فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الإبداع والمرأة: الأمانة العلمية في دراسة المأثور الشعبي

العدد 28 - أصداء
الإبداع  والمرأة: الأمانة العلمية في دراسة المأثور الشعبي
كاتب من أمريكا

أطلق الأستاذ مصطفى جاد في مجلة الثقافة الشعبية نداءً بعنوان: «مأسآة نعيشها في حقل الثقافة الشعبيّة.»(1) يقول جاد: «تعالوا نتأمل ما يحدث، على مدى عشرات السنوات السابقة حيث تم جمع كم هائل من المواد المأثورية. وإذا نظرنا للمراجع العلمية في العديد من الدراسات المنشورة... فنادراً ما نجد مرجعا يشير إلى أن هذه المادة مصدرها أرشيف كذا برقم كذا، أو أنها مأخوذة من الشريط رقم كذا بمركز كذا.»(2)  وفي تصوره،  فإن هناك  مشكلة كبرى «أشبه بالفيروس الذى انتشر بيننا ينخر في عظام  التقدم في هذا المجال» ممثلة في حجب المادة عن جمهور الباحثين واتهام من يستخدمها  بالسرقة. ويختتم جاد نداءه  بالسؤال: «متى نتعلم ثقافة الإتاحة ؟؟»

والمُنادي على حق. ولكن إلى جانب المادة الميدانية الغائب الذى يدعو إلى إتاحته، فإن هناك أيضاً جانب الأمانة والموضوعية العلمية الذى يجب أن تُراعَى قواعده. فثقافة إتاحة أسماء الباحثين والمراجع جزء من الأمانة العلمية التي لا تقوم لدراسة موضوعية قائمة بدونها. ويقابل ثقافة الإتاحة هذه ضرب آخر من الثقافة (أو الثقافة المضادة/counterculture) التي تحجرعلى الفكر المختلف وتستبيح وأد الجديد من المعرفة وتحصر تناولها على ثلة من التابعين لمركز سُلطوي (والذين غالبا ما يشكلون مجموعة منتفعين وليس مدرسة عِلمية)، علاوة على إهدار حقوق القائل بهذا الجديد. وبهذا يتكوّن ما يُعرف  “بالدائرة الشرسَة”، التي يَنعمُ فيها سُوءُ الفهم وقصور المعارف بالديمومة المُخرّبة، إذ تدعم فيها الأخطاء بعضها البعض، ويؤدي العداءُ للجديد وحامليه إلى إسدال ستار الجهل على وجوده وعليهم. وبعد فترة، تطفو كِسَرٌ من تلك الأفكار الجديدة الموؤدة، ولكنها تكون مبتورة عن أصولها، مُفرَغة من معانيها.

والمثال لذلك الضرب الثقافي الثاني كتاب ظهر مؤخرا، بعنوان « المرأة والحدوتة: دراسة في الإبداع الحكائي للمرأة المصرية. جمع ودراسة  خالد أبوالليل، مدرس الأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة. تقديم الأستاذ الدكتور أحمد علي مرسي، أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة» (القاهرة، 2008). والكتاب ِشقّان: أولهما «نظرى» يقدم المؤلف فيه مسألة ارتباط الحدوتة بالمرأة (إلى جانب أمور نظرية أخرى)؛ و ثانيهما تجميعة حواديت من محافظة الفيوم يشتمل على 64 نصا ومعلومات عن ظروف جمعهم، وهو مجهود محمود  للمؤلف.

وفيما يتعلق بالشق الأول، َيوّد كاتب هذه السطور أن يشير إلى أن معظم ما توصل إليه أبوالليل من نتائج سبق أن قام حسن الشامي بتقديمه على نحوٍ أكثر شمولا ودِقة في العديد من أبحاثه المنشورة إبتداءَ من عام 1966، وخاصة كتابه بعنوان: حكايات تحكيها المرأة العربيّة والأنماط السلوكية التى تصورها (ب الإنجليزية، 1999). ومما يدعو إلى الأسف، أنه ليس في كتاب الدكتور أبوالليل أو تقديم الدكتور أحمد مرسي له أي ذكر لتلك الأبحاث أو المراجع. وإذا كان المؤلف على غير دراية بما تَمّت كتابته ونَشِره عن لُبّ موضوع بحثه وما واكبه من معتقدات وممارسات إجتماعية وأسلوبيه خلال ما يربو على ثلاثين عاما، فإن هذه المقولة بعدم الدراية لا تنطبق على أستاذه وكاتب المقدمة لكتابه(3).

ونشير هنا إلى بعض ما قدمته أبحاث الشامي وكتاباته (في مراجع عربية، وإنجليزية، وألمانية، وفرنسية) في مجال الربط بين الحدوتة والمرأة و قضاياها:
- في عام 1980 أكّد كتاب حكايات مصر الشعبية أن «الحواديت أوالحكايات ترتبط على نحو طبيعي بالنسوة ويطلق عليها عادة عبارة <أمور نسائية>». (الشامي، ص. xlviii)
- وفى عام 1988 أشارت دراسة أخرى إلى ما يترتب من أخطاء عند غيبة المعرفة بإرتباط الحدوتة بالمرأة.  ففي مطلع القرن العشرين ظهرت «نظرية» مؤثرة صاغها الفلكلوري السويدي كارل ف. فون سيدوف... «إدعت أن الأحدوثة (الحدوتة، أو الحكاية الخرافية كما يسميها بعضهم)» لا وجود لها عند بعض الشعوب، ومن ضمنهم العرب وجماعات متحدثة بلغات سامية أخرى، وكذلك المصريون القدماء. وذهبت هذه «النظرية»، التي تم استخدامها لترويج الادعاء بسيادة العنصر الآري وأنه شعب  َسيّد، أن تلك الشعوب والجماعات الأخرى تفتقر بطبيعتها إلى المواهب الفنية المُبدعة اللازمة لخلق «الأحدوثة» الخيالية.
 ولقد كانت هذه النظرة الخاطئة نتيجة حتميّة للقصور الشديد في المعلومات الأولية (النصوص الميدانية) التي بنيت عليها؛ وذلك إلى جانب إفتقار الفهارس المبكرة إلى المواد العربية. وبهذا تكون العينة التي استخدمها فون سيدوف ناقصة وغير ممثلة. وعند العرب– بشكل عام– تُعد مثل تلك الحكايات الخيالية من تخصصات المرأة. ولما كان الجامعون في الغالب رجالاً أوربيين فإنه لم يكن لهم سبيل إلى الجمع من النسوة. ومما يدعو للدهشة أن التجميعات الميدانية التي إحتوت قدرًا لا بأس به من مثل تلك الحكايات الخيالية لم تحظَ بالاهتمام المطلوب. (الشامي، 1988، ص. 79)

- وفى عام 1999  أشار كاتب هذه السطور إلى أن تعيين هذا الدور الأجتماعي، ألا وهو قصّ الخرافات أو الحكايات الخياليّة، و قصره على فئة محدّدة من السكان (النساء) في العالم العربي يمكن النظر إليه على أنه حالة ُ مبكّرة من التوجه الديمغرافي  في دراسة السكّان والثقافة. وربما كان أوّل دارس للثقافات الشعبيّة العربية ومجتمعاتها المحلية الذى أفاد بوجود هذه الظاهرة هو ابو عثمان عمرو إبن بحر الجاحظ (ت. 868 أو 9 م.). والجاحظ مفكر فذ، عقلاني المنحى ...؛ ومن الممكن القول بأنه كان أوّل مفكرعربى قدّم حكاية شعبية في ثوبها /أسلوبها الشعبي التقليدي بما في ذلك الحوار القصصي.

أما فيما يتعلق بقضايا المرأة، فأنه يمكننا القول بِخَلاِصه من النظرة النمطيّة السلبيّة السائدة تجاه المرأة، علاوة على ندائة بحقها في الأعتزاز بالذات كإمرأة،  فإنتهى إلى التأكيد على أن «المرأة كاملة الدين والعِرض والقلب، ( ألإ أذا كان هناك من الهواجس أو الشهوة ما يُحفزّها إلى الخطيئة مثلها في ذلك مثل الرجل)». وإعلان الجاحظ هذا يمثل تضادا حادا للمعتقَد بأن «النساء ناقصات عقل ودين»، الذي يُعزى للرسول ( ص. ل.ع.م.).  وإذا أخذنا في الإعتبار أن القرآن لا يخُصّ حواء وحدها باللوم على الخطيئة الأولى بل ينحو باللوم اكثر على آدم (3:2)،  نرى أن ذلك الحُكم على المرأة كان مقصورا على فترة زمانية محدودة أو حالة إجتماعية خاصة تحت ظروف معينة. وتتلاشى الصفة بتغيّر الظروف المُجتمعِية وتقدمها؛ وذلك هو ما قال به الجاحظ.  إلا أنه من خلال تفسير الذكور للشرائع والأحكام الدينية، أضحى الحديث النبوي  يؤخذ وكأنة تشريع سماوى مُقرّرِِاَ أن النساء قد خلقن بهذه الحالة من النقص العقلي والديني ويبقين عليها إلى الأبد. (الشامى 1999، ص. 11)
هذا قليل مما قدمه الشامي حول هذا الموضوع على مدى نصف قرن من الزمان، آملا أن تلقى تلك الأفكار إهتماما علميا ونقدا (تقييماَ) بنّاءً من المتخصّصين العرب. إلا أن ذلك التقييم المنشود، للأسف، لم يحدث. وعادة ما تبدء الدراسات اللاحقة، عمداَ أو عن غير قصد، بدون إستفادة مما سبقها أو إعلام جمهورالباحثين به.

ويحوى كتاب أبو الليل على بعض الظواهر الأساسية التي لم تعالج على نحو سليم، أو لم يتطرق المؤلف أساسا إلى علاجها. ويُذكر من ذلك ما يلى على سبيل المثال:
(أ) بمقارنة النصوص التي إحتواها الكتاب بنظائرها في تجميعات سابقة من مصر (وغيرها من الدول العربيّة)، بتطبيق مفهوم “الطراز القصصي”، (الشامى، 2004)  يتضح مدى الَتفتّت الشديد لغالبيتها ودلالته على تغلغل عوامل النسيان في مكوّناتها: بنية، وموضوعا، وأداءً. وهذه الظواهر ليست سمات دالّة على إبداع أو تحديث، ولكنها أعراض تدهورٍ وأيلولةٍ إلى الإنقراض. والمسألة هنا ليست مسألة حرمان المرأة المصرية/العربية من القدرات الإبداعية، فلقد تم الأعتراف لها بهذه القدرات تاريخيا (و إن إعتُبرت من المثالب)، ولكن المسألة تتعلق بتحديد ماهيّة الإبداع ومقوماتة.
(ب) إن إغفال الدراسات التي سبقت كتابَه قد أدت إلى حرمان جمهور الباحثين من التعرّف على أسماء ومراجع وآراء تناقش قضايا ونظريات مرتبطة بالثقافة الشعبيّة العربية ومستقبلها. وكما يُقال: إن السلسلة الحديدية لا تكون أقوى من أشد حلقاتها ضعفاَ. وبرغم التغيرالسريع في الوقت الراهن، فإن الثقافة الشعبية التقليدية لازالت هى القاعدة العريضة التي تقوم عليها الثقافة الشائعة وكذلك ثقافة مجتمع الصفوة.
وفي زمننا هذا، يدّعي بنيامين ناتانياهو، رئيس الوزراء الأسرائيلي، أن هناك في العالم اليوم ثلاث حضارات قديمة فقط تتصف بالإستمرارية، ألا وهي: الإسرائيلية، والهندية، والصينية؛ ويذهب الفلكلوري الشهير ألان دَندَس، بدون أدلة، إلى أن حكاية «الأخوين: باتو وآنوبيس» (التي ترجع مِصريّتُها وبرديتها الهيروغليفية إلى 1200 عاما قبل مولد السيد المسيح) ليست مصرية-فرعونية بل مستعارة من الشرق؛ وينظرالفلكلوريون الغربيون إلى المتخصّصين العرب على أنهم مجرد مصادر للمادة الخام (نصوص ميدانية) وأنّهم هُم المُنظّرون. فأمام هذه الإدعاءات والتوجّهات ينبغى علينا أن نتمعن بدِرَاية وشفافية وأمانة في طبيعة تراثنا الشعبي ومصادره، وماهية وأهداف الدارسين له وإتجاهاتهم النفسية والعِرقيّة-القوميّة.
وعلينا أن نبدأ البحث من حيث إنتهى الآخرون: قبولاً أو رفضاً أو تصحيحاً مُسبّبا. أمّا تجاهل الآخرين ونتائج أبحاثهم أو وَءدِها فلا يعود علينا إلا بالخسارة وبضرورة البدأ، أبدا،ً من نقطة الصفر أو من مرحلة النظرة المنقوصة، كما هوالحال في كتاب المرأة والحدوتة.

المصادر والمراجع

1 . العدد 27  السنة السابعة خريف 2014، ص.ص. 8 - 9 .1
2. يود كاتب هذه السطور الإشارة إلى ما قدمه هو من نموذج في هذا المجال.  فالمعلومات المتاحة عن كل فقرة  يتم تقد يمها  ل الباحث على النحوالتالى:
(أ).  المنطقة-الدولة- الأرشيف - رقم الشريط/الفقرة: العدّاد، «الوجه»، رقم الفقرة-: ملاحظات طرازيّة=رقم الطراز ، موتيفات/جُُزيئيّات - تعليق على النص ككل- (معلومات ديموغرافيّة عن المصدر: الجنس، العمر، الديانة، الحالة الأسرية، إلخ).
(ب).  الجامع والمُفرّّغ والمترجم: أسماؤهم مثبوتة فى «المصادر/الببليوجرافيّة» وتُعامل المجموعة الميدانية على أنها منشورة/(مُتاحة)-غير مطبوعة، تحت إسم الجامع.
 أمثلة بالأحرف الاتينية:
  (Bibliographic Sample, The Gulf):  
AGSFC=Arab Gulf States Folklore Center]: Doha 85‑4 C43/01‑43/10. Fayyâd (al‑), Mr. ¿Alî (col., Bâzlûf: Tapes, C43/01‑43/10). Transcription by ¿Abd‑al‑¿Azîz al‑Mutâw¿ah, and Mu-hammad A. al‑Sa¿dî.
(Bibliographic Sample, Egypt):
CFMC=Folklore Center, Ministry of Culture] CFMC: Aswan 70-12B. Hasan, Miss Su)âd R. (col.). Instant tr. from Nubian to Ar. by A. Bâshâ, F.M. Makki, and ?] )Abd-Allâh.
3 - ولقد تمّ إهداء العديد من كتب الشامي ومقالاته لأساتذة علم الفلكلور والقائمين على شؤونه في وزارة الثقافة  والجامعات. ما تمّ إهداء نسخ من كُتب الشامى كلها لِِ مكتبة ألإسكندريّة منذ سنوات.

References Cited:
El-Shamy, Hasan:
1980:  Folktales  of Egypt, … with Middle Eastern and African Parallels )Chicago University Press).
!988:  نظم وأنساق َفهرسَت المأتور الشعبي»    (Methods and Systems for the Classification of Folk Traditions.» In: al‑Ma>thûrât al‑Shacbiyyah المأثورات   الشعبية / . (Doha, October), Vol. 3, no. 12, pp. 77‑109.
1999: Tales Arab Women Tell, and the Behavioral Patterns they Portray (Indian University Press).
2004: Types of the Folktale in the Arab World: A Demographically Oriented Tale-Type Index. (Indiana University Press).

أعداد المجلة