فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

المتخيّل الاجتماعي في القصّة الشعبية؛ النظام الاجتماعي وانتظام السرد

العدد 28 - أدب شعبي
المتخيّل الاجتماعي  في  القصّة الشعبية؛ النظام الاجتماعي وانتظام السرد
كاتب من الجزائر

تأطير:
يتضمن النّص القصصي الشعبي ترهينا لبنية اجتماعية اشتغل على معمارها ومحتواها، وهي بالأساس فضاء لإنتاجه وتداوله، إذ يمثّل المجتمع وحدة كلية تتوافر على مقومات كينونة الفرد في الضمن الجماعي، وبذلك تشتغل إوالية التنشئة الاجتماعية Socialization في عملية إدماج توافقي للفرد المنتمي إلى جماعته(1)، فيحتكم الجزء لقانون الكل في سياق حركة منظمة، وفي هذا تنتج الذات النّاصة نصّها في حدود تجربة المجتمع الذي تنتمي إليه وتعيش فيه،



 و بذلك لا يكون فعل التنصيص بما هو ممارسة فنية سوى إنتاج مؤطر Encadréموافق للمواصفات الاجتماعية ذات الديمومة(2) والتوارث، مما يجعل القصة الشعبية «تحمل علامة المجتمع الذي تنشأ فيه وتتعلق العناصر المكونة لها بالثقافة والعادات»(3).

تمثل التجربة الواقعية الاجتماعية مصدرا للفعل الفني عموما(4)، ولذلك قيل باجتماعية الثقافة ومضامينها، فالذات الفردية حين إبداعها تتجادل مع ما عاشته واتصلت به، ومع ما نفذت فيه خبرتها من ممارسة عقلية و وجدانية، وهو ما يجعل العمل الفني يسري في التداول وينتشر عقلا ووجدانا في فضائه الجماعي، أو يضيق وينحصر، وإلى ذلك يعزى ما يطبع الفنون؛ فبعضها جماهيري وبعضها الآخر نخبوي، ويمكّن هذا الوصف من ضبط يقعّد مباشرة قرائية لنّص القصة الشعبية التي نحن بصددها؛ إذ هي نص يتجادل في المساحة الأوسع داخل الجماعة، على الأقل زمن إنتاجه، مع واقع مشترك موحد تمثل تجربته نسبة فعلية لكونه المتخيّل، لأن إبداعية القصّة الشعبية عملية انبثقت في صيغة مباشرة، لم ترشح استجابة السرد فيها لفعل انتخابي استغرق الطبقة الكثيفة للعقل في الفكر(كما هي تجربة الرواية المعاصرة)، وكانت المسافة الفاصلة بين التجربة والكون القصصي أحادية الاتجاه وقصيرة الامتداد، فمثّل بذلك نصّ القصّة الشعبية ممكنا متخيّلا لواقع محسوس، و أدى نمذجته في أسلوب مباشر للنّص تتشابه نماذجه إلى حدها الأقرب(5)، فصّفة الاقتراب الأدنى لنصّ القصّة الشعبية من عالمه الواقعي، جعل مرجعيته الاجتماعية متجلية في صورتها الأوضح، حيث تحفل نصوص مدونة القصة الشعبية بمجتمع نمطي واضح في معماره ومضمونه، يقايّس المجتمع الحيّ الفعلي مقايسة تطابقية من حيث الأنموذج وهندسة خارطته القانونية، ومن جهة أخرى، يبدل النصّ قائمة الأسماء ليرسخ صفات النماذج الاجتماعية في صيغة تأكيدية على الطبيعة الجذرية لمجتمعيته ومرجعيتها المتعالية، وهكذا تصور كلمات النّص الواقع المرجعي وتعكسه(6).

يمثّل المجتمع ببنيته مرجعية للفرد الحيّ، وهو فضاء لممارسة نشاط الحياة، كما هو القاعدة الشرطية لفعله الإنتاجي، حيث يمتد هذا المجتمع في شكل مخطط يحيّز مساحة حركة الفرد وينظّم ديمومته في إطارها، ولعل الصّفة المحورية والمركزية للحركة الاجتماعية ونظامها هي التواصل بكل مستوياته وأنواعه، فالنّاس داخل مجتمع الانتماء يتفاعلون/ يتواصلون عمليا ورمزيا، ويتم لهم ذلك بتوافر مجتمعهم على قوانين تحكم تبادلهم المادي والمعنوي، وفي استجابتهم الواعية لهذه السلطة يمارسون فعاليتهم في البقاء الرمزي لهذا الاستمرار الفعّال والقاعدي، وتؤدي الجماعة دورها الضروري إزاء الثقافة، كما تؤدي الثقافة فعلها التأطيري والحركي لديمومة الجماعة(7)، وفي هذا تحتل اللّغة المرتبة الأعلى في سلم التواصل الاجتماعي الثقافي، وبذلك تحتل النصوص القصصية مكانة في ثقافة المجتمع، وتنتشر في حركته الثقافية انتشارا إيديولوجيا ينعكس في بنيته فكر المجتمع، سيما وأن الإنتاج السردي الجمعي يخاطب هوية المتداولين بنصّه، ويشدهم إلى حكي وجودهم.

تعتبر نصوص القصة الشعبية الجزائرية شكلا ناتجا عن التفاعل الاجتماعي، ومن خلال قراءتها، تبرز البنى الاجتماعية في حدّها القانوني من حيث هي هندسة مرجعية خطط على مقياسها المفكر/المبدع الشعبي مجتمع قصّه، حيث مثّلت تلك البنى مرجعية جبرية بنظامها وترسيمتها، مما جعلها فهرسا يرتد إليه الفهم لتأوّل أفكار النّص ومقولاته الدلالية، خاصة والقصّ الشعبي في خطابه الفني، يمثل استجابة إبداعية لإرغامات المرجع الوقائعي  الذي يعيش المبدع فيه و داخله، مما يحمل النص  على كونه كشفا إيديولوجيا و رسالة هوية وصورنة لجذره الجمعي، فكلّ النصوص، وهي تعبر بالحياة الاجتماعية من كونها واقعة إلى كونها متخيلا سرديا، تخطّب المرجع وتعيد تشكيله؛ لتقول جذرها الاجتماعي، وتحاول إصلاح خلله، فمهمة الجتمعة socialisation النصّية هي أداء وظيفة إيديولوجية ذات اتجاه نقدي إصلاحي، تعلن عن مشروعها في الحفاظ على الهوية، خاصة في بعدها الأخلاقي الموروث عن أسس اعتقادية راسخة، وبذلك يكوّن نص القصّة الشعبية، كما هو في المدونة، بنيته المكتملة وذات الكفاءة في الوجود، ويعلنها بأنّها عنصر في نظام منسجم أطرته الوقائع  و حققه المتخيّل ضمن الفعل التواصلي.

تنطلق قراءة المتخيّل الاجتماعي من تفاعل البنيات الاجتماعية ومخطط علاقاتها، بما هي «ماصدق» لمفهوم المجتمع الجزائري، مع صورتها المرهّنة في السرد، و هو ما يعني فهم علاقة الخطاب النصي و اشتغاله المحيّن في اللغة بمرجعية الوقائع الناشئ عنها، و كذلك بيان وساطة الذات الناصة في إنجازها لحدث النص إنتاجا وتلقيا.

يبني نص القصة الشعبية كونه المتخيّل بتشغيل محرك المماثلة في مقايسة بنى منصوصة في السرد  على بنى مرجعية الواقع الاجتماعي، ليصبح المعيشي الممارس صورة تختزن الفعل العملي في ذاكرة ذهنية، و بانتقال النص من مقايسة تصويرية انعكاسية إلى مقايسة المثال، ينجز الصيانة الإيديولوجية الفاعلة بمنظور نقدي يطرح بديلا حافزه التغيّير؛ الذي ليس إلا تحقيقا للنموذج الاجتماعي الأعلى، والذي يمثل الدينامية البنائية للحياة الاجتماعية في صورتها الصافية، بما هي صورة متعالية تقاس إليها الوقائع والبنى وحركة العلاقات، وذلك في مشروع يضاهي رغبة التحقق القصوى للمثال الأنموذج، وحري بالمعرفة إزاء هذا الفعل في مرجعة النصّ اجتماعيا، أن يفعّل الإدراك الجذري بأن الذات المفكرة/ المبدعة هي النقطة المركز والمساحة الأصل التي يتم من خلالها وعبرها فعل تنصيص المجتمع، وانطلاقا من هذا الإدراك، يصبح واقع إنتاج النصوص القصصية هو فعل محاكاة تحويلية تصب المعيش في إمكان التخيّيل، وهو الفعل الذي يجدد الواقع بإعادة إنتاجه في حركة ازدواجية تتصل بما هو كائن ضمن مجالها الوقائعي في اتجاه المرجع، كما تندفع للاتصال بالمثال النموذجي المأمول في اتجاه الممكن، وهو فعل يقع في صميم معادلة الفعل الاجتماعي والاكتساب المحاكي والمعرفة العملية(8).

تحتوي مدونة النصوص على بنيات اجتماعية منصّصة في طرحها الإيديولوجي للمشروع الاجتماعي، وبذلك فهي تقول خطابها النقدي داخل عملية تسريد الوقائعي المرجعي في شكل تثبيت للمرجع الجذري، وكذلك في شكل تحويله صيانيا، وهو الأمر الذي يسمح لنا باكتشاف النمط القانوني التفاعلي بين كون المجتمع وكون النّص، وذلك عبر مقارنة تماثلية بين مجتمع النّص ومرجعيته العملية، وتتبع فعل الذات الدينامي في قدرتها على تحويل واقعها فنيّا. ومن خلال خطاب النصوص تدرك القراءة إرغامات البنى الفعلية للمجتمع، من حيث هي مخططات وترسيمات عملية لفعل الذات المبدعة في جتمعة متخيّلها، والإعلان عن تراتبات «الأنا» في حركية وعيها بالمركزية الانتمائية داخل الدوائر الاقتضائية للهوية، وفي هذا ينتقل البحث من الحدّ الأدنى القاعدي إلى الحدّ الأقصى الامتدادي، ويقرأ التجلي البنيوي للسرد الناتج عن الفواعل الإيديولوجية للتفكير الاجتماعي. ويمثل مركز الهوية، في هذا الشأن، محركا تشيّيدويا لدوائر ثلاث(9)؛ يسوغ لنا في مقام القصّة الشعبية توزيعها على ثلاث بنيات أساسية للكون الاجتماعي، مدركين أن القص الشعبي هو من المرويات الكبرى التي نشأت عن الهّم الجماعي في الإجابة عن سؤال الانتماء والمصير، وفيما يأتي محاولة اقتراب عملي مما رهّنته النصوص في نشوئها عن المقتضى الاجتماعي واشتغالها التخيّيلي عليه.

1 - الأسرة؛ الأنا النواة، البنية الأساس:
تكاد كلّ نصوص القصّ الشعبي، تنطلق من أساس جذري لإعلان حبكتها وحركة نموها، و هو خبر أسرة ما، وهي بذلك تحاكي، على وجه المطابقة، واقعة في قانون البناء الاجتماعي للشخص الموجود في ضمنها، فتقول القصّة: «كان هناك أسرة تتكون من...»(10) ومهما تنوعت العبارة فهي لا تخرج عن  هذا الجذر، مما يزكي رسوخ البنية الأسرية النواة في انبثاق فعل السرد بما هو استقصاء لمآلات الخبر المنطلق، وتقصّ استفهامي يتتبع توالدات البنية الناشئة عن مركز قاعدي لكينونة ذات اجتماعية، تستنفد حركة ممكنها في اكتشاف فعلها الإنتاجي، مستغرقة مع حبكة السرد في تحقيق معرفة تأسيسية للكون الاجتماعي بتثبيت قانونه الأمثل للحياة الاجتماعية، وصيانة خلله الذي هو علّة كمون المثال وعدم تحققه، ويكون الهدف النتيجة هو مشاكلة المثال وحركة تغيّيرية للمشوه من قانون المجتمع وأنموذجه السليم، ويضع النصّ لهذه العملية بنية تركيبية تطهيرية على مسار صيروري يرتب الإجابات الجزئية في معمار الحبكة، وينتهي إلى فكّ الإشكال بطريق مقايسة مجتمع سردي يطابق المثال الاجتماعي للبنى وقانونها، ويصل تسريد التفكير الاجتماعي للقصّ إلى حدّ نقطة مشبعة يكتمل عند حدّها البناء الاجتماعي من حيث هو تخطيط أنموذجي لما يجب أن يكون، ولذلك تبنى نصوص القصّة الشعبية، في مدونة البحث، مجتمعا مطهرا في صيغة نهائية يكف معها التساؤل عن مصير دينامية البنية النواة في تحولاتها نحو دوائر الامتداد ضمن التوسع الاندماجي بين الأسر، وكذا توسع مجموعات الأسر في تعالق مشترك للهوية(11)، وكيفما يبني النص تشاكله مع المخطط البنائي للمجتمع الذي نتج فيه، فهو يتمثّل، في حبكة سردية، مثالا أعلى للحياة الاجتماعية مطهرة من الخلل ومستقيمة توافقيا، حيث يداخل بين الدوائر من حدّها القاعدي (الأسرة)، ويضعها في فعالية إنتاجية من حيث هي فضاء مثالي للفرد والجماعة.

ينتخب نص القصة الشعبية حالة خاصة، وهو يخطط سننه السردي، بما يسمح لهذا السنن، ضمن فعل التنصيص، بالإخبار عن حالة عامة يرتد الفهم إليها في ارتجاع للسنن الاجتماعي بما هو واقعة ضمن مخطط علي للممارسة العملية للذات(12)، ويصبح النّص عندئذ فعلا تراسليا بين المبدع والمتلقي، وكل واحد منهما يملك أفقه الذي لا يخرج عما يمده أفق النّص من حيث هو فضاء يشغّل علامة الانتماء، وفي هذا تقّعد الأسرة، بما هي قانون تخطيطي نمطي للتعالق الاندماجي لأنا الفرد، لعملية الفهم الذي يحصل من مقايسة السنن السردي بالسنن العملي لشبكة الاجتماع البنيوي للأنا ونموها التراكبي، وينخرط النّص في أفق الاجتماع فيرسّخ ما يجب، ويحوّل ما يقبل الممكن، وذلك داخل أفق للتعالي الاجتماعي يقارب المثال الأنموذجي للحركة البنائية للأنا والهوية في مخطط الانتماء.

من خلال نماذج نصية يشتغل البحث على كشف وفحص البنية النواة (الأسرة)، ويستنتج قانونها المجرد من حيث هو مخطط مثال، يسمح باجتماع الأنا الفردية، ويؤسس نموها في دوائر الاستلزام الامتدادي لمعمارها وتراكبها، لتصبح في اتجاه الهوية الجمعية وحدة كلية، ويقارن البحث ذلك بالسنن الاجتماعي وجبريته القاعدية الفاعلة في تأسيسات المتخيّل النصي.

1 - النّص: بقرة اليتامى
الأسرة النواة: زوج و زوجة، ولدان: بنت وولد.
حركة النواة:  موت الزوجة: تفكك.
ناتج الحركة: بناء نواة جديدة (أسرة البطلة).

2 - النّص: السابعة صغرونة
الأسرة النواة: أب له سبع بنات.
حركة النواة: الأب يسافر، الأسرة تتفكك.
- صغرونة تنجو بمفردها.
الأسرة النواة: صغرونة تؤسس أسرة.
حركة أسرة صغرونة: تفكك: موتها جرّاء سعيها إلى القضاء على ربيبها.
مآل الحركة: رسوخ الأخوة بين ابن صغرونة وربيبها (شكل لبقاء الأسرة).

3 - النّص: قرن ذهب وقرن فضة
الأسرة النواة: السلطان و زوجته، ولدان موعودان.
حركة: تفكك، إبعاد الولدين من طرف الضرتين (حبس الأم)
مآل الحركة: اندماج الولدين في أسرة جديدة (تبني)
عودة إلى النواة: التئام الأسرة (شكل أصلي تجديدي)

4 - النّص: أحمد ومحمد
الأسرة النواة: أب و زوجتان، ولد لكل أم.
حركة: تفكك، هلاك الأب و زوجة (أم).
مآل: انغلاق الأسرة الأصل (أم و ولد، إبعاد ابن الزوجة الهالكة).
حركة / نواة: الابن المبعد يشكل أسرة (زواج من بنت السلطان).
حركة: الأخ يلتحق بأخيه.
مآل: تفكك الأسرة المغلقة، إلغاء الأم المعتدية.

5 - النّص: المرأة التي تزوجت السلطان
الأسرة النواة: أب و ابنته.
حركة: البنت تتزوج السلطان، تشكيل نواة.
حركة: تفكك، السلطان يبعد الزوجة.
مآل: الزوجة تحافظ على النواة، صيانة.

من خلال هذه النماذج النصّية، التي هي عينات للنصوص المماثلة لبنيتها، نستنتج ديمومة النظام الاجتماعي الناشئة عنه، والذي له بنية قارة ذات طابع مركزي، فالأسرة في أصلها، من خلال  النصوص، جذر نسقي لتعالق اجتماعي صفته الثبات القانوني، من حيث هو النظام البنائي المتحكم في التعيّين الإنجازي للحالات المتحققة، وبهذا المنظور، في ضبط اتصال النّص بالمجتمع ونظامه، وتواصلهما عبر الذات النّاصة والمتداولة للنّص، يتجلى الفكر الأنثروبولوجي في تنسيقه للفعل الثقافي، وتعلن الذات في نصّها كينونتها لسانيا/سرديا، في عملها الذي يداخل أبعادها في مساحة متخيّل النص، والأصل لذلك كله هي عملية التباني*؛ التي يعيها العقل من حده الاجتماعي إلى حدّه المنصوص في السرد، وبذلك يصبح النّص في علاقة تداخلية مع الأبعاد الاجتماعية للمتواصلين به، فمن وجهة نظر الأنثروبولوجيا البنيوية، يمثل قانون الاجتماع البشري نظاما ونسقا مضمرا يوّلد البنيات العينية المتحققة(13)عمليا، والتي تؤدي وظائفها الأساسية في تنظيم الحياة الاجتماعية، وتزوّد الفرد بطاقة الاندماج في حياة الجماعة، وذلك عبر تقنين الحقوق والواجبات في إطار مجتمع منسق متواصل(14)، وهو الذي قالته النّصوص، وأعلنت في مستواها المضمر انتماءها إليه، وكان فعل التنصيص في القصص تسريدا لهذا المعيش المفهوم في الذاكرة الفكرية الجماعية، ولذلك ليست الأسرة، بما هي الدائرة النواة للبنية الاجتماعية، سوى نظام ونسق قانوني ذي جذرية بنيوية تمثّلتها النصوص، ورهّنتها خطابيا عبر فعل السرد.

تخبر نصوص القصة الشعبية، كما هي في النماذج المذكورة، عن بنية راسخة للأسرة، والتي هي حاصل زواج بين رجل وامرأة ينتج عنه استقرار وتوالد، وهو فعل من أهم طقوس العبور التي تحقق الانتقال من الوضع الأنطولوجي إلى الوضع الاجتماعي(15)، وهو التعالق الاجتماعي الذي يؤسسه الجذر الوظيفي الفاعل في نشوء نظام لتبادل الفعل الاجتماعي(16)، وهي عملية قاعدية لتراكب البنية الاجتماعية.
من خلال النماذج نجد:
أسرة = رجل + امرأة = استقرار، توالد.

ولهذا الجذر البنيوي تعيّينات غير محدودة، وهو محكوم ببنية متعالية تمثّل الشرعيةالعقائدية، ومرتبط بهدف الكفاءة في تحصيل علّة قيامه، والتي هي الاستقرار والتوالد، والنص في توظيفه لهذا الجذر يرسخ بنيته ويؤكد على جبرية مرجعه في إنتاج متخيّله، ولذلك نجده يستقصي مثاله عبر المعالجة الصيانية لخلله وانتظامه، فيعمل النّص على تثبيت ما وافق القانون، وإلغاء وتحطيم وتفكيك ما خالفه ولنلاحظ.
تفكك الأسرة ←بناء أسرة جديدة ← المحافظة على الأسرة ← تفكيك الأسرة المخالفة للأصل.
تعبّر هذه الإوالية (ميكانيزم) عن الحالات الممكنة لنواة الأسرة من حيث هي أساس بنائي، ويواتر النّص بذلك هذه الحالات في نظام عللي، وقد يضاعفها اشتقاقيا ويغيّر مراتبها في توسيع الحبكة، لكنه أبدا يصل إلى مطابقة تامة مع النموذج الجذري وبنيته الجبرية المتعالية، وهكذا يشكلن النّص كونه وعالمه في تجادل إنتاجي مع العالم الاجتماعي؛ بوصفه حقيقة عينية تمارس سلطة المرجع الذي ينتج في عالم النّص إما بصيغة التأكيد أو بصيغة الإنكار(17)، ويشتغل التخيّيل السردي في القصة، على هذا النحو، بتمظهرات تعددية في حركة توالي البراديغم (الأنموذج) الاجتماعي، وتدل حالاته المنافية على وحدة أصله في حالة السلامة، لأن كلّ حالات خلله هي تأكيد وترسيخ لمثاليته.

2 - القبيلة، الأنا الجماعة، تعالق النواة(18):
مثلّت الأسرة جذرا اجتماعيا تأسيسيا، كما في نصوص المدونة جميعا، وكانت بذلك بنية اقتضائية لقانون المجتمع الذّي اشتغل النّص على تخطيب تحوّلاته، وكانت الأسرة نواة مرجعية بجذرها البنيوي مارس سلطته على الذات المتعقلة لكونها المعيشي، والمتخيّلة، في آن، لكونها السّردي، فجاء نصّ القصّة متوالية نسقية لحبكة حققت ممكنها باستنفاد جميع أشكاله المحتملة، ولكن بطريق ترسيخ الأصل في صيغة تبرر مثالية الأنموذج المتعالي لبنية الاجتماع الأسري الأساسي، وحصل من هذا الفعل الجدلي حدّ مجموعتين لتوالد النواة/الأسرة، حيث شاكلت النصوص تعالقات الأسرة القائمة تطابقيا مع النموذج المتعالي للمجتمع، فعبّرت عن مجموعة الأسر المستقيمة مع القانون الاجتماعي، و حدّتها في المجموعةالصحيحة؛ التي لها صفة الديمومة وجدارة البقاء، وفي المقابل سلطت الذات الناصة قوّة تقويضية على الأسر المخالفة للمثال، وحصل من ذلك تفكيك وإلغاء التعيّينات الاجتماعية المخالفة، وعبر هذه الهندسة  البنيوية للسرد كان تجميع الأسر في حزمتين متناقضتين؛ حزمة موافقة للمثال؛ وحزمة منافية له، فالأولى ترتبط وتتراكب في حركة توسيعية، والثانية كذلك، ولكنه البناء التناظري الذّي يدفع بالتوسع إلى حدود التصادم.

ترتبط الأسر، كما تقول نصوص القصة الشعبية، في جذرها المطابق للمثال، فانتماؤها إلى وحدة جذرية هو الناظم لحركة التمدد والتوسع، والنّصوص في عملية تركيبها لمجموعة النواة الجذرية/ الأسرة تفعّل قانون الموافقة، إذ كل الأسر التي تنتمي إلى المثال المستقيم تنجذب إلى وحدة كلية، فهي ذات طبيعة واحدة وصفة واحدة، ولذلك لها المنطلق نفسه والهدف نفسه، وتناظر تضاديا حزمة نقيضة تمثّلها الأسر المخالفة، وهكذا تندمج كلّ أسرة في هندسة انتمائية موحدة إلى جماعتها، وهو الانتماء المنشئ للصراع والتصادم، كما هو مجذّر في ثنائية الخير والشّر، فهذه الدائرة الحركية المركبّة لمجموعة الأسر تشغّل ناظما يتأسس على جذر الأسرة ولكنّه، في الوقت ذاته، يجاوزه احتوائيا، وذلك في شكل بنائي ينظر إلى المكوّن الأسري على أنّه مفرد، من حيث أنّ الجماعة هي فضاء كينونة الأسرة ومساحة حركتها الاجتماعية، لأنّ الناظم الاجتماعي يتضمن اقتضائيا لتشكيل أية أسرة فعلا تبادليا للنسّاء خارج علاقة المحارم، كما يقول كلود ليفي ستروس (19) claudleviestrauss، وكما هو في الأنثروبولوجيا العالمية، ممّا يرسّخ الهوية الجماعية وعاء شرطيا لحركة التشيّيد الاجتماعي وبنيوية جذره الأساس، فالبنية المفرد تتمدد في نموها داخل الجماعة المتزامنة في نموها الدموي (جدّ واحد)، أو تتراكب في صفتها الجذرية (الخير).
تبني نصوص المدونة هوية جماعتها وفقا لمبدأ المماثلة والمغايرة، ولذلك فمنصوص المجتمع في نص القصّة يقول أنا الجماعة داخل انتماء موحد، وفي الوقت ذاته يقول آخرها الذّي يجعله علامة على وحدتها، وهو واقع قاعدي لمقولة الهوية التّي لا تتحدد إلا بآخر(20).

في مطالعة لنماذج نصيّة يقرأ البحث توسع الجذر الأساس في دائرة الهوية وانبنائها التعالقي، ولنلاحظ:
النّص: أحمد ومحمد
أسرة: أب و زوجتان، لكل امرأة ولد.
موت الأب وإحدى الزوجتين (تفكك).
الأم الباقية تغلق وحدة أسرية مع ابنها (أحمد)
محمد يغادر خارج الوحدة المغلقة.
محمد يشكّل أسرة (يتزوج من بنت السلطان).
أحمد يخرج عن الوحدة المغلقة بحثا عن أخيه.
أحمد يخلّص أخاه من الغيلان (الوحدة المناقضة).
يرتبط الأخوان من جديد.
الأخوان يلغيان القوة المفككة لوحدتهما (موت الأم الثانية).
النّص: السلطان والخدّام
السلطان وحدة أسرية (حاكمة / مركزية).
الخدّام أسرة هامش (وحدة تابعة للمركز).
ابن الخدّام يرغب في الانتماء إلى المركز (يطلب الزواج من بنت السلطان).
استحالة الارتباط (اختلاف جذري داخلي).
ابن الخدّام يشكّل موازيا لوحدة السلطان (أسرة).
ابن الخدّام يرفض مصاهرة السلطان ردّا بالمثل.
النّص: انصيص عبد
بنات السلطات يخترن أزواجا أندادا (تشكيل وحدات).
البنت الصغرى تتزوج من انصيص عبد.
السلطان وبناته وأزواجهن (وحدة مركز) يحتقرون انصيص عبد (وحدة هامش).
انصيص عبد ينافس الآخر الداخلي (الوحدة المركز).
انصيص عبد ينتصر على الآخر الخارجي (الغيلان).
انصيص عبد يحمي الوحدة المركز من قوة الآخر المعتدي (الأعداء).
انصيص عبد يحوز المركز (انقلاب الوضع).

يقود الاستنتاج الدّراسي للسنن السردي، كما هو متحقق في النّصوص، إلى فهم التراسل بين عالم الكون الاجتماعي؛ الذّي هو فضاء العيش والممارسة العملية، وبين عالم كون النّص، الذي هو تمثّل تخيّيلي تخطبّه الذات النّاصة، وبذلك ينبسط التداول وانتشار النّصوص في التواصل علامة على فعل ثقافي تأسيسي قائم على مقومات الهوية في تنامي دوائرها وتداخلها بين المعيش والفكر واللغة، وما تؤول إليه حركة الإنتاج الفكري والمعرفي في مرافقته بما هو فهم للفعل العملي، وهكذا يؤدي السرد، في تأمله للواقع الاجتماعي وأنظمته وأنساقه، فعلا رمزيا يتوسل اللّغة في تسجيل معرفة، كما يفهرس لهذه المعرفة بنيتها المتعالية وقانونها الجذري، وتتجلى الحبكة خطابيا في صورة متوالية تشخص التجربة الزمنية(21)، وتقول سيرورة موقع السارد ومتداول السرد من الأنا الجمعية وانتمائها إلى دائرة الفهم، ومعلوم، في محاكاة السرد للنسق الاجتماعي ونظامه، خضوع تجربته، التّي تنقل العملي إلى اللّغوي عبر الذهني، للحظة إنتاج النّص ومظهرة الفكر في سننه؛ و التي هي لحظة سلطوية تنفذ في الدينامية التداولية لانتشاره الأفقي وتجايله ضمن التراكم الاجتماعي لكينونة الذات، وفي هذا يخضع النّص على مدى حركته التداولية والتراثية إلى تطويع وتحويل يمسّ أجزاءه المتغيّرة، لكنّه في الوقت ذاته يعبّر عن ديمومة جذره البنيوي، ورسوخ ثوابته، سيما عندما يكون مجتمع التداول المنفصل عن لحظة الإنتاج متصّلا من حيث كينونة نظامه مع مجتمع الإنتاج الأصلي بصورة تماثلية.

يؤسس هذا الفهم لعمليات إجرائية تربط النّص بمجتمعه القائل في لحظة إنتاجه، ومجتمعه المتداول له في لحظات وأزمنة انتشاره، ومادام جمع نصوص القصة الشعبية، يقوم على طلبها من الذاكرة الحيّة لأفراد موجودين في مجتمع، فإنه بالإمكان القول بتأويل يرتجع في سؤاله عن الأصل إلى التاريخ، والملاحظ في ذلك أنّ كل النصوص مطابقة في جذرها البنيوي للنظام الاجتماعي لما هو كائن واقع لحاملي ومتداولي النّصوص، مع وجود فواصل تداولية تخبر بالابتعاد عن اللحظة الأصل لإنتاج النّص.

في سياق الفهم التأويلي لمنصوص المجتمع في القصة الشعبية (المدونة)، ومن خلال التكرار البنيوي لتمثلات النسق الناظم لتشكيل الوحدة الاجتماعية (الأسرة) وحركة تعالقها (الجماعة/الهوية)، تخبر صفات النّص الداخلية (سننة السردي)، وصفاته السياقية (التاريخية) عن كينونته وشروطها، فجميع النّصوص متواترة في تكرارها للسنن وقواعد الحبكة، وهي كذلك تفتقد جميعا إلى نسخة مدّونة تنهي ما تثيره شفاهيتها من مساحات مفتوحة على التأويل الذّي يشتغل بأصولها، ومن أجل هذا الوضع القائم يجب على كلّ دراسة في تاريخية البنى الاجتماعية المنصوصة في القصّة الشعبية الجزائرية، أن تموضع علامات النّص في مقاربة تصالح النتيجة الفنية مع المرجع التاريخي، وقد تفي القراءة الأنثروبولوجية بنسبة مقنعة في فهرسة النّص ضمن سيرورته التاريخية، من لحظة إنتاجه إلى لحظات تداوله، ويبقى هذا جهد في سياق المقارنة بما لا يحوّل النّص القصصي الشعبي إلى وثيقة تاريخية، وإن كان يدّل على تراثات بشرية تاريخية لمجتمعه.

من خلال النّصوص يتجلى مجتمع ذو صفة جذرية كما سبق، وتطبعه المحلية بما يحدّد مرجعه الديموغرافي ذا النشأة الأمومية، فالشخصيات تتحرك في فضاء مأهول حدوده انتشار الهوية، من حيث هي صفة ووظيفة، في مكان مهيئ للعيش، وعند الحدّ النهائي يحدث افتراق مزدوج إلى فضاء مجهول هو لا محالة موطن الآخر الذي يكون إما مثيلا أو وحشيا، ويدّل هذا السنن النّصي على تناغم شكلي يتمثّل الفضاء الاجتماعي المنتج للنّص، وفي هذا تقدم الدراسات الأنثروبولوجية مخططها التعليلي لنمو وتوسع النظام الاجتماعي فيما تصطلح عليه «بالانقسامية»(22)؛ و التي هي المخطط التجريدي التفسيري لحركة التعالق الاجتماعي ذي النمطين؛ الآلي، والعضوي، وباستخدام هذا المفهوم تكون الأسرة ضمن النمط الآلي؛ الذي يربط بين مجموع عناصر الوحدة/الأسرة بدئيا لأنها عشيرة، وأمّا النظام العضوي فهو يربط بين الجماعة في نسق عضوي يفرضه تقسيم العمل وتكامل الوظائف الناشئة عن النمو الديموغرافي، ومن خلال النصوص نلاحظ حركة عناصر الأسرة     و وظائفها، وتمثل في ذلك وظيفة البطولة عملا عضويا ينتخب مهمة الأنا المفرد لمصلحة الجماعة؛ الناشئة عن نمو الأسر في وحدة كلّية مشكلة من الأعراش (مجموعة العائلات) قبيلة(23)، وبحسب وثائق التاريخ، لم يكن الارتباط الدموي (هرمية الجدّ) هو الشكل الأوحد لتراكب العائلات، ممّا يؤكد النظام العضوي للارتباط البنيوي للمجتمع الجزائري، والقائم أساسا على الاندماج الجبري للفرد في وحدته الجماعية(24)، وهو الواقع في مسننات السرد و متخيّله للنظام الارتباطي، الذي أنتج في ضوئه فعل التنصيص في القصّة الشعبية، متحققات خطابية غير موثقة تاريخيا تحت اتجاه خلق واقعة فنية «كان ذات مرّة...». هذا التحلل من التوثيق هو ممارسة خروجية عن مرجع التاريخ المخبري، لكنّه يقع في صميم التداخل مع النسق الهيكلي والبنيوي لانتظامات المجتمع ومرجعيته، وهكذا فإن القاعدة البنيوية للترابط العضوي كانت، من خلال النّصوص، محركا لفعل البطولة من حيث هو أعلى تعبير عن وحدة الكل الاجتماعي، فالشخصية البطلة أدت في السنن السردي، محورية انتظام للأنا والآخر، ومثّل موضوع الدفاع عن الجماعة، بدء بالأسرة وانتهاء بالمجتمع، مركزا توليفيا للأدوار في تموضعها، إما مع شخصية البطل أو ضده، وهو ما يدل عليه عنصر الشخصية في القصة الشعبية،  و محوريتها في تنسيق الهوية والتعبير عن طبيعتها وحدودها، و عبور الشخص العياني الواقعي في مرشح الإبداع التخيّيلي للانتماء إلى الواقعة النّصيّة، ما هو إلاّ حاصل تنصيص المجتمع، وتخطيبه في الواقعة المتخيلة للسرد.

3 - السياسة، التفاعل الجدلي وإنتاج السلطة:
تقسّم وثائق التاريخ المجتمع الجزائري في سياقه المغاربي وانفتاحه الحضاري، إلى مستويين من الوجود الديمغرافي، ويشترك بذلك مع المجتمعات العالمية في الهندسة البنيوية لتوزعه في فضاءين مختلفين متكاملين، ويعتبر هذا التفاوت في مستوى التمايز الديموغرافي امتدادا طبيعيا لأجيال من الأسلاف المجتمعية سواء في دائرة حوض المتوسط، أو في دائرة الانتماء الإسلامي، وغني عن الذكر تداخل الدائرتين.
يميّز التاريخ والتاريخ الأنثروبولوجي المعايّن للمجتمع الجزائري بين نمطين للديموغرافيا؛ هما البدو والحضر(25)، ويذكر الدارسون طبيعة كلّ نمط من حيث الهيئة والصفات، ويجتهدون في حصر الفوارق تداخلا وتخارجا، ويرصدون وظيفية التفاعل بينهما، كما يذكر المؤرخون البنية الثقافية للسكان وتمايزها بين فضاءي القرية والمدينة، وليس موضع ذكرها هنا إلا من زاوية ما يقوله النّص، ويخبر به، ولعل إطلالة على التاريخ العمراني للجزائر، ضمن مجالها الشمال إفريقي، يصوّر واقع الانتظام السياسي والاقتصادي للمجتمع، ومدى حيوية هذا المجال في تفاعله الحضاري وتوسعه الديمغرافي(26)، فمنذ العهد الفينيقي و مرورا بالتوسع الإمبراطوري الروماني إلى العهد الإسلامي، تفاعلت الآثار الثقافية المختلفة واندمجت في حركة تجايلة تماهت آثارها وترسبت في طبقات التراث العميقة، ولعلّ التدليل عليها عبر فرزها يمتد إلى تخصصات متشعبة، وحسب القراءة في هذا أن تلتزم بمدونتها؛ فمن الناحية الإجرائية لقراءة الفضاء الأنثروبولوجي وتأويل ديموغرافيته، يمكن تسليط الفهم في استكمال معمار النظام الاجتماعي، على ظاهرة السياسة ونظامها السلطوي المنسق لسلوك الواجب والحقّ، وما ينشأ عنه من ممارسة الفعل وردّ الفعل، ولابد من تجديد التذكير هنا أن مدونة  القصةالشعبية تقع خارج المرويات الدينية (المغازي) وأيضا خارج المرويات الصوفية (الأولياء)، وتفيد هذه الملحوظة الهامة في حد المفهوم الفكري والمحتوى الفني للنّص.

تقول نصوص القصّة الشعبية ثنائية القرية والمدينة في نسق من التفاعل الجدلي؛ والذّي هو حركة تبادل للفعل خضوعا ومقاومة، ويرجّح البحث أن مسار الذات الناصة كان في عمومه من القرية إلى المدينة، وعلامة ذلك حركة ومسار أبطال النّصوص في ترهين سردي للواقع والمفكر ضمنه وفيه، فالنصوص عبّرت، بصيغة متخيّلها، عن تساوق الواقع مع المسرود و تراسلهما، و في ذلك تعد نقطة التأسيس في سياق التاريخ الديموغرافي السياسي للمجتمع الجزائري محدودة فهما إلى غاية العهد التركي، وتنفتح على تراكمات تأويلية فيما وراء ذلك، ويعضد هذا الرأي ما يقوله المؤرخون من أنّ المغرب الإسلامي دخل «مرحلة تاريخية جديدة ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي، وخصوصا بعد بداية العصر العثماني، وكان لهذا التحوّل تأثير عميق في العلاقة بين المجتمع الريفي والمدينة»(27)، ويرجّح الباحثون أن الزمن العثماني في الجزائر كان له المساحة الأوسع في تداول وانتشار القصّ الشعبي(28)، حيث مثّل هذا العهد المرجع الأكيد للآثار القصصية الشعبية، وفيه عرف الرّواة واستقامت حرفتهم، سيما وأن بنية المدينة كانت أكثر وضوحا وفعالية، وإن كانت مصادر القصّة وموضوعاتها تراثية في هذا العهد، إلا أنها مبنية، من حيث اللحظة التداولية لإنتاج النّص، وفق شروط وظروف الإنسان الجزائري المتفاعل مع فضائه الثقافي زمنا ومكانا.
مثّلت القرية والمدينة تقاطبيا جدلية الفضاء الثقافي الذّي ناغمه نصّ القصّة في أهم تفاعل أنتجه، حيث كانت القرية دائرة بنيوية يوجد في حدودها المجتمع الجذري، وهو ما عبرت عنه و شاكلته بنية المكان السردي في النّص، فهذا الفضاء منغلق يتوافر على وحدة الجماعة المنتمية إلى هوية واحدة سواء كانت دموية أو نسبية أو عضوية، والخروج من هذه الدائرة هو بالضرورة دخول فضاء مختلف عنها دفع إليه سبب جوهري يمكن تلخيصه في علّية الحياة، فالبطل يخرج ليضمن حدود الدائرة وحمايتها، أو يغادرها حين ينفصل عنها بسبب انتفاء رابط الهوية معها، وأحيانا يكون الخروج من أجل العودة إليها بعد إصلاح خلل سببه الفضاء الآخر، وبناء على هذا كثيرا ما كان فضاء المدينة هو المستقطب لحركة الناس /الأبطال في خروجهم من دائرة مجتمعهم الجذري*، ويعني الخروج من القرية إلى المدينة تفاعلا ديناميا لظاهرة السلطة وبنيتها، وتجادل الفضاءين فيما تعبّر عنه الأفعال وردودها.

من خلال النّصوص يمكن أن نصف إجرائيا بنية إنتاج السلطة، في حركة التبادل الوظيفي بين إديولوجيا المجتمع القروي (المغلق)، و إديولوجيا سلطة المدينة (المجتمع المحيط) ولنلاحظ:
1 - نص: احمد واحمد... واحمد
خروج من القرية إلى المدينة: طلب حكم السلطان.
2 - نص: احمد ومحمد
خروج البطل من القرية إلى المدينة: زواج من بنت السلطان.
3 - نص: أكحل الرّاس أكويه ولا ادّاويه
خروج من القرية إلى المدينة: تحصيل الغنى.
خروج من حبس القصر: تحرر داخل المدينة.
4 - نص: اصحب الكلب وما تصحبش الدايرة
إخراج من القرية إلى المدينة: حبس.
عودة من المدينة إلى القرية: تحرّر.
5 - نص: بقرة ليتامى
خروج من القرية إلى المدينة: زواج لونجة من السلطان.
6 - نص: انصيص عبد
خروج من القرية إلى المدينة: زواج البطل من بنت السلطان.
خروج من الهامش إلى المركز: حيازة السلطة.
7 - نص: المرأة التي تزوجت السلطان.
خروج من القرية إلى المدينة: زواج البطلة من السلطان.
إخراج السلطان لزوجته من المدينة: إبعاد عن السلطة.
عودة الزوجة إلى المدينة: استعادة الزواج (السلطة).
8 - نص: قرن ذهب وقرن فضّة.
دخول المرأة إلى المدينة: زواج من السلطان.
إخراج الضرتين للولدين من المدينة: إبعاد الأم وولديها عن السلطة.
عودة الولدين و(أمهما) إلى المدينة: استعادة للسلطة.

من خلال هذه العينة من النّصوص يمكن استخلاص بنية التفاعل بين فضاءي القرية والمدينة وإنتاجه للسلطة:
أولا: تمثل القرية في النّصوص، موطن البطل، وهي فضاء مجتمعي محلي يتسم بجذرية الأنا في جماعته، وهي فضاء مغلق بالمعنى الأنثروبولوجي.
ثانيا: المدينة فضاء السلطة (السلطان) الذّي يستغرق فضاء القرية ويحكمه سياسيا، فهو مركز مهيمن بالمعنى القانوني، لكنّه لا يخترق بحكمه الهوية السسيوثقافية للجماعة الموجودة فيه.
في ضمن هذا المفهوم تتمثل دينامية البنية التفاعلية بين الفضاءين في الاتجاهات الآتية:
1 - الخروج من القرية إلى المدينة كما هو في النّصوص: 1، 2، 3، 5، 6، 7، 8 وهو خروج معلّل ومبرر في السنن السردي (بنية الأحداث) وله مرجعية اجتماعية في تفاعل القرية والمدينة (الحكم، النسب، طلب الرزق، طلب السلطة).
2 - إخراج من القرية إلى المدينة: كما هو في: 4، وهو نموذج يمثّل سلطة الحكم على الخارجين عنه (إنهاء عصيان).
3 - إخراج من المدينة إلى القرية: كما هو في: 7، 8 ويمثل هذا الاتجاه إبعاد عن السلطة من طرف السلطان نفسه، أو ممن يرغبون في الاستئثار بالسلطان وسلطته.
4 - العودة إلى المدينة: كما هو في: 7، 8. ويمثل استعادة للسلطة والأحقية بالبقاء في المركز، وفيه عودة داخلية من المدينة إلى القصر.
5 - العودة إلى القرية، وهو اتجاه في الأغلب يعبّر عن تحرر كما في 4، حيث مثلت المدينة حبسا وسلطة عقاب، وقد يكون تحرّرا داخليا (خروج من حبس القصر إلى المدينة كما في 3.
يؤسس مقول النّصوص، عبر العلاقات المذكورة في تفاعل القرية (الرّيف) بالمدينة، لاستنتاج ذي مظهرين؛ بنيوي؛ وتداولي، فمن حيث البنية جاءت المدنية توظيفا مركزيا لمفهوم السلطة وإديولوجيتها، ورهّن النص هذا المفهوم في شكلنة دلالية قامت على تحيّيز شرط السلطة وفعاليته العملية، وكان الرّيف فضاء محيطا يراقب في فعالية توازن الفعل السلطوي، وفي سياق ذلك كان المجتمع القروي ينغلق وينفتح على أفعال السلطان بحسب الدور الذّي يحفزّه الشرط التداولي لمفهوم الإديولوجيا وناتج سلطتها، وتبسط نصوص مدونة القصة الشعبية متخيل هذا الإشكال في هندسة السنن السردي على مقاس السنن المفهومي لمقولة الحق والواجب، وهو ما مثّل حركية الحبكة القصصية التّي موضعت القرية في مركز فعّال من حيث جعلت الأبطال، في الغالب، هم أبناء هذا الفضاء، وأنتج نصّ القصّة إديولوجيا مقاومة، مثّل حفظ المجتمع الصافي النقي من الخلل، حافزها الأكبر، إذ السلطان مديني متمركز في أعلى هرم الحكم،فليس وجوده إلا تجليا للقوة بمفهوم القضاء والعسكر، وهو من هذه الزاوية وافد يمثّل حضوره تمظهرا لنسب سياسي في بنية شجرية للدولة، أمّا البطل فهو موجود جذري في بنية الجماعة الرّاسخة في الأرض، والأصيلة في الانتماء.

عبر الفعل الجدلي لفضاءي القرية والمدينة وإنتاجية السلطة، قدّم نص القصّة الشعبية متخيّله الإديولوجي لمفهوم الدولة وجهاز الحكم، فراتب السلطان بين ظالم وعادل؛ حيث الظالم يرّد عليه بالمقاومة الوجاهية أو الحيلية، وأمّا العادل فهو ملاذ المظلومين من أبناء الفضاء المحيط، ويعتبر المجتمع الجزائري، بما هو فضاء للنّصوص القصصية الشعبية إنتاجا وتداولا، مجتمعا ذا بنية متميّزة سيما فيما يتّصل بالسلطة و إديولوجيتها، وغنيّ عن الذكر ثابت فعل المقاومة في السيرورة التاريخية لهذا المجتمع، ولذلك فالنّصوص لم تزد عن كونها فعلا فنيا ثقافيا متخيلا تناغميا مع الكينونة البنيوية والتداولية لنسيج هذا المجتمع وديناميته.
في حدود هذا الجدل المنتج لتعالقات المجتمع المتقاطب بين القرية/القبيلة و المدينة/الحكم، وتفاعلهما إديولوجيا، تتموضع القرية/القبيلة في فضاء بنيوي ثقافي مؤسس عمرانيا على جذر العصبية والانتماء، وفي المقابل تتموضع المدينة فضاء للفعل السياسي المفتوح على محيطه ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، ولعلّ المشترك الأساس والرابطة القوية، في التحام المدنية بمحيط القريةو تفاعلهما، هو المقوم الديني ودعوته(29)، وهو الواقع الذّي قالته النصّوص؛ إذ لم تصف السلطان الحاكم بالمناقض في العقيدة والدّين، وإن وصّفته بالظلم من حيث هو فعل غير مخرج من الدّين، ولهذا الاتجاه تاريخ في سيرورة السلطة داخل المجتمع الإسلامي، مما يؤكد أن البينة الإديولوجية لنصوص المدونة هي ناتج ثقافي يسبق، على الأقل من حيث الواقع الديموغعرافي، واقعة الاستعمار الأوربي لبلاد المغرب والجزائر، وبذلك فهو ظاهرة ثقافية تعود إلى تأسيسات حضارية اجتماعية أبعد، من حيث الزمن، من القرنيين التاسع عشر والعشرين، وبقيت مستمرة في الديمومة التداولية في حالة ثبات فكرا وشكلا في مرحلة السلطة الاستعمارية الفرنسية المختلفة من حيث العقيدة والثقافة، وهو ما يؤكد مرّة أخرى على الشكل المكتمل للمجتمع المعتدى عليه (احتلال)، ولذلك بقي القصّ الشعبي ظاهرة وممارسة ثقافية عبرت عن إديولوجيا الاستقلال والمقاومة على مدى الاحتلال الفرنسي.

الهوامش والمراجع

أـ المصادر:
- منتخبات من القصّة الشعبية.
ب ـ المراجع:
1 - د. سامية حسن الساعاتي، الثقافة والشخصية بحث في علم الاجتماع الثقافي، ط2 دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، 1983 ينظر، ص، 224.
2 - د. أحمد علي مرسي، الأدب الشعبي وثقافة المجتمع، ط1، دار مصر المحروسة، القاهرة، 2008، ينظر، ص29.
3 - د. غراء حسين مهنا، أدب الحكاية الشعبية، ط1، الشركة المصرية العالمية للنشر، مكتبة لبنان ناشرون، 1997، ص107.
4 - إبراهيم الحيدري، إثنولوجيا الفنون التقليدية، ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، 1984، ينظر ص، 11 وما بعدها.
5 - سعيد بنكراد، النّص السردي، نحوسميائيات للإديولوجيا، ط1، دار الأمان، الرباط، 1996، ينظر، ص35.
6 - د. عبد الحميد يونس، الحكاية الشعبية، دط، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968، ينظر ص05.
7 - د. سامية حسن الساعاتي، الثقافة والشخصية، ينظر ص، 101، 102.
8 - كريستوف فولف، علم الأناسة، التاريخ والثقافة والفلسفة، نقل: البروفيسور أبويعرب المرزوقي، ط1، الدار المتوسطية للنشر، أبوظبي، 2009م-1430هـ،  ينظر: ص245 ومابعدها.
9 - حاتم الورفلي، بول ريكور... الهوية والسّرد، دط، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2009،  ص38 وما بعدها.
10 - يذكر بيير بورديوفي مؤلفه»سسيولوجيا الجزائر»أنّ الأسرة الجزائرية تبنى على الرجل الأب فهي بطريركية Patriarcal،  ويتم انتشارها عموديا داخل زمرة الدم الذكورية consanguinité masculine، وبذلك تكون القبيلة هي حاصل نموهذه الأسر أفقيا، وهي تندمج في تحالفات حين يتهددها آخر.-oir :PierreBourdieu,Sociologie de l,Algerie, 6eedition, presse universitaires de France ; Paris, 1980, p71,72.  
11 - حنان مالكي، الخصائص السسيولوجية للأسرة الجزائرية- التقليدية والحديثة-، مجلة العلوم الإنسانية، دورية دولية علمية محكمة، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر، العدد 22، جوان 2011، ينظر ص43 وما بعدها.
12 - سعيد بنكراد، النّص السردي، نحوسميائيات للإديولوجيا، ينظر ص33، 34.
*- التباني على وزن التفاعل، والمقصود هنا هوالمشاركة والتفاعل في البناء والتراكب بين البنى.
13 - زكريا إبراهيم، مشكلة البنية، دط، مكتبة مصر، 1990، ينظر ص: 32،31.
14 - كريستوف فولف، علم الأناسة، التاريخ والثقافة والفلسفة، ينظر ص 130، 131.
15 - ميرسيا إلياد، المقدس والمدنس، تر:المحامي عبد الهادي عباس، ط1، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، سورية، 1988، ص35.
16 - كريستوف فولف، علم الأناسة، ينظر ص 132. كذلك: د. أحمد علي مرسي، الأدب الشعبي وثقافة المجتمع، ط1، دار مصر المحروسة، القاهرة، 2008، ينظر ص46.
17 - بول ريكور، من النّص إلى الفعل، أبحاث التأويل، تر:محمد برادة، حسان بورقية، ط1، مكتبة دار الأمان، الرباط، 2004م ــ 1425ه، ينظر ص12.
18 - يندرج هذا ضمن مفهوم التمركز حول السلالة Ethnocentrism،  والذي هو: « الميل إلى تفخيم الجماعة الداخلية         والتقليل من شأن الجماعات الأخرى وقيمها «، إيكه هولكترانس، قاموس مصطلحات الإثنولوجيا والفلكلور، تر: د.محمد الجوهري، د.حسن الشامي، ط1، دار المعارف، مصر، 1982، ص 133.
19 - كلود ليفي ستروس، الأنثروبولوجيا البنيوية، تر:د.مصطفى صالح، مر:وجيه أسعد، ج2، دط، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي،دمشق، 1983، ينظر: ص123 وما بعدها.
20 - حاتم الورفلي، بول ريكور... الهوية والسّرد، ينظر: ص 26، جان بيير فارنيّي، عولمة الثقافة، تر: عبد الجليل الأزدي، دط، دار القصبة للنشر، الجزائر، 2002، ينظر: ص15. في هذا السياق يقول المثل الشعبي: «أنا وخويا على ولد عمّي، وأنا وولد عمّي على البرّاني» وهي مقولة تمفهم إواليةالارتباط التراكبي للأنا في دوائر ذات مركز موحد، فمن المفرد الجذري تنطلق امتدادات الهوية.    
21 - بول ريكور، من النّص إلى الفعل، ينظر ص11.
22 - الأنتروبولوجيا والتاريخ، حالة المغرب العربي، تر: عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، ط2، دار توبقال للنشر، المغرب، 2007،  مقال: بنسالم: التحليل الانقسامي لمجتمعات المغرب الكبير: حصيلة وتقيّيم، ينظر، ص 11، 12.
23 - المتغيرات الاجتماعية في البلدان المغاربية عبر العصور، أعمال الملتقى الدولي للتاريخ، 23 - 24 نيسان، أفريل سنة 2001، جامعة منتوري قسنطينة، طبع الدراسات التاريخية والفلسفية وقسم التاريخ، منشورات المخبر، 2001، طبع دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، مقال: أ، الطاهر عمري، بنية الرّيف والمدينة في الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي، ينظر ص215.
24 - المرجع نفسه، ص215.
25 - د. عدي الهواري، الاستعمار الفرنسي في الجزائر، سياسة التفكيك الاقتصادي والاجتماعي، 1830-1960، تر: جوزيف عبد الله، ط1، دار الحداثة، 1983، ينظر: ص 97 وما بعدها.
26 - رابح بونار، المغرب العربي تاريخه وثقافته، ط2، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.
27 - د. الحبيب الجنحاني، دراسات في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمغرب الإسلامي، ط2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986، ص207، 208.
28 - د. أبوالقاسم سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي، ج2، دط، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ينظر ص215، 216.
*فعل الخروج هوأحد أهم موتيفات القصص الشعبي، وهووظيفة أساسية في وحدات بروب، لكننا في المعالجة  السسيوبنيوية لإنتاج السلطة نحدّد المدينة فضاء إديولوجيا مقابلا في بنية التخيّيل لفضاء القرية.
29 - د. الحبيب الجنحاني، دراسات في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمغرب الإسلامي، ينظر: ص210.

أعداد المجلة