فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

في الثقافة والإنسان

العدد 31 - التصدير
في الثقافة والإنسان

تقرّر في الأدبيات الفلسفية  منذ زمن بعيد أن الإنسان هو نتاج طبيعي ـ ثقافي . فهو من الناحية الفيزيولوجية التشريحية يماثل أيّ حيوان من حيوانات الأرض. لا فرق بينه وبين أصغرها  شأنا. ولكن الذي أتاح له مصيره الذي خوّل له أن يتميّز عن كل الكائنات هو مُكوّنه الثقافي . فقد جُبل خلقة  على أن يتثقف ويُنمّيَ فيه تلك الكفاية الذهنية التي جعلته يُكرّم ويُفضّل على كثير ممّاخلق الله تفضيلا.

والثقافة عنصركثير التعدد، شديد الاختلاف ،غزير التنوّع . على أساسه تتمايز المجتمعات وتختلف الجماعات تمايزا واختلافا مكّـنا علماء الإناسة من استنباط الوسائل النظرية التي أتاحت لهم دراسة الخصائص الاثنية التي تميز البشر في صنوف اجتماعهم وطرائق معاشهم، حيث يتسع لنا أن نتبيـّـن إلى أيّ حـدّ يمكن للثقافيّ أن يكون ثريّـا في تعدّده، عبقريا في تنوّعه. ولكن هذا التمايز الثقافي  العميق الذي أدّى في مراحل مختلفة من تاريخ البشرية إلى صراعات دامية، لم يحجب التواصل بين الجماعات المختلفة . ولم يحل دون التبادل بينها على المستويين المادي وغير المادي. وهو ما يَـسّـرالتثاقف  وأتاح للمجتمعات أن يفيد بعضها من بعض حتى يتسع مجال المحلي القريب ليحقق متعة النائي البعيد يسد الثغرة ويستجيب إلى الحاجة.

إن الثقافي في الإنسان هو إكسير كينونته وجوهر ماهيته . ولكنه جوهر مستحيل، متحول، مهيأ لأن ينموَ ويتخلّص إلى مزيد من الإنسانية. استعداد طبيعيٌّ جبل عليه الإنسان، كلما اكتسب من الثقافة نصيبا طلب المزيد. ذاك الذي قيض للبشرية تدرُّجها الحضاري وترقـيها في مراتب الإنسانية.

فلم يكن غريبا والأمر كذلك أن يكون عمق الثقافة مفضيا إلى أنبل القيم التي تؤمن بالإنسان، مقتضيا سماحة الخلال التي تجعلك ترى في الآخرالمختلف عنك صورة مغايرة لك. تعرب عن وجدانك ولكن بشكل مختلف وتعكس روحك ولكن على نحو مغاير. إذ كلما كان الإنسان أقرب إلى جوهر الإنسانية دل على عمق ثقافته التي تعني في أبرز ما تعنيه استعداده لأن يحترم غيره المختلف عنه في نمط عيشه وطرائق تفكيره وأسس اعتقاده. وكلما كان بعيدا عنها تملكته أوهامُ الأفضلية ليعتقد أن ثقافته أفضل الثقافات وأن أمته خير الأمم. وتذهب به الأوهام بعيدا حتى ينكر على غيره حق الوجود.

ولا مراء في أن الثقافة العربية الإسلامية شاركت غيرها من الثقافات الطموحَ إلى الأفق الذي يتيح التعامل مع الإنسان مهما كانت ثقافته باعتباره إنسانا مع ما يقتضيه ذلك من إيثار ونكران ذات ونزعة إلى اعتبار الإنسان أخا للإنسان بصرف النظرعن جنسه ودينه وثقافته. لكن ذلك لم يحل دون ظهور نزعات التعصب هنا وهناك مع مايحتمله ذلك من إنكار حق الآخر في أن يكون مختلفا في ضميره ومسلك حياته.
والحقيقة أنه كلما اتسعت دائرة الانفتاح على أفنان الثقافة المختلفة من قراءة ورسم ونحت وموسيقى ومسرح وسينما زادت حظوظ النوازع الحيوانية في الإنسان لأن تُـشذّب وتُـهذب. عندئذ تُـدجن الغرائز العدوانية في المرء ويتاح له أن يُعدل ما يمكن أن تحتمله ثقافته من دوافع طاردة. فتلين الشدةُ ويرقّ الطبعُ ويزداد الخلق سماحة . فالثقافة ليست معطى جامدا متحجرا لا يتغير.هي أخذ وعطاء تفيد من المنجزات الفكرية والمكتشفات العلمية النظرية منها والعملية. وهي تبقى مع ذلك أكثر سعة. ولهذا السبب نرى متعلمين حاصلين على أعلى الشهادات، حائزين أسمى الدرجات، إذا غادروا مجال تخصصهم ألفيتهم إلى الأمية أقرب. يسهل استقطابهم من أوساط التعصب والإرهاب. يحوّلونهم إلى مجرد أدوات ينفذون من خلالهم أغراضهم الحاقدة على الحياة والأحياء.

إن الثقافة في معناها اللغوي الأساس وفي دلالتها الحضارية الواسعة فكرة عميقة ومعاناة خلاقة وإبداعات فذة تقوم شاهدة مهما طال الزمان على عبقرية الإنسان في تحديه لحيرة الوجود وقصر العمر وعوادي الزمن. تمضي في وعي عميق بنسبية الأمور إلى نحت إنسانية الإنسان متجاوزة كل مظاهر التعصب والحقد والكراهية والتمييز.لذلك كان الانفتاح على الثقافة انفتاحا على الانسان في مراحل كيانه المختلفة الحادث منها والممكن.وكل اعتداء على شواهدها أو أوابدها هو اعتداء على الانسان في جوهر وجوده مع مايعنيه ذلك من انغلاق لأبواب الأمل وانسداد لآفاق المستقبل.

أعداد المجلة