لباس المرأة العربية بين التقاليد الاجتماعية والتفاعل الثقافي
العدد 29 - عادات وتقاليد
البحث في ظاهرة اللباس عند المرأة، في ثباته وتغيره، يتناول في الدرجة الأولى العلاقة بين المجتمع والدين؛ المجتمع باعتباره مصدر العادات والتقاليد التي تعبر عنها تجليات متعددة في السلوك اليومي، وفي ممارسة الحياة العملية، ومنها ظاهرة اللباس وتغيراته المرتبطة في ظروف العصر، وباعتبارات المكان والزمان؛ والدين باعتباره يفرض أشكالاً متعددة في اللباس، على المرأة التقيد بها، ومنذ بداية التكليف...
وهي الأشكال التي تدخل ضمن محددات اللباس الشرعي الذي يطول تغطية الرأس وكامل الجسد مع إظهار الوجه والكفين، وإن كان ثمة اجتهادات تتجاوز ذلك إلى تغطية الوجه بالكامل مع أجزاء الجسد كافة بحيث لا يظهر منه شيء. في هذا المبدأ الشرعي، لا إمكان للتغيير. فيدخل، لذلك، إطار الثبات الشرعي.
اللباس، مجتمعياً، يدخل في عملية تغيير مستمرة، وإن كان يتعرض هذا التغيير لعمليات مقاومة، تشتد وترتخي، عند كل جديد، وعند كل مفترق. فيحتل ما هو جديد مكاناً له، أولاً؛ ومن ثم، يتوسع على حساب ما كان قبله. وينتظر بالتالي إخلاء مكانه لما سيأتي، وهكذا... الجديد مكان القديم مع بعض من الرفض والتذمر والشكوى الى الله من الغضب الآتي، ثم التسليم بما هو مفروض مع توقع جديد آخر، ومع التسليم الذي لا بد له بامكانيات التغيير.
في مواجهة هذا التغيير، يستعمل المجتمع مفاهيمه الخاصة للتعبير عن مخالفة التقاليد والعادات والأعراف المتعلقة باللباس. من هذه المفاهيم، العيب، والفلتان على حل الشعر، وغيرها، مقابل مفهوم الحرام المستعمل للتدليل على كل ما يخالف الشرع ويتجاوزه. ومقياس الحرام ثابت بثبات القواعد الشرعية في اللباس. أما مقياس العيب فنسبي على قدر نسبية العادات والتقاليد. وبما أن العادات والتقاليد متغيرة بتغير الظروف والأحوال، فإن مقياسها متغير بتغيرها. وبالتالي، العيب متغير مقابل ثبات الحرام. العيب متغير بتغير أحوال المجتمع بديناميته المستمرة، والحرام ثابت ثبات الشرع المرتبط بالعقيدة الدينية، من ناحية؛ وبنظرة الفقهاء ذات الأساس الثابت في استنباط الاحكام الشرعية من الدين، من جهة ثانية.
تنظر هذه الورقة إلى الحجاب باعتباره تكليفاً شرعياً، كما تنظر الى لباس المرأة الشرعي باعتباره أيضاً، تكليفاً شرعياً. ولا حاجة هنا للدخول في مناقشة هذا الأمر. وتتعامل معه على أنه واجب شرعي لنتوصل إلى معرفة كيفية التعامل مع هذا الواجب مجتمعياً. كما تحاول أن تظهر المؤثرات المجتمعية وعمليات التثاقف والاختلاط وضغوط وسائل الإعلام والتكنولوجيا والاتصالات الحديثة على لباس المرأة وأشكاله وأنواعه والأجزاء المتممة له من أنواع الزينة وصنوف التبرج. وبمعنى آخر، تحاول أن تظهر التجليات المنبثقة من العلاقة بين التغيرات المجتمعية وما هو ثابت دينياً، في كل ما يتعلق بلباس المرأة؛ وهو اللباس الذي عليها أن تلبسه بما يجعلها:
- إما أن تكون ملتزمة بالشرع فتلبس ما يرتضيه؛
- وإما أن تتبع أزياء العصر فتخالف الشرع؛
- وإما أن توفق بين مقتضيات الموضة والالتزام الشرعي.
وعلى هذه الاعتبارات الثلاثة، ثمة من تلتزم، وثمة من تخالف، وثمة من تجد نفسها في المساحة الممتدة بين الالتزام والمخالفة لتقدم، بذلك، مشهداً شرعياً مطعّماً بالعصرنة، ظهر على شكل تغيرات في أشكال الحجاب وألوانه، وفي أشكال اللباس وأنواعه أظهر أكثر مما عليه أن يخفي، وقدم للمشاهد أكثر مما يرتضيه الشرع، وأفرغ المعنى العام للحجاب واللباس الذي توسل الشرع إبلاغه، وهو إخفاء مكامن الفتنة، المشهد الذي يمكن أن تكون عليه المرأة من أي نوع من أنواع الإثارة مخافة إيقاظ الشهوة، واجتهاداً في إخفائها.
من نافل القول، هنا، التأكيد على أن اللباس عنصر أساسي في ثقافة أي بلد من البلدان. وباعتباره كذلك، فهو يخضع للتغيرات التي يفرضها التطور الاجتماعي – الاقتصادي في أي مجتمع. لذلك حافظ الإسلام على الطراز العام الخاص باللباس الذي كان سائداً في الجاهلية الوثنية، وإن أدخل عليه بعض التعديلات مراعاة للاعتبارات الدينية المستجدة. وفي زمن الفتوحات وجد العرب أنفسهم وجهاً لوجه مع أغلبية غير عربية بحضاراتها المتباينة ونظم لباسها المختلفة(1). من هنا، ومع التفاعل الثقافي الذي نشط مع ظهور الإسلام وانتشاره، صار للإسلام زيه، ومنذ عقوده الأولى؛ وهو الزي الذي كان، ولا يزال، يتأثر بتطورات العصر وببنيته المعرفية العامة المرتبطتين بالواقع الاجتماعي التاريخي لكل مجتمع، ولعمليات التفاعل والاختلاط المعرفيين اللذين يؤثران ويتأثران بعمليات التثاقف التي تطول مختلف مناحي الحياة. وتجعل من العناصر الثقافية، ومنها عنصر اللباس، حرة في توجهها وفي انتقالها من ثقافة مجتمع إلى ثقافة مجتمع آخر، مجاور أو بعيد. ولا يحكم هذه التوجهات إلا متانة العناصر الثقافية وقدرتها على التأثير، أو هشاشتها وعدم تماسكها فتخضع لعمليات تأثر تسهم في إضعاف العناصر الثقافية غير القادرة على الثبات أو التأثير. لذلك انطلق الإسلام من تنويعات في اللباس، وحتى اختلافات في بلاد المغرب والأندلس. إلا أنها انتهت جميعاً لصالح الزي الاسلامي، أو ما يسمى إيديولوجيا اللباس الإسلامي، على حد تعبير ي. ستيلمان، وهي الإيديولوجيا التي أطلق عليها رولان بارت اسم “منظومة الألبسة” (2) .
في حمأة عمليات التفاعل هذه، يمكن للحضارة، وهنا الحضارة العربية الاسلامية، أن تستنهض عناصرها كافة، ومنها العنصر الديني، للدفاع عن العناصر الثقافية الضعيفة في عمليات المواجهة للمساعدة في الثبات، والاستمرار باسم الأصالة والحفاظ على الهوية، وباسم التشريع الديني، أو باسم الحضارة التليدة.. أو للتأكيد على العلاقة الايجابية بين الزي باعتباره شرعياً، من ناحية؛ وحامياً لمن ترتديه في عصر طغت عليه المادة، وكثر فيه الاختلاط، من ناحية ثانية؛ أو لعدم التعارض بين الحجاب والعمل وحرية الحركة خارج المنزل (3) ، من ناحية ثالثة.
هنا يظهر تأثير العامل الديني في إضفاء نوع من الثبات على لباس المسلمات مع التساهل في النظر الى لباس المسلم، ذكراً كان أو أنثى، بحسب تحديد مكامن العورة في الجسدين؛ ومع ترك الأمر على الغارب بالنسبة لغير المسلمات اللواتي لا يحد خضوعهن للموضة إلا مقتضيات الحشمة التي تطول حدودها هنا، أو تقصر هناك لارتباطها بالتقاليد والأعراف والعادات، من جهة؛ ولخضوعها لظروف المكان والزمان، من جهة ثانية؛ ولعلاقة كل ذلك، في حال المخالفة، وفي أي محطة من محطات المخالفة، بمفهوم العيب. إلا أن هذا التخصيص لم تحظ به المرأة غير المسلمة إلا في العصور الحديثة، أي منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. إذ أنها كانت تخضع، وخصوصاً في عهد المماليك والعثمانيين، لمعايير اللباس نفسها التي كانت تخضع لها المرأة المسلمة حسب ما يقتضيه الشرع الإسلامي، وحسب ظروف العصر ومقتضياته المجتمعية(4).
وإذا كانت معايير اللباس الشرعي مطبقة على جميع النساء، فإن الحرص على تمييز المسلمات عن غيرهن كان سائداً بموجب قانون “الغيار”الذي كان يفرض على غير المسلمات ارتداء ألبسة ذات ألوان محددة بالإضافة إلى بعض المتممات ( الأكسسوارات) التي ترمز إلى دين بعينه(5) . والحق أن هذا التمييز ما كان ليحصل لولا الغزو الغربي لبلاد المسلمين(6) ، ولولا الفوضى وعدم الاستقرار الناشئين عن الحروب مع الجوار غير المسلم. وكثيراً ما كان يضمحل هذا التمييز ، ويصل إلى حد الاختفاء في أيام الهدوء والاستقرار، وخصوصاً لدى المقتدرين الذين كانوا يشترون عدم التمييز بالمال من الولاة والمتنفذين(7). ما يعني أن جل طموح غير المسلمين هو الاقتداء بسلوك المسلمين على الأوجه كافة، ومنها وجه اللباس لأنهم كانوا يعتبرون أن ما يفرض عليهم من ملابس كان بمثابة إهانة لهم(8) ، عليهم إزالتها بشتى الطرق ليتماثلوا مع غيرهم من المسلمين لا ليزيدوا في الابتعاد عنهم.
إلا أن هذا الوضع بدأ بالتحول مع نهاية القرن التاسع عشر نتيجة لتأثير الامتيازات الأجنبية ونظام الملل العثماني اللذين أعطيا للدول الأوروبية حق التدخل في شؤون السلطنة العثمانية والتصرف بحرية مع رعاياها غير المسلمين(9) . وصل هذا الأمر إلى تخلي غير المسلمين عن اللباس الخاص بهم، وبدأوا يقلدون اللباس الأوروبي، ويرتدون الألبسة الخاصة بهم دون التقيد باللباس الشرعي الإسلامي، وإن كان قد شكل هذا اللباس في الماضي، وبالنسبة إليهم، ذروة الطموح إلى ارتدائه. إلا أن توفر البديل، مع تراخي رقابة الدولة، أبدلت طموح التماثل مع أزياء المسلمين والمسلمات إلى طموح التماثل مع أزياء الأوروبين ذكوراً وإناثاً.
ما يمكن استنتاجه مما تقدم، أن الألبسة، والأزياء بشكل عام، تنتمي إلى حقل يتجاوز الفرض الشرعي، بل يمكن اعتبار الفرض الشرعي متماشيا مع الحقل المجتمعي ومعبراً عنه، وباعتباره لاحقاً للمجتمعي، وليس العكس. لذلك فهي مرتبطة، أي الأزياء والألبسة، بالتقليد الاجتماعي والعادات والأعراف. وهذا ما يكون مشتركاً بين جميع الناس، بصرف النظر عن الانتماء الديني. وهذا، أيضاً، ما فرض قانون “الغيار”الذي لم يستطع أن يميز بين ألبسة المسلمين وغيرهم إلا بالألوان.
وإذا كان لتأثير العامل الديني مكانه الراسخ في عملية تحديد أشكال اللباس ومدى ملاءمته لما يتطلبه الشرع، فلا بد من تحديد ما جاء به الشرع في هذا المجال لمقارنته مع ما ترتديه المرأة في الممارسة اليومية وفي سلوكها العملي.
في سؤال عن حكم الحجاب وما هي أوصافه، يمهد المفتي يوسف القرضاوي بقوله أن المجتمع الإسلامي... “يقوم على رعاية الفضيلة والعفاف والتصون في العلاقة بين الرجل والمرأة ومقاومة الإباحية والتحلل والانطلاق وراء الشهوات”. ومن أجل سد الذرائع إلى الفساد واغلاق الأبواب التي تهب فيها رياح الفتنة كالخلوة والتبرج يكون اللباس الشرعي هو الذي يجمع الأوصاف التالية؛
- أن يغطي جميع الجسم عدا ما استثناه القرآن الكريم في قوله: ...” إلا ما ظهر منها”؛
- ألا يشف الثوب ويصف ما تحته؛
- ألا يحدد أجزاء الجسم ويبرز مفاتنه، وإن لم يكن رقيقاً شفافاً؛
- ألا يكون لباساً يختص به الرجال.
ويتابع الشيخ القرضاوي قوله: “ومن فضل الله أن هناك مسلمين ومسلمات يقفون صامدين أمام الغزو الزاحف، يلتزمون آداب الاسلام في اللباس والحشمة ويتمسكون بدينهم، وبتعاليمه القويمة، سائلين الله عز وجل أن يكثر هؤلاء ويزدادوا ليكونوا قدوات صالحة في مجتمعاتهم، ورمزاً حياً لآداب الاسلام وأخلاقه ومعاملاته(10).
تستبطن هذه الفتوى الخطورة التي يتعرض لها اللباس الشرعي كما يقره الإسلام، وتظهر أثر عملية التثاقف في تغيير وجهة اللباس لدى المسلمين والمسلمات إلى غير وجهته الشرعية. وإذا أفتى القرضاوي، بإظهار الوجه والكفين، فإن الشيخ محمد صالح المنجد، يعتبر أن “زي المرأة الشرعي هو الذي يغطي رأسها ووجهها وجسمها كاملاً”.والحجاب الشرعي هو حجب المرأة ما يحرم عليها إظهاره أي: سترها ما يجب عليها ستره، وأولى ذلك وأوله: ستر الوجه؛ “لأنه محل الفتنة ومحل الرغبة”. ويستند في قوله هذا على فتاوى قدمها الشيخ صالح الفوزان:
“الصحيح الذي تدل عليه الأدلة: أن وجه المرأة من العورة التي يجب سترها، بل هو أشد المواضع الفاتنة في جسمها؛ لأن الأبصار أكثر ما توجه إلى الوجه. فالوجه أعظم عورة في المرأة”(11).
وعلى أي حال، يعتمد المفتون في فتاويهم على الآية: “وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن”(12).
ويقول الشيخ علي جمعة محمد في جواب عن بيان الحكم الشرعي في الحجاب، أن حجاب المرأة المسلمة فرض على كل من بلغن سن التكليف، وهو السن الذي ترى فيه الأنثى الحيض. وهذا الحكم ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الامة. ويستند علي جمعة، بالإضافة الى الآية السابقة، على الآية التي تقول: “يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن”(13).
أما بالنسبة للبس المرأة للبنطلون فلا يجوز، حسب أحد المفتين، “لا يجوز للمرأة لبس ما يصف جسمها لضيقه، أو رقته؛ لما في ذلك من الفتنة للرجال، والقدوة السيئة للنساء”. وينبه على أن البنطلون (الجينز) و”التي شيرت” من ملابس الإثارة والإغراء، لأنها تحدد حجم الأعضاء وتستر ما فيها من عيوب؛ ولذا لا يجوز للمرأة لبسها إلا على سبيل الإغراء والإرضاء لزوجها فقط. وليس لها أن تبدو بها أمام الرجال أو النساء ولما في ذلك التبرج والفتنة وهتك الحياء(14).
لم تكن الاستجابة لدواعي الموضة حكراً على التفاعل الثقافي مع الغرب الأوروبي في العصور الحديثة، بل كانت موجودة منذ وجود الأزياء. والرقابة على الأزياء، لتبقى ضمن ما يحدده الشرع كانت الشغل الشاغل للفقهاء منذ أزمنة قديمة. ففي القرن الرابع عشر الميلادي كانت ألبسة النساء تستجيب لدواعي الموضة بحيث ارتفعت حواف الأكمام إلى ما دون المرفقين ما استدعى تدخل القاضي ابن الحاج بالتنديد والشجب(15). وكانت تتعرض من تلبس القميص ذات الأكمام الفضفاضة للعقاب(16). كما ظهر التأثر بالموضة الوافدة من خلال تنوع أغطية الرأس من الإزار والنقاب والقناع إلى اللثام والبرقع. وكان عدم ارتداء النقاب في العصور الوسطى دليلاً على عدم الاحتشام وخرق قواعد السلوك العامة(17).
من هذه الفتاوى جميعاً، نلمس حرص الفقهاء على عزل المرأة، وبالتالي عزل الفتنة. ولم يأت الزي، حسب ما تقتضيه الشريعة الاسلامية إلا للقيام بهذه الوظيفة. ولكن، وكما نستشف من إحدى الفتاوى السابقة أن للمرأة الحق في أن تلبس ما تشاء لإرضاء زوجها. ونجد أن اللباس لدى المرأة له وظيفتان؛ الأولى، خارجية تتعلق بحجب الفتنة كلياً عن كل من حولها، وجزئياً عن محارمها؛ والثانية؛ الإباحة الكلية المفتوحة على كل الاحتمالات أمام زوجها، وزوجها فقط. وهنا، يتحول الثبات في لباس المرأة الشرعي أمام الخارج الى النسبية في العلاقة مع الداخل، وداخل العلاقات الزوجية تحديداً. ويعود التقاطع في النسبية يظهر بين ما يقرّه الشرع، وما يسلم به المجتمع، وإن كان ما يقرره المجتمع بين الموافق عليه اجتماعياً والمعيب، يتحول إلى ما يقرره الدين من صنوف الحلال والحرام ليس على مستوى العلاقات مع الخارج فحسب، بل أيضاً، على المستوى الداخلي في العلاقة بين الزوج والزوجة.
إذا كان لباس المرأة الشرعي فرضاً على المسلمة باعتباره شرعة إلهية وتقيداً بسنّة الرسول وإجماع الأمة، فإن الالتزام بهما (الفرض والوصية) أو عدم الالتزام، تصرف إنساني تجاه ما هو إلهي أو مقدس.
وهنا لا بد من التساؤل عن كيفية الالتزام أو عدمه؟ وعن العوامل المؤثرة في عملية الالتزام أو عدمه؟
لا شك أن المسلمة التي عليها أن تستجيب لمتطلبات الشرع في كل ما يتعلق باللباس تعيش في زمن ما وفي مكان ما. والزمان والمكان يخضعان لعوامل محددة، كما يؤثران في عوامل أخرى. فالتطور الاجتماعي والاقتصادي، ومستوى التعليم، والنظرة الى الدين، ودور العقل في هذه النظرة، وتحديد الأولويات المعرفية، تلعب دورها في تحديد أنواع السلوك الإنساني، وفي ممارسة الحياة العملية، ومنها مسألة اللباس. ومن المهم، هنا، التأكيد على أن التقاليد الاجتماعية المتلائمة مع الأوامر الدينية تسهل عمليات التوافق بين ما يقره الدين وما يقره المجتمع. ويظهر ذلك من خلال تجاوز المحجبات الرغبة بغير المحجبات ، وإن كن غير ملتزمات باللباس الشرعي. وصارت الرغبة بالمحجبة للزواج تعادل الرغبة بغير المحجبات إن لم تزد عنها. والمشهد الذي كان مألوفاً سابقاً، وهو مشهد الأم المحجبة وابنتها السافرة والملتزمة بالموضة قد خفت وطأتها ليحل محله مشهد مغاير: إما الأم وابنتها المحجبتان، أو البنت المحجبة والأم السافرة. وهذا يدل على تغير نمط العلاقة المحتملة بين الشاب والفتاة التي التزمت الحجاب، وأبقت على كل شيء له علاقة بالموضة، حتى في شكل الحجاب ولونه وطريقة وضعه، ما جعل امكانية ابتداع جديدة تظهر في التوفيق بين مقتضيات الشرع الديني وضرورات العيش في قلب العصر، وحسب مقتضيات الموضة.
وإذا كان الحجاب واللباس الشرعيان متزامنين مع أنماط محددة من السلوك؛ منها الفصل بين الجنسين، وتدبير أمور الزواج بين الأهل أو من هن مختصات بذلك، من الخاطبة الى اهتمامات الأهل والأقارب، فإن التغير في مظاهر الحجاب واللباس تزامنا أيضاً مع الاختلاط. فظهرت امكانيات متعددة للقاء بين الجنسين. كما اتيحت فرص لبناء علاقات تحت أنظار الأهل أو من ورائهم، أو بتجاهل منهم. وساهمت وسائل الاتصال الحديثة وأماكن اللقاء المتاحة، وإن عن بعد، بدايةً، في تجاوز مسألة الحجاب وأشكال اللباس وما ترمزان إليه من صنوف الفصل، إلى أشكال غير مسبوقة من الوصل. وأضحت هذه المظاهر في حالات يمكن تجاوزها، أو انعدم تأثيرها لعجز في قدرتها على الحماية عند التواصل مع الآخرين، من ناحية؛ ولدخول اللباس المموّض (على الموضة) في جملة الوسائل الموحية بالتساهل والمنفتحة على امكانيات اللقاء والتعارف وبناء العلاقات مع الجنس الآخر، إن كان بشكل مباشر في الأمكنة العامة أو من خلال البلوتوث أو أرقام الهواتف أو الدخول الى عالم الفايس البوك والتويتر وكل المنافذ المتاحة عبر الانترنت. وآخر ما يهم في هذا المجال معرفة الأهل أو عدم معرفتهم، طالما أن التواصل المباشر هو أحد الامكانيات الكثيرة المتاحة.
وإذا حصرنا مجال الاهتمام باللباس فحسب، فإن من المهم الربط بين اللباس التقليدي والتقيد التام بمقتضيات الشرع. وأكثر ما يظهر هذا التلاؤم من خلال ما تقدمه وثائق المحكمة الشرعية حول تركات الرجال والنساء طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. تبين هذه الوثائق ما كان على مبعوث الحاكم الشرعي أن يسجل في وثائقه من الأغراض التي يتركها المتوفى أو المتوفاة، وخصوصاً ما يتعلق بموجودات المنزل والألبسة التي كان يرتديها الرجال والنساء داخل المنزل وخارجه.
هنا، كان على مبعوث المحكمة الشرعية أن يفصّل الوصف في أسماء الألبسة وأنواع القماش واللون. وهذا ما يتيح لنا الاطلاع على التفاصيل الدقيقة المتعلقة بلباس المرأة والرجل على السواء. وتسمح لنا بالتعرف على أسماء وقطع الألبسة التي تلبسها المرأة، الظاهرة منها والمخفية. وتبين لنا أن ثمة تناغماً وانسجاماً بين ما ظهر وما استتر من هذه الألبسة. وكلها تفصح في قناعة تامة، واعية ولا واعية، عن وظيفة اللباس ودوره في إخفاء معالم الجسم وفي الحرص على طمس كل ما يمكن أن يتميز أو يبرز منه في السكون والحركة. يساعد على ذلك تصميم أصيل يبدأ من الداخل بصدرية ذات أزرار كثيرة تمنع إبراز أي نتوءات إلى الخارج وشنتان فضفاض ينتهي بزمتين متينتين عند القدمين يمنعان انحساره من الجهتين ولو على قدر عقدة الأصبع. وبعد ذلك يأتي المنتان والعباءة والزنار والقمطة والحجاب وغيرها من الألبسة التي تدخل جميعها ضمن خانة الألبسة الشرعية من حيث وظيفتها، ومن حيث استجابتها إلى ما يفرضه الشرع(18).
إن الائتلاف بين ما يفرضه الشرع، وما يوصي به المجتمع في دينامية علاقاته الاجتماعية، بعاداته المتغيرة والثبات النسبي لتقاليده(19)، يصل إلى المفترق الذي يبدأ فيه الحراك المجتمعي في حالة من البعد عن الأحكام الثابتة للتشريع الديني، وللأسباب التي تم ذكرها سابقاً والمتعلقة بعناصر المثاقفة والاختلاط بمؤثرات غير محكومة بالتشريع الديني في ما يتعلق باللباس، وإن كانت محكومة بالعادات والتقاليد والأعراف وأمور الحشمة ومقتضيات العيب. فالمسيحيات مررن بأوقات سبقت حيث لبسن الثياب التقليدية التي لا تفريق فيها بين لباس إسلامي ولباس مسيحي، إلا في الألوان، وفي أوقات بعينها.. حتى المرأة المسيحية كانت ترتدي الحجاب الذي لا يختلف في طريقة ارتدائه عن المرأة المسلمة في الريف، وإن اختلف بعض الشيء عن حجاب المرأة المسلمة في المدينة. ولا أزال أذكر، أنا المسيحي، أن جدتَيّ كانتا تضعان حجابين، القمطة المشدودة على الرأس و”اللتمة” السوداء المشدودة تحت الذقن. ولا أذكر أني رأيت إحداهما، أو أي إمرأة من عمرهما، في القرية، بدون غطاء من هذين، أو من أحدهما، على الأقل. ولا أذكر أن خرجت والدتي من المنزل دون غطاء على رأسها.
وإذا أصاب التغير لباس المسيحيات لانتفاء الرادع الشرعي، ولتغير الموضة، وللتأثر بما تنشره رياح التغيير القادمة من الخارج، والقبول بما تفرضه وبما يمكن أن يُقبل دون تخديش للعادات والتقاليد والحياء العام، ودون خرق للحد الفاصل بين المقبول والعيب، فإن هذا التغير ما لبث أن أصاب المسلمات، إن كان في طريقة اللباس أو شكله(20). فأبعده ذلك عن اللباس الشرعي في اللحظات التي ابتعد فيها الغطاء عن الرأس والنقاب عن الوجه. وتغير شكل اللباس، ما ظهر منه وما استتر، جراء التأثر بالإعلان وبما تعرضه واجهات المحلات من الألبسة المنتجة في أهم دور الأزياء العالمية، وبما يظهر على شاشات السينما من أصناف الموضة ومن المنتجات الاستهلاكية التي تهم المرأة والرجل على السواء. كل ذلك ترافق مع نمط حياة حديثة ابتعدت عما هو موروث. فظهر الاختلاط وبدأ تبادل الزيارات العائلية. وانفتحت النفوس على حضور الحفلات الموسيقية، والرقص في الصالات المغلقة. وبدأ الجديد يحل محل القديم في أمور الحياة كافة(21).
في مقارنة سريعة بين لباس المرأة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبين لباسها في النصف الثاني من القرن العشرين، تبين أن الثابت الوحيد هو اللباس الشرعي مع بعض التعديلات التي تتناول الشكل وأنواع القطع التي تلبسها المرأة(22). فظهر الفستان ذو الأكمام الطويلة الذي يغطي اليدين حتى الكفين، ويصل إلى ما فوق القدمين. واختفى الشنتان ذو الزمّات حول الكاحلين ليحل محله السروال الطويل الواصل إلى الركبتين مع بدايات في تصغير مساحته حتى وصل إلى أضيق رقعة ممكنة مع تقدم الزمن وتأثير الموضة(23). وظهرت التنورة والكنزة والمعطف بدل المنتان والعباءة.
وبان شعر الرأس بألوانه المتغيرة وأشكاله المصففة بدل الحجاب. ومن ثم جاء البنطال الفضفاض والضيق والملتصق بالجسم ليستنفر حماة السلوك الشرعي فدعوا إلى تحريم ارتدائه ويذكّروا بأن هذه التغييرات حرام وتدعو إلى الفحش وارتكاب المعاصي.
ما تغير في شكل اللباس وفي وجهته، ترافق، على اختلاف بيّن، مع اللباس الشرعي دون أن يخلي أي منهما المجال الكامل لمصلحة الآخر. وكان هذا الوضع واضح التأثر بالعوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... والدينية أيضاً. والتأثر هذا، وفي المجتمع الأبوي التقليدي والمستحدث(24)، يظهر أكثر ما يظهر في سلوك المرأة وفي أشكال لباسها، إما انفتاحاً نتيجة التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واستئثارها بالأولوية في مسار التقدم العام؛ ولنا في قاسم أمين وكتابه تحرير المرأة وقوله إن بداية تحررها تبدأ بنزع الحجاب(25)، ونشاط هدى شعراوي، أبرز الأمثلة على ذلك؛ أو عودة إلى سير السلف الصالح والى الأصول واستئناف النهوض حسب ما يقول الدين، فيحظى السلوك الديني بالأولوية ويطغى ما يقرّه الدين وما يقوله الشرع على أي شيء آخر.
من المهم التأكيد، هنا، أن الحفاظ على ما يقتضيه التشريع الديني في مسألة اللباس لا يسلم من تغييرات العصر ومن ضرورات الموضة. فالتشريع الديني يحكم بما هو ثابت على ما هو متغير. واللباس ضرورة اجتماعية متغيرة، ومتأثرة بظروف إنسانية متعددة العناصر، كما هي متأثرة، في الوقت نفسه، بمقتضيات الشرع الديني، من ناحية؛ وضغوطات التقاليد والعادات، من ناحية ثانية. فيظهر المشهد التالي: ثقافة العصر المتميزة بالاستهلاك، الإعلام الدائم لهذا التوجه، التأثر بكل ما هو جديد، اقتداء المغلوب بالغالب؛ مقابل السلوك المبني دينياً بما لا يتعارض مع الشرع، والمتأثر بما ترتضيه العادات والتقاليد والأعراف التي تستقي توجهاتها من سيرورة المجتمع وضوابطه المتأثرة بالدين وتشريعاته، وإن كان يتوسل ضوابط التوجه من مصادر متعددة لا يكون الدين إلا واحداً منها. ويظهر ذلك في ملاحظة الفروقات بين ما يقوله الدين ويمارسه المجتمع، بين الدين الرسمي والدين الشعبي، بين ما يرفضه الشرع الديني وما يسكت عنه المجتمع أو يتجاهله(26).
ظهر ذلك في أوضح صوره في مسألة اللباس. لقد تداول الناس أشكالاً متعددة من اللباس الذي يتفرع من اللباس الشرعي دون أن يتطابق معه، وإن حافظ على تغطية ما يريد الشرع تغطيته من جسد المرأة دون الاهتمام بعملية الستر والاخفاء. فجاءت هذه الأشكال على عكس ما يريده الشرع ويرتضيه. فظهرت المحجبة في شوارع المدينة والأرياف على أشكال متعددة لم يحظ شكل اللباس الشرعي إلا بالجزء اليسير منها. واختلطت الأشكال.. فدخل هذا السلوك في إطار ممارسة الطقوس التي تبتعد عن الشرع الديني بقدر ما تقترب من الاجتماعي. وظهر الدين، هنا، على أنه وسيلة أساسية لإضفاء الشرعية على هذه الطقوس، على ما يقول نور الدين طوالبي في كتابه القّيّم، الدين والطقوس والتغيرات(27). وعليه، جاء اللباس الشرعي المطعم بالحداثة أكثر إثارة من اللباس العصري في أشكاله المختلفة والمحتشمة الذي ارتضته السافرات من المسلمات وغيرهن.
لقد ظهر في دراسة عن نوعية الملابس المفضلة لدى عينة في بلدة مرياطة، شمالي لبنان(28) أن الأزياء المستوردة لا تتناسب مع الواقع الشرقي بنسبة 54 % من آراء المبحوثين من الذكور والإناث مقابل 16 % يقولون العكس و30 % أحياناً. كما اعتبر 78 % من المبحوثين أن تقليد الأزياء الغربية لا يحسّن الذوق الجمالي. ورأي هؤلاء بالأزياء اليوم أنها سيئة بنسبة 44 % ولا بأس بها بنسبة 24 % ومخالفة للدين بنسبة 3% وجيدة بنسبة 27 %. أما رأي هؤلاء بالموانع والمحرمات الدينية فقال 49 % منهم بأنهم يكنون الاحترام الكبير لها و43 % احترامهم متوسط و7 % ضعيف. وفي ما يتعلق بقبول كل ما هو جديد وان كان مخالفاً لما هو سائد، أجاب 82 % بالرفض المطلق و7 % أحياناً و1 % دائماً.
أما بالنسبة لنمط اللباس المعتمد فقد أجابت الإناث بأن 39 % منهن يرتدين البنطلون و26 % البنطلون والتنورة مقابل 10 % التنورة و20 % العباءة (الشرعية). وفي المناسبات كان الفستان هو الغالب بنسبة 39% والتايور بنسبة 27 % والعباءة بنسبة 16 %. أما في ما يتعلق بتوزع الاناث في ارتداء البنطلون فقد صرحت 47 % منهن بارتدائه دائماً و27 % بارتدائه أحياناً و25% بارتدائه نادراً. وقد صرحت 67 % منهن بأنهن نادراً ما يرتدين العباءة، وأن 69 % منهن يرتدين الحجاب، والسبب في ارتدائه ديني بنسبة 89 %.
هذه النسب تدل على تأثر الإناث بالموضة مع الاحتفاظ بمقتضيات الحشمة وارتداء الحجاب.
وقد صرحت 67 % من الفتيات المحجبات في البلدة نفسها، بأنهن لا يرتدين اللباس الشرعي. وأن 33 % منهن يقمن علاقات صداقة مع الذكور. و80 % منهن يراعين اللباس الشرعي من حيث ستر الجسم. و55 % منهن يراعين الموضة في نوع اللباس، وأن 57 % منهن يداومن على الصلاة، و11 % على الصيام، و88 % منهن يصافحن الرجال. ومنهن 36% اطلعن على أمور الشريعة و60 % على بعض الأمور فقط. و41 % يدعين غيرهن لارتداء الحجاب و49 % منهن يؤيدن الاختلاط و72 % منهن يقلن بحرية ارتداء الحجاب لمن يردن بدون ضغط أو جبر و47 % منهن يتبرجن و49 % منهن مع الاختلاط في المناسبات الاجتماعية(29). وقد ذكرت الباحثة في تحليلها أن تأثير المنطقة المختلطة طائفياً كان من الأسباب الرئيسية التي جعلت النساء يتوجهن هذا التوجه.
تدل هذه الأرقام على أن ثمة فرقاً بين اعتماد اللباس الشرعي والالتزام الديني من حيث هو معرفة ووعي بشؤون الدين، وممارسة ما يتناسب مع هذا الوعي والمعرفة(30). فظهر لذلك، وكأن اللباس الشرعي تعبير حسي عن سلوك يفصح عن انتماء إلى هوية، والى التعبير عن هذه الهوية للتميز، أولاً بأول، مقابل الآخر المختلف دينياً أو حضارياً، أو حتى انتماءً سياسياً. لذلك تحول الزي الاسلامي إلى مؤشر للتعاطف مع الحركات الاسلامية، وهو شبيه للجينز في دلالاته على الحداثة والعيش في العصر. إلا أن ذلك لم يمنع ملاحظة الفرق بين المنتميات بالهوية إلى الإسلام، على أي مذهب كنّ، وبين الملتزمات دينياً اللواتي يراعين الشرع في كل سلوك عملي يمارسنه. كما ليس من الصعب التفريق بين الملتزمات دينياً لدى الجماعة الإسلامية والملتزمات دينياً لدى التيار السلفي المتعدد الفروع وملتزمات جمعية المشاريع؛ وتمييزهن عن الملتزمات لدى حزب الله أو غيره من التنظيمات، هذا على الأقل في لبنان. فأصبح، لذلك، من الممكن القول إن تعدد مصادر الموضة في الألبسة الحديثة تبعها تعدد آخر في مصادر الموضة لدى المحجبات واللابسات الألبسة الشرعية؛ فثمة اللباس الشرعي التقليدي بالإضافة إلى اللباس الخليجي والماليزي والأندونيسي والشادور الإيراني والأفغاني. كما ثمة النقاب والحجاب والألوان الداكنة والغامقة والفاتحة. بالإضافة طبعاً الى الأزياء الحديثة التي لا تختلف عن مثيلاتها إلا بالحجاب والأردية الملتصقة بالجسم لتكون بديلاً عن إظهار أقسام منه لا تتورع الأزياء الحديثة عن إظهارها.
وكما أن ثمة فرقاً في الألبسة وأشكالها وألوانها وطرق النظر اليها، كذلك ثمة فرق في النظر إلى الزينة والتبرج انطلاقاً من مفهوم الشرع لها. فظهرت من المبحوثات في الدراسة السابقة من شبهن التبرج بالزنى، الى جانب التصريح بعدم القدرة على الخروج من المنزل دونه “وخاصة مكياج العيون وذلك تماشياً مع البيئة الاجتماعية التي نعيش فيها والتي طرأ عليها تطور كبير في هذا المجال”(31). هذا ما يمكن وضعه في مجال التفريق بين اهتمامات الدين الرسمي وممارسة الدين الشعبي، أو الفرق بين ما تفصح عنه الشريعة وما يمارسه المجتمع فعلاً.
اختلاط الأشكال هذا، جاء ليزيد من مواصفات أزمة الثقافة عندنا؛ الثقافة الهجينة التي تأخذ ما يبقي على الشكل مع ركوب مركب العصرنة، ومع ما يدل على التمسك بالهوية من الخارج، وفي الظاهر المستحدث، وتأثر المضمون بما تفرضه مقتضيات العصرنة بوسائلها الحديثة من تكنولوجيا اتصال وإعلام، إن كان على مستوى علاقة المرأة مع جسدها، أو مع الرجل. وظهر الأمر في إطار التحليل وكأن المرأة عندنا تعيش حالات من التناقض بين التعبير عن انتمائها الديني والحضاري باعتماد مظهر اللباس الشرعي وبجزء منه فحسب، وهو الحجاب، والتخلي عن المضامين الأخرى التي تعطي للباس الشرعي قيمته ودوره في ستر الجسد وإبعاد الفتنة. أما ما هو مستتر، أو ما ستر على غير محارمها، فهو ارتداء آخر ما صنعته دور الأزياء الأجنبية والمحلية في أجزائها الخارجية والداخلية. وكان للأجزاء الخارجية أن تظهر، خارج إطار المحارم، إما على وجهها القريب من الوجه الشرعي في الشارع وفي أماكن اللقاء المختلطة والعامة، أو على وجهها المغرق في العصرنة المخالفة للشرع في الحفلات المخصصة للنساء في مناسبات عامة، أو على شواطئ البحر المسوّرة، وهي على آخر طراز وموضة؛ وللأجزاء الداخلية أن تظهر في المخادع الحميمة في علاقات الحلال. وإذا كانت هذه مفتوحة على رغبة الزوجين ورضاهما، فإن تداول الأجزاء الأولى يكون على صعيد البيت والشارع بما هو مستوحى من مقتضيات الشرع، ومن موجبات العادات والتقاليد.
فظهر، لذلك، اللباس على تنويعات من الأزياء والألبسة لا يوحّد بينها إلا غطاء الرأس عند المحجبات منهن بأشكاله المستديرة والمرفوعة، والأيدي حتى الكفين، مع استثناءات قليلة، على تكاثر، تحجب الجسد كله بلا استثناء. بذلك ، دخل الزي الإسلامي، حسب ي. ستيلمان، في إطار الموضة(32). وإذا كان لباس المرأة المسلمة، على ما تقول ستيلمان، “مجرد موضة جديدة في عالم الأزياء وليس لها أي علاقة بالحجاب التقليدي القديم، وإنما تعد بمثابة أزياء حديثة تأثرت بالحجاب التقليدي في المجتمعات الإسلامية إبان العهود الغابرة”(33)، فإن هذا القول يجانب الصواب لأن الزي الإسلامي يمثل استمرارية الماضي في الحاضر تجسيداً لثبات القول الشرعي في هذا المجال، إن كان من ناحية الحجاب، أو ما يقوم مقامه ، أو من ناحية ستر الجسد، وإن جاء هذا الستر مخالفاً لما قرره الشرع في أمور الستر ووظائفه. ولا يزال اللباس الشرعي الاسلامي بتنويعاته المختلفة متزامناً، في أيامنا هذه، مع سفور وكشف مناطق متفاوتة من الأجساد يطول مسلمات ومسيحيات معاً.
هذا التنوع في أشكال الألبسة، بالإضافة الى التفنن في إظهار تقاسيم الجسد والتبرج، زادت من استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة بما يرضي الثقافة الاستهلاكية، وبما لا يرضي التشريع الديني لانتفاء الوظيفة التي أعطاها للباس، ما دفع بالقيمين على شؤون الالتزام الديني إلى إلقاء المواعظ ونشر الاعلانات(34) التي تعبر عن البعد عما يرتضيه الشرع في مسألة لباس المرأة، من ناحية؛ وعن وجوب طمس كل معالم الجسد التي تخالف توجهه، من ناحية ثانية.
هنا يمكن التساؤل: إذا كان من مستلزمات الثقافة الشعبية إحياء التراث وترسيخه في الذاكرة الشعبية، كيف يمكن الحديث عن متغيرات اللباس وثوابته دون التأكيد على أهمية الثقافة وتأثيرها في توجه اللباس وفي شكله وفي ما يرمز إليه. ففي زمن رسوخ الثقافة العربية الإسلامية كانت المثال الذي على بقية الثقافات أن تقتدي بها، وإن كانت هذه الثقافات تستوي في الغالب الأعم على العنصر الديني. إلا أن التوجه المجتمعي الجامع كان الدافع الأساسي للعمل على الاندماج الثقافي في ما خصّ اللباس. وفي حال التحول انتقل موقع الغلبة إلى الثقافة الوافدة، فأثرت في التوجه الثقافي العام بحيث صارت الثقافة الأصلية متأثرة بعد أن كانت مؤثرة. وتحول المثال إلى موقع مغاير لم يؤثر في غير المسلمين، على الأقل في شكل اللباس وعناصره فحسب؛ بل وصل التأثير إلى المسلمين، ذكوراً وإناثاً، فاعتمدوها إما بالكامل، أو بأشكال هجينة لا هي بالأصيلة ولا الحديثة؛ أو رفضوها بالكامل، وعادوا بالأزياء إلى مصادرها الأولية، وإن كان يجمعهم مع معتمدي الأزياء الهجينة الامتثال إلى ما يقره الشرع وإظهار إرادة التعبير عن الهوية. وإذا كان على الثقافة الشعبية أن تعمل على بناء متاحف للأزياء العربية باعتبارها فولكلوراً، فكيف يمكن القيام بهذه الخطوة، وهذه الأزياء في قسم كبير منها لا تزال متداولة في حياتنا اليومية، وبمفعول سلفي أعاد إحياء النقاب والبرقع إلى جانب الحجاب، اجتهاداً وتوغلاً في تلبية الواجب الشرعي؟ وهل الزي الاسلامي، والحجاب منه بوجه خاص، استمر ولا يزال مستمراً تلبيةَ لفرض شرعي؟ أم تجاوز ويتجاوز ذلك إلى تلبية حاجة ثقافية، ومنها على الخصوص الحاجة السياسية، في عالم تتخبط فيه القضايا الحضارية والسياسية والدينية وتوجهات المصالح؟ وبالتالي:
كيف يمكن جعل اللباس حاجة مجتمعية وعنصراً ثقافياً متنوعاً في إطار الوحدة، داخلاً وخارجاً، وبعيداً عن الوجهة الايديولوجية؟
المراجع :
1 - ي. ستيلمان، تاريخ الأزياء العربية، ترجمة صديق محمد جوهر، منشورات كلمة، 2011، أبو ظبي، ص51.
2 - المرجع نفسه، ص55.
3 - انظر لأهمية الحجاب في حماية المرأة،
- حنان ضيا، الحجاب الجديد ودلالاته الرمزية، دبلوم دراسات عليا في الانتروبولوجيا، معهد العلوم الاجتماعية، 2005، بيروت، ص82، ؛104؛. والتحايل لتحسين الوضع، ص105؛ والتوفيق بين التحجب والعمل، ص 103..
4 - يوسف جميل نعيسة، مجتمع مدينة دمشق، الجزء الثاني، دار طلاس، دمشق، ص624.
5 - نعيسة، المرجع نفسه، ص624-625.
6 - انظر للتفصيل:
- ستيلمان، تاريخ الأزياء العربية، مذكور سابقاً، ص ص151-154.
7 - انظر في هذا الخصوص:
- نعيسة، مجتمع مدينة دمشق، مذكور سابقاً، ص625-626. “ ورفعت القيود عنهم في عهد ابراهيم باشا المصري، وأعلنت المساواة التامة في تنظيمات السلطان عبد المجيد” ( 1830-1856). المرجع نفسه، ص628.
8 - ستيلمان، تاريخ الأزياء العربية، مذكور سابقاً، ص167.
9 - للتفصيل حول نظام الملل العثماني والامتيازات الاجنبية ، انظر:
- مسعود ضاهر، الجذور التاريخية للمسألة الطائفية في لبنان، 1697-1861، الطبعة الرابعة، دار الفارابي، 2009، بيروت، ص ص283-305، 337-351..
10 - لباس المرأة المسلمة، حكمه وأوصافه. ELShabab.com
11 - هل يشترط لبس المرأة للنقاب، ELShabab.com
12 - سورة النور 31.
13 - سورة الأحزاب 59.
14 - Elshabab.com
15 - ستيلمان، تاريخ الأزياء العربية، مذكور سابقاً، ص116.
16 - المرجع نفسه، ص115.
17 - انظر في هذا الخصوص للتفصيل: المرجع نفسه، ص ص118-120، 200.
18 - للتفصيل حول أصناف الألبسة التي ترتديها المرأة كما ظهرت في وثائق المحكمة الشرعية في طرابلس في القرنين الثامن عشر والتاسغ عشر، انظر:
أحمد شعبان، أدوات المنزل واللباس، مذكرة جدارة في الأنتروبولوجيا، معهد العلوم الاجتماعية، الفرع الثالث، 1988، طرابلس.
19 - حول سهولة تغير العادات وثبات التقاليد النسبي، انظر:
- عاطف عطيه، المجتمع، الدين والتقاليد، جروس برس، 1992، طرابلس، ص24-30.
20 - حول تأثر المرأة غير المسلمة بالأزياء الأوروبية، وانتشار الألبسة الأوروبية بين المسلمات نتيجة التفاعل الثقافي بين الأوروبيين والعالم الاسلامي، بالاضافة إلى تأثير الارساليات الأجنبية، وما لهذه الأزياء من دلالة على المكانة الاجتماعية الرفيعة للمتأثرين بها، انظر:
- ستيلمان، تاريخ الأزياء العربية، مذكور سابقاً، ص208-209.
21 - حول هذه التغيرات التي أصابت مدينة طرابلس منذ النصف الأول من القرن العشرين، انظر الرواية الممتعة:
خالد زيادة، حارات الأهل، جادات اللهو، دار النهار للنشر، 1995، بيروت.
22 - للمقارنة مع ألبسة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وألبسة أواخر القرن العشرين، انظر:
- علا الغوراني، الزي والزينة بين الأمس واليوم، مذكرة جدارة، معهد العلوم الاجتماعية، الفرع الثالث، 2001-2002، طرابلس.
23 - تقول ستيلمان في هذا الخصوص أن عملية التغيير شملت الأثواب الداخلية والخارجية مع بعض التوفيق بين مقتضيات التقليد وعناصر الحداثة. إلا أن ذلك لم يشمل بلدان العالم العربي إلا منذ فترة قصيرة. انظر:
- ستيلمان، تاريخ الأزياء العربية، مذكور سابقاً، ص211.
24 - للتفصيل حول خصائص ومميزات المجتمع الأبوي التقليدي والمستحدث، انظر:
- هشام شرابي، المجتمع الأبوي، دار نلسن، الطبعة الرابعة، ،2004 بيروت، السويد، ص23-45.
25 - انظر في هذا الخصوص:
- قاسم أمين، تحرير المرأة، مصر، 1899، طبعة ثانية، 1905، 166ص
26 - حول الفرق بين الدين الرسمي والدين الشعبي ، انظر:
- Paul GUILLAUME, La formation de l’habitude, coll. Sup. PUF, 1968, Paris, p; 212.
27 - انظر للتفصيل حول سلوك المجتمع بما يتعارض مع الدين:
- نور الدين طوالبي، الدين والطقوس والتغيرات، ترجمة وجيه البعيني، منشورات عويدات، 1988، بيروت، ص87-97.
28 - الغوراني، الزي والزينة، مذكور سابقاً، ص80-84، 91-99.
29 - أميرة حيدر، الحجاب بين الالتزام والموضة، مذكرة جدارة، معهد العلوم الاجتماعية، الفرع الثالث،2007-2008، ص57-68.
30 - حول إحساس المحجبات بما يفرضه الدين وبما يتطلبه المجتمع، وبما يجعل أمور الدين تتعايش مع متطلبات الحياة، انظر:
- أميمة عامر، الحجاب عند المرأة بين النظرية والتطبيق، دبلوم دراسات عليا في علم الاجتماع، معهد العلوم الاجتماعية 2003-2004، بيروت، ص74-75.
31 - المصدر نفسه، ص78-79.
32 - ستيلمان، تاريخ الأزياء العربية، مذكور سابقاً، ص220.
33 - المرجع نفسه، ص221.
34 - ظهرت اعلانات في مدينة طرابلس، لبنان، تحاكي الاعلانات الحديثة نشرتها إحدى المنظمات الاسلامية في المدينة فيها رسومات إناث يرتدين الزي الاسلامي العصري، وبأوضاع أنثوية بارزة. ويقول الإعلان بالخط العريض لتسهل قراءته، هذا ليس بحجاب. ويدعو إلى الالتزام باللباس الإسلامي كما يحدده الشرع.