التطهير الثقافي، ومحو ذاكرة الشعوب
العدد 30 - التصدير
قبل عقدٍ من الزمان روج المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية فكرة «إعادة تنظيم الشرق الأوسط الكبير»، وأن ما يحدث الآن هو آلام المخاض لهذا التصوّر الجديد.
ولكن المشروع الأمريكي، الذي أعلنت عنه الإدارة الأمريكية في مارس 2004، جُوبه برفض معظم الدول الشرق-أوسطية، رغم إدعاء الإدارة الأمريكية أن المشروع الجديد سيدعم الإصلاحات السياسية، والاقتصادية، وتشجيع الديمقراطية في العالم العربي، إما بإسقاط الدكتاتوريات، أو بفرض الإصلاح، بغرض المحافظة على مصالح الأمن الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية، مما أثار ريبة وتوجس العرب، وساورتهم الشكوك في النوايا الحقيقية وراء المخطط، الذي يسعى إلى تقسيم المنطقة على أساس الطوائف والاثنيات، كما وضعها الجنرال المتقاعد رالف بيترز.
ما حدث في السنوات التي أعقبت تصريح المحافظين الجدد عن (المخاض) العسير، هو فلتان عسكري وأمني واجتماعي وطائفي خطير في معظم الدول العربية التي واجهت (المخاض) بدءاً من تونس، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن، (فيما سمى بالربيع العربي)، وشهدت ظهور العصابات المسلحة المتطرفة التي عاثت فساداً، وبدأت تهدد كيانات وهويات الدول، وتخلط أوراق المنطقة برمتها، منذ تمددها في شمال العراق، ووصولها إلي حزام بغداد، وبسط سيطرتها على نصف الأراضي السورية، بهدف تحقيق ما يسمى بدولة الخلافة الإسلامية.
هذه الجماعات الظلامية التكفيرية تؤمن بانتهاج العنف البشع، والمبالغ فيه، في المناطق التي تجتاحها، وهي تقوم بتوثيق وتصوير وبث المشاهد المروعة علناً، بتقنيات عالية الجودة، لتزرع الرعب أينما حلت، مثلها مثل جحافل التتار والجيوش النازية، ولم تكتف بذلك وحسب، بل باشرت في عمليات التخريب المتعمد، والتدمير المباشر لكل ما له صلة بعقل الأمة، وتراثها، ورموزها، وذاكرتها الثقافية والحضارية، ربما كان أصعبها هو التدمير المباشر للآثار والتراث الإنساني ونهبها وسرقتها، وارتفاع عمليات تهريب الآثار التي تقدر بالمليارات من الدولارات، لتمويل الأنشطة الإجرامية، ونشر الكراهية، وتخويف السكان، مما يمكن اعتباره بجرائم حرب لن ينساها التاريخ، وتستدعي جهوداً دولية عاجلة لحماية الآثار في الدول العربية.
ان هذا التدمير الوحشي سيؤثر بشكل كبير على التنوع الثقافي في المنطقة العربية، فهو سيقوّض التراث الثقافي الغني، والتاريخ، والشعور بالانتماء لكل الأديان والطوائف، في الدول التي طالتها الهجمات الشرسة للجماعات المسلحة المتطرفة.
لقد دمرت عصابات داعش الارهابية منجزات الحضارة الإنسانية والإسلامية ، وبثت فيديو يظهر فيه ارهابيون وهم يهدمون بجرافة مدينة نمرود الأشورية في شمال العراق، مستبيحة المعالم الأثرية التي تعود للقرن الثالث عشر قبل الميلاد، مثل مدينة كلاخ التي ورد ذكرها في الإنجيل المقدس، حيث تم فيها تدمير معبد قديم لا يقدر بثمن، وسبق ذلك تدمير مدينة الحضر الأثرية، التي تعود إلى الحقبة الرومانية وهي عاصمة أول مملكة عربية، حملت جذور المدن العربية الإسلامية، واستطاعت أن تصمد أمام غزوات الرومان في عامي 116 و 198 قبل الميلاد، بفضل سورها المرتفع والسميك المعزز بأبراج، وآثار المدينة، خاصة المعابد، تمزج بين الهندسة الإغريقية والرومانية والزخرفة الشرقية، وتم إدراجها على قائمة التراث العالمي لليونسكو. كما دمر متحف الموصل وما يحمله من آثار نفيسة، بالمطارق والمثاقب والفؤوس، رغم موجة الاحتجاجات في العالم.
ومارست العصابات الارهابية في المناطق الخاضعة لنفوذهم نفس النهج، إذ تم الاعتداء على متحف باردو في تونس، الذي يعتبر ثاني متحف في العالم بالنسبة إلى فن الفسيفساء الرومانية، بعد متحف فسيفساء زيوغما في تركيا، والاعتداء على المتحف المصري، و متحف مالاوي بالمنيا، ومتحف الفن الإسلامي بباب الخلق، في محاولة للنيل من التراث المصري والتراث الثقافي العربي وتراث المنطقة ككل.
وطال التدمير الأماكن ذات الصفة الدينية كالمساجد، ومراقد الأنبياء، والكنائس، وبعض المزارات الشيعية، والمعابد اليزيدية، مثل تفجير الكنيسة الخضراء، وهي واحدة من أقدم الكنائس المسيحية في الشرق الأوسط، ومسجد النبي يونس، ومرقد الإمام محمد الدري في محافظة صلاح الدين في العراق، ومقامات الصالحين في تمبكتو التاريخية في شمال مالي، وحرق الزوايا الصوفية في ليبيا وتونس.
ما تقوم به الجماعات التكفيرية المتطرفة هو موجه ضد المجتمع بأسره، وذاكرته الثقافية والتاريخية، وتراثه المادي وغير المادي، هو مخطط رهيب وخطير يريدون من خلاله محو ذاكرتنا، وحضارتنا، وطمس تراثنا الإنساني، ونسف كل المكتسبات الحضا رية والعودة بنا إلى عصور الجهل والتخلف.
لقد سبق وأن نشرت مجلة (الثقافة الشعبية) العديد من المقالات، التي تدعو إلى الحفاظ على التراث المادي وغير المادي وصونه، وتحصين المتاحف، وأهمية التوثيق الالكتروني للقطع الأثرية والأرشفة، وهي مسئولية تقع على عاتق المجتمع بأسره، ويشكل غيابه تهديداً حقيقياً، خاصة في ظل الظروف التي تمر بها الدول العربية، وما تتعرض له من أخطار، أو (مخاض) بشرت به المحافظون الجديد، قبل عقد من الزمان.