الّتي تلحق «طولا»، وهي فضاءٌ مكانيٌّ مجاورٌ لأنّها ستشهد حصول الاختبار التّأهيلي الّذي تُمتحَن فيه كفاءتا «طولا» و«يوسف».

التّعاقد: يُمكِن اعتبار إلحاح يوسف على الأمّ حتّى تسمح بخروج «طولا» من حيّز البيت إلى فضاء المراعي ضرباً من التّعاقد التّرخيصي بين الطّرفيْن، تأذن فيه الأمّ ليوسف بأن يصحب معه ابنة عمّه إلى المراعي، شرط أن يعتنيَ بها. إنّ الشّرط، هنا، يكتسب صفة الوصيّة لا الأمر أو النّهي اللّذيْن يعبّران عن المنع؛ فالأمّ لا تمارس سلطتها كوليٍّ على ابنتها وترفض إلحاح يوسف، إنّما تكتفي بأن تعهَد إليه بحراستها، مادام قد رغِب في اصطحابها معه. ولكن، قد تُؤوَّل الوصية على أنّها تكليفٌ وائتمانٌ، ممّا يجعل تفاهم الأمّ ويوسف تعاقداً ائتمانياً يحصل يوسف، من خلاله، على موضوع القيمة والرّغبة، معاً، المتمثّل في «طولا» من أجل أن ترافقه إلى المراعي، وتطمئنّ الأمّ، بالمقابل، على الموضوع ذاتِه عبر ائتمانه عليها.    

الاختبار: يبـــرز الغـــــول للصّبــــــية وهـــــم يسبــحــــون، ويــــأمــــرهم بـــــأن يُظهــــــِروا أسنانـــــهم بعــــد أن يــــأخــذ ملـــابسهم. تــرفض «طولا» الإذعانَ لأمر الغول حين تتـــــذكّر نصيـــحة أمّهـــا، ثـــــمّ لا تلبــــث أن تستجــــــيب. يتعرّف عليها الغول ويطيـــــر بهــــا إلــــى قمـــم الجــــبال حيــــث مـــــأواه. يحــــــدّد هــــــذا المُركَّب السّـــردي الوحدة الإنجازية الّتي يضطلع فيها الغول باختبار مُؤهِّلات «طولا» المعرفيّة المتمثّلة في الذّكاء واليقظة والانتباه والحذر، واختبار طاقات يوسف المعرفيّة والجسديّة الّتـــــــي تمكّنـــــــه مــــن الحفـــــــاظ علـــــى موضــــــوع القـيـــمة والرّغبة. وينتج عن هذا الاختبار التّأهيلي المزدوج الّذي أخفقت فيه الشّخصيتان اختطاف «طولا»، ومن ثمّ، انفصال الأمّ ويوسف عن الموضوع، وإبطال التّعاقد الائتماني بينهما.

2 _ 3 . المقطوعة الثّالثة:

 تتضمّن هذه المقطوعة الوحدات السّرديّة الثّلاث الآتية:

الانفصال:   إنّ انفصال الأمّ ويوسف عن «طولا» يوازيه انفصالٌ فضائيٌّ جديدٌ يتمثّل في انتقال «طولا» من المراعي إلى الغار الّذي يسكن فيه الغول. ولعلّ رمزيّة هذا الفضاء النّائي والمرتفع والمُعْتِم تنصرف إلى الدّلالة على قيم الشّر والفزع والارتياب والقلق الّتي قد تشعر بها الشّخصية المسجونة في مكانٍ مُعادٍ نظيرَ الغار والبيت الّذي لم تكن «طولا» تبرحه. لكنّ الشّخصية تشعر، بخلاف ذلك، بالأمن والدّعة في هذا الفضاء الّذي يتّسم ببعض ميزات الفضاء المثالي espace utopique، حيث تُلْفي اهتماماً من الغول الّذي يُدلِّلُها؛ فيأتيها بغزالٍ تلعب به ثمّ تأكل منه ما استطاعت، بينما يلتهم هو تسعة أشخاصٍ دفعةً واحدةً.

التّعاقد:  ينهض التّعاقد على وجود اختلافٍ بيِّنٍ بين إمكانات الغول وإمكانات «طولا»، حيث يستعمل الغول قدرته البدنيّة somatique لتشكيل تعاقدٍ إلزاميٍّ يحذّر فيه «طولا» من الهرب بعد أن يُحكِمَ غلق الغار ويؤمِّنَ لها جوّاً مُريحاً ومُطَمْئناً.  

الاختبار: تَفْسَخُ «طولا» التّعاقد بينها وبين الغول، حين لا تأتمر بأمره، وتفرّ من الغار بمعيّة يوسف الّذي يأتي لفكّ أسرها. وهو ما يشير إلى فشل «طولا» في الاختبار الرّئيس الّذي كان ليُغنيها، لو نجحت فيه، عن غضب الغول ومطاردته لها وليوسف. لقد أخلّت «طولا» بالاتّفاق بينها وبين الغول، عندما لم تلتزم بالتّعاقد الّذي كان من جانبٍ واحدٍ، فيما يشبه الاختبار لقدرتها على الوفاء بعهدها تجاه الغول.  

2 _ 4 .المقطوعة الرّابعة:

تتداخل هذه المقطوعة مع المقطوعة الثّالثة، من حيث إنّ اختبار يوسف لقدرته على تخليص «طولا» من الغول يتزامن مع اختبارها لقدرتها على الالتزام باتّفاقها مع المعتدي. وتمرّ المقطوعة بالمراحل نفسِها الّتي تمرّ بها المقطوعات السّابقة، وذلك كالآتي:

الانفصال: يحثّ انفصال يوسف عن موضوع القيمة على ضرورة إعتاق «طولا» تكفيراً عن الذّنب الّذي اقترفه بحقّها؛ فهو السّبب في اختطافها من قِبَلِ الغول. من أجل ذلك، يعتزم يوسف القيام بالفعل من تلقاء نفسِه، ولا توجد سلطةٌ أو إرادةٌ خارجيّةٌ ترغمه على إصلاح الوضع الّذي تورّط فيه بتخاذله. و»أنْ يذهب البطل في مغامرة بمشيئته، أو يُطرَد من بيته من دون مهمّة، فهذا يُظهِر غياب المُرسِل ويُفقِد البطلَ ميزته، الّتي اكتسبها بشكلٍ طبيعيٍّ، كمُرسَلٍ إليه. إنّ محور مُرسِل / مُرسَل إليه لا يتجلّى، إذاً، ولا يستطيع تأسيس البحث. ويكون البطل، بهذا، إذا جاز القول، تجسيداً للإرادة والحريّة الخالصة في التّصرّف» (6).  

-التّعاقد: بما أنّ المُرسِل غائب والمُرسَل إليه مُغيَّب، فإنّ البطل يستطيع أن يُقيم تعاقداً ضمنياً يمارس، من خلاله، دوريْ المُرسِل والمُرسَل إليه - الذّات في آنٍ معاً، ويوجّه فعله ذاتياً auto – destiné نحو البحث عن موضوع القيمة الّذي يتحوّل، نتيجة التّعاقد الإلزامي الّذي يُلزِم فيه يوسف نفسَه بتحقيق الإنجاز بسبب شعوره بالذّنب، إلى موضوع بحثٍ وموضوع رغبةٍ ترنو إليهما ذات باحثة وأخرى راغِبة تحلاّن في عاملٍ واحدٍ هو الذّات الّتي يمثّلها يوسف.

-الاختبار:  لا يدّخر يوسف جهداً ولا طريقةً في الاتّصال بـ «طولا»؛ فبعد مشقّة وعُسر، يهتدي إليها بواسطة غراب يدلّه على مكانها؛ فيجرّب تقليد صوت الغول علّه يصل إليها، حيث يردّد قوله: «أ طولا، أ طولا، هات حزامك نطلع به». غير أنّ «طولا» تُدرِك أنّ الصّوت ليس صوت «عمّها» الغول؛ فيلوذ يوسف بعجوز حكيمة تُشير عليه «بأن يفتح فمَه على غارِ نملٍ ليمرّ من خلال حنجرته يوماً كاملاً حتّى يصبحَ صوته أجشّاً يشبه صوت ذلك الغول» (7). لا يتردّد يوسف في سلوك هذا الفعل، وينادي «طولا» الّتي تمدّ إليه الحزام، ويصعد إليها، ثمّ يستغّلان نوم الغول الّذي يشكّ في وجود غريبٍ في الغار، ويتمكّنان من الفرار. يتقاطع في هذا المُركّب السّردي الطّويل، بعض الشّيء، اختباران اثنان؛ اختبار «طولا» الّذي شرحناه في المقطوعة السّابقة، واختبار يوسف الرّئيس، هو أيضاً، الّذي يُثبت فيه أهليّته لأن يكون ذاتاً باحثةً وراغبةً تثابر وتكدّ لتحقيق هدفها، وأحقيّته بالاتّصال بموضوع القيمة بعد أن يُفرّط فيه.

2 _ 5 .المقطوعة الخامسة:

تحتوي هذه المقطوعة، كسابقاتها، على ثلاث وحدات سرديّة، هي:

الانفصال: وهو نوعان؛ انفصالٌ فضائيٌّ يتمثّل في هروب «طولا» ويوسف من الغار، بواسطة فرسٍ، قاصديْن الدّيار. وانفصال الغول عن «طولا»؛ موضوعِ القيمة الّذي يخرج بحثاً عنه مُلاحِقاً إيّاه و«الغريب» الّذي سلَبهُ. لكنّه في كلّ مرّةٍ يدنو من القبض عليهما، يُبطِئانه برمي بعض أشيائه؛ فيأخذها الواحد تلو الآخر ويُرجِعها إلى الغار، إلى أن يكفّ عن مطاردتهما.

التّعاقد:  في أثناء عجزه عن اللّحاق بـ «طولا» ويوسف، ينصحهما الغول بعدم الاقتراب من طائريْن أبيضيْن متشابكيْن والفصل بينهما، لأنّ ذلك الصّنيع سيُعرِّضهما لخطرٍ جسيمٍ. وهي نصيحة تجري مجرى التّعاقد الإلزامي الّذي يربط بين معتدٍ لا يمتلك قدرةً بدنيّةً فحسب، بل يتميّز بقدرة معرفيّة تجعله يتنبّأ بمآل «طـــولا» ويـــوسف مثلــما تنبّأ بولادة بنتٍ لها سنٌّ خضراءُ، وبين ضحيّة وبطل يجهلان ما سينتظرهما من نوائب ومُلِمّات.  

الاختبار:  إذا كان اختبار يوسف، في المقطوعة السّابقة، اختباراً رئيساً هدفه إصلاح الإساءة الّتي لحقت بابنة عمّه بتحريرها من قبضة الغول، فإنّ اختباره، في هذه المقطوعة، إنجازٌ لم يحتكِم فيه البطل إلى الرّويّة والتّبصّر وإعمال الذّهن، حيث يؤدّي فصله بين الطّائريْن ليس إلى فضّ ما يقع بينهما من عراك، إنّما إلى حدوث إساءةٍ جديدةٍ يكون هو ضحيّتها. ومن ثمّ، فإنّ هذا الاختبار تأهيليّ يميط اللّثام عن دماثة أخلاق يوسف، لأنّه تناسى، ولم ينسَ، نصيحة الغول وأبى إلاّ أن يُصلِح ما فسد بين الطّائريْن. ومن شأن هذا الاختبار أن يُرشّح المُرسِل - المُرسَل إليه - الذّات لا إلى خوض الاختبار الرّئيس، كما تقتضيه سيرورة الوحدات الإنجازية (الاختبار التّأهيلي فالاختبار الرّئيس ثمّ الاختبار التّمجيدي)؛ فمثلُ ذلك الاختبار قد انقضى زمنه بالانتصار على الغول وإصلاح الإساءة، ولكن لكيْ يُتعرّف عليه ويُمجَّد في نهاية الحكاية؛ فهو أهلٌ لذلك وحقيقٌ به.

2 _ 6 .المقطوعة السّادسة:

الانفصال: تتعدّد أنواع الانفصال، في هذه المقطوعة، نتيجــة الإســـاءة؛ فهناك انفصال يوسف عن موضوع القيمــة المتمثّل فـــي الحياة إثر ابتلاعه من أحد الطّائريْن، وانفصاله، من ثمّ، عن موضوع القيمة والبحث والرّغبة الــمتمثّــــل فـــي «طــــولا»، وانفصــــال «طــــولا» عـــــن يـــوســـــف، وانفصالها عن المكان (الّذي لا تسمّيه الحكاية) الّذي يشهد الإساءة واتّصالها بالدّيار.

التّعاقد:  يتمّ التّعاقد بين «طولا» المتنكِّرة في جلد كلبة يوسف ويوسف القابع في أحشاء أحد الطّائريْن وبين بعض النّاس الّذين يسمعون شكواهما وتحاورهما، في اللّيل، حول كيفية تخليص يوسف من أسره؛ إنّه تعاقدٌ أقرب إلى الالتماس الّذي يتوجّه به يوسف إلى «طولا» ويتلقّفه بعض أولئك النّاس، حيث يقول لها: «قولي لأبي ينحر ناقةً، ويترك لحمها للطّيور... ويتربّص بطائريْن أبيضيْن؛ فيتركهما يأكلان حتّى يشبعا ولا يقدران على الحركة، وهنا يبدأ في ضربهما وهو يقول: ضعا ما أكلتما، ولا يستجيب لهما إذا قالا له: نضعه أعوراً أو أعوجاً»(9).

الاختبار:  يستجيب النّاس، أو بعضهم، لالتماس يوسف ويضطلعون باختبارٍ رئيسٍ تكون نتيجته إصلاح الإساءة بتحريره من أحد الطّائريْن.

2 _ 7 .المقطوعة السّابعة:

 تتكوّن هذه المقطوعة الأخيرة من الوحدات السرديّة الثّلاث الآتية:

الانفصال: ويمثّله انفصال يوسف عن موضوع الموت واتّصاله بموضوع الحياة وخروجه من أحشاء الطّائر في صورة سويّة.

التّعاقد الأوّل: وهو تعاقد ترخيصي، حيث يطلب يوسف من أبيه السّماح له بالزّواج من «طولا»؛ فيقبل الأب على مضض، ذلك أنّه يستغرب زواج ابنه من كلبة.  

الاختبار الأوّل: يمثّـــل الزّواج، في هــــــذه المقطـــــوعة، تتويجــــاً لمســــــارٍ طــــويلٍ مـــن المخــــاطـــر والمصـــاعـــب الّـــتـــــي يواجهها البطل والضّحية؛ فهو اختبار تمجيديّ يتمّ التّعرُّف reconnaissance فيه على يوسف الّذي لا يألو جهداً لإصلاح الإساءة الّتي تتعرّض لها «طولا»، ويتمّ فيه، كذلك، تجلّيهما transfiguration في صورةٍ بهيّةٍ وقشيبةٍ، حيث تقول الأَمَة حين تراهما: «لالة قمرة وسيدي هلال». إنّ الزّواج، بوصفه اختباراً تمجيدياً، يعبّر عن إعادة اللّحمة بين «طولا» ويوسف بعدما تفرّقهما المحن والنّوازل، ولا يعبّر عن عقد جنسيّ أو قانونيّ أو مناورة من أجل الارتقاء الاجتماعي أو أداة لاكتساب السّلطة (10)، مثلما يفترضه مآل التّعاقد الّذي يربط بين إرادتيْن تراتبيتيْن؛ إرادة اجتماعيّة تمتاز بالقوّة والسّلطة يمثّلها الأب أو الأمّ أو الملك أو الأميرة أو الحاكم أو زعيم القبيلة أو القرية، وإرادة فرديّة تمتاز بالخضوع والطّاعة وتتطلّع إلى الرّفعة والسّؤدد يمثّلها البطل الباحث.    

التّعاقد الثّاني: يثير زواج يوسف بـ «طولا» غيرة ابن عمّه الّذي يرغب، هو الآخر، في الزّواج من «طولا»؛ فيُشكِّل تعاقداً ترخيصياً مع أبيه يهيّئ له إمكانَ الظّفر بابنة عمّه.  

الاختبار الثّاني: ترغب «طولا» عن الزّواج بابن عمّها الّذي يمثّل دور البطل المزيّف. وحتّى وإن كانت الحكاية تسكت عن سرد مسار هذا البطل، فإنّنا نفترض، كمرويّين لهم أو كقرّاء، أنّه يتربّص بالبطل الحقيقي ويكيد له كعادة هذا الصّنف من الأبطال. وقد تفي مفردة «غيرة» بغرض الدّلالة على موقف العِداء الّذي يتّخذه البطل المزيّف حيال ابن عمّه يوسف. ومن شأن ذلك أن يجعله مذموماً وحقيراً في مجتمعه وغير مرغوبٍ به من قِبَلِ «طولا» الّتي تعمِد إلى الفتك بابن عمّها يوسف، الّذي لا تروم التّجلّي في صورتها الآدمية سوى معه، واستقرارها في أحشائه، وهي متنكّرة في صورة كلبة؛ فهي ترغب في الاقتران معه إلى الأبد، حيث ترمز الأَمَة إلى ذلك بقولها: «لالة داخلة في قنار سيدي».

خلاصة:

تُظهِر هذه القراءة السيميائيّة السّردية لحكاية «طولا» أهميّة مفهوم الوحدة السّردية في تحليل المُركَّبات السرديّة الّتي تؤلّف هيكل الحكايات. هذه المُركَّبات الّتي تشكّل نسقاً مُستقلاًّ من الوحدات  تكوّن مقطوعةً يُمكِن أن تشتغل كحكايةٍ قائمةٍ بذاتها، لولا حدوث بعض الأفعال في نهاية المقطوعة تؤدّي إلى ظهور مقطوعةٍ جديدةٍ ؛ ففي كلّ مرّةٍ يحصل الإخفاق في الاختبار، أيّاً كان نوعه، أو الإساءة في مقطوعة سابقة، تنشأ جملة من الوحدات والوظائف لتؤلّف مقطوعةً لاحقةً. وهكذا، نُلْفي أنّ إخفاق الأمّ في الحفاظ على ابنتها يُنتِج المقطوعة الثّانية. وأنّ فشل «طولا» ويوسف في التّفاعل الإيجابي مع أمر الغول يُفضي إلى ظهور المقطوعة الثالثة. وأنّ إخلال «طولا» بالتزامها مع الغول يؤدّي إلى تشكّل المقطوعة الخامسة، على الرّغم من نجاح يوسف في الاختبار الرّئيس في المقطوعة الرّابعة الّتي تتزامن مع المقطوعة الثّالثة. وكان يُمكِن أن تنتهيَ الحكاية برجوع «طولا» ويوسف إلى الدّيار، لولا بروز الإساءة في خاتمة المقطوعة الخامسة الّتي تولّد المقطوعتيْن السّادسة والسّابعة المُتسلسلتيْن تسلسلاً منطقياً، من حيث إنّ الزّواج، الّذي يُفترَض أن تنتهي به الحكاية الخرافيّة، ينبغي أن يكون مناسبةً للمّ شمل شخصيتيْن ارتبط مصيرهما منذ أن انفصلا عن الفضاء الأليف والحميم؛ فيُجلّيهما، معاً، ويؤلّف بينهما في نهاية المطاف.

وتقصّ الحكاية مساريْن سردييْن متقاطعيْن؛ مسار البطلة الضحيّة وهي «طولا» الّتي تتعرّض للاختطاف والمطاردة والتّحوّل، ومسار البطل الباحث وهو يوسف الّذي يبادر بالفعل ويركب الأهوال ويتحدّى الشّدائد. ومن ثمّ، تمثّل «طولا»، بحسب النّموذج العاملي الّذي وضعه غريماس وأوجز فيه الأدوار القائمة على دوائر الأعمال الّتي تنهض بها الشّخصيات لدى بروب، عامل الموضوع، بينما يمثّل يوسف عامل الذّات. ولكنّ هذا التّصنيف العاملي للشّخصيتيْن وللشّخصيات الأخرى لا يحول دون أن يجسّد الممثّلون acteurs عوامل أخرى تتعدّد بتعدّد المقطوعات السّردية؛ فـ «طولا» ويوسف يمثّلان عامل المساعد حين يُظاهران نفسيْهما ويُظاهر أحدهما الآخر إثر ملاحقة الغول لهما، بل إنّ الغول، أيضاً، يمثّل هذا العامل حين ينصحهما بأنّ لا يفصلا بين الطّائريْن اللّذيْن يجسّدان مع ابن عمّ يوسف، بالمقابل، عامل المعارض. كما يمثّل النّاس والعجوز والغراب والفرس عامل المُساعد ليوسف بوصفه ذاتاً.

ويكــــاد يــــوســــف يجسّــــد العـــوامـــل كلّهــــــا؛ فهـــــو الـــــــذّات والمُرسِل والمُرسَل إليه والمساعد. ممّا يوحي بأنّ حكاية «طولا» تعبّر عن هيمنة النّسق الثّقافي الذّكوري في المجتمع الجزائري. وهنا، بالذّات، تكمن الخصوصية الثقافيّة للحكايات الخرافية، عامّة، والحكايات الخرافية الجزائرية، على وجه الخصوص، في مقابل كونيّتها من حيث ائتلافُها في الوحدات السّردية الّتي تصيّرها حكايةً واحدةً تتنوّع رواياتها لدى شعوب العالم؛ فالحكاية، فضلاً عن أنّها تُنزّل الأحداث في واقع ثقافي معيّن من خلال بعض الإشارات والعلامات من قبيل أسماء العلم (يوسف مثلاً)، تعرض العلاقات الاجتماعيّة السّائدة في المجتمع الجزائري، بين الرّجل والرّجل من جهة، وبين الرّجل والمرأة من جهة أخرى؛ فإذا كانت العلاقة بين الرّجل والرّجل علاقة احترام وتواصل، على الرّغم من أنّها تراتبية وسلطوية، كما يعكسه التّعاقدان التّرخيصيان اللّذان يجمعان يوسف وأباه من ناحية وابن عمّه وعمّه من ناحية أخرى حول موضوع الزّواج، فإنّ العلاقة بين الرّجل والمرأة هي علاقة تتجلّى فيها التّراتبية والسّلطوية بصورةٍ أوضح؛ إذ إنّ العلاقة، هنا، تتأسّس على الاختلاف في الجنس الّذي يجعل ممارسة الفعل والأمر والنّهي والتّرخيص والقَبول والرّفض وقفاً على الرّجل، مثلما يعكسه التّعاقد التّرخيصي و / أو الائتماني بين يوسف وأمّ «طولا» الّذي بدا فيه الأوّل عازماً ومُصرّاً، على الرّغم من حداثة سنّه، وبدت فيه الثّانية غير قادرة على المعارضة. في حين، يختصّ المرأة بالضّعف والشّكوى والأنين والطّاعة والخنوع، مع التّفاوت بين الحرّة والأَمَة (العبدة)، أو بممارسة القول، على الأكثر، من خلال تقديم النّصيحة، مثل العجوز. إنّ الاختلاف أبديٌّ بين الرّجل والمرأة، وبين العقل والانفعال، وبين المركز والهامش. 

 

الهوامش:

1 – يشيع تداول هذه الحكاية بين سكّان مدينة «قير» بالعبادلة بولاية بشّار، وهي ولاية تقع في الحنوب الغربي من الجزائر. صنّفها عبد القادر بن سالم في كتابه الأدب الشّعبي بمنطقة بشّار. ثمّ ضمّها مجموعة من الباحثين إلى كتاب قاموس الأساطير الجزائريّة، وهو بحثٌ قدّمته فرقة البحث في إطار البرنامج الوطني للبحث الموسوم السّكان والمجتمع بإشراف المركز الوطني للبحث في ما قبل التّاريخ والأنثروبولوجيا والتّاريخ. يُنظَر: مجموعة من الباحثين: قاموس الأساطير الجزائريّة، منشورات مركز البحث في الأنثروبولوجية الاجتماعيّة والثّقافيّة crasc، وهران (الجزائر)، د. ط، 2005.

2 – Algirdas Julien Greimas: « Sémantique Structurale; Recherche de Méthode », Larousse, Paris, 1966, p 194.

3 – Algirdas Julien Greimas: « Du Sens; Essais Sémiotiques », Seuil, Paris, 1970, p 191.

4 – Algirdas Julien Greimas: « Sémantique Structurale; Recherche de Méthode », p 196.

5 – Algirdas Julien Greimas: « Du Sens; Essais Sémiotiques », p 253.

6 – المرجع نفسه، ص 234.

7 – الحكاية، ص 86.

8 – Vladimir Propp: « Morphologie du Conte », Seuil, Paris, 1970, p 72.

9 – الحكاية، ص 87.

10 – Joseph Courtés : «Introduction à la sémiotique narrative et discursive; méthodologie et application», Hachette, Paris, 1976, p 137.

الصور:

1-www.i.ytimg.com/vi/rfXmcZFI6Ps/maxresdefault.jpg

أعداد المجلة