التراجيكوميديا في ألف ليلة وليلة دراسة في تداخل الأنواع الأدبية
العدد 32 - أدب شعبي
لا يعوز المدقق في كتاب ألف ليلة وليلة وما أثير حوله من جدل القول بأنه من الكتب التي أثارت - بجلاء- إشكاليات متنوعة إنْ من حيث الشكل وإن من حيث المضمون. وهذا ما أدَّى إلى شغف الدارسين - في الثقافات كافة - بترجمته ودراسته من نواح متنوعة وفي تخصصات عديدة يصعب حصرها.
ومن الجليِّ لمتابعي الحركة النقدية التي سادت حول هذا الكتاب أنَّ الدارسين قد سلكوا في دراسته أحد توجهين أساسيين: ينحصر أولهما، فيما يمكن أن يسمى بالتوجه التاريخي في دراسة هذا الكتاب؛ وهو توجه سعى، في محاوره المتنوعة ، إلى الكشف عن تاريخية الكتاب وجذوره، ونوعية الحضارات التي أسهمت في تبلور مضامينه: كالحضارات العربية والفارسية والهندية. أما التوجه الثاني في دراسة هذا الكتاب فقد دار حول محورين أساسيين: يتجليان في البحث عن ماهية الشكل الأدبي الذي ينتمي له الكتاب من ناحية، والسعي لتحليل المضامين والموضوعات الجوهرية التي تناولها صائغ الكتاب من ناحية ثانية.
وتعدُّ هذه الدراسة واحدة من الدراسات التي تنشغل بالبحث عن ماهية النوع الأدبي الذي يمكن تصنيف ألف ليلة وليلة من خلاله، هادفة إلى التوصل لماهيته عبر مدخل جديد، يستهدف الكشف عن طبيعة البنى المتداخلة للتراجيديا / المأساة والكوميديا في الليالي، وهو ما سُمي في النقد الغربي القديم بالتراجيكوميديا، وأطلق عليه في النقد الغربي الحديث الكوميديا المعتمة أو السوداء.
وتروم الدراسة - راغبةً في الكشف عن هذا الشكل القائم على التداخل في الليالي- الإجابة عن عدَّة تساؤلات أو استفهامات تحيط بهذا الموضوع، وهي:
كيف يمكن إعادة النظر في نظرية الأنواع الأدبية بناء على هذا الطرح الجديد، الذي يسعى لتوسيع دلالات واستخدامات المصطلحات النقدية، ولا سيما مصطلح التراجيكوميديا؟
ما العناصر التراجيدية أو الدرامية - بالمعنى المعاصر - التي تحويها بعض حكايات الليالي؟
ما العناصر الكوميدية التي تجلت في الحكايات نفسها؟
ما التقنيات والأساليب المستخدمة في المزج بين المأساوي والكوميدي في هذه الحكايات؟
وهي أسئلة تهدف - عبر الإجابة عنها - إلى التحقق من الفرضية الأساسية التي قام عليها البحث، والتي ترى أن عددًا من حكايات الليالي - ولا سيما الحكاية الإطارية - قد اتخذت من الشكل التراجيكوميدي - بمعناه الواسع - إطارًا لها، يمكن من خلاله تحديد هوية النوع الذي صيغت من خلاله كثير من حكايات الليالي.
1. بدا جليًا للمشتغلين بالحركة النقدية بوجه عام وقضية تقسيم وحدود الأنواع الأدبية بوجه خاص مدى الأثر الذي تركته نظريتا أفلاطون وأرسطو على مجمل التفكير النقدي الكلاسيكي التقليدي والمحدث معًا. وقد تمثل التأثير الأساسي لهما معًا ولأرسطو خاصة في الدعوة إلى ما سُمِّيَ نقديًا بصفاء أو نقاء الأنواع الأدبية؛ وهي دعوة تهدف في مجملها إلى وضع حدود صارمة يمكن من خلالها تعريف كل نوع أو شكل أدبي، وهي حدود يُمنَع من خلالها أىّ تداخل أو تجاور لشروط نوعين أو شكلين أدبيين معًا.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنَّ أرسطو- صاحب التأثير الأعمق والأوسع نطاقًا في النقاد الكلاسيكيين- كان أكثر صرامة في تطبيق هذه الحدود والشروط من أفلاطون، وهذا تمكن ملاحظته بوضوح «عند مقابلة نظامي الصيغ عند كلٍّ من أفلاطون وأرسطو أن حلقة قد أفرغت فتلاشت: فلقد حلَّت محل الثلاثية الأفلاطونية:
السردي المزدوج الدرامي
الثنائية الأرسطوطالية التالية:
السردي الدرامي(1)
وقــــــد اتخــــــــــــذت التأثيـــــــــرات التـــــــــي أحــدثــهــــا حــــــذف أرسطـو للمزدوج من أنظمة الصيغ الأدبية شكلين أساسيين:أولهما، إخراج الكوميديا من قائمة الأشكال الأدبية الأساسية؛ إذ «ساد الاعتقاد بأنَّ المأساة والملحمة هما النوعان المتميزان، بل والرئيسان»(2). وقد ترتب على ذلك - أيضًا - قصر أرسطو ومن بعده هوراس هذين الشكلين/النوعين على الأدب الرسمي دون الأدب الشعبي(3).
وقد ظلت هذه التأثيرات تلاحق النقاد حتى ظهور الكلاسيكيين الجدد، أولئك الذين دعموا أفكار أرسطو بوضعهم الكوميديا في رتبة أدنى منزلة من التراجيديا ضمن منظومة الأنواع الأدبية، وهو ما انعكس - أيضًا - على وظيفة الكوميديا لديهم؛ فأصبحت - من وجهة نظرهم - لا تعبر إلا عن الطبقة الدنيا، دون العليا التي تكفَّلت التراجيديا بالتعبير عنها(4).
وكان من شأن استمرار هذه النظرة للأجناس الأدبية حتى منتصف القرن التاسع عشر أن «وقفت عائقًا صلدًا أمام المدافعين عن فكرة تداخل الأنواع»(5)، وهو ما انعكس - بوجه خاص - على رفض تداخل العناصر التراجيدية/ الدرامية مع العناصر الكوميدية، ولا سيما أن «استهجان أرسطو للنهايات السعيدة أدَّى إلى إضعاف شرعية هذا النوع»(6).
وقـــد مثـلــت بــدايــة القــرن العشــرين نقطــة تحـــول محورية في إطار الحديث عن نظرية الأنواع الأدبية؛ حيث بدأ الحوار النقدي عن هذه القسمة التقليدية الأرسطية الكلاسيكية للأجناس الأدبية يتخذ منحى مغايرًا؛ حيث بدأ النقاد المحدثون في رفض هذه النظرة المجحفة - من وجهة نظرهم - معلّلين رفضهم بتضاؤل مركزية مفهوم النوع الأدبي؛ إذ «أن التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا. فالحدود بينها تُعبرُ باستمرار، والأنواع تخلط أو تمزج، والقديم منها يترك أو يُحوَّر، وتخلق أنواع جديدة أخرى إلى حدٍّ صار معها المفهوم نفسه موضع شكٍّ»(7).
ومذ بدأت هذه النظرة المغايرة لطبائع الجنس أو النوع الأدبي في الذيوع والانتشار، فإن العديد من المفاهيم والتعريفات المتنوعة بل والمتباينة للجنس الأدبي قد بدأت في الظهور، لكنها نحت في معظمها تجاه فكرة رفض وضع حدود أو ضوابط صارمة لكل نوع أو شكل أدبيٍّ بعينه. فرغم رؤية رينيه ويلك للنوع الأدبي كمؤسسة لها تقاليد إستاطيقية محددة، إلا أنه عبَّر - في الآن ذاته - عن إمكانية أن يخلق الناقد من هذه المؤسسات» مؤسسات جديدة، كما يستطيع أن يلتحق بها ثم يطورها»(8)، ويضحى الجنس الأدبي - عبر التطوير في التقاليد الإستاطيقية المستقرة - دون « وعاء يحد حدود الموضوع الأدبي الخارجية. إنه الخارج والباطن في تواشج وتضاد»(9). مما يجعله - بعد هذا كله - معطى متغيرًا «نتيجة لتغير العلاقات بين الأنساق المكونة لذلك النوع أو الجنس. ولذلك فمن غير المجدي إقامة أيِّ تصنيف أجناسيٍّ صارم، لأيِّ نوع من الأجناس الأدبية»(10).
وبناء على تغير وجهة النظر تجاه ماهية وحدود الأجناس أو الأنواع الأدبية، فإن ثمة نتيجتين على درجة من الأهمية قد ترتبتا على ذلك، وهما:
أولاً: تغير وجهتي النظر النقديتين الغربية والعربية تجاه مسألة تهميش الأدب الشعبي؛ وإن كان التحول أو التغير العربي جاء متأخرًا - زمنيًا - عن الغرب، وذلك بعد الدور الذي قام به محمد علي في إحداث هذا التغيير والتحويل على عدَّة مستويات(11). وقد ترتب على هذه التغيرات والتحولات «اتجاه بعض الإبداعات الكلاسيكية نحو الاستفادة من الشفاهيات، وإنْ اتسمت - أحيانًا - بعدم التجانس»(12).
ثانياً: ظهرت وجهات النظر النقدية المحدثة التي تقبل بفكرة احتواء الأعمال الأدبية على عناصر أو شروط أكثر من جنس أو نوع أدبيٍّ، دون وجود محددات صارمة تمنع طبائع هذه التداخلات النوعية. فبعد رفض جيرار جينت للقسمة الكلاسيكية للأنواع، تلك التي تمنح سمة الخلود لأنواع أدبية بعينها، تجلت وجهة نظر نقدية لروبرت ياوس، وهي تقبل- في مجملها - مسألة تداخل الأجناس الأدبية، وترفض تحديد عناصر شكلية أو مضمونية قطعية في تحديد ماهية أىِّ جنس أو نوع أدبيٍّ. حيث دعا ياوس - بوضوح - إلى دراسة « الأجناس من وجهة نظر آنية، وهي نظرة تشترط أساسًا ألَّا يستند تعيين الحدود، وتحديد أوجه التمايز، إلى خصائص شكلية أو مضمونية صرف»(13).
واشترك تودروف في وجهة النظر النقدية نفسها مع ياوس؛ فرفض أن ينتمي النوع الأدبي لذاته فحسب، مؤكدًا على «أنه من الوهم الاعتقاد أن العمل الأدبي يوجد وجودًا مستقلاً؛ فهو يظهر داخل عمل أدبي، تسكنه مؤلفات قد وجدت من قبل، وهو يندرج في هذا العالم. فكل عمل فنىٍّ يدخل في علاقات معقدة مع مؤلفات الماضي التي تشكل حسب الفترات تراتبات مختلفة»(14). وقد نتج عن هذا بدوره ظهور دعوة رينيه ويلك، التي عبر من خلالها عن ضرورة تفتيت الأنواع الأساسية إلى أجزائها المكونة، وذلك كي يتمكن الناقد من التوصل إلى كنه نوعها الدقيق(15).
2 . لقد بذل النقاد جهودًا نقدية واضحة طيلة قرون في محاولة تفسير تلك الظاهرة التي تشير إلى احتواء الأعمال الأدبية على عناصر مأساوية وعناصر ملهاوية معًا. وقد انعكست هذه الجهود على تحديد ماهية التراجيكوميديا كمصطلح نقدي يمكن من خلاله توصيف هذه الظاهرة.
وكانت هذه الجهود النقدية قد واجهت بعض العقبات في سبيل وصف هذه الظاهرة؛ وهي عقبات نبعت نتيجة لسببين رئيسين:
أولهما في سيطرة النظرية الأرسطية الكلاسيكية على تشكيلات منظومات الأنواع الأدبية على مدى قرون، وهو ما نتج عنه عدم قبول مثل هذه المصطلحات التداخلية العابرة للنوع، تلك التي تجمع بــين نــوعين أدبيــين، والمقصــــود هنـــا مفهــــوم التــــراجيكوميديا على وجه الخصوص.
أما السبب الثاني الذي أثَّر بالسلب على تأصيل وترسيخ مفهوم التراجيكوميديا ضمن منظومة النقد الأدبي، فقد تمثل في إهمال النظرية الأرسطية الكلاسيكية الملهاة أو الكوميديا- عمدًا أو عن غير عمد - في حديثها عن الأصناف أو الأجناس الأدبية الأساسية، وقد أدّى هذا بدوره إلى استبعاد جزء أصيل من مكونات مفهوم التراجيكوميديا، وأصبحت مبررات وجود هذا المفهوم مضاعفة الصعوبة، إنْ من حيث رفض التداخل بين الأجناس من ناحية، وإنْ من حيث إهمال جزء أساسي من مكونات هذا النوع من ناحية ثانية.
ويبدو أن أزمة مفهوم الكوميديا كانت أسبق في الوجود زمانيًا وماهويًا لدى النقاد، خاصة، أنها تمثل نوعًا أدبيًا قائما بذاته، ومفتقدًا للضوابط والشروط المتكاملة التي نالها مفهوم التراجيديا في النظرية الكلاسيكية.
وكانت النتيجة التي ترتبت على ذلك، هي أن سعى النقاد إلى استنطاق كتاب أرسطو ما لم يقله عن الكوميديا، معولين على كلمات قليلة أدلى بها عن الكوميديا، معرفًا إياها بأنها «محاكاة لأشخاص أردياء، أى أقل منزلة من المستوى العام. ولا تعني الرداءة هنا كل نوع من السوء والرذالة، وإنما تعني نوعًا خاصًا فقط، هو الشيء المثير للضحك بأنه الشيء الخطأ أو الناقص الذي لا يسبب للآخرين ألمًا أو أذى»(16).
وتعويلاً على هذه الكلمات، بدأ النقاد يعرفون الكوميديا عبر آليتين أساسيتين: تمثل آلية الاستنطاق أولاهما، بينما يمكن إطلاق مسمى آلية التضاد على ثانيتهما. أما المقصود من الآلية الأولى، فهو ذلك المسعى الواضح لمحاولة استنطاق هذه الكلمات الأرسطية القليلة، في سعي لسد الثغرات أو الفجوات التي أحاطت بمفهوم الكوميديا الأرسطي من ناحية، ومحاولة إكمال جوانب النقص التي يمكن من خلالها تحديد هوية النوع الكوميدي من ناحية أخرى. أما الآلية الثانية، فإن المقصود بها هو محاولة بعض النقاد تعريف الكوميديا عبر تبني رؤى مناقضة ومتضادة مع ما أدلى به أرسطو عن التراجيديا.
وبناء على هاتين الآليتين، جاء تعريف لين كوبر للكوميديا بأنها «محاكاة لفعل مشوه، ومثير للضحك، وله طول معين وتام في ذاته، في لغة مشفوعة بكل أنواع التزيين، ويمكن أن ترد تلك الأنواع على انفراد في أجزاء مختلفة من المسرحية. وتتم هذه المحاكاة عن طريق أناس في شكل درامي، لا في شكل سردي. ومن خلال المتعة والضحك، يحدث التطهير من مثل هذه الانفعالات وضحكها من أصلها، وكما ينشأ الضحك عن اللغة ينشأ أيضًا عن الأشياء المعبر عنها....إلخ»(17).
والآليات نفسها هي ما جعلت نورثروب فراي يربط - في تعريفه للكوميديا- بينها وبين السخرية؛ فهي تعني لديه «وسيلة فنية يظهر فيها الشخص نفسه أقل مما هي عليه، وهي في الأدب وسيلة لقول أقل ما يمكن وتحميل ذلك القول أكبر ما يمكن من المعنى، وبتعبير أكثر عمومية، تعتبر السخرية نظامًا من الكلمات يتجنب القول الصريح، وينكر المعنى الواضح لما يقول»(18).
وما تمكن ملاحظته من تعريف أرسطو أولاً وهذه التعريفات ثانيًا، هو أن ثمة سلبيات قد نتجت عن تلك التأثيرات الأرسطية لمفهوم الكوميديا: أولها، الترسيخ الواضح من أرسطو لمفهوم نقاء أو صفاء الأنواع - ولمرة ثانية - بعد تعريفه للتراجيديا؛ حيث فرّق أرسطو بشكل قطعي في هذه الكلمات الوجيزة بين ما تحويه التراجيديا من عناصر وما تحويه الكوميديا من العناصر ذاتها.
أمــــا السلـبية الثانيـة، فقـد تجلـت فــي أن هذه التخمينات والموازنات التي عقدها اللاحقون على أرسطو في تعريفهم للكوميديا قد تسببت في فقدِ حقيقة الكوميديا من جانب(19)، بينما أدَّت لتضييق المفهوم الخاص بالكوميديا -بجلاء- من جانب ثان(20).
ويلحـــظ بــوضــــوح - ولا سيــــمــا للمــــتابعــــين لــحـــركة المصطلحات النقدية - أن تلك السلبيات التي أحاطت بمفهوم الكوميديا، كانت قد انعكست سلبًا - أيضًا - على تشكل مصطلح التراجيكوميديا في إطار صيرورة المصطلحات النقدية. ولا سيما إذا ما اقترن ذلك بالمأزق الذي وجد فيه منظرو حركة الأنواع الأدبية أنفسهم نتيجة وجود أعمال أدبية، تمتد زمنيًا إلى العهد اليوناني(21)، وتضم جماليًا ما يمكن أن يتصل بالعناصر التراجيدية والمقومات الكوميدية معًا.
وإزاء هذه الإشكالية المنهجية التي تسببت فيها الرؤية الكلاسيكية للمصطلحات النقدية، لم يجد النقاد وسيلة لتعريف أو وصف هذا النوع من الإبداعات الأدبية التي تحوي بعضًا من عناصر النوعين، سوى الاعتماد على وسيلتين:
الوسيلة الأولة: تتمثـــل في اتخــاذ موقـــف سلــبي تجــاه فكــرة صفــاء أو نقــاء الأنــواع التي رسخ لها النقد الكلاسيـــكي، ولـــم يقـــرها واقــع الأعمــال الأدبيــة مــنذ عهد بعيد.
الوسيلة الثانية: فقد تجلت في سعي النقاد للجمع بين شروط النوعين في تعريفاتهم للتراجيكوميديا؛ إذ يصعب إيجاد وسيلة أخرى للخروج من التضييق الأرسطي، أو وصف الظاهرة التي برزت في كثير من الأعمال الأدبية الإبداعية.
2_1. لقد اتجه جلُّ النقاد عدة توجهات جوهرية في محاولاتهم لتعريف التراجيكوميديا: أما التوجه الأول، فقد اعتبرها عملاً كوميديًا تخللته أحداث مأساوية، وقد اعتُبرت لدى أصحاب التوجه الثاني مأساة منتهية نهاية كوميدية أو سعيدة، وقُدِّمَت لدى أصحاب التوجه الثالث على أنها أعمال إبداعية مأساوية نسجت بطريقة مخففة أو كوميدية.
وانبــــثاقًــــــــا مــــــــن هــذه التــــــوجهـــات، فقـــــــد عُـــــرفـــــت التراجيكوميديا من قبل لوسيانو جارسيا بأنها «نوع من أنواع التجاور بين شروط المأساة والكوميديا معًا»(22). وتدعم ألان برات هذا التوجه في تعريفها التراجيكوميديا؛ فتصف هذا النوع «بأنه نوع من الفكاهة التي تتناول الضحك حول الجانب الأكثر سوادًا في الحياة: كالحزن واليأس، والشر والموت، أو الموضوعات المحرمة، مثل: الاغتصــاب أو القـــتـــل أو الانتـــحــار أو الـــتــشـــــويه»(23). وفي أطروحتـه عن التراجيكوميديا أعلن روبرت بروس عن وجهة نظـــره حـول مـاهية التراجيكوميديا؛ فعدَّها نوعًـــا من الأدب «لابــــد وأن يقوم على التضارب العنيف، والتهوين مند خطورة الأوضاع السيئة»(24).
ولم تفارق المعاجم والقواميس التي اهتمت بماهية التراجيكوميديا هذا النهج في التعريف؛ فعرَّفها قاموس أكسفورد للمصطلحات الأدبية بأنها عمل أدبي «يجمع بين عناصر المأساة والكوميديا؛ إما من خلال وضع نهاية سعيدة لقصة مأساوية محتملة، أم عبر مزج مركب للحالات المزاجية الخطرة والهينة»(25).
وقد استفادت القواميس والمعاجم العربية المتخصصة في الدراما من جلِّ هذه التعريفات؛ حيث وسمها قاموس المسرح بأنها «نوع مسرحي مشتق من التراجيديا؛ عبارة عن مسرحية تتناول قصة تراجيدية تنتهي نهاية غير سعيدة، ولكنها تتضمن عناصر كوميدية، واحتمالاً بعيدًا لنهاية سعيدة»(26). أمَّا معجم المصطلحات الـــــدرامــــيـة والمســــرحية، فـــقــد بــــرز أكثر توســـعًا وإلمــــامًا بعناصر التراجيكوميديا؛ فبعد أن أطلق عليها الملهاة القاتمة أو السوداء، وسمها بأنها تُصَوِّر «مفارقات الحياة وتناقضاتها، التي تحدث لأناس عاديين ليسوا أبطالاً بالمعنى التقليدي. كما أنَّ موضوع المعالجة يبدو أحيانًا واقعيًا في شكل متجهم وكالح، وأحيانًا أخرى يكاد يقترب من عالم الخيال البحت. كل ذلك في أسلوب ساخر متهكم. ومع أن هذا الأسلوب ملهوي الطابع، إلا أنه يثير الشجن بقتامته ومرارته. ومن هنا كان الضحك - المتولد عن ذلك - ضحكًا فاترًا، يندر أن يتجاوز السطوح إلى الأعماق. وقد ذكر الناقد جيه. إل. ستيان بعض سمات الملهاة القاتمة، منها: حمل المتفرج على المعاناة دون أن تفرج عنه الدموع، وحمله على السخرية دون أن يفرج عنه الضحك. السخرية عامل متحكم في إدارة الأحداث، البطل ملهوي ولكنه يثير الإشفاق، القتامة واليأس هما الطابع العام، التعليمية، إلخ»(27).
يبدو بهذا أن ثمة تشابهًا واضحًا في تلك العناصر والمقومات التي تشكل ماهية التراجيكوميديا لدى النقاد الغربيين والعرب. ولكن السؤال الجدير بالطرح الآن هو، هل يمكن تطبيق هذا المفهوم النقدي - الذي اقتصرت تطبيقاته في الممارسة النقدية على فن المسرح - على نصوص سردية تفارق في كثير من شروطها النوعية تلك الكتابات المسرحية التي تنتمي إلى نوع كتابي له سماته وحدوده المميزة؟ وهنا، تلزم الإشارة - بداية - إلى أن بعضًا من العقبات يمكن لها أن تكتنف تلك الممارسة النقدية التطبيقية، سواء من حيث تطبيق مفهوم التراجيكوميديا على النصوص السردية عامة أم من حيث تطبيقه على نصوص سردية لا تنتمي إلى الأدب الرسمي أو الفصيح بشكل خاص.
ولذلك، فإن إجراءات الدرس النقدي المنهجي تقتدي إعمال محاولة نقدية تقريبية، تستهدف محاولة التقريب ما بين هذا المصطلح وما بين نص الليالي. وترتكز تلك المحاولة التقريبية على رصد بعض التشابهات التي يمكن أن يلتقي فيها نص الليالي - باعتباره نصًا سرديًا غير درامي بالمعنى الأرسطي - مع هذا المفهوم الذي لم يطبق - على حد علم الدارس - علــى نصـوص سـردية، ولاسيـــما مـــا ينتمي منــها إلى التصنيــفات غيـر الرسـمية للأدب.
ويظهر أن عنصرين أساسيين يمكن من خلالهما رصد تلك المحاولة التقريبية ما بين النص والمصطلح: يتجلى أولهما في جانب اللغة والمؤلف (السمات الشعبية)، بينما يمكن حصر ثانيهما في ذلك الجانب الخاص بالهدف والأداء أو العرض الدرامي.
أما الجانب الأول الذي يتمثل في إطلاق صفة الشعبية على نصوص الليالي، وبالتالي يضع فارقًا منهجيًا بين النص ومصطلح التراجيكوميديا؛ وذلك لاحتواء النص على مجموعة من السمات اللغوية التي تفارق - نوعًا ما - الأدب الرسمي، بينما يفتقد النص - من ناحية أخرى - لاسم مؤلف، فإن هذا الجانب أو هذه المسلمة يمكن نقدها إذا ما قورنت سمات الكتاب نفسه بأهم خصائص ومميزات النصوص الأدبية الشعبية؛ حيث إن شهادة الكتاب نفسه ومعطيات الواقع الميداني لا تمنحان الثقة ولا الطمأنينة «إلى أن كتاب ألف ليلة وليلة كتاب شعبي بالمعنى العلمي الدقيق»(28).
وإذا ما أضيف إلى ذلك، أنه رغم تفريق الدرس النقدي بين مبدع الأدب الرسمي الفصيح وصائغ الأدب الشعبي، فإن الهدف العام لهما مشترك إلى حد بعيد، وهو تحقيق حاجة ما لدى جمهور المتلقين، فإن الحدود العامة - فيما يخص مسألة المبدع، ولا سيما في نص الليالي- بين مبدع الأدب الفصيح ونص الليالي تكاد تتقارب إلى حد كبير، خاصة أنه أصبح من المتفق عليه بين الدارسين أن كتاب الليالي «خضع في أزمان مختلفة لشخصية جامع قوية حور فيه، وأخضع أسلوب كثير من قصصه لأسلوبه»(29).
يضاف إلى هذا - من حيث الأسلوب - أن كثيرًا من السمات اللغوية والأسلوبية العامة لليالي لا تكاد تفارق كثيرًا من سمات الأدب الرسمي الفصيح؛ « فخير ما يمتاز به أسلوب ألف ليلة وليلة هو الوضوح والصدق والصراحة والجاذبية؛ فالمعاني تسبق الألفاظ إلى الذهن، والصور تسبق الوصف إلى الخاطر، والشوق يبعث اللذة ويثير الاهتمام ويحرك الانتباه، ويوثق صلة السامع أو القارىء بموضوع القصة»(30).
أمَّا من ناحية الهدف والأداء الدراميين؛ فإن ثمة عناصر يمكن من خلالها تكشف بعض المقاربات بين النصوص الدرامية، ونص الليالي السردي. ويعد الهدف من صياغة النوع وكيفيات إيصاله أول هذه العناصر التقاربية، أو التي يمكن اعتبارها من الأشباه بين الدراما المسرحية والليالي السردية؛ فكلا النوعين ما تشكل إلا لتحقيق حاجة لدى جمهور المتلقين، وذلك عبر بث رسائل بعينها تحوي مضامين، تتحدد تبعًا للهدف المراد تحقيقه منها. ويتحقق هذا بطبيعته عبر التلقي القرائي أو الشفاهي. أما التلقي القرائي فيمكن أن يشترك فيه النوعان - الدراما والسرد - على السواء، ولا سيما بعد أن دونت نصوص ألف ليلة وليلة، وأصبح من الممكن تلقيها عبر القراءة. أما الجانب الخاص بالأداء والعرض، وهو الجانب المميز والفارق - بجلاء - بين النص الدرامي المسرحي المعروض وما بين النص السردي المقروء، فإن مجموعة من السمات الأدائية والأسلوبية في النصوص السردية، ولا سيما الشعبية منها، يمكن لها أن تؤدي أدوارًا تتشابه في وظائفها الجمالية والتقنية مع تلك العناصر الخاصة بالحوار والعرض الدراميين المسرحيين، واللذين، يبرزان تلك الفوارق النوعية ما بين المسرح والنصوص السردية.
فمن ناحية العنصر الأدائي أو الخاص بعرض ومشاهدة النصوص الدرامية المسرحية، فإن ثمة مقاربة نوعية في هذه السمة مع الليالي السردية تمكن ملاحظتها؛ وذلك عبر سمة نوعية مميزة لنص الليالي، وهي سمة انتمائه في بداياته إلى نوعية الأدب الشعبي، الذي يعد الجانب الأدائي الشفاهي أحد الجوانب المميزة له. ويمكن فهم هذا بجلاء إذا ما وضِع في الاعتبار أن الحكايات التي شملها هذا الكتاب» كانت في الأصل من أسمار الليالي الشفاهية، وكان القصد يتجه أصلاً إلى إلقائها والاستماع إليها»(31)، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتوجب إدراك أن عنصر العرض أو المرئيات عُدَّ من وجهة النظر الأرسطية والكلاسيكية أَوْهَى العناصر الخاصة بالدراما المسرحية كنوع أدبي(32).
ويضاف إلي هذا أيضًا، أن نوعية السرد الذي تحويه الليالي في معظمها إنما تمكن نسبته إلى ما يطلق عليه السرد التمثيلي، الذي يسهم بدوره في تقديم معظم حوادث الليالي عبر التصوير البصري المباشر لها، وذلك بدلاً من إخبارها مسرودة للجمهور دون بنية تخيلية يمكن للمتلقي أن يعايشها. وهذا من شأنه تعويض انخفاض التوتر الدرامي في الليالي، ذلك الذي يخلقه الحوار الدرامي في المسرحية من ناحية، كما يسهم - من جانب آخر - في تعضيد هذا النهج التقريبي النوعي ما بين النصوص الدرامية المسرحية والنصوص السردية العربية، تلك التي تمثلت - هنا - في نصوص الليالي.
وبهذا، يظهر جليًا أن ألف ليلة وليلة من النصوص التي تستعصي على التعريف؛ إذ إنها أكبر من أن تحصر في شكل أو شكلين من الأجناس الأدبية، ورغم ذلك ، فإن أحدًا لا يمكن أن يتنكر لأدبيتها بوجه عام(33).
2_2. تعتبر مسألة المزج التراجيدي/ الدرامي الكوميدي - من وجهة نظر هذه الدراسة - أبرز تلك الخصائص النوعية التي يحويها نص الليالي، والتي يمكن من خلالها وسم الكتاب بما يوسم به أيّ نص ينتمي - ضمن منظومة الأنواع الأدبية - إلى ما يطلق عليه الأدب الرسمي أو الفصيح. وهو ما يمكن استجلاؤه من خلال تحليل بعض من حكايات الليالي، تلك التي تحمل في تشكيلها النوعي مزجًا واضحًا بين بعض من شروط كلا النوعين التراجيدي/ الدرامي والكوميدي.
لقد أعلن صائغ الليالي عن هدفه من صياغتها على هذا النحو منذ البداية، وهو «صرف الملك عن عمل شر بواسطة تلهيته بالحديث»(34). فإذا ما فُهِم - من القصة الإطارية - أن الإلهاء أو التسلية كانتا مقصودتين في حد ذاتهما، رغبة في إبعاد الملك عن الحالة المزاجية السيئة التي تسبب فيها عنصر الخيانة ومن ثمَّ منظومة القتل التي افتُتحت بها الليالي، فإن هذا تطلب بوضوح من صائغ الليالي - عبر راويته شهرزاد - السعي نحو تغيير تلك الحالة المزاجية المأساوية التي أحاطت بالملك. وقد فرض هذا تقديم نوع حكائي يحوي في طياته ما يمكن أن يؤدي إلى تغيير الحالة النفسية أو المزاجية للحاكم، فكانت الكوميديا التي قدِّمت مفعمة بجو مأساوي كئيب.
ورغم أن هذه الدراسة وجدت أن عددًا لا يستهان به من حكايات الليالي يمكن أن يصبح موضع دراسة لاحتوائه على مزيج تراجيكوميدي، مثل: حكايات علاء الدين أبي الشامات وجودر المصرية ودليلة المحتالة وحكاية الحشاش مع حريم بعض الأكابر وحكاية زينب النصابة، فإن حكايتين - بالإضافة للحكاية الإطارية - كانتا مناط الاهتمام في هذه الدراسة لاحتوائهما - بجلاء - على هذا النسج التراجيكوميدي. وهما حكايتا: مزين بغداد ومعروف الإسكافي.
3. يزاوج تحليل هذه الحكايات بين السعي للكشف عن السمات النوعية المميزة لطرفي التراجيكوميديا من جانب، كما يروم - من جانب آخر - تبيان تلك التقنيات التي أسهمت في تفعيل المزاوجة بين هذه السمات، مثل: التفريع الحكائي والمزاوجة الشعورية والتخفيف المأساوي والتأزيم الكوميدي والمزاوجة النوعية البنائية للحدث.
ظهر - جليًا - أن الحكاية الإطارية تمثل نموذجًا كاشفًا عن تجلي هذا المزج بين مجموعة من العناصر المأساوية والترويحية الكوميدية؛ فهي مأساوية في تشكيلها الإجمالي خاصة إذا ما تم النظر إليها بعيدًا عن خاتمتها التي تلت الليالي، وبعيدًا عن الحكايات الفرعية التي توسطت بين مقدمتها وخاتمتها، وهي تراجيكوميدية، إذا ما أضيف لبنيتها أيّ من الحكايات التي تفرعت عنها، أو أدمجت خاتمتها إلى تحليل ما تحويه بنيتها السردية.
ويرتكز تحليلها في هذه الدراسة على وجهة تخالف تقسيمات النقاد السابقين لهذه الحكاية؛ إذ تسعى هذه الدراسة إلى إدماج الخاتمة لأجزاء الحكاية ومكوناتها، بينما اتجه معظم من حللوها إلى تقسيمها لثلاثة أجزاء، دون النظر لهذه الخاتمة، وهو ما أدى بدوره إلى تركيز معظم الدارسين على مأساوية هذه الحكاية الإطارية دون الالتفات لما تقدمه نهاية الحكاية من أهمية، يمكن معها تغيير النظرة إلى بنية الحكاية المضمونية ومكوناتها الشعورية معًا.
اتفق تقسيم وتعامل كلٍّ من ليتمان وجرهارد فيشر مع الحكاية الإطارية؛ حيث قسماها إلى ثلاثة أجزاء:هي: قصة شاه زمان مع زوجته ثم قصة المارد ثم قصة شهرزاد، مع إغفال واضح لنهاية الحكاية(35)، وهو ما اتفق فيه معهما داوود سلمان الشويلي؛ حيث تعامل مع الحكاية الإطارية تعاملاً يشبه ما قام به ليتمان وفيشر(36).
ويتضح للمدقق فيما قامت عليه هذه التقسيمات من أسس، أنها تشكلت في معظمها من رصد العناصر والتفصيلات الجزئية التي تربط أجزاء الليالي، كما قامت - من ناحية أخرى - على محاولة الكشف عن الموضوعات التي سعت الليالي لمعالجتها.
ولذلك، فإن نظرة مغايرة يمكن التعامل مع حكايات الليالي من خلالها، وذلك عبر ربط البنى التجزيئية التفريعية لليالي اعتمادًا على ما تقدمه من عناصر ومشاعر مأساوية أو ملهاوية أو ممزوجة، كي تحقق الليالي من خلالها أهدافها الترويحية والخلقية معًا.
وهو ما يحتاج معه إلى تقديم نموذج تخطيطي، يرصد البنى التفريعية المشكِّلة للحكاية الإطارية في علاقتها بمجمل حكايات الكتاب من جانب، وبخاتمتها التي تلت الليالي من جانب آخر، وذلك كله بهدف استجلاء هذا المزج النوعي التراجيكوميدي القابع في ثنايا وتفصيلات هذه الحكاية.
حكاية شهريار وزوجته (تراجيديا قتل)
يترتب عليها مأساة جديدة
حكاية الجني والخيانة (تؤجج من عمق المأساة)
ترتب على الحكايتين السالفتين
حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع (تحذيرية لتجنب التراجيديا)
ثم
- جودر المصرية
- زينب النصابة
- علي الزيبق
- حلاق بغداد
- معروف الإسكافي
إضافة حكايات مزجية وتخفيف كوميدي مما نتج عنه
الخاتمة السعيدة (اكتمال الشكل التراجيكوميدي)
ويزداد استجلاء مكونات هذا المخطط التخيلي للحكاية الإطارية عبر التحليل التفصيلي لعناصر ومكونات هذه الوحدات السردية السّت المشكِّلة للحكاية؛ والتي تختلف في حجمها بين الطول والقصر تبعًا لكم التفصيلات الجزئية التي تقدمها كل وحدة سردية، كما تتنوع في محتواها بين وحدات تحمل عناصر تراجيدية خالصة، ووحدات أخرى تحوي طابعًا مخففًا يقترب من الكوميديا، وبالتالي، تشكل في بنيتها الكلية نوعًا تراجيكوميديًا واضحًا.
3_1. تشكِّل حكاية شاه زمان مع زوجته الوحدة السردية الأولى ضمن الحكاية الإطارية؛ وهي وحدة تتسم بالقِصر النسبي من حيث كم التفصيلات السردية التي تقدمها، ورغم ذلك، فهي تؤدي – بما تحويه من عناصر- دورًا محوريًا في التجذير للشكل التراجيدي، سواء في بنيتها الخاصة، أم فيما ترتب عليها أو انبثق عنها من حكايات فرعية.
يتجلى هذا الشكل التراجيدي في حكاية شاه زمان عبر عنصرين أساسيين: تمثل طبيعة وتكوين الشخصية الرئيسة العنصر الأول، بينما يكوِّن الحدث بما يحويه من عناصر الدعامة الثانية في إطار البنية التراجيدية للحكاية. لقد انتمى بطل هذه الوحدة السردية إلى نوع من الشخصيات التي تتسم بما يجب أن توصف به الشخصيات في التراجيديات الكبرى؛ تلك التي فضَّل أرسطو أن تنتمي إلى أصول عليا، تتصل بالآلهة من ناحية، أو تعود إلى أصول ملكية حاكمة من ناحية أخرى، وذلك حتى يتسنى لها السقوط التراجيدي المروع عندما تتردى في الخطأ المأساوي.
فشاه زمان ملك ابن ملك، أبرزته الحكاية حاكمًا ذا علم وفضل؛ حيث أحبه شعب سمرقند العجم واستقرت له أمور الحكم قرابة عشرين سنة. لكن المسار التراجيدي للأحداث في حكايته مع زوجته حال دون استمرار هذا البطل في حياة السرور مع شعبه؛ فخبأت له الأقدار ما لم يكن يعلم، كي يتحول من السعادة إلى الشقاء، وبالتالي يتخذ من صورة الأبطال التراجيديين مكونًا أساسيًا لشخصيته.
فقد بنيت الأحداث في حكايته على عنصري الخيانة والقتل، وهما بطبيعتهما من العناصر الفاعلة في إطار تشكيل الأحداث التراجيدية/ المأساوية؛ حيث اشتاق أخوه شهريار له ورغب في رؤيته، وخرج شاه زمان لملاقاته، لكن مأساوية الأحداث لا تتفق مع سريان الحدث في شكله الأفقي الثابت، بل تدفع إلى توقفه عند لحظة ما من لحظات التكشف التي تغير حال البطل من السعادة إلى الشقاء؛ فقد نسى شاه زمان شيئًا ورغب في استعادته من قصره في منتصف الليل، فإذا به يفاجأ بخيانة زوجته له مع أحد عبيده. ورغم أنه ليس بطلاً شريرًا على ما يبدو في الحكاية، إلا أنه يندفع - بسسب الخيانة - نحو الهمارتيا، أو الخطأ الذي يسقط فيه البطل نتيجة جهله» بحقيقة مادية، أو وضع ما»(37) ، فيقتل زوجته التي لم تحفظ مكانته في غيبته. ومذ هذه اللحظة، أصبح القتل أو الموت بأشكاله المتنوعة ثيمة أساسية من الثيمات التي بنيت عليها كثير من اللحظات التراجيدية في الليالي.
3_2. تبدأ الوحدة السردية الثانية من الحكاية الإطارية بوصول شاه زمان إلى قصر أخيه شهريار، بعد أن تخلص من زوجته الخائنة. وهي وحدة لا تختلف كثيرًا عن سابقتها من حيث الطول؛ إذ لا تقدم كثيرًا من التفصيلات، وهي رغم ذلك، تقدم في مجمل تشكيلها تراجيديا قتل قريبة الاكتمال في عناصرها من المآسي التراجيدية القديمة.
فبطلها شهريار منحدر مع أخيه من أصول ملكية، بل إنه يفوق أخاه - حسب وصف الليالي - عزة ومكانة ومحبة من شعبه؛ فهو الأفرس والأكبر سنًا من أخيه «وقد ملك البلاد، وحكم بالعدل بين العباد، وأحبه أهل بلاده ومملكته»(38). وهو، رغم ذلك، لم ينج مما وقع فيه أخوه من مغبة الخيانة والقتل، بل كانت الليالي أكثر إمعانًا في وصف مأساة شهريار من وصفها لمأساة أخيه؛ حيث جُعِلَت حكايته في الليالي مع زوجته من نوع التراجيديا المركبة، التي تتطلب نوعًا من الحبكة المعقدة للأحداث، تلك التي تحتاج إلى أن» يتغير فيها حظ البطل، إما عن طريق التحول، وإما عن طريق التعرف، وإما بهما معًا»(39).
فلم تكن الأحداث التي وقعت له مع زوجته في الليالي من نوع الحبكات البسيطة التي تسير فيها الأحداث في خط مستقيم، إنما كان تطور الأحداث في حكايته معتمدًا على تقنية التفريع الحكائي، التي أدخلت أكثر من عنصر أو حكاية فرعية، تم من خلالها تعرف شهريار على خيانة زوجته له، ومن ثم الوقوع أيضًا في مأساة الموت القائم على القتل. فقد علم بخيانة زوجته له عبر نوعين أو شكلين من أشكال السرد القصصي: الأول، هو ذلك السرد المباشر الذي استخدمه أخوه عندما قص له رؤيته خيانة زوجة أخيه مع العبيد، وهو نوع أسهم بدوره في تشكل أولى خيوط المأساة في هذه الوحدة السردية وفي الحكاية الإطارية بوجه عام.
أما النوع الثاني من السرد الذي أسهم في تعرّف شهريار على خيانة زوجته له، فهو نوع السرد التمثيلي، وهو نوع أسهم بدوره في تأجيج الشعور بالمأساة، إذ يرى صاحب التعرف أو البطل السبب في وقوع المأساة أمام عينيه؛ وهو ما وقع عندما رأى شهريار خيانة زوجته له بنفسه.
وقد أدت فجأة الحادثة التي وقعت لشهريار وظيفتين أساسيتين: أما الأولى، فهي أنها مثلت خصيصة من أهم خصائص السرد القصصي الشعبي (40)، وأما الثانية، فإنها عمقت من الشعور بمأساوية التعرف الواقع على البطل/ شهريار، ولا سيما أنها بنيت على اصطناع تقنية الحيلة من قبل شهريار الذي ادعى أنه مسافر ليرى ما يقع من زوجته من خيانة له فيتاكد من صدق ادعاء أخيه.
3_3. يعد رحيل الأخوين عن مدينتيهما بداية للوحدة السردية الثالثة، وهي وحدة قصيرة من حيث الطول، لكنها تؤدي وظائف متعددة تجاه تأكيد الشكل التراجيكوميدي للحكاية الإطارية. فقد رحل شهريار مع أخيه دون أن ينتقم من زوجته بشكل مباشر كما فعل أخوه، وكان من شأن هذا دفع المتلقي – عبر المفارقة - إلى حالة من الازدواجية في الشعور؛ وهي حالة يصبح فيها المتلقي « قادرًا على استيعاب حالتين نفسيتين متضاربتين في وقت واحد، دون أن يشعر بالتوفيق بينهما»(41).
فالمتلقي يقف محيرًا عندما يغادر شهريار المكان لسبب واهٍ أعلنته الليالي من أنه يرغب في التأكد من أنَّ أحدًا وقع في مثل ما وقع فيه أخوه من عدمه، لكن هذا الرحيل يخلق لدى المتلقي نوعًا من الترويح الكوميدي؛ حيث يؤجل أو يؤخر الوقوع في المأساة، وذلك عبر تأجيل الوقوع في القتل لهذه الزوجة الخائنة، كما أن المتلقي يعلم - جليًا وفي الوقت نفسه - أن ثمة مأساة منتظرة الوقوع في أي وقت، وهو ما يخلق معه حالة من الشعور التراجيكوميدي المزدوج، ذلك الذي يراوح فيه المتلقي بين تأجيل المأساة وانتظار وقوعها في أية لحظة.
وهنا، تبدأ الطبيعة الشعبية لليالي تسيطر على مجريات الحدث الدرامي، حيث لا تقبل الطبيعة الشعبية إلا أن تَلقَى هذه الزوجة الخائنة جزاء خيانتها لزوجها؛ فيسعى صائغ الليالي لابتداع حكاية الأخوين مع الجني، تلك التي أصرت فيها المرأة التي خطفها الجني على معاشرة شهريار وأخيه، في غفلة من الجني، وذلك بعد أن فعلت هذا الفعل مع ما يربو على خمسمئة رجل من قبل. وقد أدى هذا - بطبيعته - إلى تأجيج الشعور بمرارة الخيانة لدى شهريار الذي أصبح على درجة من القناعة أن خيانة المرأة للرجل عنصر متجذر لدى المرأة ليس في عالم الإنس فحسب، وإنما في عالم الجن أيضًا. وهنا يقرر العودة إلى مدينته للانتقام.
3_4. تبدأ مع عودته الوحدة السردية الرابعة، التي تتسم بالطول نسبيًا عن الوحدات السابقة عليها، كما أنها تتخذ من حيث تشكيلها المضموني طابعين يسهمان في تأكيد الجانب التراجيكوميدي. فقد بدأت بتأجيج العنصر التراجيدي عبر ثيمة القتل، ولكنها انتهت بنوع من الترويح أو التخفيف الكوميدي عبر ظهور شخصية جديدة في إطار الحدث، وهي شخصية شهرزاد.
بدأ الجزء الأول من هذه الوحدة السردية بعودة شهريار غاضبًا على كل العنصر الأنثوي، الذي مثل بالنسبة له رمزًا للخيانة، وقد ترتب على هذا وقوع العديد من المآسي للعديد من الأطراف؛ حيث رمى الملك عند عودته « عنق زوجته، وكذلك أعناق الجواري والعبيد، وصار الملك شهريار كلما يأخذ بنتًا بكرًا يزيل بكارتها ويقتلها من ليلتها»(42). وإمعانًا من صائغ الليالي في تعميق هذا الجانب التراجيدي القائم على القتل، فقد عبر عن طول المدة التي استمرت فيها أفعال الملك مع بنات المدينة، تلك المدة التي استمرت ثلاث سنوات، وهو ما دفع معه أحد كتاب التراجيديا إلى القول بأن الليالي تعد تراجيديا قتل من الدرجة الأولى، وأن شهريار» جبار جهول وشهواني مهول» (43).
وهو قول لا يمكن قبوله على علاته إلا في حال القبول بتلك النظرة التجزيئية في الحكم على أفعال شهريار، تلك التي تنظر لأفعاله بشكل آني تُتناسى معه مسببات هذه الأفعال، كما يغض فيه النظر عن تلك الصبغة التراجيدية العامة التي صبغت الحكاية الإطارية جراء سيطرة ثيمة الخيانة على مجريات الحدث فيها. وهي نظرة تتبناها هذه الدراسة، وترى من خلالها، أن هذا الشقاء الذي تعرض له شهريار نتيجة خيانة زوجته له، هو ما منحه – تبعًا لرؤية النص الشعبي- شرعية هذه الأفعال من وجهة نظره، تلك التي أكدت على تراجيدية الأفعال التي قام بها، والتي بنيت على شقائه، ذلك الشقاء «الذي يكوِّن المرارة الحقيقية التي تؤدي بالتراجيديا إلى تأثيرها الناجع»(44)، ومن ثم، أصبح الانتقام هو الفعل الأساسي له، كما أنه الفعل الجوهري الذي» يروق لكتاب الدراما»(45) دومًا.
وفي هذه اللحظات، تظهر شهريار، لتمثل بظهورها نوعًا من التخفيف الترفيهي أو الكوميدي في إطار الحدث القصصي التراجيدي الواقع على أهل المدينة من ناحية وعلى متلقي الليالي من ناحية أخرى، جراء القتل المستمر لثلاث سنوات من قبل شهريار لبنات المدينة.
ويعني هذا أن ثمة صراعًا لابد وأن ينسج صائغ الليالي خيوطه بين شهرزاد وشهريار؛ حيث إنها ستسعى-عبر إعمال فكرها وحيلها-إلى السير عكس الاتجاه الذي يسير فيه شهريار.
ولذلك، كان لزامًا على صائغ الليالي أن يصبغها بمجموعة من السمات التي تقربها من أبطال المآسي، حتى يصنع الملاءمة بينها وبين جلال الحدث الواقع في الحكاية الإطارية من ناحية، ويجعلها قادرة على مواجهة شهريار الذي أصبح القتل وسيلته الوحيدة للانتقام من ناحية أخرى.
ولم يضطر صائغ الليالي لِمَا يلجأ إليه كاتب الدراما من اصطناع الحيل الدرامية كي يؤسس لقوة هذه الشخصية وجلالها(46)، إنما كان السرد هو وسيلة صائغ الليالي لإخبار المتلقي بسمات شهرزاد التي تؤهلها للدخول كطرف فاعل في الصراع أمام شهريار.
فقد وصفتها الليالي بمجموعة من السمات: كالثقافة والجمال والذكاء وجمع أخبار التاريخ والملوك الخوالي، وهي مجموعة من السمات التي تسهم بفاعلية في إطار ترسيخ الشكل التراجيكوميدي للحكاية الإطارية. حيث تمثل - بامتلاكها لهذه السمات - بارقة أمل يمكن للمتلقي من خلالها توقع إحداث التخفيف الكوميدي لهذه الأحداث المأساوية، والتى يمكن من خلالها خلق الإحساس التراجيكوميدي الذي يدعو إلى الأمل ويتحدى اليأس، الناتج عن ضراوة الأفعال المأساوية(47).
وهي - بالإضافة إلى ذلك - خلقت عند ظهورها في مسار الحدث القصصي حالة من «تكثيف التشويق الذي لابد من وجوده في التراجيكوميديا»(48)؛ وذلك عندما اختارت لنفسها الاقتراب من السقوط التراجيدي، عبر اختيارها الزواج من شهريار رغم علمها بضراوة تلك المخاطرة التراجيدية.
ويضطر الأب/ الوزير إلى السعي نحو إثناء إبنته عن السقوط المأساوي في براثن شهريار؛ وهو بسعيه هذا إنما يخلق سمة مهمة من سمات التراجيكوميديا داخل الحكاية؛ تلك التي أكدت عليها سوزان لانجر بتعريفها للتراجيكوميديا على «أنها مأساة متفاداة»(49).
ويتخذ صائغ الليالي من الحكي على لسان الأب وسيلة للتأكيد على رغبة الليالي بوجه عام والأب بوجه خاص في تفادي المأساة التي قد تقع نتيجة محاولة شهرزاد نصح وإثناء شهريار عن أفعاله؛ فيقص الأب على ابنته حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع بهدف تعليمي، ترغب الليالي في إيصاله للمتلقي الخارجي، بينما يرغب الأب في إيصالها للمتلقي الداخلي المتمثل - ضمن هذا السياق - في شهرزاد. فقد نصح الحمار الثور بعدم الإقبال على الطعام ليصاب بالهزال، فيُترك بدون عمل، وكانت النتيجة أن سقط الحمار نفسه في مغبة نصيحته فأصبح يعمل بدلاً منه. ولما لم يجد الحمار وسيلة للخلاص من هذا المأزق، فإنه قد احتال على الثور بحيلة كوميدية ساخرة، وذلك عندما ادعى أنه سمع صاحب البيت يَعِد بإرسال الثور إلى الجزار لأنه لم يعد قادرًا على العمل. وحينها، تستخدم الحكاية اللغة الكوميدية الساخرة لتصف حالة الثور الراغب في إثبات قدرته على العمل، وكذلك وصف رد فعل صاحب الزرع على أفعال الثور. فقد ذكرت الحكاية أنه لمَّا رأى الثور صاحبه «حرَّك ذنبه، وظرط وبرطع، فضحك التاجر حتى استلقى على قفاه»(50).
لقد أدَّت هذه الحكاية العديد من الوظائف التي جعلتها فاعلة في إطار منظومة الحكي داخل الليالي، كما أنها دعمت وجود الشكل التراجيكوميدي داخل الحكاية الإطارية من الليالي. فهي تعد وسيلة قصصية تلائم طبيعة الحكي في القص الشعبي، وكذلك ترسخ نسقًا تعليميًا تسعى الليالي لتقديمة في كل حكاياتها الفرعية. وهي - أيضًا - تضفي طابعًا تراجيكوميديًا مزدوجًا على الحكاية الإطارية؛ إذ تقدم حالة من الترويح الكوميدي الساخر، الذي تأكد عبر أفعال الحيوانات واللغة الساخرة المستخدمة فيها، بينما تخلق شعورًا بالخوف المأساوي من المتلقي على شهرزاد التي قد تقع فيما وقع فيه الحمار عندما نصح الثور.
ويتأكد ذلك الجانب الخاص بالخوف من السقوط المأساوي عبر عدم اتعاظ شهرزاد بتلك الحكاية وإصرارها على الاقتران بشهريار، مندفعة بتلك الحتمية الدرامية التي احتوتها شخصيتها، ورغبتها في حماية أبيها وبنات المسلمين من أذى شهريار. وهي بذلك، ترسخ - مرة أخرى - للجانب المأساوي في الحكاية عبر غرسها لأولى بذور موتيف الفداء الذي ساد معظم حكايات الليالي، والذي يؤسس بطبيعته لسيادة الجانب الدرامي على الجانب الكوميدي داخل الحكاية الإطارية خاصة والليالي عامة.
وتبدأ شهرزاد تستخدم ذكاءها الذي نصَّت عليه الليالي لتجنب الوقوع في مأساة شهريار، محاولة استخدام قدراتها القصصية كي تتمكن من تفعيل هذه الحيلة، طالبة من أختها المجىء إليها يوم زواجها من شهريار والإلحاح عليها في طلب الحكي للحكايات المشوقة، رغبة في تلهية شهريار وإثنائه عن موتيف الانتقام الذي أسس له في الليالي منذ قتله لزوجته. وبالفعل، تبرز الليالي قبول شهريار للاستماع، عبر تبريره لذلك بشعوره بالقلق في هذه الليلة ورغبته في أن يسرِّي عن نفسه ويسليها.
وتُعَدُّ لحظة موافقة شهريار على الاستماع لحكي شهـــــرزاد مـــــن اللحظــــــات الجـــوهــــريــــة في إطــار تشكيل التراجيكوميديا في الحكاية الإطارية خاصة، وفي الليالي بوجه عام؛ حيث حملت معها العديد من الدلالات والوظائف التي يمكن أن تخدم تجلية التراجيكوميديا. فقد قدَّم شهريار نوعًا من الخضوع للطرف المغضوب عليه في الحكاية وهو العنصر الأنثوي؛ ذلك أن شهرزاد عندما حازت «امتياز القص من شهريار كانت بحيازتها هذه قد قلبت علاقتها مع سيدها، فلها - بصفتها راوية - اليد العليا. لقد صارت تملي بالمعنى الحرفي للكلمة، فالسامــــع بــــالضـــرورة، هــــو الطــــــرف المستسلم في فعل القــــص»(51).
وقد مثَّلت هذه الموافقة - أيضًا - شكلاً من أشكال انتصار الخير على الشر داخل الليالي؛ ذلك أن شهرزاد التي تمثل قوى النور في الليالي قد تمكنت - عبر عنصر المشافهة التي تؤدي من خلاله حكاياتها ورغبتها في إلهائه عن الانتقام - من وضعه هو كمتلق «في دائرة الفهم الذي يريده»(52) الراوى/ شهرزاد.
ويلحظ - أخيرًا - أن موافقة الملك على الحكي إنما تفتح مجالاً أو مسارب عديدة لتخفيف تلك التراجيديا التي سادت الحكاية قبل موافقته، وهذا عبر منح الفرصة لشهرزاد كي تضمن حكاياتها ما يمكِّنها من نسخ فكرة القتل القائمة على الانتقام، أو على أقل التقديرات تأجيلها، وهو ما يمنح الراوي/ شهرزاد فرصًا عديدة لإدماج حكايات مسلية كوميدية ساخرة تخفف عن الحاكم كمتلق داخلي، وعن المتلقي الخارجي بوجه عام.
3_5. تشرع شهرزاد في القص تحدوها رهبة مزدوجة؛ فهي رهبة من القتل على يد الملك، ورهبة من المشافهة أمام حاكم لا يقبل من النساء إلا الخضوع للقتل. ولكنها - رغم ذلك - تعتمد على قدراتها الحكائية، وهدفها النبيل في تجاوز هذه الرهبة لتُشكِّل الوحدة السردية الأطول من وجهة نظر هذه الدراسة؛ حيث تضم في طياتها كل الحكايات التي تتوسط ما بين بداية الحكاية الإطارية وخاتمتها.
وتبدأ - في هذه الوحدة السردية - المنظومة الشعورية للسرد تتراوح ما بين المأساة والكوميديا بجلاء؛ إذ أضاف صائغ الليالي - في وسط الحكاية الإطارية – مجموعة من الحكايات المتولدة عن الحكاية الإطارية، والتي تحتوي بدورها على دمج ما بين العناصر المأساوية والعناصر الكوميدية.
بدأت شهرزاد حكيها بقص حكاية التاجر مع العفريت وأنهتها بحكاية معروف الإسكافي، وهي، بين البداية والنهاية، كانت تسعى دوماً لتقديم حكايات وصفتها الليالي بالنوادر الفكاهية والصور المدهشة والطريفة؛ تلك التي توفرت عبر الشكل التراجيكوميدي الذي تجلَّى في معظم هذه الحكايات.
وهذا، ما مهد معه للوصول إلى خاتمة للحكاية الإطارية تختلف كلية عن الشكل والمضمون الذي بدأت به هذه الليالي. فكيف كانت خاتمة الحكاية الإطارية؟ وكيف مثلت تتمة لهذا الشكل التراجيكوميدي الذي تجلى في الليالي؟
3_6. تمثل خاتمة الحكاية الإطارية الوحدة السردية السادسة والأخيرة، وهي وحدة قصيرة من حيث الطول، لكنها تؤدي دورًا فاعلاً في إطار التأكيد على رسوخ الشكل التراجيكوميدي في الحكاية الإطارية خاصة وفي الليالي عامة.
لقد بدأت الحكاية الإطارية بداية مأساوية، خلقت أفق توقع لدى المتلقي بضرورة انتهائها إما بقتل شهرزاد لتكتمل منظومة العقاب لكل الجنس الأنثوي، وإما بنجاتها من الوقوع في فخ المآسي الشهريارية. وتأتي خاتمة الأحداث ونهايات الشخصيات متوافقة - من ناحية - مع ذلك الحس الإسلامي وما يقره دستور الشعب والأدب الشعبي، كما تخالف - من ناحية أخرى - النهايات التي أقرتها النظريات التراجيدية، مما جعلها في مجملها نهايات - للأحداث والشخصيات - لا تنتمي إلا إلى الشكل التراجيكوميدي الذي سيطر على كثير من حكايات الليالي.
كانت نهايتا الشخصيتين الرئيستين في خاتمة الليالي متجانسة مع طبيعة أفعالهما داخل الحدث من جانب، ومع أبرز السمات التي ضمتها شخصية كلّ منهما من جانب ثان. فقد احتوت شخصية كل من شهريار وشهرزاد على سمات متناقضة جعلت نهايتهما تشبه - إلى حد بعيد - شخصيات الدراما الغربية التي تبنى الشخصيات فيها على هذا التناقض بين الداخل والخارج في طبائع الشخصيات(53)، مما جعلهما في حقيقة الأمر «نموذجًا معقدًا ومركبًا، ويحمل في ثناياه ازدواجية التضاد»(54).
ورغم هذا، فإن شهرزاد قد استطاعت - تدريجيًا - أن تشتت هذا العنف المتوقع من المتلقي تجاه أفعال شهريار، فجاءت خاتمة هذه الحكاية تبرهن على المزج الجلىّ بين الشكل المأساوي الذي سيطر على جلِّ التفصيلات السردية في هذه الحكاية، والإطار الانبساطي الترويحي السعيد التي اختتمت به الحكاية والليالي. فقد بدا شهريار بسمات تخالف تمامًا تلك التي تجلت في شخصيته منذ تعرفه على خيانة زوجته؛ فسامح شهرزاد وعفا عنها، وكافأ أباها والوزراء، وخلع عليهم جميعًا خلعًا سنية، وأمر بتزيين المدينة وإقامة الأفراح وإدخال المسرة على أهلها، لتتحول المدينة في النهاية من المأساة إلى السرور والسعادة، بشكل يمكن معه وصف الحال العام للمدينة آنذاك بتراجيكوميديا المدينة.
وكانت حكاية معروف الإسكافي - وهي الحكاية الأخيرة لشهرزاد - خير تمهيد لهذه النهاية السعيدة التي اختتمت بها الليالي؛ حيث احتوت بدورها على الجمع الواضح بين المأساة والملهاة، أو تلك النهاية السعيدة التي انتهت بها، وجُعلت تقدمة موائمة لخاتمة الحكاية الإطارية والليالي عامة بهذه الخاتمة.
4. تنتمي حكاية معروف الإسكافي بطبيعة تشكلها إلى ما يمكن وصفه بالمأسملهاة، وهي ذلك الشكل الدرامي الذي يجمع ما بين شروط المأساة - بمعناها المعاصر - وشروط الكوميديا معًا. فقد فارقت الآلهة التراجيديا القديمة، ولم تعد تتدخل في صناعة أحداثها، أو فرض أقدار معينة على الأبطال، ومن ثم يسقطون - رغمًا عنهم - في الأخطاء المأساوية التي تؤدي في النهاية إلى السقوط التراجيدي.
فتراجيديا الإسكافي، هي مأساة الإنسان العادي؛ هذا «الإنسان الذي يوصف في ترجمة بأى ووتر لأرسطو بأنه يكاد يكون تمامًا مثلنا. وهذا عند أرسطو يعني نوعًا من الكتابة الوسط التي لا يعتبرها منتمية إلى التراجيديا أو إلى الكوميديا»(55) ، إنها نوع من المأساة لا يتطلب بالضرورة «أن يكون ثمة دم وقتل»(56) فيها.
بنيت التراجيكوميديا في حكاية معروف الإسكافي على نقض بعض الطبائع البشرية؛ تلك التي أسست لصراع أزلي، بين الرجل والمرأة، يتقمص فيه الرجل دور السلطة الذكورية الأبوية، بينما تؤدي فيه المرأة دور التمرد على هذه السلطة، وبأساليب متنوعة(57).
وتأتي هذه الحكاية لتقدم نموذجًا عكسيًا لتراتب نظام السلطة الاجتماعية الطبيعية التي جُبِل الإنسان عليها؛ حيث تشغل زوجة معروف ذلك الدور الذكوري السلطوي، بينما يرتضي الإسكافي بما فرضته عليه من خنوع واستسلام لها، ويسعى في الوقت نفسه إلى محاولة الفكاك من براثن هذه السلطة التي تمثلت في زوجته، وبين سلطتها وسعيه في اتجاه مضاد تكمن الكثير من المفارقات التراجيكوميدية في إطار الحدث القصصي لحكاية معروف الإسكافي.
تشكلت حكاية معروف الإسكافي - تبعًا لرؤية هذه الدراسة - من سبع وحدات سردية، تتراوح بين الطول والقصر من حيث الحجم، بينما تمثل من حيث المضمون مجموعة من النقلات بين المأساة والكوميديا، تلك التي تشكلت عبر سمات الشخصيات من جانب، وعناصر وتفصيلات الحدث القصصي من جانب ثان، وهو ما يمكن رصده عبر المخطط التالي:
صراع درامي غير متكافيء بين الزوجين (مأسملهاة)
هروب الزوج إلى بلد جديد (التخفيف الكوميدي)
يؤدي إلى
زواج معروف من ابنة الملك (وحدة المفارقات المأسملهاوية)
ازدياد الكذب الساخر من قِبل معروف أدى إلى
تفرد معروف مرة أخرى (العودة إلى المأساة)
ثم تغير الحال
مقابلة معروف للجني والعودة إلى المدينة (التحول من الشقاء للسعادة)
الخيانة
نفي الوزير لمعروف والملك في الربع الخراب (التحول إلى المأساة)
المكر الإيجابي للمرأة
عودة معروف وزواجه من ابنة الحراث (الخاتمة الكوميدية السعيدة للحكاية)
4_1. بنيت المأساة في الوحدة السردية الأولى من حكاية معروف الإسكافي على التناقض الحاد بين سمات الشخصيتين الأساسيتين في هذه الحكاية، وهما: معروف وزوجته. ففي حين بدا معروف – كما أظهرته الليالي - إسكافيًا فقير الحال، مستسلمًا لخطوب الحياة، ظهرت زوجته نموذجًا للمرأة الشريرة، العرَّة - كما لقبتها الليالي - التي لا تقدر ضعف زوجها، وتسعى دومًا لإهانته أمام جموع الناس، مما دفع النقاد لاتخاذها مثالاً للنموذج السلبي للمرأة في الليالي(58).
لقد اعتمد هذا الجزء من الحكاية على سرد كثير من التفاصيل التي تحتويها الحياة اليومية بين الإسكافي وزوجته، ويحمل هذا النوع من الأحداث في طياته تيارًا جوفيًا من المأساة كما يتضمن - في الآن ذاته - مادة كوميدية وفيرة (59).
فالمتلقي لبداية الحكاية يشعر عبر التفاعل اليومي بين الإسكافي وزوجته، بمدى وعمق القهر الذي يعانيه الإسكافي جراء ما تقوم به زوجته معه؛ فهي - ورغم فاعليتها في رسم مأساة زوجها - تمثل باسمها وسماتها وأفعالها تيارًا أساسيًا للكوميديا داخل مأساة الإسكافي. فقد اختارت الليالي لقب العرة للزوجة، وذلك في إشارة لما تتسم به هذه الزوجة من سمات تؤول - تبعًا للمدلول الاجتماعي للكلمة - بمدلول سلبي دومًا، يشير إلى غبائها وفشلها في إدارة شئون حياتها، وعدم قدرتها على التعامل مع الآخرين، ولا سيما زوجها في هذه الحكاية.
فهي تلك الزوجة التي لا تكف عن المطالبة بما لا يستطيعه الزوج لقلة حيلته وإمكاناته، وهي التي تفعل ما لا يستوجبه الأمر لتفاهتها وقلة عقلها؛ فتطلب من زوجها الكنافة شريطة إغراقها بعسل النحل دون غيره، ويبهت معروف أمامها، فهو لا يملك نقودًا، غير أن صائغ الليالي، يفتح مسارًا للحل كي ينقذه من يديها، وذلك بعد أن وقف معروف أمام البائع مغرورقًا في دموعه، خوفًا من زوجته التي لن ترحمه إذا لم يحقق لها ما طلبت؛ فيشفق عليه الرجل ويمنحه الكنافة ولكن بعسل القصب.
وهنا، يُبْنَى الحدث القصصي على مجموعة من المفارقات التراجيكوميدية، تلك التي تتشكل في هذه اللحظات السردية نتيجة لرد فعل أو سلوك معاكس من أحد أطراف الصراع بشكل لا يتفق مع الفعل الذي أقدم عليه الطرف الآخر، وتؤدي بطبيعتها إلى إحداث ملمح درامي في الحدث نتيجة إسقاط الطرف الفاعل للحدث في بؤرة الاهتمام الدرامي. فقد أقدمت فاطمة العرة على لكمِ زوجها وضربه حتى كسرت إحدى أسنانه، بدلاً من أن تشكره على تحقيق رغبتها، وما كان كل ذلك إلا لكونه أحضر الكنافة بنوع عسل يختلف عن النوع الذي طلبته.
وتمعن الليالي في وصف هذا المشهد عبر استخدام تقنية المفاجأة التراجيكوميدية المركبة، التي تؤدي بدورها إلى خلق حالة شعورية تسير في اتجاهات متعارضة لدى الأطراف المتصارعة، تلك التي تخلق المفاجأة من ناحية أو تتلقاها من ناحية أخرى. فقد ذهبت فاطمة العرة كي تشتكي زوجها للقاضي، وعند مثوله أمامه، يفاجأ الزوج بزوجته، وقد ربطت ذراعها، وبرقعها ملوث بالدماء، باكية في حالة هيستيرية.
يعد هذا المشهد التمثيلي العبثي مثالاً جليًا على بروز تراجيكوميديا الحدث، تلك التي تبنى على سلوكيات الشخصيات؛ إذ يمكن تلقي هذا المشهد عبر عدة مستويات تختلف من شخصية لأخرى تبعًا لاشتراكها في إطار الأحداث: فالقاضي - من ناحيته - يشعر بالأسى والحزن على هذه الزوجة البائسة المكلومة، ومعروف يقف مشدوهًا متعجبًا ومستنكرًا أفعال زوجته، وهي بدورها تشعر بسعادة غامرة لقدرتها على خداع القاضي والانتصار على زوجها من ناحية أخرى. ويقف - أخيرًا - المتلقي الخارجي متوجسًا أمام هذا المشهد متسائلاً هل نسي صائغ الليالي أن يعرض جزءًا ضُرِبت فيه الزوجة بالفعل علي يد الزوج؟ أم أن مكر المرأة وصل بها إلى هذه الدرجة من الدهاء والخديعة؟ ولا سيما أن ذهن المتلقي الخارجي يمكن أن يربط عقليًا بين نموذج فاطمة العرة الماكرة وبين النموذج النِّسوي الماكر القار في خلفية الليالي عبر مثول الشخصية النسوية الرئيسة/ شهرزاد، تلك التي ابتدعت المكر والخديعة واستطاعت أن تقنع شهريار بقبول القص، ومن ثمَّ تمكنت في نهاية الليالي من إلهائه وإقناعه بالتوقف عن قتل النساء.
ومهما يكن الأمر، فإن هذا التناقض الحادث في مسالك الشخصيات، والمشكِّل للحالة التراجيكوميدية، يتحول إلى حالة من الشعور العكسي أو النقيض لدى المتلقي، وهو ما يحدث دومًا في المأساة؛ حيث» تنتهي كل محاولات إلصاق الذنب بالضحية إلى إضفاء صفة البراءة عليه»(60). تلك الصفة التي تتأكد لدى المتلقي نتيجة لزيادة الوطأة على معروف؛ حيث تكمل الزوجة مكرها بشكايته إلى قاض آخر، ثم إلى الباب العالي، وهو رأس السلطة آنذاك.
ورغم أن الأطر التراجيكوميدية كانت قد تشكلت عند الوصول إلى هذه اللحظات من الحدث، وهذا عبر تشكل» الكوميديا من إلحاق الألم بالضحية العزلاء، وتشكل المأساة من تحمل ذلك الألم»(61)، إلا أن معروفًا لم تكن لديه القدرة على إكمال مسار تحمله لهذه الزوجة، مما اضطره إلى إغلاق دكانه، استعدادًا للهرب من زوجته والتخلص من مأساته معها.
4_2. تمثل لحظة هروب الإسكافي بداية وحدة سردية جديدة، سعى صائغ الليالي من خلالها نحو صناعة بطل تراجيكوميدي يصعب معه أن يتنبأ المتلقي بردة فعله تجاه الأحداث؛ إذ تصبح الشخصية آنذاك « مفتوحة انفتاح الدائرة إذا ما أزيح عنها معظم محيطها»(62). فقد تحولت شخصية معروف إلى شخصية تحمل في طياتها قدرات متناقضة، تنتمي في أحد طرفيها لجانب مأسوي سلبي، بينما تنتمي في الطرف الآخر إلى جانب كوميدي إيجابي؛ فهي قدرة سلبية درامية لعدم قدرته على مواجهة الزوجة وفقدانه لمصدر رزقة، وهو أيضًا إيجابي لقدرته على اتخاذ قرار بالهروب من مأساته معها بحثًا عن حل لهذه الأزمة، وهذا ما يبرره أنه كبطل درامي يظل رغم وطأة المأساة عليه «ذا قوام متماسك صلب يمكنه من حمل عبء تخاذله واتضاعه»(63).
وتسعى الليالي- بذلك - إلى خلق حالة من الترويح الكوميدي الذي يمثل التقنية الأساسية المشكِّلة للتراجيكوميديا في هذه الوحدة السردية؛ وهذا بعد أن سخرت له الجني الذي شعر بحزنه وألمه، وهي وظيفة يمكن أن تضاف - عبر هذه الحكاية - لتلك الوظائف التي يؤديها الجني في الليالي من «العرفان بالجميل والوفاء»(64)؛ حيث ساعده الجني على التخلص من مأساته دون سابق معرفة به، فطار به مسافة بعيدة من العشاء حتى طلوع الفجر، في دلالة على رغبة الطرفين - الإسكافي والجني - في الابتعاد بشدة عن مصدر الألم والمعاناة.
وقد أدت هذه الرحلة دورًا أساسيًا في تحول الإسكافي من حال البؤس والشقاء المأساويين إلى حال السعادة التي تنتمي إلى الكوميديا دون المأساة، ولا سيما أنها أدت إلى بروز لحظة من لحظات التكشف التي علم فيها معروف بوجود أحد أصدقائة القدامى في هذا المكان الجديد ويُدعى علي، وهو بدوره، أسهم في توطيد مكانة معروف بأهل هذا البلد، مما نتج عنه شعوره بسعادة غامرة في هذه اللحظات من الحدث.
وهكذا، بدأت أحوال الإسكافي تنتقل من حال البؤس والشقاء إلى حال السعادة، فأصبح يقترض من كل أغنياء المدينة بحجة حملته الآتية في الطريق، مغدقًا على الفقراء بكثرة. ورغم ذلك فقد زادت هذه الأفعال من حدة التوتر التراجيكوميدي المركب؛ حيث يشعر المتلقي الخارجي بالسعادة لما يفعله الإسكافي من خير، بينما يشعر - في الوقت نفسه - بالخوف والتعاطف معه إذا ما تكشفت حقيقته لأهل المدينة.
ويُلحظ بجلاء أن الأحداث اتجهت - في هذه اللحظات - ناحية السخرية، خاصةً أن معروف أصبح يسخر من الجميع، بل ومن نفسه أيضًا، مصدقًا ادعاءه بأنه صاحب حملة في الطريق إلى البلدة، وأضحت الكلمة المفتاحية التي دارت حولها السخرية، هي قوله: عندما تأتي الحملة؛ حيث أصبح تكرار هذه المقولة على لسانه إحدى أهم التقنيات البلاغية التي تدفع نحو السخرية في قلب هذه الدراما الاجتماعية(65).
وتعد لحظة ذهاب أصحاب الديون إلى الملك لشكاية الإسكافي من اللحظات المحورية التي أدت إلى بروز عنصر جديد محفز للإطار التراجيكوميدي في هذه الحكاية، وهو شخصية الملك؛ وهي شخصية تحمل ضمن طباعها شيمة الطمع، تلك التي تؤدي بدورها إما إلى السقوط في فخاخ الكوميديا، أو الوقوع في براثن المأساة، أو كليهما معًا. فقد طمع الملك في نقود الإسكافي التي تحملها حملته المزعومة، مكذبًا وزيره الذي ارتاب في أمــر الإسكــافي، مقـــررًا تــزويــج ابنته للإسكافي طمعًا في ثروته.
4_3. مثَّلَ قرار الملك تزويج ابنته من الإسكافي بداية وحدة سردية جديدة، تتسم بالطول من حيث الحجم، كما تتميز - مضمونيًا - بفاعليتها في تعميق المفارقات المأسملهاوية في حكاية الإسكافي. فقد قامت هذه الوحدة السردية على استغلال معروف لطمع الملك في ثروته؛ مستخدمًا خزانته في الإنفاق على الفقراء والمحتاجين، مشكلِّاً - بهذه الأفعال - لسمة تراجيدية مهمة، يصبح فيها البطل المتألم «غير مبال بما قد يقع له»(66)، مدللاً على ذلك بقوله لذاته «كبة حامية، والذي يجري علىَّ يجري، والمقدر ما منه مفر»(67).
ورغم ثقة معروف في ذاته وعدم خوفه، إلا أن الملك قد تشكك في أمره، وطلب من ابنته/ زوجة معروف الثانية محاولة التعرف على حقيقته. وهي بدورها قدَّمت – لدى ظهورها – نموذجًا أنثويًا مختلفًا عن ذلك النموذج الذي قدمته زوجته الأولى، أبرزت من خلاله «أن المرأة الحق هي التي تقف وراء زوجها، ولو كان إسكافيًا»(68)، مما جعلها تقوم بمجموعة من الوظائف في إطار المنظومة السردية، وفي إطار تشكيل بعض الجوانب المأسملهاوية في الحدث القصصي. حيث تعرفت على حقيقة الإسكافي، ورغم ذلك، ساعدته على الهروب من المدينة، مانحة إياه بعض النقود كي يتاجر بها ثم يعود إلى المدينة، في محاولة لإسعاده وتخفيف مأساته، إلا أنها - وفي الوقت نفسه - قد دفعت بمعروف نحو الحزن واليأس/ المأساة مرة أخرى.
4_4. تبدأ الليالي وحدة سردية جديدة بهروب الإسكافي من المدينة، وهي وحدة سردية قصيرة نسبيًا، لكنها تدفع بأحداثها نحو المأساة أكثر من الكوميديا. تلك المأساة التي سببها لمعروف عنصران أساسيان يؤديان دومًا إلى الشعور بالأسى لمن يعاني منهما: أما أولهما، فهو عنصر الحب؛ فقد أحب معروف زوجته الثانية/ ابنة الملك، وشعر معها بالسعادة، وصعب عليه فراقها، أما العنصر الثاني، فقد تشكل عبر عودة معروف للشعور بالفرادة والوحدة مجددًا، وذلك بعد أن أنسته مقابلة صديقه علي وزوجته الثانية هذه المشاعر الدرامية الحزينة.
وقد استخدمت الليالي تلك اللغة الشعرية الأكثر قدرة - من الناحية البلاغية - على التعبير عن مشاعر الأسى التى يمر بها الشخص، ولا سيما إذا كان هو من يعبر عن مأساته شعرًا. حيث يخاطب معروف ذاته في مونولوج شعري يشير إلى مدى حزنه على فراق الأحبة، والغربة التي يشعر بها.
«غدر الزمان بشملنا فتفرقا
والقلب ذاب من الجفا وتحرقا
والعين تقطر من فراق أحبتي
هذا الفراق متى يكون الملتقى
يا طلعة البدر المنير أنا الذي
في حبكم ترك الفؤاد ممزقا
ياليتني لم اجتمع بك ساعة
من بعد طيب وصالكم ذقت الشقا»(96)
ويلحظ من هذه الأبيات مدى قدرة اللغة الشعرية لليالي على التعبير عن عمق الشعور الدرامي عبر الشعر؛ إذ استخدم صائغ الليالي مجموعة من المفردات التي تشير - عبر دلالتها المباشرة أو الرمزية غير المباشرة - إلى استمرارية تأثير وسريان العنصر المأساوي من البنية الكبرى إلى داخل البنى الصغرى لليالي, ورغم هذا، فإن الشعر ذاته - وفي السياق نفسه - أضحى الوسيلة الشعورية التي استخدمتها الليالي لخلق حالة من الترويح الكوميدي أو الانبساطي لمعروف، وهو ما عبَّر عنه في خاتمة هذه الأشعار.
«مازال معروف بدينا مغرما
إن كان صبابة فلها البقا
يا بهجة الشمس المنير أدركي
قلبًا لمعروف المحبة محرقًا
يا هل ترى الأيام تجمع شملنا
ونفوز منها بالمسرة واللقا
ويضمنا قصر الحبيبة بالهنا
وأضم فيه معانقًا غصن النقا
يا طلعة البدر المنيرة شمسه
مازال وجهك بالمحاسن مشرقا»(70).
لقد جعل صائغ الليالي من هذه المفردات المتناقضة، أو المقابلات اللغوية، تمهيدًا ملائمًا لبارقة الأمل التي تحتاجها التراجيكوميديا في تلك اللحظات التي يتم فيها التحول من المأساة إلى الترويح الكوميدي. فكان أن تحول - في هذه الأبيات - الفراق إلى اللقا، والجفا إلى الغرام، والتمزيق إلى الوصال. وأضحت اللغة الشعرية - في هذه الوحدة السردية - هي الوسيلة الرئيسة التي عولت عليها الليالي لرصد التحولات بين عناصر الدراما وعناصر الترويح الكوميدي أو الملهوي. ولكن السؤال الجدير بالذكر الآن هو، هل سيبقى معروف في حال المعاناة المأساوية، أم أن الحكاية الشعبية ستفتح له مسارات أخرى للترويح الكوميدي عبر الوحدات السردية التالية؟
4-5. تولدت من الوحدة السردية السابقة وحدة أخرى متوسطة الطول من حيث الحجم، لكنها تسهم بجلاء في إكمال الجانب الترويحي الكوميدي في حكاية الإسكافي؛ فبعد أن روَّح معروف عن نفسه بتلك الأشعار، فإن الليالي كانت قد سخَّرت له عنصرًا آخر تزخر به الحكايات الشعبية من ناحية، ويؤدي وظيفة التخفيف الكوميدي لمعروف من ناحية ثانية، وهو عنصر الخوارق، الذي تمثل في هذا الجني الذي سعى لمعاونته في التخلص من مأساته مرة أخرى بعد أن أسهم في تخفيف معاناته مع زوجته وأحضره إلى المدينة الجديدة.
فقد قابل معروف فلاحًا مسكينًا أكرمه، وقد ساعده معروف في فلاحة الأرض؛ فإذ بالجني أبي السعادات يخرج لمعروف ويصبح في خدمته، ويخرج له الذهب من باطن الأرض، ويحمله له على الدواب والبغال، فيعود معروف إلى المدينة ليغدق على الجميع من الأموال والذهب، ويملأ خزائن الملك مرة أخرى، ليتحول حال معروف من الشعور بالمأساة إلى الشعور بالسعادة والترويح الكوميدي.
4_6. لم تكن تلك الحكاية التراجيكوميدية لمعروف الإسكافي لتسير في اتجاه واحد في إطار الحدث القصصي الذي ينحو تجاه السعادة أو المأساة؛ حيث وصل في الوحدة السردية السابقة - بمساعدة الجني - إلى قمة السعادة هو ومن حوله، لكن عنصر الخيانة الذي يغير - دومًا - مسار اتجاه الحدث، يؤدي بمعروف إلى العودة نحو المأساة مرة أخرى.
فقد سقط معروف في خطأ يقترب - إلى حد ما - من الأخطاء التي يقع فيها أبطال المآسي الحديثة؛ وذلك عندما قَبِل تناول النبيذ مع الملك والوزير، فذهب عقله، ومنح الخاتم السحري للوزير، فأصبح الجني في خدمة الوزير، الذي أمر الجني بدوره بإلقاء معروف ومن بعده الملك في الربع الخراب ، مما أعاده - مجددًا- إلى حال الفرادة والشعور بالكآبة.
وقد ترتب على هذا التحول، العديد من المآسي لكل الأطراف؛ إذ حكم الوزير الشعب بالقوة دون إعمال العدل في الناس، ورغب في الزواج من ابنة الملك، دون ابتغاء لحلال أو انتظار لعدة تنقضي. ورغم هذا، فإن الليالي تقدم ذلك النموذج الإيجابي للمرأة / زوجة معروف وابنة الملك، ذلك التي رغبت شهرزاد في إظهاره لشهريار، حتى يعفو عنها. فقد استخدمت زوجة معروف الذكاء والحيلة، فسايرت الوزير، حتى استعادت منه الخاتم مرة أخرى، فأمرت الجني بوضعه في السجن، وإعادة أبيها وزوجها من الربع الخراب.
4_7. لم يكن ما فعلته زوجة معروف الثانية في الوحدة السردية السابقة سوى تمهيد لخاتمة سعيدة لتلك الحكاية، والتي أدت بدورها إلى اكتمال الشكل المأسملهاوي للحكاية.
فرغم وقوع بعض الأحداث الدرامية لمعروف في هذه الوحدة السردية؛ كوفاة الملك وزوجته، وعودة فاطمة العرة إليه عبر الجني ومحاولتها سرقة الخاتم، إلا أن طبيعة الحكاية الشعبية، يضاف إليها الشكل التراجيكوميدي الذي قامت عليه الحكاية، أدت إلى انتهائها نهاية تتلاءم مع ما تستحقه كل شخصية جزاء لأفعالها. حيث قُتلت فاطمة العرة على يد ابن معروف الإسكافي أثناء محاولتها سرقة الخاتم لاستغلال الجني، أما معروف فقد أحضر الحرَّاث الكريم الذي استضافه وعيَّنه وزيرًا لميمنته وتزوج من ابنته، كما أنه زوَّج ابنه بعد فترة، وعاشوا جميعًا في هناء وصفاء إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات.
وهكذا، أضحت مأساته الاجتماعية مع زوجته، وكذلك مأساته الساخرة مع الحاكم، محورًا للجانب المأساوي في الحكاية، بينما أصبحت زوجته الثانية والجني قوام السعادة والكوميديا في الحكاية، تلك التي بدأت مأساوية وانتهت نهاية سعيدة لمعروف، فمثلت - بجلاء- نوعًا من التراجيكوميديا القصصية الواضحة.
5. شكلت حكاية مزين بغداد - أيضًا - إحدى الحكايات التراجيكوميدية الواضحة ضمن كتاب ألف ليلة وليلة. فقد بنيت في الأساس على عنصر تراجيدي وهو الموت عبر القتل، ولكنه - في الحقيقة - القتل غير المتعمد، أو ما يمكن أن يوصف بأنه القتل التراجيكوميدي، ولا سيما إذا ما وضع في الاعتبار أن المزين اكتشف في نهاية الحكاية أن المقتول مازال حيًا ولم يمت. ويلحظ - من وجهة نظر هذه الدراسة - أن تلك الحكاية تتشكل من أربع وحدات سردية، تضم في مكوناتها عناصر المأساة جنبًا إلى جنب مع عناصر الكوميديا، بشكل يصعب الفصل فيه بينهما؛ حيث يشعر المتلقي برغبة مزدوجة تجمع - عند تلقيه هذه الحكاية - بين الشعور بالأسى، وفي الوقت نفسه الشعور بالإضحاك النابع من قلب المأساة. ويمكن وصف هذه الوحدات السردية الأربع عبر المخطط التالي:
حكاية الأحدب مع المباشر والنصراني واليهودي (مأسملهاة)
الحكي وسيلة للخلاص
حكاية الخياط لقصة الشاب البغدادي مع المزين (تراجيكوميديا ناصعة)
اعتراض المزين، وفتح مسارات الحكي
حكاية المزين لقصته مع أمير المؤمنين، وحكاية إخوانه الستة (تراجيكوميديا)
حبس الحلاق لثرثرته
تكشف المزين أن الأحدب مازال حيًا (نهاية كوميدية سعيدة)
5_1. تفرعت حكاية مزين بغداد من حكاية أخرى سبقتها، تحكي عن اتهام المباشر والخياط واليهودي والنصراني بقتل الأحدب، وكان صك الغفران لهم جميعًا هو أن يقدموا حكاية تفوق حكاية الأحدب قيمة وتسلية؛ أى أن الحكي في هذه الوحدة السردية أصبح وسيلة للخلاص من القتل، وهي ثيمة متكررة في الليالي ومنبثقة من الثيمة الأساسية التي بدأتها شهرزاد في الحكاية الإطارية.
ويلحظ المدقق في حكاية الأحدب أنها كانت قد بدأت بداية مأساوية، ثم أحاطت بأحداثها القصصية مجموعة من المفارقات الكوميدية، التي بدأت باستخدام تقنية المصادفة البسيطة، التي أدَّت – كما في الكوميديا - دورًا مشابهًا لدور القدر الذي يوقع الشخصيات في التراجيديا(71). فقد قابل الخياط وزوجته الأحدب في الطريق مصادفة، كما كان قتله على يد الزوجة عن طريق المصادفة أيضًا؛ وذلك، بعد أن سعت إلى إكرامه بإطعامه قطعة كبيرة من السمك، فوقفت في حلقه حتى مات. وبدلاً من أن تضفي هذه الحادثة طابعًا مأسويًا على الإطار السردي للأحداث، فإنها - على العكس من ذلك - تحولت إلى حكاية مأسملهاوية ساخرة؛ وذلك، بعد أن تحولت جثة الأحدب إلى لعبة تتقاذفها أيادي الشخصيات؛ فهي مرة تقع في يد المباشر، وأخرى في يد النصراني، ثم اليهودي. وينكشف الأمر لملك الصين ويصبح الحكي وسيلة للخلاص لدى جميع الأطراف، وعندما يأتي الدور على الخياط، تظهر في سرده حكاية مزين بغداد التي تحوي مزجًا تراجيكوميديًا جليًا، تم التمهيد له عبر هذه الحكاية الساخرة للأحدب.
5-2. تُبنى الوحدة السردية الثانية - رغم طولها من حيث الحجم - على شخصيتين تتمركز بؤرة الحكي حولهما، وهما: الشاب البغدادي ومزين بغداد. وقد تمحور الحكي في البداية حول مأساة هذا الشاب البغدادي والتي تسبب فيها المزين؛ فالشاب يحمل في تكوينه الجسماني تناقضًا جليًا يحمل المتلقي الداخلي والخارجي على التساؤل عن سبب هذا التناقض؛ فهو رغم الوسامة البادية على وجهه، يعاني من العرج، وهو ما يدفع الجالسين مع الخياط إلى التساؤل عن السبب، مما يُنتج - عبر تقنية التفريع الحكائي - حكايته مع المزين على لسان الخياط أمام ملك الصين.
ورغم رفض الشاب في البداية سرد تفاصيل ماجرى له مع المزين الذي رفض الجلوس في حضوره، إلا أن الليالي تستخدم أسلوباً بلاغيًا متكررًا، يمكن أن يسمى بأسلوب الإلحاح، وهو يعني ممارسة الشخصيات المتلقية لأسلوب الضغط على شخصية الراوي لدفعه نحو قص روايته. وهو أسلوب يؤدي بطبيعته مجموعة من الوظائف التي تخدم الأطر السردية لليالي من ناحية، كما تخدم تفعيل أو إبراز الدمج التراجيدي الكوميدي من ناحية أخرى.
فهو من ناحية البنية السردية، يسهم في إقناع المتلقي الداخلي والخارجي بمنطقية التوالي والتفريع الحكائي المتكرر داخل حكايات الليالي، كما يساعد صائغ الليالي على إدماج مجموعة من التفصيلات الخاصة بالأحداث والشخصيات، تلك التي تسهم بدورها في تشكيل حالة من التسلية للمتلقي الداخلي/ شهريار، ومن ثمَّ إلهائه عن القتل وتحقيق الهدف من الليالي، كما أنها تسهم - من جانب أخير - في قطع الإيهام لدى المتلقي الخارجي؛ حيث تنقطع لديه تلك التسلية القائمة على التركيز على جانب شعوري واحد مأساوي أو كوميدي، وبالتالي يتمكن - عبر العودة بالقصة إلى الخلف(72)- من القبول بدمج التراجيدي مع الكوميدي في إطار سردي قصصي واحد.
وافق الشاب - أمام هذا الإلحاح - على سرد قصة إعاقته أمام الحاضرين، وهي قصة تحوي في تكوينها السردي مزجًا واضحًا بين العناصر الدرامية والكوميدية التي وقعت له. وقد تمثل العنصر الدرامي المأساوي فيما حدث لهذا الشاب من إعاقة في قدمه. ورغم بساطة الأحداث التي تسببت في وقوع هذه المأساة الإنسانية، إلا أنها ولَّدت لدى الحاضرين وكذلك المتلقي الخارجي إحساسًا مأساويًا واضحًا؛ حيث إن «الدراما بدورها، وهي تمثل الإنسان في الحركة يجب أن تمثل حركاته البسيطة المعتادة مثلما تمثل حركاته النبيلة»(73).
أما العنصر الكوميدي في حكايته مع المزين فقد تجلى عبر بعض المقومات السردية؛ تلك التي تمثلت في السمات التي احتوتها شخصية هذا المزين، ولا سيما الثرثرة والتسرع، وهو ما أدَّى معه إلى وقوع مجموعة من المفارقات التراجيكوميدية، التي نتجت عن سمات هذا المزين، وتسببت فيما وقع للشاب البغدادي من إعاقة.
لقد عانى الشاب قبل مقابلته المزين قصة حب مريرة سببت له ألمًا جسديًا ونفسيًا؛ فقد أحب ابنة قاضي المدينة، وضاقت به السبل في محاولة الوصول إليها. غير أن انفراجة قد حدثت في هذه الأزمة بمعاونة عجوز له وتحديد موعد له مع تلك الفتاة يوم الجمعة أثناء الصلاة. ويبدو للمتلقي - عبر هذه الانفراجة - أن ثمة شعورًا بالسعادة يخيم على مسارات الحدث، ولا سيما أن الشاب بدأ يجهز نفسه لهذه المقابلة. وكان من متطلبات التحضير للمقابلة أن طلب الشاب من غلامه - على عادة القدماء - إحضار مزين له كي يتزين قبيل المقابلة.
لم يكن الشاب يعلم أن طلبه هذا سيمثل بالنسبة له الخطأ المأساوي الذي وقع فيه دون دراية منه بمدى عمق هذا الخطأ، ولا سيما خطأ الاختيار لهذا المزين على وجه الخصوص من الغلام. فقد مثَّل المزين مع بداية ظهوره في الحدث القصصي توجهين مختلفين أو شعورين متناقضين أحسهما المتلقي: فمثل للمتلقي الخارجي - في البداية - نوعًا من أنواع الترويح الكوميدي، الذي أكمل المشهد والحدث السعيد الذي ينتظره الشاب، لكنه شكَّل - وفي الوقت ذاته - بداية الخط المأساوي للحدث بالنسبة للمتلقي الداخلي، وهو في هذه الحالة الشاب البغدادي.
اعتمد الحدث في بداية مقابلة الشاب للمزين على مجموعة من المفارقات التراجيكوميدية، التي بنيت على الرغبات المتناقضة للطرفين؛ فالشاب يشعر بالعجلة في أمره، راغبًا في مقابلة المحبوبة قبل عودة أبيها من صلاة الجمعة، بينما ترك الحلاق وظيفته الأساسية التي جاء من أجلها، وأصبح يتكلم في موضوعات جمة، تعطل مسار الأحداث، وتنحو بالحدث تجاه الإحساس التراجيكوميدي.
وفي هذه اللحظات، يبدأ «السرد يتحرك بين قطبي الثرثرة والفضول؛ فكل مواجهة لهذه الثرثرة تخفي نية ما للالتحاق بشغل بديل يود الحلاق معرفته. قال الحلاق: أظنك مستعجلاً. فقلت له: نعم نعم نعم. وكان الشاب البغدادي يتوقع منه الرضوخ للأمر الواقع والكف عن الثرثرة، لكنه وجد وضعًا مغايرًا، ورغبة مضادة في معرفة الخبر وتقصية. أي أن السرد يبتدىء حال التململ بين الاثنين»(74).
وتتخذ الأحداث منحى كوميديًا ساخرًا مبنيًا على التناقض الواقع في رد الفعل من المزين؛ حيث يشعر الشاب بالغضب، بينما يستمر هو في هرطقته غير عابىء بضجر الشاب؛ مدعيًا - رغم ذلك - أنه أقل إخوانه ثرثرة، مدللاً على ذلك بأسمائهم التي ترفع حدة التوتر الكوميدي في المشهد الحكائي؛ حيث يذكر مجموعة من الأسماء التي تلائم في دلالاتها الكوميديا دون التراجيديا(75)، وهم: البقبوق والهدار وبقبق والكوز الأصواني والعشار وشقالق، ويطلق على نفسه الصامت. وظل يمدح في ذاته ومنزلته وفي مهنته منشدًا يقول:
«جميع الصنائع مثل العقود
وهذا المزين درُّ السلوك
فيعلوا على كلِّ ذي حكمة
وتحت يديه رؤوس الملوك»(76).
وتزداد سخرية الحدث عبر هذا التناقض بين الطرفين، وهو تناقض يظهره صائغ الليالي عبر مجموعة من المرادفات اللغوية المتناقضة والتي تعبر عن موقف كل واحد منهما تجاه مسالك الآخر، كما تدعم - بجلاء - الشكل المأسملهاوي للحكاية. فبينما لا يجد الشاب وسيلة كي يعبر بها عن ضجره وضيقه مما يفعله المزين سوى بعض التعبيرات والأوصاف التي يصف بها حاله، مثل: «وكان الوقت قد ضاق حتى صار مثل صدري، كادت روحي أن تفارق جسمي»(77)، فإذا بالحجام - في الوقت نفسه - يزاوج في مسالكه بين كوميديا السلوك والحركة واللغة؛ فيلقي بالإصطرلاب من يديه على الأرض، ليجلس مقلِّبًا فيما منحه الشاب من طعام وشراب وبخور وطيب، ذاكرًا للشاب أسماء أصدقائه الذين سيتنعمون بما فيه بؤسه وشقاؤه، وهم» زيتون الحمامي وصليع الفسخاني وعوكل الفوال وعكرشة البقال وحميد الزبال وعكارش اللبان(78).
ويتمكن الشاب - بعد مجهود كبير - من الإفلات من هذا المزين الثرثار، ذاهبًا إلى بيت القاضي لملاقاة حبيبته، ويحتال المزين بالاختباء والسير خلف الشاب حتى منزل القاضي. تبنى هذه اللحظات السردية على مجموعة من المفارقات الكوميدية التي تعتمد في تشكلها على سوء الفهم الذي يخلق التراجيكوميديا في أبرز معانيها. ففي الوقت الذي يختبيء فيه الشاب في بيت القاضي يعود القاضي ليضرب جاريته على خطأ ارتكبته. ويبتدع صائغ الليالي - هنا - حيلة درامية تؤجج المشهد التراجيكوميدي؛ حيث يدخل أحد العبيد للدفاع عن الجارية، فيضربه القاضي، فيظن المزين أن هذا الصوت للشاب الذي يعرفه، فإذا به يهرول إلى أهل الشاب لنصرته.
وفي مشهد سردي تمثيلي تراجيكوميدي من الدرجة الفائقة، يحكي الشاب للجالسين كيف قاد المزين الناس في الطريق وهو أمامهم ممزق الثياب، يصرخ وهم يرددون «واقتيلاه».
ولم تقتصر الأفعال الساخرة من المزين على هذا، لكنه زاد من عمق الكوميديا في أفعاله عبر حكيه للقاضي عن قصة الشاب مع ابنته، وهو ما وضع القاضي في موقف الحَرج أمام جموع الحاضرين، وهو ما أدَّى - بطبيعة الحال - إلى شعور المتلقي بمشاعر متناقضة تصل في عمق تنافرها إلى حد الصدمة التراجيدية(79). فالمتلقي يشعر بسخرية سلوكية جلية جراء أفعال المزين، بينما يشعر - في الوقت ذاته - بالخوف والشفقة على هذا الشاب القابع داخل البيت، وما يمكن أن يلقاه على يد القاضي، وهو ما يؤدي معه إلى دخول المتلقي في حالة يمكن تسميتها بالتطهير التراجيكوميدي؛ حيث يشعر المتلقي إزاء هذا الموقف براحة شديدة لأنه رآه ولم يمر به، وهو في الوقت نفسه يشعر بسخرية الموقف.
ويـــزداد هـــــذا الشــــعور بــالتطهــــير الـــتراجيــكومـــــــيدي للمتلقي، عند دخول المزين إلى بيت القاضي للبحث عن الشاب، الــــذي اختبأ في صندوق داخل البيت ليس من صاحبه، وإنمـــا من هــــذا المزيــــــن الذي أتـــمَّ مــأساته عندما حمل الصندوق على رأسه فقفز منه الشاب وكسرت قدمه.
وتزداد حدة التفكه الدرامي في مسار الحدث عند هروب الشاب في الحارات والأزقة، والمزين يهرول خلفه، مدعيًا أنه أنقذه من الموت، مما دفع الشاب إلى تمني الموت، تاركًا المتلقي متحيرًا أيضحك على أفعال المزين الساخرة أم يحزن لما آل إليه حال هذا الشاب بعد أن تحولت حياته من الحب، الذي كاد يكتمل، إلى مأساة - في قصة الحب نفسها - خلقها له هذا المزين. ورغم هذا، فإن المزين ينكر أنه من تسبب في إيذائه مدعيًا أنه أنقذ حياته، وأنه أقل إخوانه كلامًا، ساردًا للجالسين حكايته مع أمير المؤمنين، لتبدأ بذلك وحدة سردية جديدة في إطار حكاية مزين بغداد.
5_3. يقدم المزين في هذه الوحدة السردية الطويلة حكايتين أساسيتين عبر تقنية التفريع الحكائي: قص في الأولى حكايته مع أمير المؤمنين، وفي الثانية ما حكاه لأمير المؤمنين من حكايات فرعية عن إخوانه الستة.
بنيــــــت الحكــــايــــــة الأولــــــــى عـــلـــى عنــصــر مـــــن عنـــاصــــــر التراجيديا وهو الموت؛ حيث حكم الخليفة المنتصر بالله بالقتل على عشرة أشخاص، دون أن تقدم الحكاية سبب هذا الحكم، وهو ما جعل الفعل القصصي في هذه الحكاية «عرضة للخرق والتمزق والإرجاء إزاء أي فعل خارجي، فيما يسمى بالمناطق الرخوة، التي تسمح بإدراج أفعال حكائية ثانوية في سياقها تتوالد باستمرار»(80). وتؤدي هذه المناطق الرخوة وظيفة أخرى في سياق الشكل التراجيكوميدي للحكايات؛ حيث تسمح - عبر رخاوتها - بإضافة بعض التفصيلات التي قد تؤدي إلى تغيير وجهة الأحداث من خلالها، سواء أكانت كوميدية، أم مأساوية.
لقد صمت المزين أمام قتل الخليفة لعشرة رجال من قبله، متخذًا من سؤال الخليفة عن سبب صمته، مبررًا لتقديم حكاية إخوانه الستة الذين أصيب كل واحد منهم بعاهة مختلفة، وكيف أن مروءته دفعته للوقوف بجانبهم جميعًا.
وتعـــد الحـــكايــــات فـــي مجملــــها مثــــالاً جليًــــا عـــلـــى تــــراجيكــــومـــيـــديــــا الأخـــــطـــــاء؛ حيــــث نـــبـــعت جميعها من أخطاء الإخوة، تلك التي تسببت في عاهة مختلفة لكل واحد منهم. فالأول، الخياط، استغلته جارته في تفصيل ملابس مجانية لزوجها، ثم علقته مكان الثور بالاتفاق مع صاحب المطحن، وقد تسببت هذه المرأة في طرده خارج المدينة. أما الثاني، وهو بقبق، الذي أغرته العجوز بجارية حسناء وقصر منيف، ثم وجد نفسه - بعد سُكرِه - في سوق بائعي الجلود، وقد حُلِق شعرُ جسده، مما تسبب في جلد الوالي له. أما الأخ الثالث، وهو الأعمى، فقد نفاه الحاكم خارج المدينة لأنه كان يستجدي الناس، رغم امتلاكه وزملائه من العميان عشرة آلاف درهم. أما الرابع، وهو الأعور، فقد طُرِد من المدينة، بعد أن حوَّل ساحرٌ ذبائحه إلى أجساد أناس، فذهب لمدينة أخرى ليطرده حاكمها - أيضًا - خوفًا من اعوراره. أما الأخ الخامس، مقطوع الأذنين، فقد رُزِقَ بكثير من النقود، فخرجت عليه مجموعة من اللصوص فسرقوه وقطعوا أذنه.أما الأخ الأخير، مقطوع الشفتين، فقد أصيب بالعاهة لمغازلته زوجة بدوي، فقطع شفتيه، ثم ألقاه فوق قمة جبل عالٍ.
ويلحظ للمدقق في تفصيلات هذه الحكايات الجزئية المتفرعة من حكاية المزين مع أمير المؤمنين المنتصر بالله، أنها تحتوي جميعًا علي جمعٍ بين عناصر مأساوية وعناصر ترويحية كوميدية اعتمادًا على العديد من المفارقات التراجيكوميدية التي سيطرت على مسارات الأحداث في جل هذه الحكايات؛ فالأول أسدى معروفًا للمرأة وزوجها، ورغم ذلك عُلِّقَ مكان الثور، وأصابه العرج، والثاني، مازال يستجدي الناس، رغم أنه يملك آلاف الدراهم، والأخير يغازل زوجة البدوي، رغم أنه مطرود من المدينة وقد مات صاحبه وعائله. وقد قرر الجالسون حبس المزين لكثرة ثرثرته. هكذا أخبر الخياط ملك الصين، ثم سرد له - عبر تقنية الاسترجاع - ما جرى له وزوجته مع الأحدب.
5-4. تأتي الوحدة السردية الأخيرة القصيرة من حيث الحجم من حكاية مزين بغداد، لتؤكد -عبر تشكلها - على الشكل التراجيكوميدي لتلك الحكاية، التي بدأت مأساوية بقتل الأحدب، وإصابة الشاب البغدادي بالعرج، وكذلك إصابة الإخوة الستة بعاهات متنوعة، لتنتهي نهاية سعيدة توافق الحكايات الشعبية من ناحية، وتخالف الشكل المأساوي الذي بدأت به من ناحية أخرى.
فقد أمر ملك الصين خدمَه بالذهاب مع الخياط لإحضار المزين من محبسه، وكانت لحظة مثوله أمام الملك من أهم لحظات المفارقات التراجيكوميدية في هذه الحكاية؛ حيث أدت إلى نسخ العنصر المأساوي الذي قامت عليه الحكاية، وذلك، عندما دهن المزين وجه الأحدب المقتول بدهن معين، ثم قام بسحب السمكة من حلقه، فوقف الأحدب منتصبًا من رقدته أمام الجميع.
تسبب عنصر المفاجأة في تجلي العديد من النتائج التي دعمت تراجيكوميديا حكاية المزين؛ فهي من ناحية أدت إلى تشتيت شعور المتلقي بالمأساة التي بدأت بها الحكاية، كما أنها دعمت الشعور لدى المتلقي بالتطهير التراجيكوميدي المزدوج عبر هذا السرد التمثيلي، الذي هيأ له الأحداث وكأنها واقعة أمام ناظريه، ثم إن هذه المفاجأة تسببت - أخيرًا - في إنهاء الحكاية نهاية سعيدة لجميع الأطراف؛ حيث أُنقِذ الأحدب من الموت، وخلع الملك على المزين خلعة سنية، وأصبح مزين المملكة، كما أمر الملك بخلع سنية لبقية الشخصيات.
6. لقد أبان التحليل التفتيتي لثلاث من حكايات الليالي - الإطارية والإسكافي والمزين - عن مجموعة من الاستخلاصات التي يمكن جمعها في خاتمة هذه الدراسة. ففضلاً عن النتائج الجزئية التي تجلت في تفصيلات التحليل الخاص بكل حكاية، فإنه يمكن بلورة مجموعة من النتائج الإجمالية للدراسة على النحو التالي:
- كشفت الدراسة عن أن ثمة مجموعة من السمات النوعية التي يمكن لليالي الالتقاء فيها مع النوع الدرامي الخاص بكتابة المسرح، أو على الأقل مجموعة من السمات التي يمكن الاستعاضة بها عن عنصر العرض المسرحي، ولا سيما احتواء الليالي على السرد التمثيلي الذي يهيء للمتلقي معايشة الأحداث وكأنها تعرض أمامه، وكذلك الكثير من المونولوجات التي احتوتها لغة الليالي والتي تقترب في وظائفها النوعية من تلك المونولوجات التي يستخدمها فن الدراما المسرحية.
- وقد أبان تحليل الحكاية الإطارية عن ذلك المزج الواضح بين تلك العناصر التراجيدية التي تجلت أكثر وضوحًا في جلال الشخصيات القائمة بالفعل، ومسالك الأحداث، التي بنيت في معظمها على القتل، وتلك العناصر الكوميدية التي قدمتها الليالي على لسان شهرزاد تدريجيًا عبر عناصر ومكونات الحكايات المتفرعة عن الحكاية الإطارية، وهو ما جعل من خاتمة هذه الحكاية عنصرًا فاعلاً في إطار تشكل الصيغة التراجيكوميدية الكاملة لهذه الحكاية؛ حيث انتهت نهاية سعيدة، أنست معها المتلقي مأساوية الأحداث التي افتتحت بها هذه الحكاية والتي تسبب فيها وجود عنصر الخيانة في سياق بداية الحدث القصصي.
- وكانت الحكايتان المختارتان في البحث، قد أكدتا - أيضًا - بطبائع تشكلهما على جوهرية الشكل المأسملهاوي، الذي قد يفارق أحيانًا الشكل التراجيدي، ولكنه يقترب من الشكل الدرامي الحديث، ممزوجة - في الوقت نفسه - بمجموعة من العناصر الكوميدية التي دعمت بروز الشكل التراجيكوميدي لهاتين الحكايتين.
- فقد امتزجت شروط النوعين المأساوي والكوميدي في الحكايتين؛ الشروط المأساوية التي تجلت في معاناة معروف الإسكافي الاجتماعية مع زوجته جراء ضعف في شخصيته، وسمات سلبية في شخصية زوجته، وهي ما ظهرت لدى المزين في قتل الأحدب عبر الخطأ وإصابة الشاب البغدادي بالعرج وكذلك الإخوة الستة بعاهات متنوعة.
- أما الملامح الكوميدية، فقد تمثلت في حكاية معروف الإسكافي عبر بروز التخفيف الكوميدي الذي أحدثه وجود عنصر نسوي من نوع مختلف عن زوجته الأولى وهي زوجته الثانية، بالإضافة إلى الدور الإيجابي الذي أداه له الجني لإنقاذه من زوجته، ومساعدته على الحصول على الكنز، ومن ثمَّ إنقاذه من بطش الحاكم به. أما الملامح الكوميدية في مزين بغداد فقد تشكلت عبر التناقض الحاد البارز في سمات ومسالك المزين من ناحية، وسمات ومسالك الشاب البغدادي من ناحية أخرى، ثم هذه الخاتمة السعيدة التي انتهت بها الحكاية، مؤدية إلى تخفيف حدة تراجيديا القتل الخاطىء التي بدأت بها الحكاية.
وهكذا، يمكن لهذه الدراسة أن تسعى لتقديم نتيجة أساسية يمكن استخلاصها على المستوى الخاص بطبيعة النوع الدرامي، وبطبيعة النوع التراجيكوميدي أيضًا، حيث يمكن للدراسة أن تقترح - في الخاتمة - تعريفًا لمصطلح التراجيكوميديا السردية، والمقصود به في هذا الإطار هو ذلك النوع من الكتابات السردية، التي تحوي في شكلها ومضمونها مجموعة من العناصر التي تنتمي إلى ما يمكن أن يخلق شعورًا مأسويًا لدى المتلقي، وكذلك تحوي مجموعة من العناصر التي يمكن لها الترويح عن المتلقي إزاء هذا الشعور المأساوي، وذلك عبر مجموعة من التقنيات السردية التي تسهم في الجمع بين المأساة والكوميديا، والتي تختلف تبعًا لطبيعة النوع السردي في كليته وشروطه العامة، كما تختلف تبعًا لأسلوب كل كاتب في عمله الإبداعي داخل النوع الأدبي ذاته. وهو ما يمكن معه وصف هذا المزيج التراجيكوميدي الذي تحويه الليالي بأنه يمثل بجلاء شكلاً من أشكال التداخل بين التراجيديا بعناصرها المتنوعة والكوميديا التي سيطرت في كثير من الأحايين على مكونات الحكايات في الليالي.
الهوامش:
1 - جيرار جينيت، مدخل لجامع النص، ترجمة عبد الرحمن أيوب، بغداد: دار الشئون الثقافية العامة (آفاق عربية)، 1985، ص 34.
2 - رينيه ويليك وآوستن وآرن، نظرية الأدب، تعريب عادل سلامة، الرياض: دار المريخ للنشر، 1992، ص 315.
3 - انظر، المرجع السابق، ص 315.
4 - نفسه، ص ص 319- 325.
5-FRANK HUM PHREY RISTINE, ENGLISH TRAGICOMEDY, ITS ORIGIN AND HISTORY, NEW YORK: 1910, P.2.
6-IBID, P.2.
7 - رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (110)، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1990، ص 311.
8 - المرجع السابق، ص 311.
9 - خلدون الشمعة، مقدمة في نظرية الأجناس الأدبية، مجلة المعرفة، العدد 177، سوريا : وزارة الثقافة والإرشاد القومي ، 1976، ص11.
10 - لطيفة إبراهيم برهم وقصي عطية، في تداخل الأجناس الأدبية، مجلة الآداب والعلوم الإنسانية، المجلد 33، العدد الثاني، سوريا: مجلة جامعة تشرين، 2011، ص 107.
11 - KATARINA KOBOZO.OVA, THE CHANGING VALUE OF THE THOUSAND AND ONE NIGHTS AND ITS INFLUENCE ON MODERN AND CONTEMPORARY ARABIC LITERATURE, BRATISLAVA: THE GRANT OF COMENIUS UNIVERSITY, 2012, P. 164.
12 - IBID ,P. 165.
13 - عبد العزيز شبيل، نظرية الأجناس الأدبية في التراث النثري « جدلية الحضور والغياب»، تونس: دار محمد علي العامي للنشر، 2001، ص 25.
14 - تزفيطان تودروف، مقولات السرد الأدبي « دراسات»، الرباط: منشورات اتحاد كتاب المغرب، 1992، ص40.
15 - انظر، رينيه ويليك، نظرية الأدب، مرجع سابق، ص 317.
16 - أرسطو، فن الشعر، ترجمة وتقديم وتعليق إبراهيم حمادة، القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1983، ص 88.
17 - المرجع السابق، ص 90.
18 - نورثروب فراي، تشريح النقد «محاولات أربع» ترجمة محمد عصفور، عمان: منشورات الجامعة الأردنية، عمادة البحث العلمي، 1991، ص 50.
19 - انظر، أرسطو، فن الشعر، مرجع سابق، ص 90.
20 - انظر، أريك بنتلي، الحياة في الدراما، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3، 1982، ص 308.
21- FRANK HUMPHREYRISTINE, ENGLISH TRAGICOMEDY, IBID , P.1.
22- LUCIANO GARCIA GARCIA, TOWARDS A DEFINITION OF EUROPEAN TRAGICOMEDY AND ROMANTIC COMEDY OF THE SEVENTEEN CENTURY: THE COURTLY FASHION IN ENGLAND AND SPAIN, UNIVERSITY OF JAEN, W.D, P 131.
23-STTEPHEN CONNARD, THE COMEDIC BASE OF BLACK COMEDY, AN ANALYSIS OF BLAK COMEDYAS AUNIQUE CONTEMPORARY FILM GENRE, AUSTRALIA: UNIVERSITY OF NEW SOUTH WALES, 2005, P. 11.
24- IBID, P. 11.
25- CHRIS BALDICK, THE CONCISE OXFORD DICTIONARY OF LITRARY TERMS, NEW YORK: UNIVERSITY PRESS ,2001 ,P 261.
26 - قاموس المسرح، تحرير وإشراف فاطمة موسى، الجزء الثاني، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008، ص 406.
27 - إبراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، القاهرة: دار المعارف، 1985، ص ص 258- 259.
28 - عبد الحميد حواس، أوراق في الثقافة الشعبية، مكتبة الدراسات الشعبية، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2005، ص 104.
29 - سهير القلماوي، ألف ليلة وليلة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997، ص 88.
30 - ميخائيل عواد، ألف ليلة وليلة مرآة الحضارة والمجتمع في العصر الإسلامي، سلسلة الثقافة الشعبية (46)، بغداد: مديرية الفنون والثقافة الشعبية بوزارة الإرشاد، 1996، ص 24.
31 - ديفيد بينولت، مدخل إلى ألف ليلة وليلة، ترجمة حسنة عبد السميع، مجلة فصول، العدد 48، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص 37.
32 - انظر، أرسطو، فن الشعر، مرجع سابق، ص 99.
33 - أحمد كمال زكي، عن ألف ليلة وليلة، مجلة فصول، المجلد 12، العدد 4 ، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص 27.
34 - سهير القلماوي، ألف ليلة وليلة، مرجع سابق، ص 103.
35 - انظر، سمر عطار وجيرهارد فيشر، فوضى الجنس، التحرر، الخضوع « نموذج الأنثى في القصة الإطارية ، مجلة فصول، المجلد 12، العدد الرابع، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص ص 131-132. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه رغم اعتراض جيرهارد شرودر وسمر عطار على تقسيم ليتمان للحكاية الإطارية لثلاثة عناصر، إلا أنهما لم يقدما جديدًا لهذا التقسيم، ولا سيما أن كليهما لم يلتفت إلى خاتمة هذه الحكاية.
36 - انظر، داوود سلمان الشويلي، ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية « دراسات»، دمشق: مكتبة الأسد الوطنية، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000، ص12.
37 - أرسطو، فن الشعر، مرجع سابق، ص 135.
38 - ألف ليلة وليلة، النسخة المقابلة والمصححة على النسخة المطبوعة بمطبعة بولاق الأميرية، المجلد الأول، القاهرة: المطبعة والمكتبة السعيدية، 1935، ص2. وقد اعتمد البحث على هذه النسخة من بين الطبعات المتعددة لليالي لأنها تضم ما يحويه النص الأصلي لليالي، وهي بعض التعبيرات والصيغ التي تم رفضها في بعض النسخ، والتي تسهم – في بعض مواضعها - في جلاء هذا التركيب التراجيكوميدي المزجي كما وضح في طيات البحث.
39 - أرسطو، فن الشعر، مرجع سابق، ص 120.
40- انظر، سهير القلماوي، ألف ليلة وليلة، مرجع سابق، ص 210.
41 - مولوين ميرشنت وكليفورد ليتش، الكوميديا والتراجيديا، ترجمة علي أحمد محمود، سلسلة عالم المعرفة (18)، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،1979، ص 36.
42 - ألف ليلة وليلة، المجلد الأول، مرجع سابق، ص 5.
43 - محمد أبو العلا السلاموني، عالم ساحر ولكن، مجلة فصول، المجلد 13، العدد 2، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص 438.
44 - أحمد شمس الدين الحجاجي، الأسطورة في المسرح المصري المعاصر (1933- 1970)، القاهرة: دار المعارف، 1984، ص438.
45 - أريك بنتلي، الحياة في الدراما، مرجع سابق، ص 327.
46 - انظر بعض الحيل التي توهم الجمهور بجلال البطل وعظمته. أوديت أصلان ، فن المسرح، ترجمة سامية أحمد أسعد، الجزء الثاني، القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1970، ص ص 628- 629.
47 - أريك بنتلي، الحياة في الدراما، مرجع سابق، ص 350.
48- STEPHEN CONNARD, THE COMEDIC BASE OF BLACK COMEDY, IBID, P. 15.
49 - أريك بنتلي، الحياة في الدراما، مرجع سابق، ص 315.
50 - ألف ليلة وليلة، المجلد الأول، مرجع سابق، ص 6.
51 - فريال جبوري غزول، البنية والدلالة في ألف ليلة، مجلة فصول، المجلد 12، العدد4، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص 82.
52 - إبراهيم محمود، صدع النص وارتحالات المعنى، حلب: مركز الإنماء الحضاري، 2000، ص 15.
53 - انظر، محمد عبد الله الشفقي، الكوميديا القاتمة والمسرح المعاصر، مرجع سابق، ص 69. فقد رصد في مقالته وجود هذا التناقض الداخلي والخارجي في سمات الشخصيات لدى بعض كتاب الدراما؛ مثل شكسبير وموليير وبيرانديللو.
54 - فريال جبوري غزول، البنية والدلالة في ألف ليلة، مرجع سابق، ص 82.
55 - مولوين ميرشنت وكليفورد وليتش، الكوميديا والتراجيديا، مرجع سابق، ص 146.
56 - موسوعة المصطلح النقدي، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، المجلد الأول، ط2، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1983، ص 20.
57 - انظر، فرج أحمد فرج، التحليل النفسي وألف ليلة وليلة « دراسة تمهيدية» ، مجلة فصول، المجلد 12، العدد4، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص 117.
58 - انظر، محمد رجب النجار، قصص الحب في الليالي « البنى والوظائف» ، مجلة فصول، المجلد 13 ، الجزء الثاني ، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص 257.
59 - انظر، أريك بنتلي، الحياة في الدراما، مرجع سابق، ص 304.
60 - نورثروب فراي، تشريح النقد « محاولات أربع» ، مرجع سابق، ص 52.
61 - المرجع السابق، ص 56.
62 - س.و. داوسن، الدراما والدرامية، ترجمة جعفر صادق الخليلي، ط2، بيروت: منشورات عويدات، 1989، ص 71.
63 - لاجوس إجري، فن كتابة المسرحية، ترجمة دريني خشبة، القاهرة: مكتبة الأنجلو، 1946، ص 168.
64 - سهير القلماوي، ألف ليلة وليلة، مرجع سابق، ص 199.
65 - تعد صيغة التكرار من أهم الجوانب البلاغية التي تشكل الجوانب التراجيكوميدية ضمن صيغ الخطاب. لمراجعة هذا، انظر،
STEPHEN CONNARD, THE COMEDC BASE OF BLACK COMEDY, IBID,P.14.
66 - IBID ,P. 11.
67 - ألف ليلة وليلة، المجلد الرابع، مرجع سابق، ص300.
68 - محمد رجب النجار، قصص الحب في الليالي « البنى والوظائف» ، مرجع سابق، ص 257.
69 - ألف ليلة وليلة، المجلد الرابع، مرجع سابق، ص 303.
70 - المرجع السابق، ص 303.
71 - انظر، و. د. هوراس، الكوميديا بين الدراما والنظرية، ضمن كتاب الكوميديا والمسرح المصري المعاصر(1975- 2000)، أمير سلامة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001، ص 14.
72 - LOOK TO: STEBHEN CONNARD, THE COMEDIC BASE OF BLACK COMEDY, IBID, P. 15.
73 - أشلي ديوكس، الدراما، ترجمة محمد خيري، القاهرة: عالم الكتب للنشر، د. ت، ص ص 36- 37.
74 - محسن جاسم الموسوي، صيغ الكلام وأوجه الكتابة في ألف ليلة وليلة، مجلة فصول، المجلد الثالث عشر ، الجزء الثاني، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص 39.
75 - يمكن الرجوع لتمييز هوراس بين طبيعة أسماء الشخصيات التراجيدية التي لابد أن تكون معروفة ومعلنة، وتتردى أثناء السقوط، وبين مجموعة الشخصيات الكوميدية التي تُتَخيل أسماؤهم دومًا. انظر، و. د. هوراس، الكوميديا بين الدراما والنظرية، ضمن كتاب الكوميديا والمسرح المصري المعاصر، مرجع سابق، ص 15.
76 - ألف ليلة وليلة، المجلد الأول، مرجع سابق، ص 106.
77 - المرجع السابق، ص 106.
78 - نفسه، ص 107.
79 - انظر، و. د. هوراس، الكوميديا بين الدراما والنظرية، مرجع سابق، ص 28.
80 - محمد رجب النجار، قصص الحب في الليالي، مرجع سابق، ص 264.
الصور:
1-http://2.bp.blogspot.com/-sGQk_nBduIg/Tx0z0ojtRDI/AAAAAAAAED8/uwtQc2HNs_U/s1600/%25D8%25B4%25D9%2587%25D8%25B1%25D8%25B2%25D8%25A7%25D8%25AF.jpeg
2-http://img01.deviantart.net/5308/i/2009/264/9/a/drama_mask_by_zakhren.jpg
3-http://feneeqnews.com/wp-content/uploads/2015/04/116.jpg