فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

من الحطب إلى الذهب

العدد 29 - جديد النشر
من الحطب إلى الذهب
كاتب من الجزائر

الكثير من الحكايات والقصص الشعبية نجد موضوعاتها تقترب أو تتقاطع رغم اختلاف العادات والتقاليد وبعد المسافات، هذا ما وقف عليه الأنتربولوجي والباحث الدكتور محمد الجويلي في كتابه « من الحطب إلى الذهب»، الصادر حديثا في الرياض وبيروت، عن وزارة التعليم العالي- الملحقية الثقافية بباريس،  ودار ضفاف صدر في بيروت والرياض، يقع الكتاب في 140 صفحة وهو من الحجم الكبير.

وهذا الكتاب هو عبارة عن هدية إلى المرأة السعودية بصفة خاصة، والمرأة العربية بصفة عامة، جدّة كانت أو أمّا، إلى نبع الحنان والعطاء، وإليها يرسل باقة من الحكايات والكلمات، كلمات شكر إلى سيّدة سعودية كما ورد في الإهداء: «إلى سيدة سعودية، سيدتي نحن لا نعرف لك اسما ما نعرفه عنك فقط هو أنك سعودية. في البدء كانت حكاية. لم يمض على حلولي بالرياض أنا وعائلتي الصغيرة إلّا بضعة أيّام.  كان ذلك في سبتمبر2010. قصدت وزوجتي وطفلانا الأورومارشيه لقضاء بعض الحاجات الضروريّة.ولم يكن يدر بخلدنا أنّ طفلنا الذي لم يتجاوز الخمس سنوات من العمر والذي كان يستعدّ للدخول في سنة دراسيّة إعداديّة بإحدى مدارس الرياض، كان مشغولا بأدواته المدرسيّة أكثر من انشغالي ووالدته بتوفير القوت له ولشقيقته!  سحب طفلنا في غفلة منّا محفظة جميلة واتّبعنا. انتبهت والدته إلى الأمر وكنت أمامهما فقالت له « لم يحن الوقت بعد للدراسة سنشتريها لك لاحقا « وأخذتها منه فأثار ذلك حسرة شديدة في نفسه. لقد تبيّن أنّ ثمنها يفوق ما أخذناه معنا من الأموال. عندما هممنا بالخروج من السوق ظلّت عينا الطفل وقلبه وهذا ما فهمناه لاحقا مشدودين إلى الخلف، إلى المحفظة التي تركها وراءه مكرها أخاك، لا بطل. لقد تبيّن أنّه ثمّة سيّدة سعوديّة كانت تصطفّ وراءنا تراقب المشهد عن كثب. أومأت إلى ابننا خفية فقصدها يحثّ الخطى. التفتنا إلى الوراء فرأيناه يجرّ المحفظة ذاتها وراءه ما أثار استنكارنا ودهشتنا. أمرناه بأن يرجع المحفظة إلى مكانها. تراجع الصبيّ إلى الوراء واقترب من هذه السيّدة وأومأ بيده إليها. لقد فهمنا في تلك اللّحظة أنّها اقتنتها له. ذهبت زوجتي إلى المرأة لتشكرها. فقالت لها: «هي هديّة منّي يتذكّرني بها ويتذكّر السعوديّة والسعوديين عندما يكبر ويتفوّق في دراسته « ثمّ انصرفت بعد أن تمنّت لنا إقامة طيّبة في الرياض بين أهلنا وذوينا. سيّدتي كانت هديّتك أوّل محفظة يحملها ابننا ياسين إلى المدرسة وهولا يزال يذكرك بها وهديّتك مازلنا نحافظ عليها كقطعة ثمينة في بيتنا.» ثم يواصل الجويلي مهنئا إياها بتأكيده « إليك نهدي هذا الكتاب ومن خلالك نهديه إلى كلّ النساء السعوديات،  أمّهات وجدّات من اللّواتي مازلن يحافظن ّ على تقليد سنّته أمّهاتنا وجدّاتنا عبر العصور، أن يكنّ دائما وأبدا ينبوعا لا ينضب من المحبّة والعطاء،  ينذرن أنفسهنّ إلى تربية الطفل والسهر عليه وحمايته ليقوى عوده ويشقّ طريقه في الحياة متحدّيا محنها وصعابها مستعملين الهديّة،  «هديّة حبّ» : أغلى الهدايا، محفظة أو حكاية حفظتها ذاكرتهنّ،  قنديلا يضيء لأطفالنا دروب المعرفة المتشعّبة ومسالك الحياة المعتّمة. «

تجدر الإشارة أن طرافة الكتاب تكمن في الإهداء الذي كان حكاية فصار الكتاب حكاية حول حكاية والكلام حول الكلام صعب، كما قال الفيلسوف والأديب العربي أبو حيان التوحيدي في كتابه «الامتاع والمؤانسة» منذ عشرة قرون، بل شيّق وطريف أن تبتدئ الحكاية بحكاية، حكاية واقعية مع سيّدة سعودية تربطنا بالحكاية الشعبية السعودية لتكون في الكتاب حكايتان حكاية واقعية خلقتها الأقدار، أن يلتقي الكاتب والأكاديمي التونسي وعائلته مع امرأة سعودية فتهدي طفله محفظة، وحكاية شعبية نسجتها الذاكرة الجماعية وحفظها التراث والمخيال الشعبي لتهدي الجدة حكاية لأحفادها، وفي الحكايتين هناك هدية من المرأة : محفظة من سيدة سعودية وحكاية شعبية من الجدّة ومن التراث السعودي، وتصير المحفظة حكاية والحكاية محفظة تحفظ تراثا من النسيان، فالهدية لا تنسى والتراث لا يمكن أن ينسى متى حفظته الذاكرة كما ردّدته الجدّات والأمّهات، فمن شأن الأمّ أن تحفظ أبناءها وترعاهم، ومن شأن الجدّة أن تحفظ أحفادها وتهديهم حكاياتها، ومن واجبنا أن نرعى الهدية، الحكاية، ونحافظ عليها ونحفظها في الذاكرة بعيدا عن النسيان، فنحافظ بذلك على جزء مهمّ من تراثنا، وهو ما قام به الكاتب أن حفظ الهدية والحكاية فقدّم الكتاب «من الحطب إلى الذهب» هدية وعربون محبة ووفاء لتراث أصيل ليكون هذا الكتاب خير سفير للمحبة والوفاء وأفضل جسر للتواصل بين الأجيال وبين الثقافات واللغات، لتلتقي الحكايتان واللغتان العربية والفرنسية في حكاية واحدة ورسالة واحدة.

«من الحطب إلى الذهب» حكاية حب تحكيها الجدّة في أيّ زمان ومكان لأحفادها فتحكي حبها ورعايتها لهم، وهو رواية يرويها الحب والوفاء لزمن جميل يظلّ فيه الإنسان طفلا أبديا في حاجة إلى رواية وحكاية وحب ورعاية. الكتاب مقارنة انتروبولوجية بين حكاية سعودية وحكاية فرنسية من التراث الشفوي، وهي مقارنة نحو الائتلاف وليس الاختلاف تجسّد تواصلا ووصالا لا انفصالا بين ثقافتين مختلفتين كلّ الاختلاف، ليكون الكتاب عربون محبة، وجسر تواصل بين الثقافات مهما اختلفت وتباينت، فالهدف يظلّ واحدا وهو الإنسان، راوي الحكاية وهدفها، فالحكاية هدية من الذاكرة لتحفظ الذاكرة بما فيها من حب وحكمة وأمل وألم، بكلّ ما فيها من مشاعر وعواطف تخزنها الحكاية بين طياتها وتخفيها كلماتها فينقلها رواتها. الكاتب تونسي بقدر ما يصل من خلال هذا الكتاب ثقافة الشعوب العربيّة بثقافة الشعوب الأروبية يصل تونس ومغرب العالم العربي الكبير بمشرقه في الخليج.

جاء الكتاب ثمرة بحث طويل في الحكاية الشفوية والتراث الشعبي السعودي والخليجي بصفة عامة، فقد سبق للدكتور محمد الجويلي أن بحث في التراث الشفوي البحريني وأنجز بحثا ميدانيا تجسّد في ورشات عمل أشرف عليها، تتمثّل في حلقات تكوينية في كيفية جمع الحكايات الشعبية وحفظها وتصنيفها وتحليلها،  وذلك في متحف التراث الوطني لوزارة الثقافة البحرينية سنة 2009.  ولم يغفل الباحث الانتروبولوجي عن البحث في شتى الحكايات الشعبية الخليجية بعد أن اهتمّ بالحكايات التونسية التي أصدر فيها مؤلّفان «انتروبولوجيا الحكاية سنة 2002 والأمّ الرسولة : رسالة الأمّ في الحكاية الشعبيّة التونسيّة 2007، وهو يعكف الآن على إعداد كتاب حول التراث الشعبي الخليجي ليضمّ حكايات من السعودية والبحرين وقطر والإمارات وعمان والكويت. فالكاتب الذي شغف بالتراث الخليجي نتيجة تكريمه في البحرين بدعوته مرّتين منذ خمس سنوات ضيفا على مجلّة «الثقافة الشعبيّة» في المرّة الأولى، وعلى متحف التراث الوطني في المنامة في المرّة الثانية وبسبب استقطابه في الرياض أستاذا في جامعة الملك سعود لتدريس الثقافات المقارنة هو باحث انتروبولوجي يبحث في خفايا الكلمات وبواطن الحكايات، وهو المهتمّ أبدا بتقديم الإضافة وتحقيق الطرافة من أجل التقدّم بالبحث الفكري والإنساني وهذا ما قاله فيه أستاذ الأجيال في تونس توفيق بكار في تقديمه لكتابه «انتروبولوجيا الحكاية» : «ولد الجويلي ليكون انتروبولوجيا» وهو أوّل من سنّ علما في التراث الشعبي في الجامعة التونسية.

يتكون كتاب «من الحطب إلى الذهب» من قسمين، قسم أوّل يتضمّن حكايتين: الحكاية السعودية للجهيمان وهي حكاية الغول مع الإخوان الثلاثة، والحكاية الفرنسية «الإصبع الصغير» (Le Petit Poucet )  لبيرّو(Perrault) باللغة الفرنسية وترجمتها إلى العربية. ويشمل القسم الثاني تحليل الحكايتين ويتوزّع على ستة عناوين، العنوان الأول هو صفير والإصبع الصغير:وهما اسما البطلين في الحكايتين، صفير بطل الحكاية السعودية، والإصبع الصغير بطل الحكاية الفرنسية، وهما في الحقيقة اسمان لبطل واحد جاء في روايتين لحكاية واحدة،  وهي المسألة التي طرحت إشكالا في البحث الانتروبولوجي وفي دراسة الفولكلور، إشكالا حول تشابه التسميات والحكايات بل الاشتراك في الحكاية نفسها بين ثقافتين مختلفتين اختلافا جوهريا، هي حكاية واحدة بروايات متعددة ومختلفة فتختلف اللغة ويختلف السياق والمكان والزمان لكنّ الأصل واحد والمنبع واحد وهو الإنسان مطلقا. أما العنوان الثاني فهو يلخّص الحكايتين: من الحطب إلى الذهب الذي اختاره المؤلّف للكتاب برمّته وشتان بين الحطب والذهب اللّذين اهتمّ المؤلّف بتفكيك رمزيتهما ودلالتهما فهي رحلة تنطلق من الحطب،  من فقر ومعاناة ومأساة، من محنة وصعوبات، إلى الذهب، إلى نجاح وانتصار على الأقدار، إلى خلاص وتخليص، فهي رحلة من الشقاء إلى الرخاء انطلقت من مأساة إلى نجاة وأيّ نجاة، نجاة من الغول رمز الشرور الاجتماعية والدنيويّة كلّها ومن الفقر والحاجة، فالعنوان «من الحطب إلى الذهب» يلخص الحكايتين أحسن تلخيص ويبعث الأمل والتفاؤل في الطفل مهما كانت المحن التي يمرّ بها.  الكتاب يقدّم جديدا للمكتبة العربيّة فيما يتعلّق بدراسة التراث اللّامادي ولعلّه الأوّل من نوعه الذي يتيح للثقافات الشعبيّة أن تتحاور بعد أن كان الحوار بين الثقافات حكرا على المفكّرين والمثقفين في عزلة عن الشعوب وهواجسها.

 

الهوامش :

*محمد الجويلي: أستاذ جامعي وانتروبولوجي تونسي يدرّس بكلّية الآداب بتونس العاصمة - منوبة اعتبره العديد من النقاد منهم توفيق بكاروهو من مؤسّسي قسم العربية بالجامعة التونسيّة في تقديمه لكتابه انتروبولوجيا الحكاية وجلال الربعي في كتاب أصدره حول مؤلفاته بعنوان» قراءة انتروبولوجية في كتابات د. محمد الجويلي» الصادر بتونس سنة 2008 رائدا ومؤسسا لتدريس الحكاية والتراث الشعبي في الجامعة التونسية، انتقل الجويلي أستاذا زائرا في جامعات متعددة في نيويورك والرياض وفي إيطاليا حيث كان مديرا لمركز الحوار العربي الأوروبي بمدينة تارنتو بين 2004 و 2006

 

أعداد المجلة