فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

المرأة السودانية والثقافة الموسيقية رقصتي الزار والعروس موسـيقى فيزيائية

العدد 12 - موسيقى وأداء حركي
المرأة السودانية والثقافة الموسيقية رقصتي الزار والعروس موسـيقى فيزيائية
كاتب من السودان

من هي المرأة السودانية التي نتحدث عنها؟

هي تلك المرأة التي نشأت وترعرعت في المدن وأشباهها  في عشرينيات القرن المنصرم، حيث سيطرة الثقافة العربية – الاسلامية، والتي كانت معزولة عن الرجل ولها عالمها الخاص؛ لا تمشي في الأسواق، وقابعة في المنزل حتى أنك «إن أردت أن ترى فاطمة في البيت، فعليك رؤية أحمد في السوق». فهي حسب عادات ذلك الزمان تصنفها العقلية الشعبية كالآتي:

المـرا........من عتبة البـاب ولي ورا.

ونصف المرا، مرقت لي جارتها بي ضرا.

وبلاش من مرا، ناس السوق جابوا خبرا(1).

وهو تصنيف يتفق مع ما قال به الشيخ فرح ود تكتوك حين وصفه النساء:

فِيهِن دهب مخـزون قـديم

فِيهِن نحـاس خارج رمـيم

فِيهِن عقارب ساكنات هشيم(2)

فالنساء اللائى يلتزمن البيت (التخزين) رُمز لهن بالمعدن النفيس الذهب، بينما أولئك اللائى يخرجن من بيوتهن فإنهن شُبهن بالنحاس والذي يبدو كالذهب لوناً ولكنه معدن رخيص. أما المتذبذبات بين هذا وذاك فقد اعتبرن كما العقارب التي لا يُؤمن جانبها. وحتى في حفلات الزواج سابقاً، وهي من المناسبات القليلة التي كان يُسمح فيها بتواجد النساء مع الرجال، فإنهن كن يحضرن «مبلمات»(3)ويجلسن لوحدهن على «السباتة»(4) دون اختلاط بالرجال، ووجوههن في الاتجاه المعاكس لتواجد الرجال.

تلك المرأة لم تكن متعلمة ولا تمارس أي مهنة سوى الأعمال المنزلية أو الذهاب إلى «بيت الخياطة» - في مرحلة لاحقة - كي تتعلم تلك الحرفة. وفي هذا السياق ولدى تلك المرأة المدينيّة كانت رقصتا العروس والزار ممارستين موسيقيتين خاصتين بها وعلى درجة عالية من الأهمية في حياتها وعالمها الخاص.

ما هي الثقافة الموسيقية؟

«هي مجموعة التقاليد المرتبطة بالنشاط الموسيقي المعني والتي تكون حاضرة عند التقاء ما هو موسيقي بما هو اجتماعي. وهي تقاليد ينتجها ويمارسها ويعيد إنتاجها أفراد المجتمع الذين يصنعون الموسيقى أو آلاتها أو يشاركون في عروضها»(5).

وبناء عليه فإن الثقافة الموسيقية شيء متحرك وحي، فهي لا تتشكل بالأفكار التي تتبلور في محيطها وبيئتها الاجتماعية والطبيعية فحسب ولكنها تتأثر أيضاً بتفاعلات صانعي الموسيقى مع البيئة الواسعة ومع عوالمهم الحقيقية.

ورغم أن الثقافة الموسيقية يمكن أن تتفاعل أو تتداخل مع مجالات ثقافية أخرى في بعض المساحات، إلا أنها تحتفظ بهوية مميزة، ليس على المستوى الموسيقي فحسب ولكن على المستوى الاجتماعي أيضاً.

فالسلوك الذي يعتبر مقبولاً ومناسباً في عرض موسيقي، قد لا يعتبر كذلك في مكان آخر. وما يقوله الشخص عبر الموسيقى، لا يمكن قوله بالحديث العادي. والحرية المتاحة للأفراد في العروض الموسيقية والتي أحياناً تجد التشجيع في بعض المجتمعات، قد لا يُسمح بها خارج هذه العروض. والأفراد الذين يحافظون على مسافات اجتماعية بينهم والآخرين في بعض المناسبات، قد ينسجمون مع هؤلاء الأفراد أثناء العروض الموسيقية. والأزياء التي يرتديها البعض وهم يحركون أجسادهم أمام الملإ بشكل مثير، أمر لا يمكن حدوثه إلا في مثل هذا السياق.

نحاول في هذا المقال أن نستمد من هوية هذه الثقافة الموسيقية جرأتها علها تعين على إيجاد تفسيرات نعتقد أنها تتفق منطقياً مع الأفكار التي كانت تسود مجتمع المرأة السودانية في تلك الأزمنة، حيث تم إبداع ضروب من الممارسات الموسيقية مثل رقصتي العروس والزار. كما نحاول أن نبحث عن الخيوط الرابطة بين هاتين الممارستين الموسيقيتين اللتين تنتميان مباشرة للعوالم الخاصة بتلك المرأة.

أولاً: رقصة العروس:

كتبت صوفيا زينوفسكيSophie Zenkovsky  (1945) في مجلة السودان في رسائل ومدونات عن عادات الزواج في أم درمان بالسودان وذكرت بأن الفتاة عادة لا تعترض على الزوج الذي يتقدم للزواج بها، ذلك لأنها غالباً ما تكون على علم بزوج المستقبل منذ الطفولة. ولكن أحياناً يحدث رفض لذلك الزوج المقترح بواسطة «الريح الأحمر»(6) أو الزار. ويعتقد أحمد الصافي أن هذا الريح الأحمر موجود لدى كل النساء ولكن بعضهن معتّقات والبعض الآخر غير محصن ويمكن أن يتأثر بشكل سيىء(7).

ورقصة العروس هي اختصاراً: عبارة عن عرض موسيقي راقص تؤديه العروس لوحدها ضمن مراسم الزواج، ولا يؤدى خارج هذا السياق، حيث تسبق ذلك بعض الإجراءات والطقوس. والرقصة تؤدى بشكل رئيس في ليلة «قطع الرحط»، والرحط (أو الرهط)(8)هو نُقبة من جلد أحمر مشقق سيوراً ليس له حُجزة ولا ساقان يُشد كما تُشد السراويل ويكاد يسمح بالنظر من خلاله، تلبسه العروس لتستر به عورتها. ويُعتبر الرحط اللباس المميز للعروس والمصاحب لرقصتها في ذلك الزمان. كما تُزين العروس بالتمائم والحروز وخيوط الحرير الحمراء اللون وتُسمى «الجِرتِق». وتقول سامية النقر، في هذا السياق:

«عند تخطي أي مرحلة من مراحل الحياة، فإن الناس يعتقدون في وجود خطر غير معلوم – مشاهرا - والذي يمكن أن يتسبب في المرض أو الخراب، لهذا فإنهم يعمدون لممارسة عدد من الطقوس لوقف هذا الخطر المحتمل. إنهم يستخدمون زينة الجرتق في الزواج والولادة والختان لوقف الخطر في عتبته الأولى»(9).

و«قطع الرحط»، والذي يمثل ذروة الحدث لرقصة العروس، كان ممارسةً لا يحضرها إلا الأقربون. ويتم ذلك في سرية عند الصبح وفي غرفة مغلقة بحضور العريس وبعض الأقرباء من النساء، ذلك لأن العروس في تلك اللحظات لا ترتدي سوى الرحط وتتزين بالجرتق والحُلي وهي ترقص. ولكن عادة ما يتم حضور عدد كبير من النساء لهذه اللحظة، خاصة النساء كبيرات السن، واللائي يعتقدن أن الزواج هو «قطع رحط»، كما «الحج عرفة»!

إن رقصة العروس هي مجموعة من الرقصات التي صُممت ظاهرياً وبشكل أساس لإبراز مفاتن المرأة وإظهار مدى ليونة جسدها ومطاوعته للتشكيلات الحركية المطلوبة. وهي رقصة يتم التدرب عليها قبل الزواج بواسطة إمرأة تُدعى «االعلامة»، حيث يتم في ذات الوقت تدريب الفتاة على بعض السلوكيات الأخرى التي تكسبها الجرأة الكافية وتهيئها للانتقال من مرحلة الصبا إلى مرحلة الأنوثة الكاملة لتصبح إمرأة، وتُسمى «الجلع» كما يقول بذلك أحمد المعتصم الشيخ(10). فعالم الرجال وعلاقة الرجل بالمرأة أمور تجهلها فتيات ذلك الزمان تماماً. وانعدام مثل هذه التهيئة، والتي تقوم بها نساء خبيرات، قد تقود إلى فشل الزواج أو إصابة الفتاة بهزة نفسية.

ويصحب رقصة العروس قرع طبول «الدلوكة»، وهي طبل من الفخار، والصفقة والغناء. وتتصف إيقاعات هذه الموسيقى بالانتظام والبساطة التي تخلو من التراكيب المعقدة. كما تتصف ألحانها أيضاً بالبساطة والتكرار والخلو من الزخارف والقفزات النغمية. وهي ألحان خطية أفقية، ونصوصها قابلة للترداد وسرعة الاستيعاب من جمهور الحضور من النساء المشاركات في الأداء، حيث يقمن بترديدها خلف المغنية الرئيسة، وفي الغالب الأعم ما تكون ذات الشخصية التي قامت بتعليم العروس الرقص.

إن فترة الرقص عادة ما تستمر لعدة ساعات، تتغير وتتنوع فيها الرقصات والملابس، وتتخلل ذلك بعض الوقفات لتعديل الزينة أو ما شابه ذلك. كما تستخدم سقطة العروس أو جلوسها على الأرض في غفلة من العريس «القون goal» كعامل مكثف للأداء الموسيقي(11) Intensity Factor، حيث تشتد حماسة المؤدين والحضور.

ثانياً: رقصـــة الــــزار:

إن طقس الزار ممارسة نسائية تنبني على الاعتقاد بأن المرأة التي تشعر ببعض العلل، خاصة حالات الاكتئاب والضجر، ربما تقمصتها بعض الأرواح الشريرة (الريح الأحمر). وللتخلص من هذه الأرواح أوالحد من شرورها يتم اللجوء لمشايخ الزار والذين يلعبون دور الوسيط بين المريض وهذه الأرواح بغرض إرضائها وتفادي الأذى الذي قد ينتج عنها. وطقس الزار هو في الأساس عبارة عن عرض موسيقي يلعب فيه اللحن والإيقاع الدور الرئيس من حيث انفعال الحضور بالحدث ومن ثَم المشـاركة فيه، حيث تتواتر الأخبار، عند فتح العلبة لتشخيص حالة المريضة وتحديد نوعية الروح التي تتقمصها، بأن (فلانة دقو ليها زار) إشارة إلى الإيقـاع. وكذلك يقولـون بأن (فلانة خيطها جا) للدلالة على اللحن المعين الذي تنفعل معه فلانة هذه. والموسيقى ما هي إلا ألحان منضبطة بإيقاعات معينة. فقد ورد في دراسة لفاطمة بابكر حول المرأة الأفريقية أنه عندما تقرر الشيخة، التي تلعب دور الوسيط بين روح الزار ومرضاها، أن الزار قد تملك المرأة، تقوم بتشخيصها وتتفق معها على موعد دق الزار، وهو بمثابة تجمع يتم فيه الضرب على الطبول والدفوف(12).

ولكن لم تتعرّض جل الكتابات التي تمت عن الزار، على كثرتها، للنشاط الموسـيقي المصاحب لهذا الطقس إطلاقاً. فقد توصل شيخ إدريس عبد الرحيم، في دراسته النفسية التي أُجريت على عينة من النساء متوسطات العمر، إلى حقيقة أن الزار يساعد بعض المريضات، خاصة اللائي لديهن انفعالات هستيرية أو حالات قلق، عن طريق تسكين تلك الأعراض بشكل ملحوظ(13). ولكن الكاتب لم يُبِنْ لنا ما هو العنصر المحوري الجالب لتلك السكينة للمريض وكيف؟ و نظرت سامية النقر إلى الزار بحسبان أنه ممارسة خاصة بالنساء أملتها الظروف الاجتماعية – الثقافية. وصنفته ضمن الممارسات أو التقاليد التي يُنظر إليها على أنها تتعارض مع الدين. وتعتبره هي نشاطاً علاجياً مهماً وسط النساء(14). ولكنها لم تقل لنا ما هي مكونات هذا العلاج، وما هو دور الموسيقى المصاحبة لعروض الزار في هذا العلاج وكيف؟ وحاول شرف الدين الأمين أن يردّ على المعترضين على الزار من وجهة نظر دينية. وذكر بأن الزار هو أيضاً ممارسة دينية شعبية شأنه شأن بقية الممارسات الدينية الأخرى في أفريقيا، وله وظيفة علاجية نفسية حسب إفادة الممارسين الذين تمت معهم مقابلات والذين قالوا بأنهم شعروا بتحسن في حالتهم الصحية عقب مشاركتهم في هذه العروض(15). بيد أنه اكتفى بهذه الإفادات ولم يذهب إلى أبعد من ذلك.

ونلحظ أنه يمكن لإيقاعات الزار وألحانه أن تؤثر على سـامعها فيدخل في حالة من الجذب كما المتصوفة، إن كانت تتقمصه روح الزار، حتى وإن استمع إليها خارج السياق الطبيعي للزار. ولهذا تمثل الموسـيقى نواة الطقس وأكثر مكـوناته تأثيراً على من تتقمصـهم روح الزار. فقد انفعل كثيرٌ من النساء بمثل هذه الألحان والإيقاعات في مناسبات الأفراح المختلفة والتي يحلو لبعض المغنين توظيف بعض ألحان وإيقاعات الزار مع نصوص غنائية أخرى. فإغفال جل الدراسات السابقة حول طقس الزار هذا الجانب المهم والخاص بالبناء الموسيقي، ربما كان له أثر على النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسات على اختلاف الزوايا التي نظرت بها إلى الطقس.

إن معرفة البناء الموسيقي لعروض الزار تسهم بدرجة كبيرة في معرفة التفاصيل الداخلية لهذه الممارسة الشعبية. ويعين هذا، من ثم، على الوصول لتفسير الظاهرة بطريقة أكثر عمقاً، ما يسهل التعامل معها بجدية وتفهم، عوضاً عن النظر إليها من خارجها ومحاكمتها بتفسيرات ومعايير ذات طابع أُحادي.

ولا تتعدى نصوص الزار بشكل أساس البيت الواحد، مثل:                         

ديل جمال شايلات مويا

الدِندِر بعيدة والله يا خويا

يصاحب مثل هذا النص عادةً لحنٌ بسيط يخلو من القفزات النغمية ذات الأبعاد الواسعة. وينبني اللحن أيضاً على إيقاع بسيط غير مركب أو متقاطع أو أعرج أو شاذ. ويكون في الغالب الأعم ثلاثياً، وإن كان الإيقاع الرباعي رغم ندرته وارد الحدوث كما هو الحال في تنغيم نصوص هذا المثال:

بتتبع هذا الرسم البياني، والذي يُعتبر من ألحان الزار المعقدة نسبياً، نتبين بسهولة كيف أنه يتأرجح في جزئه الأول، السؤال، أفقياً حول محور السينات في أقصى حالاته حول الصوت الرابع G في المنظومة الخماسية(16)  التي بُني عليها وهي: C D E G A. ثم يأخذ مسار درجات تلك المنظومة النغمية صعوداً وهبوطاً في الجزء الثاني، الجواب، دون تجاوز لأي من درجاتها، أي دون قفزات. وهذه المواصفات البنائية والتي تنطبق على جل أغاني الزار لم يتم اختيارها اعتباطاً، وإنما قُصد بها أن يلتقط المشاركون النصوص المغناة بسهولة حال صدورها من شيخ أو شيخة الزار، ليقوموا بترديدها بعده أو بعدها.

وتُسهم أساليب الغناء المتمثلة في الاستجابة والتكرار والمحاكاة، كتقنيات موسيقية تقليدية، في نقل المعرفة وتداولها بين الناس في هذه المجتمـعات وبشكل واسع. ولكن الأهم من ذلك هو أن هذه الإيقاعات البسـيطة السـريعة ثلاثية التكوين، (وأحياناً رباعية التكوين) وذات الأصوات العالية، تسهم في تحريك أعضاء جسم الإنسان بشكل منتظم ومتكرر ولأطول مدة ممكنة. وتعتقد جلين ولسون  Jillian Wilsonفي هذا السياق إن لمثل هذه الموسيقى قوتها على إحداث المتعة بشكل يعادل المخدرات المحدثة للانتشاء.(17)  وقد أورد وليد الشوبكي مثل هذه النتيجة أيضاً في مقاله «رؤية الموسيقى في المخ»، حيث أبان أن بعض الباحثين الأمريكيين قد أشاروا إلى أن النشوة التي تُستحث في الدماغ بفعل الموسيقى الخلابة، تماثل تلك التي تتخلق عندما يتناول الفرد الكوكايين أو يمارس الجنس.(18) وتذكر جلين ولسون أيضاً:

«إنه قد تبين أن الموسيقى الأسرع والأعلى تعمل على زيادة معدل ضربات القلب، ومن ثم تحدث إحساساً بالاستثارة. ويمكن للإيقاع المتكرر أن يحدث حالات تشبه الخدر أو الغشية، تصل أحياناً إلى درجة النشوة أو الابتهاج الغامر. وقد يُعزى هذا إلى أن الدوائر العصبية تعمل على ترديد أو ترجيع أصداء الأصوات بطريقة تجعلها قادرة على إنتاج التغيرات في كيمياء المخ، أو إحداث حالات كهربائية مماثلة للتشنجات الصرعية».(19)

ثالثاً: الأجندة الخفية لرقصة العروس:

كما ذكرنا آنفاً، فإن الثقافة الموسيقية تسمح بطرح الأقوال والأفعال بالطريقة التي يصعب على المرء أن يقوم بها خارج هذا السياق. فالمناسبة الخاصة برقصة العروس لعب، كما يُقال في السودان. ولكن خلف هذا الظاهر من اللعب أمور غاية في الجدية والصرامة يخبرها الذين قاموا منذ البداية بتوظيف هذا السياق والاستفادة منه لتمرير تلك الأجندة والتي غالباً ما تكون خافية على كثيرين من الذين يشاركون في تلك العروض من المشاهدين، والذين يُقال لهم المطاميس، كما تكون خافية على العروس ذاتها. فالذهنية الشعبية تقول: «العروس للعريس واللعب للمطاميس».

ففي تلك المجتمعات وفي ذلك الزمان كان أهم شيء في الزوجة المختارة هو العذرية Virginity. والتأكد من هذا الأمر يخص العريس وأسرته أولاً وعليهم الوصول إلى هذه النتيجة بكافة الطرق والوسائل.  فالفتاة التي تتركها والدتها في المنزل لوحدها لفترات طويلة أو تلك التي تخرج كثيراً من المنزل للمشاركة في المناسبات وبالصورة التي تكون فيها عرضة للأقاويل (الصنف الثالث من النساء) فإن والدتها تُحضر القابلة لتقوم بالتأكد من عذريتها، ويتم ذلك بحضور العريس المقترح ووالدته دون مراعاة لحالتها النفسية».(20)

وحتى إذا ما تأكد العريس وأسرته من الأمر، عليهم أن يشهروا ذلك على الملإ عن طريق رقصة العروس. فتقف الفتاة وقتها شبه عارية أمام الحضور، خاصة النساء كبيرات السن والعالمات ببواطن الأمور، واللائى يقمن بتفحص جسدها عبر النظر، خاصة الأرجل والبطن والصدر، ليتأكدن بأن ليس بها «شق أو طق». ثم تعزف الطبول وتصدح النساء بالغناء لترقص تلك الفتاة رقصة تحرك فيها كامل جسدها، خاصة منطقة البطن والظهر والأرداف، بشكل عنيف ولساعات متواصلة؛ حتى إذا ما كانت تحمل في أحشائها جنيناً في طور التكوين، نزفت على مرأى من الحضـور. فهي لا ترتدي سوى الرحط والذي لا يستر عورة ناهيك عن حبس الدماء المتدفقة! «وهكذا كانت تفعل الفتيات اللائى يُرشحن للزواج من ملك الزولو في الجنوب الإفريقي».(21)

رابعاً: العلاقة بين رقصتي الزار والعروس:

عقب الزواج وعندما تنتهي فترة الأحلام والخيال الجميل المزين بالعطور والملابس الزاهية والحلي والرقص والاهتمام الزائد، وتبدأ الفتاة حياتها كامرأة وتواجه الحقيقة والتي غالباً ما تختلف كثيراً عن ذلك الخيال. فيبدأ الإحباط والضغط النفسي، ويبدأ البحث للخروج من هذه الحالة الخانقة. فتلجأ المرأة مرة أخرى إلى «الريـح الأحمر» فهو المسؤول بصورة أو بأخرى عن ذلك الزواج، حيث لم يعترض في البدء عليه! فقد كان الريح الأحمر طرفاً منذ البداية عند طلب العريس يد الفتاة.

فالقبول بذلك العريس وعدم الاعتراض عليه يعني ضمناً أن الريح الأحمر يوافق على ذلك. فالفتاة التي يعترض ريحها الأحمر على الزواج لا تُجبر عليه. لهذا تنضم تلك المرأة إلى جموع النساء اللائي سبقنها في هذا المضمار، حيث العروض الجماعية للزار. ويقول سيد حريز في هذا السياق:

«إن المناسبات والطقوس المرتبطة بالممارسات ذات الطبيعة النفسية كثيرة جداً في إفريقيا، وهذا يعني أن الضغوط الاجتماعية التي تقع على الأفراد تحدث عدم توازن نفسي وتتسبب في التعاسة لمجتمعات بأكملها، الأمر الذي يدعو الناس للقيام بمحاولة العلاج النفسي الجماعي».(22)

فالزار، وخاصة الزار البوري(23)، هو الآخر ممارسة نسائية جماعية تُعتبر الموسيقى قلب الحدث والمحرك الأساس لها، كما أسلفنا. وإيقاعات الزار وألحانه شبيهة جداً بإيقاعات وألحان رقصة العروس، وأحياناً تنتقل الألحان والإيقاعات من هذه الممارسة لتلك. ولا غرابة في ذلك، فالعقلية خلف الممارستين تنطلق من أرضية مشتركة، فالمرأة التي لديها جلسة زار هي الأخرى يُطلق عليها لفظة «عروس». فقد ذكر أحمد الصافي، وهو يصف طقوس الزار الطُمبرة، نوعا ثانيا من الزار يمارس لعلاج الأمراض المستعصية وينتشر كثيراً في دول الخليج العربي ويطلقون عليه «النوبان»(24)، إنه «عند النهر فإن العروس تغمس في الماء وهي ترتدي كامل ملابسها حتى تتطهر من كل شر».(25)

ولكن إذا كانت رقصة العروس تمثل مدخلاً لعالم الزوجية، للمجهول، للخيال، فإن الزار يمثل مخرجاً لتلك العروس من الضغوط وحالة الإحباط التي واجهتها في المعلوم.

فالدخول للمجهول كان مثيراً وحالماً وربما مفرحاً، والخروج من المعلوم هو الآخر أيضاً كان مثيراً وأحياناً مريحاً للنفس.

والوسيلة الرئيسة في كلتا الحالتين هي الثقافة الموسيقية، ذلك لأن الموسيقى والممارسات المرتبطة بها في المجتمعات الإفريقية عموماً هي أشياء تُعنى بالدرجة الأولى بالجسد وحاجاته. فهي كما يطلق عليها الفرنسيون «ميوزيك فيزيك»، أي موسيقى فيزيائية، موسيقى تطبيقية.

 

الهوامــــش

1 فرح عيسى محمد، باحث في الفولكلور، إفادة شفهية، 2006م.

2 الطيب محمد الطيب، الشيخ فرح ود تتكتوك حلال المشبوك، دار النشر، جامعة الخرطوم، 1977م، ص 109.

3 وضعات ثيابهن على وجوههن.

4 مفارش من السعف تجلس عليها النساء في مناسبات الأفراح.

5 K. Nketia, «The Juncture of the Social and the Musical«, The World of Music, p. 22

6  Marriage customs in Omdurman, Sudan Notes & Records, Vol. XXVI, 1945, part II, p. 241.

7     Ahmed El Safi, «Tumbura Revisited (The Story of Abuya Sambu)«, paper, workshop on the contribution of the Zar Cult in African Traditional Medicine, Khartoum, Jan. 1988, p. 3.

8 انظر: عون الشريف قاسم، قاموس اللهجة العامية في السودان، المكتب المصري الحديث، القاهرة، 1972م، ص 440.

9  Samia El Hadi El Nagar, «Socio - cultural Content of Zar in Omdurman«, workshop on the contribution of the zar cult in African Traditional Medicine, Khartoum, Jan. 1988, p. 2.

10 أحمد المعتصم الشيخ، باحث فولكلوري، أدلى بهذه المداخلة في حوار معه، بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، 2001م.

11  See: K. Nketia, «The Intensity Factor in African Music«, journal of Folklore Research 25/ 1-2 Indiana, 1988.

12  فاطمة بابكر محمود، المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة، دار كيمبردج للنشر، لندن، 1995م، ص 153.

13  S. .I. Rahim, «Zar among Middle-aged Female Psychiatric Patients in the Sudan«, in I.M. Lewis, Op. Cit, Pp. 137-146.

14  Samia El Hadi El Nagar, Op.Cit.

15  Sharafeldin E. Abdelsalam, «Dastur Ya Awlad Mamah, Toward an Understanding of the Sudanese Zār«, paper presented to the workshop on the Contribution of the Zār Cult in African Traditional Medicine, Khartoum, 1988.

16 ننوه إلى أن الصوت G في المنظومة النغمية السباعية المماثلة B C D E F G A هو صوت الدرجة الخامسة.

17  جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء، ترجمة شاكر عبد الحميد، الكويت، 2000م، ص 57.

18  وليد الشوبكي، «رؤية الموسيقى في المخ«، العربي العلمي، العدد 7، وزارة الإعلام، الكويت، ص 20.

19  جلين ويلسون، مرجع سابق، ص 276.

20  Sophie Zenkovsky, Op. Cit, P.250.

21  مداخلة شفهية من جون تورست ، مدير مشروع شبكة الثقافة الأفريقية، جامعة كيب تاون، فبراير 2000.

22  Sayyid H. Hurreiz, «Zar Ritual Psychodrama«, paper, the workshop on the contribution of the Zar Cult in African traditional medicine, Khartoum, 1988, p. 2.

23  الزار البوري هو ما يُوصف بالزار الخفيف والذي تقوم إيقاعاته على ضرب الطبول بواسطة النساء، ويمارس لعلاج الحالات العارضة، كالاكتئاب، ولهذا يُسمى بالزار الأنثى. وهو عكس الزار الطُمبرة والذي تقوم إيقاعته على عزف ألة الطمبور الوترية بواسطة الرجال بمصاحبة الجلاجل والمنجور، ويمارس لعلاج الحالات المعتصية، ولهذا يسمى بالزار الذكر.

24 علي جهاد راسي، موسيقى الطمبورة في الخليج، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، الدوحة، 1988م.

25    Op. Cit., p. 6

أعداد المجلة