فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

توفيق الحكيم والأدب الشعبي أنماط من التناص الفولكلورى

العدد 31 - جديد النشر
توفيق الحكيم والأدب الشعبي أنماط من التناص الفولكلورى
كاتبة من مصر
 

نستعرض فيما يلي كتاب “توفيق الحكيم والادب الشعبي: أنماط من التناص الفولكلوري” للأستاذ الدكتور الراحل/ محمد رجب النجار أستاذ الفولكلور سابقا بكلية الآداب، جامعة الكويت والذي رحل عن عالمنا عام 2005. صدر هذا الكتاب عام 2001 عن دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.

يعد هذا الكتاب محاولة لإعادة اكتشاف الحكيم من وجهة نظر باحث فولكلوري يسعى بأدوات نقدية معاصرة الى قراءة بعض نصوصه المسرحية قراءة كاشفة عن النصوص الفولكلورية، علما بأن هذه النصوص محددة بمنظورها الفولكلوري الباحث عن أوجه تمظهر النص الشعبي في النص المسرحي وبيان علاقاته التي تربط الخطاب المسرحي الحديث بالخطاب الشعبي الموروث فيما أطلق عليه المؤلف: أنماط التناص الفولكلوري.

أشارالباحث المؤلف في بداية كتابه إلى الدعوة الرائدة التي أطلقها توفيق الحكيم (1898-1987) في عشرينيات القرن الماضي للمفكرين والمبدعين لضرورة العناية بالأدب الشعبي العربي (الشفهي والمدون) باعتباره تعبيرا جماليا عن روح الشعب وضمير الأمة حتى يمكن لهؤلاء المفكرين والمبدعين أن يؤدوا رسالتهم الفكرية والإبداعية في تنوير وتثوير الشعب، بل بدا للمؤلف أنه لا يوجد رائد من رواد التنوير العربي قد عني به قبله. لذايتحتم على النقادالاعتراف بما لتوفيق الحكيم من موقع تاريخي وموضع علمي من تاريخ ظهور علوم الفولكلور والدراسات الشعبية في بلادنا وجامعاتنا وان يقدروا له دعوته الرائدة والمبكرة للعناية بالتراث الشعبي العربي المدون والشفاهي يوم لم يكن ثمة صوت إلا صوته.

اكتفى الكاتب في هذه الدراسة باختيار أربعة نصوص مسرحية للحكيم هي:

- مسرحيات “نهر الجنون” (1938) كنموذج للتماهي النصي

-مسرحية مجلس العدل (1972) كنموذج للتوالد النصي

- مسرحية “السلطان الحائر” (1960) كنموذج للتناص المضمر

-مسرحية “يا طالع الشجرة ”(1962) نموذجا لما يعرف بــ “الميتا تناص”.

لقد ظهر التكوين الفولكلوري للحكيم جليا في تنشئته المبكرة من حيث مخزونه الثقافي الفولكلوري أو الشعبي، تجلى هذا عبر مرحلتين بارزتين هما:مرحلة التنشئة الاجتماعية “فولكلوريا” و“مرحلة التنشئة الثقافية فولكلوريا”. فيما يتعلق بالتنشئة الاجتماعية للحكيم قص الحكيم في كتابه “سجن العمر” أنه كان في طفولته المبكرة يشارك أمه وجدته الاستماع الى أعاجيب ألف ليلة وليلة والقصص الشعبي التي كان يقرأها عليهم بعض أفراد الأسرة كما شعر بالفن الشعبي أيضا في مشاهدته للمواكب الشعبية الكرنفالية التي كانت تمر سنويا تحت نوافذ منزل الأسرة. ولقد أشار الحكيم في فصلي في كتابه “فن الادب” (1952) الى ما اختزنه في ذاكرته النصية من مرحلة التنشئة الاجتماعية وكيف كان صوت طبلة الأراجوز هو أكثر ما يبهر مشاعره وهو طفل صغير وذلك إذا اقترب الأراجوز من الحي الذي كان يعيش فيه.

أما مرحلة التنشئة الثقافية “فولكلوريا”للحكيم والتي يطلق عليها في كتابه “أدب الحياة”مرحلة «التكوين الثقافي» فكانت تعني «الإحاطة بالمعرفة من منابعها الأولى الى آخر ما وصلت إليه» في أوروبا والتي وصلت الى ذروتها أثناء دراسته في باريس (1925-1928).

في واقع الامر احتدم الصراع داخل الحكيم بين الثقافتين الغربية والعربية فانحاز أول الأمر إلى ثقافة الآخر إلى حد التماهي فيها ولكن كان لديه وعي كبير بالبعد الفولكلوري إذ اكتشف أن روائع المسرحيات العالمية التي شاهدها لكبار الكتاب مثل أريستوفان وشكسبير وراسين وفولتير وابسن قد تأسست أو استلهمت في تكوينها الأساطير والنصوص الشعبية الأوروبية والاغريقية والعالمية. صحب هذا الوعي بالآخر لديه وعي آخر هو الأهم والذي يعنينا هنا، ألا وهوالوعي الموازي بضرورة استلهام التراث العربي مثلما يفعل كبار كتاب المسرح العالميين.

لقد وقع الحكيم في بداية حياته الثقافية والأدبية في مأزق ثقافي كبير حيث كان يفتقد الثقة بالأدب العربي الرسمي لخلوه من التراث الملحمي والإبداع القصصي، لذا انكب الحكيم على قراءة الأدب الشعبي الإسلامي باعتباره جزءا من موروثه الثقافي والأدبي لعله يجد فيه سبيلا إلى الخروج بمشروعه المسرحي إلى حيز التنفيذ. وانتهت هذه القراءة به إلى كثير من “الاكتشافات الإبداعية”التي كانت كامنة في الأدب الشعبي.كان الحكيم يرى أن ظهور الأدب الشعبي أحيانا ما يكون علامة قصور او تقصير من الأدب الرسمي او صرخة احتجاج على جمود الفصحاء... هكذا ظهر القصص الشعبي في صورة عنترة ومجنون ليلى، وهكذا سار الأدب الخيالي الاجتماعي الشعبي عندما سارت الحياة الإسلامية فإذا نحن أمام عمل فني رائع هو ألف ليلة وليلة وقصة أبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن، الخ.إن الحكيم لم ير في دعوته إلى العناية بالفنون الشعبية واستلهامها تغريدا خارج السرب ولم يتوقف عند دعوته الرائدة بل بادر إلى ممارستها بنفسه في الفعل الإبداعي والنقدي لديه عندما عثر على منابعه التراثية التي استخلصها لنفسه.

بعد ذلك استعرض المؤلف “أنماط من التناص الفولكلوري” عند توفيق الحكيم وذلك في معرض اختياره وعرضه لأربعة نصوص مسرحية له كما سبق وذكرنا.ولنأخذ نموذجا لذلك النمط الأول: وهو مسرحية “نهر الجنون” ونمط التماهي النصي، إن المعنى الذي انطوت عليه المسرحية من تحذير مباشر من الحكم الفردي في عصر الملكية في مصر لا يجعلنا نتغافل عن المتن السردي للمسرحية المستعار بالكامل من حكاية شعبية مماثلة لها من حيث البنية المورفولوجية والوظيفية، مما يعني ان استتر وراء هذه الحكاية الشعبية باعتبارها قناعا تراثيا وذلك دون ان يشير الى مصدر هذه الحكاية الشعبية التي تماهى فيها- تركيبيا ودلاليا- ولم ينتبه النقاد الى أصولها التي وردت في مخطوطة “الأسد والغواص” القصصية التي تعود الى القرن الخامس الهجري وتضم عددا من الحكايات الرمزية السياسية العربية على لسان الحيوان فيما يعرف باسم (أدبيات مرايا الغواص).

بعد أن قام الحكيم بنشر كتابه “شجرة الحكم” في عام 1945 ما لبث أن عزز هذا الكتاب بعمل إبداعي سياسي آخر يعالج فيه نفس القضية ألا وهي فساد النظام النيابي في بلادنا بكتابة مسرحية أخرى من فصل واحد استلهم فيها أيضا التراث الشعبي المدون وعنوانها “ألف ليلة وليلتان”حيث بعث من خلالها رسالة سياسية الى الملك فاروق-بشكل غير مباشر-إلى ضرورة الانحياز إلى الشعب بدلا من الانعزال عنه، وهي رسالة مماثلة لنفس الرسالة التي سبق أن بعث بها الى الملك فؤاد في مسرحية نهر الجنون يدعوه فيها الى الأخذ بالنظام الديمقراطي.

ومن هنا تتناص المسرحيتان “نهر الجنون” و“ألف ليلة وليلتان” على مستوى التناص الذاتي سواء أكان ذلك في الدلالة أو انتاج المعنى أو استلهام النصوص الشعبية والتماهي فيها حيث تتكئ أيضا المسرحية الأخيرة على نص شعبي عماده الحكاية الإطارية في “ألف ليلة وليلة”، بالإضافة الى ذلك تعالقت المسرحيتان على مستوى التناص الخارجي أيضا مع الواقع السياسي الراهن آنذاك.

في هذه المرحلة المبكرة من حياة الحكيم المسرحية كان يتفاعل تفاعلا متماهيا مع التراث الشعبي الذي لا يلبث ان يتجاوزه بعد ذلك إلى أنماط أخرى من التناص في نصوص مسرحية لاحقة لا يتماهى فيها على هذا النحو المباشر التركيبي والدلالي إلى حيث أنماط أخرى من التناص يتعدى فيها مرحلته التناصية المبكرة التي كان يقوم فيها على إعادة إنتاج النص الشعبي مسرحيا ومحاكاته إلى مرحلة تناصية أكثر ديناميكية إثر تنامي وعيه الفني والنقدي بالنص الشعبي فشرع عندئذ يتعالق معه معارضا له او حتى متماثلا معه ولكن بوعي عميق بالمادة الفولكلورية وأساليب استلهامها وكيفية توظيفها والإفادة من وظائفها الجمعية في انتاج نصوص إبداعية جديدة منتجة لدلالات عصرية.

من خلال هذه الدراسة المطولة عن «توفيق الحكيم والادب الشعبي» يتأكد لدينا أن الحكيم مدين في تحقيق «مشروعه المسرحي» للأدب الشعبي خصوصا والفن الشعبي عموما في أهم مفاصله التكوينية أو التأسيسية والتجريبية على مستويات ثلاث هي: المستوى الموضوعي والمستوى التجريبي والمستوى التأصيلي.وبهذه المستويات الثلاثة يمكن الخروج بالظاهرة المسرحية العربية عموما والمشروع المسرحي للحكيم خصوصا من دوائر التبعية الغربية موضوعا وتجريبا وتأصيلا وإن كان ثمة غايتان أخريان على المستوى الثانوي للدراسة.

الغاية الأولى ان الحكيم ليس «رائد» المسرح العربي الحديث فحسب بل هو أيضا «رائد» فولكلوري من رواد الدعوة الى العناية بالأدب الشعبي والفنون الشعبية ودراستها ورد الاعتبار لها، والغاية الأخرى: إن اعتصام الحكيم بتراثه الشعبي منذ سنوات «تكوينه الفولكلوري» المبكر ما يخفف من غلواء الاتهام الموجه للحكيم بتبعيته للثقافة الغربية حيث أنه رأى ان المكون الفولكلوري للمثقف العربي هو خط الدفاع الأول في مواجهة الآخر والحيلولة دون التماهي فيه شأنه في ذلك شأن كل مثقفي التنوير في بلادنا-وهو رأي لا يزال قائما بقوة خاصة في عصر العولمة.

أعداد المجلة