فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

كتب فازت بجائزة الأليكسو للتراث اللامادي ومكنز الفولكلور يتصدر القائمة

العدد 27 - جديد النشر
كتب فازت بجائزة الأليكسو للتراث اللامادي ومكنز الفولكلور يتصدر القائمة
كاتبة من مصر

نعرض في هذا العدد للكتب التي فازت بالجائزة العربية للتراث لعام 2014 والتي أعلنتها الأليكسو في مايو الماضي في دولة الكويت. وقد خصصت الجائزة لأول مرة في مجال “التراث اللامادي” ليتقدم لها عشرات الباحثين المتخصصين من مختلف أنحاء الوطن العربي. وقد فاز بالجائزة الأولى كتاب “مكنز الفولكلور” لمصطفى جاد (مصر) هذا الكتاب الذي
أثار حراكاً علمياً في مجال الثقافة الشعبية العربية خلال السنوات الأخيرة. فيما فاز بالجائزة الثانية كتاب “إعادة إنتاج التراث الشعبى: كيف يتشبث الفقراء بالحياة في ظل الندرة “ لسعيد المصري (مصر). أما الجائزة الثالثة فقد جاءت مناصفة بين كتاب “الصهبة والموشحات الأندلسية في مكة المكرمة” لعبدالله أبكر(السعودية)، وكتاب “العادات والتقاليد في

دورة حياة الإنسان الفلسطيني قبل النكبة (1948)” لزكريا السنوار، وربا الزهار (فلسطين). وتضمنت الملفات المرشحة للجائزة عدداً من الأعمال التي حظيت بتقدير لجنة التحكيم لجودتها من حيث المنهجية والمحتوى العلمي والإخراج، إلا أنه لم يحالفها الحظ بالفوز بالجائزة، وقد أوصى أعضاء التحكيم بضرورة التنويه عن هذه الأعمال في حفل إشهار الجائزة، تقديراً لمُعدي هذه الأعمال، وهي كتاب “أيام العرب الأواخر: أساطير ومرويّات شفهيّة في التاريخ والأدب من شمال الجزيرة العربية مع شذرات مختاره من قبيلة المره وسبيع” لمؤلفه سعد العبدالله الصويان (السعودية)، وكتاب “المزامير.. المعتقد حول الموسيقى والاضطراب النفسي” لمؤلفه علي الضو (السودان).

التفكير في الإعلان عن الجائزة
في نطاق حرصها الدؤوب علي تعزيز المكانة الهامة التي توليها للتراث، باعتباره رمز الذات ومكونا أساسياً من مكونات الهوية وشاهداً علي مدى ثرائها وتنوعها، أحدثت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو) هذه الجائزة  التي تمنح مرة كل سنتين. وذلك في إطار الخطة التنفيذية لمشروع صيانة التراث وحمايته. وتواصلا مع انعقاد الدّورة الأولى للجائزة العربية للتراث التي استضافتها دولة قطر في الفترة 13-15 مايو 2012 والتي تقرر خلالها تخصيص الدّورة الثانية من الجائزة للتراث الثقافي غير المادي وذلك تزامنا مع الاحتفال بمرور 10 سنوات على صدور نص اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لسنة 2003، أعلنت المنظمة عن فتح باب الترشح للدّورة الثانية من الجائزة العربية للتراث. وتقرر للجائزة مكافأة مالية قدرها 50,000 دولار أمريكي، بالإضافة إلي وسام وشهادة تقدير موقعة من المدير العام للمنظمة. وقد تم الإعلان عن الترشح للجائزة بتاريخ 23 ديسمبر 2012 وذلك علي الموقع الإلكتروني للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وعن طريق اللجان الوطنية للدول الأعضاء وعبر الصحافة المكتوبة والمجلاّت المتخصصة. وحدد يوم 31 ديسمبر 2013 آخر أجل لقبول الترشحات، باعتبار تاريخ ختم مكتب البريد.

أهداف الجائزة
تهدف الجائزة إلي مكافأة الإنجازات البارزة والأعمال النموذجية في مجال المحافظة علي التراث، بشقيه المادّي وغير المادّي، وصيانته وتكييفه مع الاستخدامات الحديثة والتعريف به وتكريم الباحثين والمهنيين المتخصصين وتشجيعهم وحفزهم على مزيد الإسهام في تنمية هذا القطاع في الوطن العربي، وتعزيز معايير ومهارات عالية في ممارسات حفظه وصونه ونشره عبر الحدود وتستجيب هذه الجائزة إلي الحاجة المؤكدة إلي دعم التراث كعنصر استراتيجي من عناصر التنمية المستدامة. وتستهدف الجائزة الأفراد: الأشخاص من ذوي الخبرة أو المهنيّين الفاعلين في مجال التراث الثقافي غير المادي وأصحاب المبادرات الحرة والفردية الناشطين في نفس المجال. والمجموعات: الجامعات والمؤسسات والجمعيات الحكومية وغير الحكومية المتخصصة في مجال التراث الثقافي.

مجالات الجائزة
بناءا على ما تنص عليه اتفاقية اليونسكو لسنة 2003 بخصوص مجالات التراث الثقافي غير المادي، اندرجت مواضيع الأعمال المرشحة لنيل الجائزة ضمن أحد المحاور الآتية:
- التقاليد والتعابير الشفوية.
- فنون وتقاليد أداء العروض.
- الممارسات  الاجتماعية  والطقوس والاحتفالات.
- المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة و الكون.
- المعارف والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية والتقليدية.
شروط الترشح للجائزة
تخضع جل الأعمال المشاركة في الجائزة إلى الشروط الآتية:
- أن لا يكون العمل قد نال جائزة سابقة من أي جهة أخرى.
- أن لا تتجاوز مدّة أقدميته ثمان سنوات وأن يكون مشروع البحث قد نُشر خلال
الخمس السنوات الأخيرة.
- أن لا يتمثل العمل المرشّح في أطروحة أكاديمية.
- أن يكون العمل المرشح ملتزما بالمنهج العلمي.
- أن تكون المشاركة بعمل واحد.
 - أن تُقدم الأعمال بإحدى اللغات التالية: العربية أو الإنكليزية أو الفرنسية.

لجنة إدارة الجائزة
تم الإشراف علي جميع إجراءات منح الجائزة من خلال لجنة إدارة الجائزة التي يعينها ويترأسها مباشرة المدير العام للمنظمة، وتتولي هذه اللجنة المهام التالية:
- وضع النظام الداخلي للجائزة
- وضع معايير الترشح للجائزة وشروط اختيار الفائز
- الإشراف على استقبال الترشحات
- إقرار استمارات الترشح ونص رسائل قبول الترشح أو رفضه ونص رسائل إبلاغ الفوز بالجائزة أو عدمه
- إقتراح لجنة التحكيم
- إختيار الفائز بالجائزة من بين المرشحين الثلاثة الذين تنتقيهم لجنة التحكيم
- الإشراف عن تصميم الرّمز (الشعار) الخاص بالجائزة
وقد جاء في تقرير لجنة إدارة الجائزة أن عدد الملفات المقدمة لنيل الجائزة بلغ ستة وخمسين ملفاً من خمسة عشر دولة عربية هي: المملكة الأردنية الهاشمية (عملان)- دولة الإمارات العربية المتحدة (عمل واحد)- الجمهورية التونسية (سبعة أعمال)- الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية (خمسة أعمال)- المملكة العربية السعودية (أربعة أعمال)- المملكة المغربية (ثلاث  أعمال)- الجمهورية العربية السورية (عملان)- جمهورية العراق (عملان)- دولة فلسطين (أربعة أعمال)- جمهورية مصر العربية (ثمانية عشر عملاً)- سلطنة عُمان (ثلاث أعمال)- مملكة البحرين (عمل واحد)- جمهورية السودان (عمل واحد)- دولة ليبيا (عمل واحد)

لجنة التحكيم
وقد عيّن رئيس لجنة إدارة الجائزة، لجنة التحكيم، والتي ضمت في عضويتها سّبعة أساتذة من بين المشهود لهم بخبرتهم الواسعة في تخصصات علمية مختلفة في مجال التراث الثقافي بشقيّه المادّي وغير المادّي، مع الحرص على ضمان نوع من التوازن الجغرافي في عملية اختيار الأعضاء، وهم
- د/ خالد عزب: مدير إدارة المشروعات الخاصة بمكتبة الأسكندرية، جمهورية مصر العربية.
- د/ منير بوشناقي: مدير المركز الإقليمي للتراث العالمي في مملكة البحرين، الجمهورية الجزائرية الشعبية الديمقراطية.
- د/ أحمد سكونتي: أستاذ أنثروبولوجيا بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، الرباط. المملكة المغربية.
- د/ أحمد صدقي: أستاذ جامعي وخبير التطوير الحضري والحفاظ علي التراث العمراني، جمهورية مصر العربية.
- د/ هاني هياجنة: أستاذ الدراسات الحضارية بجامعة اليرموك وخبير لدي اليونسكو، المملكة الأردنية الهاشمية.
- أ/ فيصل طالب: المدير العام للثقافة- وزارة الثقافة اللبنانية، الجمهورية اللبنانية.
- د/ فيصل الحفيان: مدير معهد المخطوطات العربية، جمهورية مصر العربية.
- د/ اسماعيل الفحيل: مستشار في التراث الثقافي غير المادي- وخبير لدي اليونسكو، الإمارات العربية المتحدة.
- د/ محمد البيلي: خبير التراث الثقافي غير المادي- الرياض المملكة العربية السعودية.

وحدد النظام الداخلي للجائزة مهامّ لجنة التحكيم علي النحو الآتي:
- دراسة ومعالجة الملفات الواردة في كنف السرية
- اعتماد قواعد الاختيار المحدّدة من قبل لجنة إدارة الجائزة
- انتقاء أربعة مرشحين علي الأكثر للفوز بالجائزة
هذه هي جميع البيانات التي توفرت لدينا حول الجائزة والملفات المقدمة وآليات الترشح واختيار الفائزين. وقد تم تسليم الجوائز بدولة الكويت برعاية وحضور وزير الإعلام ووزير الدولة لشؤون الشباب الشيخ سلمان الصباح وحضور المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) الدكتور عبدالله المحارب. وأكد المحارب في كلمة له في الاحتفال أهمية صون التراث الثقافي في تثبيت الهويات وحماية الخصوصيات الحضارية “دون التحجر والانغلاق” مشيراً إلى أهمية المحافظة على الثقافة العربية والتراث العربي. أما الكتب الفائزة والكتب التي نالت تقدير لجنة التحكيم فسوف نعرض لها بالتفصيل قدر الإمكان في الصفحالت التالية، مع الأخذ في الاعتبار صعوبة الحصول عليها جميعاً، واعتمادنا في بعض منها على شهادات أصحابها.

كتاب مكنز الفولكلور
أحدث مصطلح “مكنز الفولكلور” كثيراً من التساؤلات فى الأوساط العلمية العربية خلال الأعوام الخمسة الماضية ، كما أثار بعض التداخلات مع بعض المصطلحات الأخرى كمصطلح “موسوعة” و “قاموس” و “دائرة معارف” ..إلخ. غير أنه سرعان ما أصبح متداولاً ومفهوماً، بل إن العديد من المؤسسات العلمية العربية بدأت فى تطبيقه والتعريف به والتدريب عليه. كما بدأت العديد من الأقلام المتخصصة والعامة تتناوله من أكثر من جانب كمشروع قومى عربى للحفاظ على تراثنا الشعبي. وأصبح كتاب “مكنز الفولكلور” مثاراً خصباً للمناقشات والبحث خلال عدة مؤتمرات دولية فى الآونة الأخيرة. وقد أشار الدكتور محمد الجوهرى فى تقديمه لهذا العمل بأنه مؤشر قوى ودال على مرحلة جديدة في تاريخ الدرس الفولكلوري في عالمنا العربي. وهو عمل يرود الطريق ويفتح الآفاق ويزرع الأمل.
مكنز الفولكلور الذى عكف على وضعه مصطفى جاد أستاذ تقنيات حفظ الفولكلور بالمعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون بالقاهرة، صدر في جزءين عامي 2006- 2007 عن المكتبة الأكاديمية ومركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي.. هذا المركز الذي تبنى الفكرة منذ مولدها عام 2000 ووفر جميع الإمكانيات للمؤلف ليخرج هذا العمل في صورته المطبوعة والألكترونية. وتقوم فكرة المكنز الأولى على توثيق وأرشفة موضوعات الثقافة الشعبية بكافة تصنيفاتها العامة والفرعية. ومن ثم فهو يُعد أول خطة تصنيف عربية لموضوعات التراث الشعبي. وإذا كنا نملك مادة فولكلورية وفيرة في عالمنا العربي تراكمت عبر عدة عقود منذ منتصف القرن الماضي، فإن هذه المادة لازالت تحفظ بطرق غير منهجية تتعثر معها محاولات الاسترجاع والإتاحة.. ومن ثم فإن وظيفة مكنز الفولكلور هي ترتيب وتنظيم وتوثيق هذه المواد المتراكمة بمنهج علمي حتى يتيسر إتاحتها.
وقد ارتبط مصطلح “مكنز” بالعديد من المراحل والتطورات فى علم المعلومات والمصادر الموسوعية، وبدأت الفكرة مع بدايات معاجم المعانى فى التراث العربى والإسلامى وأشهرها “المخصص” لابن سيده، و“فقه اللغة وسر العربية” لأبى منصور الثعالبى. ثم تطور المفهوم فى معاجم المترادفات والأضداد فى الثقافة الغربية وخطط التصنيف العامة والمتخصصة وخطط رؤوس الموضوعات خلال القرن العشرين. ففى الغرب كان أول مكنز لغوى هو مكنز بيتر مارك روجيه الذى نشر عام 1852 بعنوان “مكنز الكلمات والجمل الإنجليزية”. وفى إطار المكانز العربية فإن أشهرها هو “مكنز جامعة الدول العربية” الذي يضم وثائق الجامعة. وهناك عدة مكانز شملت موضوعات متعددة كالتنمية والمكتبات وعلوم الدين الإسلامى والمكنز الموسع ومكنز اليونسكو ..إلخ. وقد اعتمدت معظم المكانز السابقة على الترجمة من لغات أخرى إلى العربية . أما مكنز الفولكلور فهو أول مكنز عربى مرتبط بالثقافة والبيئة العربية، دون الحاجة إلى الترجمة من لغات أخرى، ويشير الدكتور فتحى عبد الهادى-- أستاذ علم المعلومات إلى أن هذا المكنز رائد– ليس في مجال الفولكلور فحسب وإنما على نطاق المكانز العربية بصفة عامة - ذلك أنه قام في الأساس على جمع المصطلحات من الميدان العملي، ومن المصادر العربية الأصيلة في الفولكلور، وبالتالى فمكنز الفولكلور عمل إنشائي وعمل عربي صميم. وهو بذلك يختلف عن كثير من المكانز العربية في المجالات الموضوعية المختلفة التى قامت في أساسها على الترجمة من المكانز الأجنبية .
ومصطلح (مكنز) هو “المقابل العربي للمصطلح الأجنبي ذي الأصل اليونانى Thesauros اللاتيني Thesaurus الذي يعني المستودع أو الكنز. ويذهب معجم وبستر Webster إلى أن المكنز “كتاب يشتمل على الكلمات أو المعلومات المتصلة بمجال بعينه أو مجموعة من المفاهيم أو المعاني، وهو معجم للمترادفات على وجه الخصوص” . فالمكنز إذن هو الكنز اللغوي الثري بمفرداته، إلا أن هذه المفردات ينتظمها ترتيب يختلف عن ترتيب المعاجم اللغوية الأخرى أو معاجم المفردات على وجه الخصوص. وقد ترجمت كلمة Thesaurus الإنجليزية إلى العربية إلى كلمة “مكنز” عام 1975. ولعل أكثر التعريفات تداولاً وشهرة بين المتخصصين في علم المعلومات لمفهوم المكنز Thesaurus هو التعريف الذي اعتمدته المنظمة الدولية للتوحيد القياسي International Standardization Organization والذي يشير إلى أن “المكنز من حيث الوظيفة هو وسيلة ضبط للمصطلحات، وتُستخدم للترجمة من اللغة الطبيعية للوثائق من قبل المكشفين أو المستفيدين إلى “لغة نظام” أكثر تقييداً (لغة توثيق، لغة معلومات). والمكنز من حيث البناء هو لغة مضبوطة وديناميكية تتكون من المصطلحات المتصلة ببعضها البعض دلالياً وهرمياً وتغطي أحد حقول المعرفة”
وقد استفاد المؤلف من التجارب العديدة السابقة عليه فى علم المكانز وخاصة تجربة فتحي عبد الهادي، كما استفاد من خبرته الأولى فى دراسته لعلم المكتبات والمعلومات، واستطاع أن يستخلص تعريفاً مستقلاً لمفهوم “مكنز الفولكلور” وهو: “قائمة بالواصفات – المصطلحات - المرتبطة بالتراث والمأثور الشعبي وعلاقاتها التكافؤية والهرمية والترابطية، ويكون ترتيب وعرض المصطلحات وعلاقاتها بما يخدم بكفاية وفاعلية في تحليل محتوى المادة الفولكلورية، وتستخدم مصطلحات المكنز فى تكشيف واسترجاع عناصر الظواهر الفولكلورية بوسائطها المتعددة” .
ماذا إذن عن مصطلحات المكنز التى تحدث عنها المؤلف، وما هى وظيفتها؟ .. عند تصفح المكنز سنجد أنه يرتبط بمنظومة علمية شديدة الإحكام، فبعد أن يعرض المؤلف لعشرات الأفكار التصنيفية التى سبقته لموضوعات الفولكلور، فهو يؤكد على أن المشكلة لا ترتبط بالتصنيفات العامة لموضوعات العلم، بل فى التفصيلات الخاصة بكل موضوع، وعلاقاتها التكافؤية والهرمية كما أشار فى تعريفه، وبعد دراسة متأنية لموضوعات العلم خلص المؤلف إلى الأخذ بتصنيف العلم إلى ستة حقول رئيسية هى:
1 - موضوعات الفولكلور العامة
2 - المعتقدات والمعارف الشعبية
3 - العادات والتقاليد الشعبية
4 - الأدب الشعبي
5 - الفنون الشعبية  
6 - الثقافة المادية

ويلاحظ أن هذا التصنيف (من 2 إلى 5) يتسق في معظمه مع تصنيف اليونسكو للتراث اللامادي: المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون- الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات- التقاليد وأشكال التعبير الشفهي - فنون وتقاليد أداء العروض- المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.

وإذا كان ارتباط المكنز بالفولكلور هو من ناحية أخرى ارتباط بالمفهوم العالمي “التراث اللامادي”، فإن ورود مصطلح “الثقافة المادية”– المرادفة عالمياً للأثار الأن- قد لا يتسق مع ما أورده المؤلف في هذا الحقل، ونقترح أن يستبدل بـ “الحرف التقليدية والأدوات” وهو ما يشمله هذا الحقل بالفعل. وكل حقل من الحقول الستة يتفرع إلى مئات الأقسام ثم آلاف الفروع من خلال أربعة مستويات هرمية لكل حقل يحمل كل منها رقماً دالاً عليها. فالحقول الستة تلك تمثل المستوى الأول ، يتبعها مستويات أكثر تفصيلاً فى المستوى الثانى . فعلى سبيل المثال يحوي الحقل الأول (موضوعات الفولكلور العامة) الموضوعات الفرعية التالية : علـم الفولكلور - الجمع الميداني- أرشيف الفولكلور - ببليوجرافيات الفولكلور - معاجم الفولكلور - مؤسسات الفولكلور - دوريات الفولكلور - حملة المأثورات الشعبية - أعلام الفولكلور - شخصيات في التراث الشعبي - الفولكلور والإعلام - مؤتمرات الفولكلور - مهرجانات الفنون الشعبية - استلهام الفولكلور - الفولكلور التطبيقي - حماية التراث الشعبي - نتائج البحث الفولكلوري .

الحقل الثانى (المعتقدات والمعارف الشعبية) يحوي موضوعات: الأُنْطُولُوجْيا الشعبية - الكائنات فوق الطبيعية - الروح - الإنسان - الأولياء والقديسون - الحيوانات - الطيور – الحشرات - النبات - الطب الشعبي - السحر- الأحلام - الأماكن والاتجاهات - الأحجار والمعادن - الزمن - الأعداد والأرقام - الأوائل والأواخر - الطهارة والنجاسة - الألوان - النظر إلى العالم.
الحقل الثالث (العادات والتقاليد) يحوي موضوعات: عادات الميلاد - عادات الزواج - عادات الموت - الأعياد الإسلامية - الأعياد القبطية - الأعياد القومية - المواسم الزراعية- العادات اليومية - العلاقات الأسرية - آداب السلوك - عادات الطعام - الأسواق الشعبية - عادات السفر - المعسكرات والرحلات - القانون العرفي.

الحقل الرابع (الأدب الشعبي) يحوي موضوعات: الأساطير - الحكايات - السير الشعبية - الملاحم الشعبية - الشعر الشعبي- الأغاني الشعبية - الأمثال - الألغاز - الفكاهة- التعابير والأقوال السائرة - نداءات الباعة- المعاظلات اللسانية - الأدعية - الرقى والتعاويذ.
الحقل الخامس (الفنون الشعبية) يحوي موضوعات: الموسيقى الشعبيـة - الرقص الشعبي- الألعاب الشعبية - الدراما الشعبية - التشكيل الشعبي.

الحقل السادس (الثقافة المادية) يحوي موضوعات : الحرف الشعبية - المهن الشعبية- العمارة الشعبية - الأدوات المنزلية - أدوات المائدة - أدوات الطهي - أدوات الزراعة – الفلاحة – الأسلحة.
أما المستوى الثالث والرابع لكل من الحقول الستة فمن الصعب عرضه بطبيعة الحال، حيث يحوي ما يقرب من ثمانية آلاف فرع يمثلون جميعاً موضوعات الثقافة الشعبية. غير أننا سنعرض لنموذج مصغر قد يقرب الصورة من فكرة المستويات الأربعة للحقل الواحد ، ومن ثم نقترب من البناء العام لهذا العمل:

3 العادات والتقاليد         (المستوى الأول)
3-21 آداب السلوك            (المستوى الثاني)    
3-21.11 آداب التقبيل   (المستوى الثالث)
3-21.11.31 تقبيل اليد    (المستوى الرابع)

ويلاحظ أنه مع البناء الموضوعى للمكنز على هذا النحو، فإن هناك بناء آخر موازيا له تماماً، وهو البناء الرقمي، حيث يحمل كل موضوع رقم (كود) خاص به يستخدم لاسترجاع محتويات كل مادة عند عمل قاعدة معلومات على شبكة الإنترنيت.
قد يتضح من المثال السابق البنية الهرمية التى وضعها المؤلف للمكنز، واستطاع من خلالها بناء وربط ما يقرب من ثمانية آلاف موضوع . وقد ألحق المؤلف بعض رؤوس الموضوعات بشروحات مختصرة عبارة عن تعليمات للقائم بالتوثيق عن طبيعة بعض الموضوعات التى قد يشوبها تداخلات مع موضوعات أخرى، أو قد تشمل موضوعات أخرى لم يفكر فيها الموثق وهكذا..
أما المجلد الثانى من المكنز والذى يحوى أكثر من ألف صفحة تقريباً، فقد خصصه المؤلف لعرض جميع المصطلحات المستخدمة فى القسم المصنف فضلاً عن المصطلحات غير المستخدمة، أى التى قد تأتى على ذهن الموثق ولم يستخدمها المكنز، مثال: (إمام الطريقة، اس: شيخ الطريقة)- (البكائيات، اس: العديد) أي استخدم مصطلح شيخ الطريقة بدلاً من إمام الطريقة، واستخدم العديد بدلاً من البكائيات.. وهكذا.  ومن ثم هناك العديد من الإحالات من المصطلحات غير المستخدمة إلى المصطلحات المستخدمة. وهذا المجلد مرتب هجائياً، وأسفل كل مصطلح مجموعة من الرموز والشروحات بطريقة تُمكِّن القائمَ بعملية التوثيق من الحصول على المصطلح المناسب للعنصر الذي يقوم بتوثيقه بسهولة؛ إذ يجد أمامه جميع العلاقات التى تربط بين المصطلح ونظائره في نفس الفرع أو الفروع الأخرى. فالقسم الرئيسى إذن يستخدمه بسهولة كل من له علاقة بالمجال أو من خارج المجال، إذ أن الترتيب الهجائى هو الأساس فى الوصول للمصطلح، وعند الوصول إليه يقدم المكنز جميع العلاقات التصنيفية والترابطية الخاصة به، عن طريق مجموعة من الرموز على النحو التالى:
- (ت و) تبصرة توضيحية Scope note لشرح مختصر للمصطلح أو طريقة استخدامه .
- (م ش) المصطلح الأشمل وهو أعم وأعلى من المصطلح الأعرض والمصطلح المذكور.
- (م ع)  المصطلح الأعرض  Broader Termأي أعم أو أعلى من المصطلح المذكور.
- (م ض) المصطلح الأضيق  Narrower Termأي أكثر تخصصاً من المصطلح المذكور.
- (م ت)  المصطلح المتصل  Related  Termيشير إلى الترابط بين مصطلحين أو أكثر.
- (س ل) مستخدم لـ  Used forويرمز للمصطلحات التي يحال منها إلى المصطلح المستخدم.
- (ا س) استخدم Use ويرمز للمصطلح غير المستخدم ، ويشير لمصطلح آخر مستخدم.

يعد “مكنز الفولكلور” على هذا النحو البنية الأساسية لقاعدة معلومات عربية متخصصة على أسس علمية وتقنية تساير الاتجاهات العالمية الحديثة في مجال المأثورات الشعبية. ويأتي ظهوره فى هذا التوقيت كأداة علمية يمكن من خلالها بناء قاعدة بيانات إلكترونية شاملة ومتكاملة تضم مادة علمية مسموعة ومرئية حول الظواهر الفولكلورية تعتمد على توحيد المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالمأثور الشعبي. وعند تطبيقه في المراكز المتخصصة فهو معد لاستيعاب ملايين الوحدات المعلوماتية الخاصة بالثقافة الشعبية فى وسائطها المتعددة (النص المدون – الصور الفوتوغرافية ، أفلام الفيديو – المواد الصوتية ) .

وقد عقد مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي عدة مؤتمرات علمية موسعة لمناقشة هذا العمل في ضوء الإعداد لأرشيف الفولكلور العربي وقاعدة المعلومات المتخصصة، وذلك بدعوة العديد من الشخصيات العلمية والفكرية المهتمة بالمجال.  حيث أجمع المتخصصون على كفاءة المكنز في إعداد أرشيف الفولكلور الوطني. كما اهتمت منظمة اليونسكو بفكرة المكنز، وعقد مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي بمشاركة اليونسكو والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة مؤتمراً دولياً للدعوة إلى اجتماع الخبراء العرب حول دور التسجيل وقواعد البيانات في الحفاظ على المعارف التقليدية والفولكلور عام 2006 ، حيث أوصى الباحثون العرب بتطبيق مشروع المكنز على المستوى العربى، ومنذ هذا التاريخ تم عمل العديد من ورش العمل لتطبيق المكنز في الخليج العربي والمغرب العربي ومنطقة الشام.
جدير بالذكر أن هذا العمل يأتى فى إطار مشروع المؤلف الكبير الذى بدأه بإعداد ببليوجرافيات الفولكلور العربي ، ثم دراسته الموسعة حول أطلس دراسات التراث الشعبي الذى صدر عام 2004 عن مركز البحوث والدراسات الاجتماعية بالقاهرة والذي حصل فيه على جائزة الدولة التشجيعية، ثم كتابه القيم “أرشيف الفولكلور” الذي صدر عن أكاديمية الفنون بالقاهرة. ومن قبل ذلك أطروحته العلمية حول أرشفة المادة الفولكلورية باستخدام الحاسب الآلى، والتي أعدها بإشراف فرنسي مصري مشترك عام 1999 من جامعة ليون والمعهد العالى للفنون الشعبية .
والمكنز على هذا النحو هو بمثابة الدعوة إلى المجتمع الثقافي العربي المهتم بالتراث الشعبي لسرعة العمل على إنشاء أرشيف عربي يمكننا الاعتماد عليه في الحفاظ على تراثنا الشعبي من عوامل السلب التى يتعرض لها من حين لآخر. وربما يكون مشروع مصطفى جاد القادم حول تأسيس مكنز للفولكلور العربي قد أوشك على الانتهاء منه لنبدأ خطوة جديدة في إطار أرشيف عربي موحد للثقافة الشعبية العربية.

كتاب إعادة انتاج التراث الشعبي
أما الكتاب الذي حصد الجائزة الثانية فهو كتاب “إعادة إنتاج التراث الشعبي: كيف يتشبث الفقراء بالحياة في ظل الندرة. والكتاب لسعيد المصرى استاذ علم الاجتماع والأنثروبولجيا بكلية الآداب جامعة القاهرة. أصدره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة عام 2012. والكتاب يقع في حوالي 500 صفحة من الحجم المتوسط. قدم له محمد الجوهري مشيراً إلى أن الكتاب يُعد إسهاماً مصرياً أصيلاً في النظرية المعاصرة لعلم الفولكلور، كما يمثل إثراء للتنظير في العلوم الاجتماعية ليس على المستوى المحلي أو العربي فقط، وإنما على المستوى العالمي أيضاً. وتستمد هذه الدراسة أهميتها الأبرز من تسليط الضوء على جوانب مهمة من نظرية إعادة إنتاج التراث الشعبي التي تمثل اليوم بحق لب الدرس الفولكلوري المعاصر. كما يميز هذا البحث الممتاز أنه يترجم – من واقع دراسة ميدانية متقنة - الصلة العميقة والارتباط الأصيل بين رؤية علم الاجتماع وبحوث علم الفولكلور، ذلك أن الاتجاه السوسيولوجي في دراسة التراث الشعبي يولي اهتمامه إلى البشر حاملي هذا التراث، أكثر مما ينظر إلى تطوره التاريخي أو توزيعه الجغرافي أو ابعاده النفسية.
وقد حدد المؤلف الإطار الميداني للدراسة باختياره القاهرة التاريخية لتكون الإطار الأوسع لمجتمع الدراسة بافتراض وجود تجانس ثقافي واجتماعي لسكانها، ثم اختار حي بولاق وفقاً لاعتبارات منهجية مرتبطة بالتوزيع الجغرافي للطبقات الاجتماعية، ثم استقر على اختيار منطقة سكنية محددة بحي بولاق لتمثل التطبيق الميداني وهي شياخة “الجوابر”. وقد حدد مفهوم “إعادة الإنتاج الثقافي” بأنه قدرة أساليب الحياة في أي مجتمع  على استمرار أهم ملامحها عبر التغير. وهذا يعني ان انتقال العناصر الثقافية الشعبية عبر الأجيال أو من خلال التواصل الانساني لا يعني استنساخا كاملا وحرفيا لكل ملامحها ولا يعني أيضا فنائها واستبدالها كليا بعناصر أخرى جديدة . فالبشر يواجهون الحياة بما لديهم من موروثات ثقافية، وبهذه الموروثات ومعها يغيرون حياتهم ويتغيرون .
لقد ركزت الدراسة على عمليات إعادة إنتاج التراث الشعبي في حياة الفقراء، باعتبارهم يشكِّلون جماعات تقع في أدنى السلم الطبقي، مما يعني أن إمكانياتهم الاجتماعية والاقتصادية، بل والثقافية بالمعنى الرفيع للثقافة، لا تتيح لهم سوى فرص قليلة ومحدودة للتواصل مع الثقافة الحديثة والتغيرات العالمية، ويفترض أن هذه الوضعية الطبقية للفقراء تساهم في خلق تجربة طبقية ذات طبيعة خاصة في إعادة إنتاج الثقافة الشعبية، وهنا تحاول الدراسة الكشف عن حدود هذه التجربة، وإلى أي مدى يعد الفقراء قادرين على الإنتاج والتداول الثقافي رغم تدني أحوالهم وندرة إمكانياتهم. يضاف إلى ذلك أن بحوث التراث الشعبي تبرهن دائمًا على شدة ارتباط الفقراء بالتراث الشعبي، فهو بمثابة رأسمالهم الحقيقي في ظل حرمانهم من الوصول إلى الموارد والأصول، ولهذا تفترض الدراسة أيضًا - في منطقها النظري- أن أساليب حياة الفقراء تنطوي على قدر من الثراء ينبغي الكشف عنه لأنه يعبِّر عن سر بقائهم رغم ظروفهم البائسة، كما أن أساليب حياتهم تنطوي على قدر من الاختيار رغم ارتباطها بالندرة والضرورة، وأن حياة الفقراء تمتزج فيها أيضًا العوامل البنائية والثقافية المولدة للفقر والمناوئة له. وبناء على ذلك طوَّرت الدراسة تصورًا لعمليات إعادة إنتاج الثقافة الشعبية بين الفقراء تم تحديده في أربع عمليات، وهي: تواتر التراث ، واستعادة التراث ، واستعارة التراث ، وإبداع التراث.
أولا : تواتر التراث، ويقصد بالتواتر انتظام ممارسة العناصر التراثية في أساليب الحياة على نحو متكرر، فتكرار الممارسات التراثية بصورة مستمرة يعبر عن مدى الحضور المكثف للتراث في الحياة اليومية، وكذلك مدى حاجة المؤمنين به إلى استخدامه المستمر في تنظيم حياتهم. وقد حاولت الدراسة فهم آليات تواتر التراث بالتطبيق على ممارسات عادات الطعام، وتوصلت فى هذا الصدد إلى أربعة آليات تتم بموجبها عملية تواتر التراث في عادات الطعام وهي: التوافق مع الضرورة، وتوظيف العلاقات التضامنية، والتماثل الاقتصادي الاجتماعي والثقافي، والشعور بالرضا. وأكدت البيانات المستخلصة من أساليب حياة الفقراء على انسجام ممارسات عادات الطعام القائمة على الضرورة مع ظروف الحرمان وقلة الدخل وتقلبات ظروف العمل، ولهذا يميل الفقراء إلى اختصار عدد الوجبات اليومية واللجوء إلى أساليب وحيل تعزِّز الإشباع، وارتباط موعد الوجبة الرئيسية بمدى التقلُّب في ظروف العمل، فوجبة الغداء الرئيسية تتناسب مع من يعملون بانتظام ويعودون من عملهم في أوقات منتظمة خلال فترة الظهيرة. بينما تعد وجبة العشاء رئيسية بالنسبة إلى الذين يعملون في أوقات غير منتظمة، كما يعتمد الفقراء على الإكثار من النشويات في طعامهم وقلة البروتينات والفاكهة واستهلاك الأطعمة منخفضة التكاليف. إلى جانب الاعتماد على بدائل رخيصة من الأطعمة المكلفة. وتشير النتائج إلى استخدام الفقراء لأدوات بسيطة في الطعام تتسم بخامات رديئة ورخيصة وقابلة للتبادل في نطاق الجيرة، والأدوات بالنسبة إلى الفقراء ليست مكملة لأي رغبة في المكانة ولا يثير إظهار بساطتها أمام الناس أي خجل، ويميل غالبية الفقراء إلى تكثيف استخدام الأدوات وتنويع وظائفها. وعدم الاكتراث بالنظافة وتوظيف الحيز المكاني لأكثر من غرض ومراعاة تحقيق الإشباع واقتسام الاستمتاع بالطعام، ويظهر ذلك من خلال ترتيب الطعام الذي يبدأ في الغالب بوفرة من الخبز وينتهي بقيود صارمة في توزيع اللحم، وللطعام الجماعي قيمة مهمة في حياة الفقراء يحرصون عليها دائمًا، ويقل التزام الأسرة الفقيرة بالقيود الشكلية في آداب الطعام كغسل الأيدي أو ترتيب الجلوس، فهناك مرونة تفرضها الضرورة وتزيد المرونة في نظام الوجبات بصفة عامة كلما ساءت الأحوال الاقتصادية. وفيما يتعلق بتوظيف العلاقات التضامنية، فقد أظهرت النتائج اعتماد الفقراء على شبكة العلاقات التكافلية في المواءمة بين حاجاتهم ومواردهم، وتعد علاقات التضامن بمثابة مورد رئيسي في حياة الفقراء، يمكن توظيفه في تخفيف أعباء الحرمان، وتشير النتائج إلى بعض مظاهر ذلك مثل اقتسام نفقات الطعام داخل الأسرة، وهذا يعني تقسيم أعباء تدبير مكونات الوجبات ومستلزمات الطعام على كل من يساهم في دخل الأسرة، وهذا يضمن استمرار توفر الطعام وتعزيز الروابط الاجتماعية، ومن مظاهر التضامن اقتسام أدوات الطعام ومستلزماتها فيما بين الجيران بطريقة مرنة، ويتم ذلك بين الفئات المتماثلة نسبيًّا في خصائصها. ويتخذ الفقراء من عادات الطعام مجالاً لتكريس التماثل من خلال المشاركة في تناول الطعام، ومع ذلك فإن علاقات القوة داخل الأسرة هي التي تفرض نمط الذوق السائد، بالإضافة إلى عوامل أخرى كتكلفة الطعام، وتلعب التنشئة الاجتماعية دورًا في نقل الخبرات وتداول الأذواق عبر الأجيال، ولا يقف التماثل عند مجرد الغذاء المفضل، بل التعبير عن الحرمان وإخفاء النعمة، ففي ظل انعدام الخصوصية والمراقبة المتبادلة يتعين على الفقير أن يتظاهر بالتماثل، وبقدر ما يعبر ذلك عن تبادل منافع، فإنه يعبر أيضًا عن حلقة مفرغة من الحرمان لا فكاك منها. ويحرص الفقراء على تحقيق الرضا بأي صورة ممكنة ويتم ذلك بالقناعة، والنظرة الإيجابية لحياة الحرمان وتحقيق المتعة في تناول الطعام والحرص على طعام المناسبات.
ثانياً: استعادة التراث، ويقصد بالاستعادة للتراث الاحتكام إلى الخبرات السابقة مع التراث وإعادة ممارستها وتوظيفها من جديد في أحداث ومواقف متجددة، مما يؤدي إلى إثراء وتجديد التراث الشعبي بصفة مستمرة. وقد كشفت النتائج أن استعادة التراث في حياة الفقراء تتم بطريقتين، الأولى تعتمد على احتكام الشخص لخبراته الماضية والثانية تعتمد على احتكام الشخص لخبرات الآخرين الماضية مع التراث، وتعتمد هذه الطريقة على التفاعل الإنساني، وبالتالي تتعدد مصادر الاحتكام إلى التراث ويتفاعل فيها الماضي مع الحاضر، ويلاحظ أن الاحتكام إلى التراث يبدأ من الخبرات الأقرب إلى الذهن والمتاحة والتي يسهل استعادتها وتوظيفها، ثم الخبرات الأكثر تعقيدًا وصولاً إلى الاستعانة بتجارب المحترفين في مواجهة أحداث الحياة. وقد بينت الدراسة أن ثمة ثلاث عمليات للاستعادة وهي التفسير والتبرير، والنصح والتوجيه والنقد والسخرية، وتعد عناصر التراث الشفاهي كالأدب الشعبي وبعض جوانب من المعتقدات أكثر قابلية للاستعادة في الحياة اليومية. وتشير النتائج إلى أن محددات الاحتكام إلى التراث تختلف باختلاف الأشخاص والمواقف والأحداث والسياقات، بالإضافة إلى اختلاف طبيعة العنصر الثقافي ذاته، ويميل الفقراء إلى الاستعانة بالتراث السحري في مختلف المواقف والأحداث التي تنطوي على مشكلات أو أزمات، ويتم توظيف الأمثال في العديد من مواقف التفاعل وأفعال الكلام.
ثالثا: استعارة التراث، والمقصد هنا محاولات إضافة عناصر ثقافية جديدة للمخزون الثقافي المشترك. وتنطوى عملية الإضافة على مزيج من الوعي والقصدية والاختيار من ناحية، والتلقائية من ناحية أخرى، وذلك فيما يتعلق بإمداد أساليب الحياة الجارية بعناصر ثقافية جديدة. وتتجلى هذه العملية فى محاولات استعارة العناصر الثقافية من فئات وطبقات اجتماعية ومناطق ثقافية أخرى. وقد لوحظ من واقع نتائج هذه الدراسة أن ممارسات الفقراء في الاستعارة الثقافية تستجيب دوما لما يجري على صعيد الأبنية النظامية في المجتمع، مما يعني أن الفقراء -فى حياتهم اليومية وتراثهم الشعبي- ليسو بمنأى عما يجري حولهم من أحداث وتغيرات، وأن لديهم قدرات فى التفاعل مع المجتمع. وقد كشفت الدراسة أربع آليات للاستعارة الثقافية وهي: المحاكاة الثقافية بين محتلف الفئات الاجتماعية، والتلقي الثقافي للمضامين الثقافية للرسائل الإعلامية، والتدين لاستعادة مجتمع إسلامي متخيل، والاستهلاك الثقافي المتأثر بالعولمة وثقافة الاستهلاك.
رابعاً: إبداع التراث، ويعرف الإبداع بأنه تعبير عن “قدرة الجماعة على إثراء مخزونها الثقافي بالتجديدات”، ويتخلل النشاط الإبداعي ممارسات جديدة لبعض العناصر الثقافية في مختلف مجالات التراث الشعبي. وفى هذا الصدد يشير المؤلف إلى أن الابداع الثقافي يتطلب قدراً من الجرأة والقوة والمبادأة والخيال الخصب في أثناء ممارسة عناصر التراث الشعبي بحيث يمكن للأنشطة الإبداعية أن تضيف إليه ممارسات وعناصر جديدة، وهناك آليات متعدِّدة تعمل على التوليد المستمر للإبداعات الثقافية في ميدان التراث الشعبي، وقد ركز المؤلف على بعض نماذج من الإبداع الثقافي في ميدان الأدب الشعبي كالأمثال الشعبية والأغاني والحكايات وذلك من واقع رصد دقيق لبعض المواقف التي تمارس فيها بعض تلك العناصر التراثية. غير أن المادة الميدانية المرتبطة بهذا الجزء من الدراسة “الإبداع الشعبي” جاءت مختصراً جداً ولاتتناسب مع حجم الدراسة وتفاصيلها المنهجية، ونأمل أن يتخذ هذا الجزء بعضاً من اهتمام المؤلف في الطبعات القادمة للكتاب. غير أن الكتاب على هذا النحو حافل بالأمثلة العديدة لمختلف عناصر التراث الثقافي في محاولة للتوصل إلى آليات محكمة لما أسماه المؤلف بإعادة إنتاج التراث الشعبي، كما يمثل توظيفاً جيداً للصلة العميقة بين رؤية علم الاجتماع وبحوث علم الفولكلور، ويمثل أيضاً محاولة جادة وغير مسبوقة لبناء نظرية لإعادة إنتاج التراث الشعبي تستند إلى بيانات ميدانية استخدم فيها البحث الكمي والبحث الكيفي بدقة بالغة.

كتاب الصهبة والموشحات الأندلسية في مكة المكرمة
أما الكتاب الذي حصل على جائزة المركز الثالث مناصفة مع كتاب “العادات والتقاليد في دورة حياة الإنسان الفلسطيني” الذي سنعرض لاحقاً، فهو كتاب “الصهبة والموشحات الأندلسية في مكة المكرمة” الذي صدر عن دار كنوز المعرفة عام 2013 بجدة ويقع في 700 صفحة للمؤلف عبدالله أبكر عضو لجنة التراث الشعبي في جمعية الثقافة والفنون بجدة.
و”الصهبة” لغة تأتي على وزن (فعلاء) والصهباء من أسماء الخمر وفي الحديث: كان يرمي الجمار على ناقة صهباء، أما المفهوم الاصطلاحي للصهبة فهي فن غناء الموشحات والأدوار، وهي فن شعبي عريق ظهر في الحجاز وفي مكة المكرمة وجدة، وهو غناء لا تصاحبه أي آلة موسيقية سوى توقيع التصفيق بالكف والنقر على (النقارات)، ومن ثم فهو غناء إيقاعي وإنشاد جماعي. وتشير بعض المصادر لميلاد هذا الفن في الأندلس، ثم ترعرع في مصر والشام والعراق، ورحل من هناك وحط في مكة المكرمة.
وقد جرت العادة أن يشترك في الإنشاد جميع أفراد الفرقة (التخت) ويسمونهم (السنِّيدة) لكن ينفرد أجملهم صوتاً وفناً، وتتكون الفرقة من خمسة أشخاص وربما تزيد فتصل إلى الثلاثين أو الخمسين منشداً وقبل أن يبدأ الحادي الذي يجلس وسط الرديدة يتقدم الموال تمهيداً للمقام الذي سيبدأ منه الغناء، ثم يشرع الحادي في الغناء على المقام نفسه بالمطلع ويسمى في الصهبة (المِشق). أما الإيقاعات المصاحبة لهذا الغناء فهي طبلة النقّارة فقط وتطرق هذه الطبلة بعودين نحيلين ومن أشهر النقاقير في غناء الصهبة السيد علي بن يوسف وسليمان البرج وعثمان بنتن وعبدالعزيز محضر ومحمد حبيب ويوسف ميرزا وعبدالله أبكر وهاني قبوري وهاني مغربل. كما يصحب الغناء والنقر (التصفيق) وتضرب اليدين مع نقر الإيقاع. أما مغنو الصهبة في العصر الحديث في مكة وجدة فهم: علي ميرة وعلي الصايغ وعبدالعزيز محضر ومحمد شعيب وعبدالله جدع ومحمد حبيب ومحمد شعيب وصالح عسيري وعمر عيوني وعبدالله بصنوي وهلال شيت وعباس مالكي. ومن الجيل الجديد: حمزة أبو قرام وعبدالله أبكر ومحمد فلاتة وعمر نوار وأسامة العامودي وعبدالملك نيازي وخالد مغربي. وقد انتشرت جلسات الصهبة كفن في حارات مكة المكرمة مثل: سوق الليل، والقشاشية، والمسفلة، والشبكية، وأجياد، والسليمانية، وبرزت في حلقات في الحفلات والمجالس الخاصة وفي المقاهي. وفي جدة كانت تقام في حارات اليمن والمظلوم والشام
وتقوم فكرة الكتاب على توثيق هذا الفن في منطقة الحجاز وفي مكة المكرمة خاصة، وقد استعان المؤلف بجميع ما أُتيح له من مصادر مرجعية وميدانية، إذ يقول: “ وقد نهض بي التوق والشوق إلى بذل مزيد من البحث ما استطعت، للوقوف على تلك النصوص وأخذها من مصادرها المطبوعة والمخطوطة، أو جمع شتاتها مما تبقى من مصادرها الشفهية وتدوين ما يمكن تدوينه من الموشحات والأدوار الأندلسية والمصرية والحجازية واليمنية والشامية التي حواها فن الصهبة في مكة المكرمة كأجزاء من التاريخ الاجتماعي والفن الشعبي”. وقد ساعد الباحث في دراسته كونه من الممارسين لهذا الفن الغنائي الأصيل، فضلاً عن استفادته المباشرة من أحد عشاق فن الصهبة والملمين بتاريخها وأصولها وهو الشيخ أحمد زكي يماني الذي كتب مقدمة توثيقية للكتاب.
وقد قسم المؤلف كتابه لأربعة أبواب، اشتمل الأول على تعريف الموشّح لغةً واصطلاحاً، ونشأة الموشح وأقسامه (وهي المطلع والقفل والغصن والدور والسمط والبيت والخرجة) ومخترعه وأغراضه، ويذكرنا بموشح لسان الدين ابن الخطيب الشهير الذي مطلعه:
جادك الغيث إذا الغيث همى
           يا زمـــان الـوــصل بالأنــدلـسِ
كما وثق المؤلف واحدة من أهم الموشحات التي كانت تتردد في غناء الصهبة، ومن بين أبياتها:
قفا بالركب يا حادي السلام
ورفـقاً جيــرة البيت الـحرامِ
ومهـلاً يا حداة العـيس مـهــلاً
فقــد أيقظتــمونـي من منامي
فهذه الضجــة الكبـرى علاما
أعيـد الـحج أم عيــد الصيـــامِ
أم الـداعي لــطيبة قـد تنادى
ألا حيـــوا علــى بــاب الــسلامِ
ثم ينتقل بنا المؤلف لتعريف التواشيح الدينية ومنشديها في مكة المكرمة؛ ومن أشهرهم الشيخ الزيني بويان، والشيخ محمد الكحيلي، والشيخ حسن لبنى، والسيد عباس المالكي.. ثم انتقل المؤلف لتعريف “الدَّور” لغةً واصطلاحاً، وغناء الدَّور، وأعلام فنّ الدَّور في العصر الحديث، منتهياً لتعريف فن الصهبة لغة واصطلاحاً، والمصطلحات المرتبطة بها وهي الحادي والشَّاووش والسنِّيدة والشيلة والودعة والشبشرة؛ وفي الرابع شرح للإيقاع المصاحب لغناء الصهبة، والضرب بالكف على إيقاع النَّقر.
أما الباب الثاني من الكتاب فقد اتسع لاستعراض تاريخ الغناء في مكة المكرمة، ومغنّي الصهبة ودورهم في التواصل الفني والثقافي والشعبي، وتاريخ الموشحات والصهبجية في مصر، ثم ظهورها في مكة، والصهبة المصرية، واختلافها عن الصهبة المكية، ثم الصهبة اليمانية، أو يماني الكفّ، وطبقات مُغنّي الصهبة وحاراتهم في مكة عبر القرون، حيث يصنّف المؤلف طبقات مغني الصهبة في مكة المكرمة، ومن هؤلاء في الطبقة الأولى عبده الحامولي وعبد الرحيم المسلوب ومحمد عثمان وكامل الخلعي والسيد الصفتي وسلامة حجازي، وغيرهم من المصريين المؤلفين والملحنين للموشحات والأدوار في القرنين المنصرمين الهجري والميلادي. ثم الطبقة الثانية التي عاصر بعض شخصياتها شخصيات الطبقة الأولى، وفي مقدمتهم الشيخ عبد العزيز محضر، وعلي الصائغ، ويوسف مرزا، وعلي حامد ميرة، وإبراهيم عوضين، وإبراهيم يسري، ومحمد حبيب، وحسن عبد ربه، وعبد الله بخيت، ومحمد شعيب، وأحمد أبو لبدة، وصالح عسيري، ومحمد سلطان، وعبد الله جدع، وإبراهيم فلمبان، ومعتوق سلطان، وقد أدرك المؤلف كل هؤلاء من الطبقة الثانية، وقد انتقل جلهم إلى رحمة الله. ثم الطبقة الثالثة والتي حصل بوجودها في الآونة الأخيرة نوع من النهوض الفني، وتتمثل هذه الطبقة في شباب التحقوا بمن تبقى من الطبقة الثانية، اقتربوا منهم وسمعوا وعشقوا وحفظوا من الموشحات والأدوار كمًّا لا بأس به في مختلف المقامات. ومن هذه الطبقة الشبابية وفق تاريخ الالتحاق: حمزة أبو قرّام، عبد الله محمد أبكر «مؤلف هذا الكتاب»، طارق شنواز، عثمان صالح آدم، صلاح محمد المطري، محمد جميل فلاتة، خالد مغربي، هاني قبوري، عمر نوار، عبد الملك نيازي، أسامة عمودي، أنور عبده، وغيرهم من الشباب. هذا إلى جانب ما سُجل في أدوات وأجهزة الحفظ الحديثة (أشرطة الكاسيت والهواتف النقالة والأقراص المدمجة) بأصوات كبار حداة الصهبة أمثال: السيد علي بن يوسف، عمر العيوني، عبد الله مؤمنة، عبد الله بصنوي، محمد الوزنة، عبد العزيز محضر، ومن تبقى منهم: محمد حبيب بكر، حسن عبد ربه، يوسف مرزا، علي ميرة، صالح عيسى، سراج عنبري. كما يستعرض عبدالله أبكر مصادر نصوص الموشحات والأدوار ومؤلفيها وأسباب دخول الألفاظ الأعجمية في غناء الموشحات والأدوار وأماكن أداء غناء الصهبة.
وفي الباب الثالث يتبحر المؤلف في بحث فن المَواليا، أو الموّال، والمجسّ الحجازي، ونماذج من الموال بالفصحى والعامية، كما قدم نماذج من نصوص غناء لون يماني الكف. فيما احتوى الباب الرابع على نماذج وتحليلات لغناء الموشحات، وطريقة غناء الموشحات والأدوار في الصهبة على المقامات الموسيقية التي تُغَنى عليها الصهبة كمقام البياتي ومقام الحجاز ومقام المايا ومقام السيكا ومقام الجهاركاه ومقام النهاوند، فضلاً عن نصوص المُوَشَّحات والأدوار ومؤلفيها ونوعية مقاماتها وأسماء مُلحنيها ونوعيات ضروبها وإيقاعاتها.
ولعلنا قد نختلف مع المؤلف في توصيفه لهذا الفن أنه يؤدى بدون آلات موسيقية، رغم ما أورده المؤلف أن الغناء يتم بالنقر على النقارات وهي في حد ذاتها من الآلات أو أدوات الإيقاع الموسيقية المصنفة في العلم. ومن ثم فالصهبة مصحوبة بآلة موسيقية إيقاعية أيا كان اسمها.
وفي النهاية نود التأكيد على أن المؤلف قد آثر أن يستقي مادته الميدانية من أعلام الصهبة مباشرة، حيث قام بتسجيل الكثير من القصائد والأدوار التي لم تدون في أية مراجع. أما المادة المرجعية والمصادر المكتبية فقد تجاوزت الخمسين مرجعاً علمياً ما بين كتب تراثية قديمة ودراسات حديثة سواء كتب أو مقالات منشورة وموثقة، بلغت أكثر من خمسين مرجعا وهو ما أعطى الكتاب قدره العلمي في المجال.

العادات والتقاليد في دورة حياة الإنسان الفلسطيني
أما الكتاب الذي فاز بالمرتبة الثالثة مناصفة فهو كتاب العادات والتقاليد في دورة حياة الإنسان الفلسطيني قبل النكبة (1948) لزكريا السنوار وربا الزهار؛ اللذان لم يستطيعا حضور حفل تسليم الجائزة لعدم تمكنهما من الحصول على تأشيرة السفر من فلسطين.. والكتاب صدر في غزة عام 2013 في 349 صفحة من القطع المتوسط. وقد اعتمد فيه المؤلفان على المنهج الميداني من خلال 83 مقابلة مع مجموعة متنوعة من الإخباريين الثقاة بفلسطين الذين ولدوا بفلسطين وهجروا منها قصراً.. وتنوعت الروايات الشفاهية التي تم جمعها بحيث غطت معظم المدن والقرى الفلسطينية للوقوف على عناصر التشابه والاختلاف فيما بينها. وقد قدم لنا الكتاب وصفاً إثنوجرافياً دقيقاً لعادات دورة الحياة (الميلاد- الزواج- الوفاة) خلال هذه الفترة، فضلاً عن رصد للعديد من النصوص المنوعة من الأغاريد والأهازيج والتحانين والأمثال الشعبية والأقوال المصاحبة لتلك العادات.
وبدأ المؤلفان بالمرحلة الأولى من دورة الحياة وهي «مرحلة الميلاد»، وكشفت الدراسة عن اهتمام المجتمع الفلسطيني بإنجاب الذكور طلباً لحمل إسم العائلة ومساعدة الوالد في العمل فضلاً عن الإرث المادي.. ومنذ اليوم الأول للزواج يترقب الأهل قدوم المولود الجديد، وإذا تأخر الحمل يبدأون في حل مشكلة (العوجة)، حيث يظهر دور القابلات اللائي يعالجن تأخر الحمل، واشتهر عندهن علاجهن لأمراض عدة مثل: المولدة الطرية، والمولدة الصغيرة، والمولدة الملتاحة (الملووحة)، والظهر المفتوح، والتهابات المولدة، والبرودة والرخاوة، وضعف الدم، والكابسة. كما انتشرت مظاهر الاعتقاد في السحر والجرينة والخوفة. وإذا ما تم علاج الزوجة من أسباب عدم الحمل.. بدأ علاج الزوج من أية مشكلات في مقدمتها «العجز الجنسي». وعند حدوث الحمل تتباهى الحامل وأمها وزوجها بذلك. وتبدأ إجراءات متابعة الحمل والجنين بشكل دقيق. ويبدأ التكهن بجنس الوليد استناداً للوحم وطبيعة حركة الجنين، ومتابعة كمية حليب الحامل إذا دخل الشهر التاسع لحملها، وكانت الحامل تجهز ملابس وليدها قبل مولده بشهور، وتعم الفرحة الجميع إذا عُرف أن المولود ذكراً ، أما إذا كان المولود بنتاً تبدأ عبارات التمني بمولد ذكر في المرة القادمة. وارتبطت أسماء المواليد بعادات معينة، إذ يسمى المولود على إسم أبيه أو جده إذا مات قبل مولده. وقد يكون الإسم على إسم نبي أو صحابي أو صحابية، أو من أسماء الله الحسنى، أو بأسماء تركية.
ولم يكن للختان أو الطهور في المجتمع الفلسطيني وقت محدد، فقد يتم بعد أسبوع أو شهر أو سنة، وقد يتم بعد سنوات. ويرتبط ذلك بالفئة الاجتماعية، فأهل المدن يطهرون أبنائهم في سن مبكرة. وقد يتم تأجيل الطهور حتى يتم تطهير عدد من الإخوة معاً، وكانت احتفالات الطهور تمتد ثلاثة أيام. وقبل الطهور بليلة واحدة كانت تقام سهرة تعرف باسم «التعليلة»، وفيها يجتمع أهل القرية يشاركون أهل الولد فرحتهم، ومن ثم تتضح درجة الترابط في المجتمع الفلسطيني.
وفي يوم الطهور كانت أم الولد تحميه وتلبسه جلباباً خاصا وطاقية مزينة أو طربوشاً مزوقاً قد يزين بقطع نقدية، وقد تزينه الأم بقطعة من «ثوب الأطلس» الذي لبسته يوم عرسها. ومن الأغاني المرددة في هذه المناسبة قول النسوة:
مبروك طهورك يا فلان
            مبروك البـدلــة والــدهبـــان
ويــــوم طهورك يا فلان
             عــزمنـــــا عـــــاهـــــل عــمـــان
ثم تذبح ذبيحة ويُدعى الأقارب والجيران لتناول طعام الغداء، وتحضر النساء بأبهى الملابس والذهب، ثم يُعد موكباً أشبه بزفة العريس للمولود «الولد» قبل طهوره، فيركب على ظهر الخيل، ثم يبدأ الختان الذي يتم على يد حلاق القرية، أو مطهرين متجولين بين القرى والبوادي، ويغنين:
يا مطهر الصبيان.. وبالله عليك             لا توجـــع الصبيــان بـزعل عليك
ثم يأتي الأقارب للولد ويضعون النقوط في يده، وذلك حسب قدرة كل منهم المادية. وبعد أيام من احتفالية الطهور يأخذ أهل الطفل ابنهم إلى البحر- على السهل الساحلي- ليستحم فيه، ولكي يلتئم الجرح.
ثم ينتقل المؤلفان لرصد عادات الزواج، بداية من «سن الزواج» حيث لا يُنظر للسن بقدر ما ينظر لجسم الفتاة، فمن كان جسمها كبيراً يمكن تزويجها في سن مبكرة قد لاتزيد عن 12 أو 13 سنة. أما المواصفات المطلوبة في العروس فكان أهمها الأصل الطيب (خد الأصيلة ولوكانت ع الحصيرة)، و(بنت الأصول أحسن من بنت القصور). كما اهتم المجتمع بجمال البنت، وكثرت في الأغاني الشعبية ذكر جمال ومفاتن البنت كالبياض والعيون والعنق الطويلة واستدارة الوجه، ويشبهونهن بالقمر ليلة تمامه (قمر 14) كما كانوا يهتمون في اختيار العروس أيضاً أن تكون بنتاً لا  إمرأة ولود. أما اختيار العريس فلم يكن الجمال مقياساً للاختيار بل الأصل والخلق والدين (العرض ما بينعطى إلا لخيار الناس). وكان الزواج أنواعاً عدة، منه زواج الأقارب باعتباره حسب قولهم (عرق عينها)، أو (ابن عمها ذباح رقبتها). لكن إذا كان هناك خلاف بين الأقارب يرفض الوالد ذلك الطلب، ويقول: (حتى لو بتجدلهن جدايل بيض) أي ( حتى لو شاخت وشعرها أصبح أبيض). ومن أنواع الزواج أيضاً «زواج الغرائب» أي الزواج من قرية أخرى، وفي ذلك الزواج تشعر الفتاة بالحزن والأسى، وتوصف بأنها «راحت غريبة»، بل يصل الأمر لدرجة الندب عليها. أما النوع الثالث فهو «زواج البدل» أو «الشغار»، وفيه يتم تبديل عروس بعروس دون دفع مهور، ويتم ذلك عند الفقراء. وهناك «زواج الغرة» ويتم فيها تزويج فتاة من أقارب القاتل لأحد أقارب القتيل كأنها أسيرة، وتعامل معاملة مذلة، وتظل عند زوجها حتى تنجب ولداً ذكراً ليكون بديل قتيلهم، وعندها تُعاد لأهلها، أو تبقى عند زوجها إذا توافقا في حياتهما، غير أن هذا النوع من الزواج كان محصوراً جداً. وكان تعدد الزوجات شائعاً في القرية الفلسطينية، إما لمرض الزوجة، أو تأخر الحمل، أو لعدم الإنجاب أصلاً، أو لنسل كله بنات، أو للرغبة في مزيد من الأبناء، أوغير ذلك.
وكانت الخطبة تتم بطلب تمهيدي من أهل العروس، وذلك عندما ترى أم العريس وأخته أو عمته أو خالته الفتاة ويعجبن بها، فيطلبنها، ويُترك الأمر لوالدها الذي يشاور أقاربه، فإن تقدم أحدهم للزواج تم تفضيله على الخاطب لأنه (عرق عينها). وعند الاتفاق تُقرأ الفاتحة، ويتم الاتفاق على المهر. ولم تكن فترة الخطوبة طويلة إلا إذا كان الخاطب في وضع مادي صعب، فقد تطول الخطوبة إلى عام أو أكثر حتى يتمكن من جمع المال اللازم للعرس، ويرتبط ذلك بمدى نجاح الزراعة في موسم هذا العام. وفي فترة الخطوبة كان الخاطب يذهب لزيارة مخطوبته في رفقة والده ووالدته، ومعه هدايا تُعرف باسم «خشة الدار»، ولا يجلس الخطيب مع خطيبته منفرداً.
وكانت ملابس العروس تُجهز في قريتها، فيتم شراء القماش وتبدأ العروس، أو قريباتها أو امراة متخصصة في تطريز الأثواب حسب نقلة التطريز في القرية أو المدينة. وقبل الزواج كانت تتم احتفالات لأيام عديدة تستمر لأسبوع أو على الأقل ثلاثة أيام يرقصون فيها السامر والدبكة والدحية، ولكل منها نظامه وأصوله، ومن الغزل في تلك الليالي:
يا حلو دربك سند    والرجل تقلانة
والقلب يطلب رفق     والعين خجلانة

وكانوا يُجْرّون مناظرات على لسان البيضاء والسمراء، وينحاز كل طرف لمن يمثل في جو حماسي فكاهي، وكانت أم العروس تدعو أهل القرية لحضور ليلة الحنة وهي التي تسبق ليلة الزفاف، وفيها كان يتم نقش العروس بالحناء ونقش الزخارف والرسوم على كفيها ورجليها، كما يتم حناء من أرادت من النساء وتنطلق الزغاريد والغناء والرقص، وهناك مئات الأغاني التي كانت تغنى في تلك الليلة البهيجة.
وفي يوم الزفاف تُذبح الذبائح من الصباح، ويُعد الطعام الذي يكون غالباً «المفتون» أو الفت البلدي، والأرز المفلفل، ثم تُقدم القهوة والشاي في جو من الزغاريد والغناء، على حين يستحم العريس في بيت أحد أقاربه أو أصدقائه وينتظره أصدقاءه بالغناء، ثم يزف العريس محمولاً على الأكتاف وسط الرقص والغناء ويطوفون به في البلدة حتى يصل إلى بيته بدون أعيرة نارية بسب الاحتلال البريطاني آنذاك. ثم يتقدم أبو العريس والأهل إلى بيت العروس في مناظرات غنائية بديعة، حتى تخرج العروس مكللة من رأسها لقدميها بعباءة ووجهها مستور تماماً ثم تركب على الهودج، ويمسك والد العروس أو أخوها بالحصان ويتحرك الموكب حتى تصل العروس بيت عريسها ليتم إعلان الدخلة. في اليوم التالي تؤكد الأم على شرف ابنتها، ثم يقوم أهل العروس بزيارتها في اليوم التالي للعرس حيث تلبس العروس ثوب الأطلس وتتزين وتُجهز أم العروس غذاء خاصاً لهما، ثم يقوم أهل العروسين بتقديم النقوط لهما ثم ينصرف الجميع. أما مباركة الجيران فتكون ببعض الهدايا العينية كالسكر أو الطحين. ويذهب العريس بعد الصباحية مباشرة لعمله، على حين تتفرغ العروسة لأعمال المنزل منذ اليوم الثالث. وقد تخرج العروس بعد أسبوع أو شهر أو أربعين يوماً على أكثر تقدير لملء جرة الماء أو توصيل الطعام لزوجها أو مساعدته في أرضه.
أما عادات الوفاة فكان الفلسطينيون يعتقدون أن الإنسان يموت في المكان الذي اختارت فيه الملائكة أن يكون غبرة هذا الإنسان، لأنهم كانوا يعتقدون أن طينة الجنين تتكون من ثلاثة أراض: مكان خلقه، ومكان ولادته، ومكان موته. وكان عندهم اعتقاد أن الوفاة في أوقات وأماكن معينة له فضل. فالموت في يوم الجمعة وفي رمضان وفي القدس أو مكة أو المدينة المنورة من شأنه أن يرفع درجات الميت. وكانوا يعتقدون أنه إذا مات المرء سقطت ورقته من شجرة الأرواح. وإذا بدأ النزاع يتم توجيه هذا الشخص جهة القبلة ويطلب منهم أن يسامحوه. وعند وفاة شخص يٌشاع الخبر في القرية أو في المدينة. ويعرف ذلك كل الناس من خلال الصراخ عليه. ويتعطل الجميع عن العمل ليشاركوا في الدفن والعزاء. وكانوا يسارعون في الدفن مرددين «إكرام الميت دفنه». لذا كان يتم تغسيله حسب الشرع، ثم يتم توديع المغسل بإلقاء نظرة عليه في جو من الصراخ. وعند سير الجنازة إذا كان أحدهم جالساً يقف، ولو كان لابساً طاقية أو طربوش خلعه إكراماً للميت. ثم يصلى عليه في المسجد ويدفن بالمقبرة. وكانت النساء تخرج في الجنازة خلف الرجال، وكانت قريباته يخرجن حافيات الأقدام، ويحللن شعورهن، ويمزقن ملابسهن رغم مخالفة ذلك للشرع. وعند الدفن كانوا يضعون زرات من التراب في عين الميت، ويرددون في المثل (الإنسان ما بيملأ عنيه إلا التراب). وفي المقبرة يُلقن الشيخ الميت ثم يلقي موعظة للحضور. وكان الناس يضعون بعض الأشياء في القبر مع الميت، فالطفل يدفنون معه لعبته وأبريق ماء صغير (كوز)، ويدفنون مع الطفلة الأساور والعقود، ويدفنون مع الشاب ملابسه الكثيرة، والعذراء تُزين في زي جميل فوق الكفن، والعروس كانوا يلبسونها ثوباً أبيض فوق الكفن. وقد يوضع مع الميت أية من القرآن الكريم في زجاجة، شهادة منهم أن الميت كان صالحاً. وبعد الدفن يبدأ العزاء عند أهل الميت أو ديوان العائلة، ويستمر العزاء لثلاثة أيام، كان الجيران خلالها يقدمون الطعام لأهل الميت. على حين يستمر عزاء الأنثى منذ وفاتها حتى أول عيد يأتي بعد الوفاة، وتتشح النساء بالسواد لفترات قد تمتد لسنوات عديدة خاصة إذا كان الميت قتيلاً أو شهيداً، كما كن يحرمن الاستحمام على أنفسهن لفترات طويلة. وبعد العزاء يأتي «خميس الأموات» يجتمع فيه النسوة أول خميس بعد وفاة الميت، ثم يحيون ذكرى الأربعين بتلاوة القرآن على روحه ويقدم الطعام على روح الميت. أما العيد الأول فكان أهل الميت يخرجون قبل الفجر لزيارته، ويوزعون «الفجدة» على الفقراء والمساكين، وقد يكون التمر أو الغريبة أو الزبيب أو بعض النقود.
ويدعو المؤلفان الوسط الثقافي لتوفير الإمكانيات العلمية والتقنية لتوثيق هذا التراث الشعبي الأصيل، الذي يتعرض من آن لآخر لعوامل السلب من قبل الاحتلال الصهيوني، الذي ينسب جميع الإبداعات الفلسطينية له، وآخرها طرق عمل الخبز وأدواته. ونحن بدورنا نؤكد علي ذلك، وندعو المجتمع العربي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في الاهتمام والإصرار على جمع وتوثيق تراثه الشعبي، ونثمن هذا العمل الذي تم في ظروف صعبة وغير عادية في ظل هذا الاحتلال الإسرائيلي الغاشم للأراضي الفلسطينية، ونقدر مايكابده الشعب الفلسطيني وجهد المؤلفان اللذان لم يستطيعا حضور حفل تسلم الجائزة لعدم تمكنهما من الحصول علي تأشيرة للسماح لهما بمغادرة الأراضي الفلسطينية.  

أيام العرب الأواخر
حظي هذا الكتاب بتقدير لجنة تحكيم الجائزة، وهو كتاب «أيام العرب الأواخر: أساطير ومرويّات شفهيّة في التاريخ والأدب من شمال الجزيرة العربية مع شذرات مختاره من قبيلة المره وسبيع» لمؤلفه سعد العبدالله الصويان الذي صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2010. ويقع الكتاب في 1143 صفحة، وكما جاء على الغلاف الأخير فهذا الكتاب عبارة عن سوالف ومرويات شفهية بدأ المؤلف بتسجيلها منذ عام 1982 واستمر عدة سنوات، اذ استطاع أن يجمع مادة غزيرة وصلت إلى مئات الساعات من أشرطة الكاسيت، ثم قام بتحويلها إلى ملفات رقمية على برامج الحاسوب الحديثة مما سهل التعامل معها وتفريغها بلهجاتها الأصلية طباعة على صفحات من الورق بلغت آلاف الصفحات. وهي عملية شاقة استهلكت الكثير من الوقت والجهد، فتحويل النص الشفاهي إلى نص مكتوب من أضمن الوسائل لحفظه إلى الأبد، كما يشير الصويان إلى أن هناك اعتبارات أخرى وحالات يكون فيها الأداء الحي أفضل من الكتابة.

ويذكر المؤلف أنه قد قام بتفريغ المادة الميدانية بلهجاتها الأصلية ومعظمها ، كما سيلاحظ المتصفح، من شمال الجزيرة، وخصوصا قبيلة شمر، إضافة إلى عنزة وبني رشيد والطرفا والبنّاق وأهالي الجوف وبقعا وقرى جبل شمر ومنطقة الجوف. كما قام بتسجيل القليل من رواة قبيلة سبيع والمرة وعتيبة والدواسر. ويضيف الصويان: «بما أن زميلي مارسيل كوربر سهوك p . Marcel Kurper shoek  تولى مهمة التعامل مع المادة التي جمعها بنفسه من قبيلة الداوسر ومن قبيلة عتيبة، وهي أغزر بكثير من المادة التي جمعتها بنفسي من هاتين القبيلتين، ونشرت دار بريل Brill في لايدن Leiden بهولندا نتائج عمله في أربع مجلدات ضخمة، لذا قررت عدم التعامل مع هذه المادة التي أوفاها الزميل مارسي حقها من البحث، وأردت أن أكرس جهدي للقبائل التي لم يتطرق لها هو، كنوع من توزيع المهام وتوفير الوقت والجهد. بهذه الطريقة يكون هو غطى بعض قبائل الجنوب بينما وقعت علي مهمة تغطية بعض قبائل الشمال « .وعلى هذا النحو تطرق المؤلف في كتابه إلى قبائل لم يسبق أن تطرق إليها أحد قبله، وخصوصاً ما يتعلق ببعض قبائل الشمال.

وهكذا تضافرت الوســائل والظروف, وتواجد الإخباريون الأكفّاء الذين لم يترددوا في الإدلاء بما لديهم من سوالف وقصائد ومعلومات, انطوت عليها صفحات هــذا العمل الضخم, ويشير المؤلف إلى أن معظم الرواة الذين أخذ عنهم هذه التسجيلات، إن لم يكن كلهم، قد رحلوا من هذه الدنيا إلى الرفيق الأعلى. وهكذا تنطوي صفحات الزمن وتتوالى الأجيال وحقــب التاريــخ وتداهمنا التغيّرات الثقـافيـة والاجتماعية واللغوية. لذلك قد يجد القارئ بعض الصعوبات في فهم لهجة هذه المرويات، أو حتى تصور الحياة والبيئة التي تتحدث عنها. وهذا أدعى إلى تسجيلها وتدوينها وحفظها من الضياع ومعالجتها وفق منهجية علمية دقيقة واضحة تجعل من الممكن الاستفادة منها والانتفاع بها علمياً، ولغوياً، وكذلك من أجل فهمها على الوجه الصحيح واستكشاف مواطن الجمال فيها للاستمتاع بها وتذوقها فنياً وأدبياً.  ويشير قاسم الرويس ضمن حديثه عن هذا العمل أن الكتاب يحكي بكل بساطة قصة البداوة العربية على لسان أهلها وبلهجتهم متحدثين عن الأنساب والوسوم والشيوخ والعلوم و(القالطين) و(الحمايل) و(القواصيد) والديار والمغازي في توظيف غير مسبوق للثقافة الشفهية للتعامل مع الثقافة الكتابية وفق منهجية علمية محددة. وعلي حين تداولت المراكز العلمية في الغرب هذا الكتاب باحتفاء بالغ، نرى (أبوظبي) اليوم تلحق بالعالم المتحضر في تقديرها لهذا العمل الثقافي (يقصد جائزة الشيخ زايد). وبغض النظر عن فوز الكتاب بالجائزة من عدمه،  فإن لهذا الكتاب دورا كبيرا في التعريف بهويتنا الثقافية الحقيقية المتجذرة في صحراء الجزيرة العربية من خلال توظيف الثقافة الشفهية في التعامل مع الثقافة الكتابية والتاريخ المكتوب وفق منهجية علمية تحكي قصة البداوة العربية في محاولة جادة تتجه إلى ربط الحاضر مع الماضي عبر شعر البادية وثقافة الصحراء؛ فهما في رأي الصويان- يضيف الرويس- ولا أخاله جانب الصواب، الامتداد الطبيعي والاستمرارية التاريخية لشعر الجاهلية ولغتها وثقافتها، ليكشف بصورة علمية موضوعية مجردة خلال الهلنستية والإغريقية والسكسونية والأنجلوسكسونية أسرار العمق التاريخي للثقافة العربية الأصيلة التي حرم أبناؤها استلهامها متوهمين أنهم يقفون بذلك في صف واحد مع أحفاد الهنود الحمر!!

فدراسة الآداب الشفاهية كما يشير الصويان لا تعني إطلاقاً الدعوة إلى العامية، وكذلك دراسة البداوة والقبيلة ليست مناداة بالنكوص إلى عصورها بل هي تدرس كجزء من تاريخنا الثقافي والاجتماعي وكأحد محددات هويتنا وتصوراتنا الجمعية التي لا تزال رواسبها توجه سلوكياتنا على مستوى اللاوعي ثم إنها تبقي جزءًا من المنتج الإنساني والتجربة الإنسانية التي يحرص العلم على رصدها وتوثيقها، فهي لا تقل أهمية عن اللقى والحفريات فإذا كان من المشروع علمياً دراسة ثقافة بابل والبيرو والهنود الحمر، فإنه من المشروع أيضاً دراسة الشعر البدوي والقبائل العربية وثقافة الصحراء.

ويلفت الصويان النظر إلى أن هذه الروايات حافلة بالمناحي الأسطورية والخرافية التي لا يتسع المقام للتنويه لها، غير أنه من المهم أن يدرك القارئ أن ما بين يديه ليست نصوصاً تاريخية موثقة ومحققة، بل هي مجرد مرويات شفاهية تُحفظ في الذاكرة وتتعرض- بحكم محدودية الذاكرة الإنسانية- للكثير من التحويرات.. مشيراً في منهجه العلمي إلى أن النص الشفهي مزيج من الأدب والتاريخ. وتبدأ المرويات الرائعة بالمرويات حول «الخرصة والجربان»، وتنتهي بالمرويات حول «بني هلال والضياغم». وتُختتم بمجموعة من السوالف «خمس وخمسون سالفة» بدأها بسالفة محمد بن مهلهل برواية منهي بن بنيه»، وختمها بواحدة من سوالف الدوشان مطلق ابن راشد الجرد السبيعي.

وإذا كان هذا العمل التوثيقي الرائد في حاجة لوضعه في قاعدة بيانات كبرى لإتاحة هذه البيانات بصورة ميسرة للباحثين في التراث الشعبي والأدب والتاريخ، فإن سعد الصويان بحسه العلمي والتوثيقي قد بادر بإتاحة هذه المادة خارج النطاق المطبوع، مشيراً إلى أن الروايات الأصلية موجودة ومحفوظة في ملفات صوتية بأصوات الرواة، وبلهجاتهم الأصلية، ويمكن للباحث الذي يريد التعمق في البحث الرجوع إلى نماذج من هذه الصول على موقع المؤلف:
https://www.saadsowayan.com
ويعلن المؤلف في مقدمة كتابه أنه يُعد للطبع كتاباً عنوانه «الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور».. والكتاب مبني على النصوص المثبتة في هذا الكتاب «أيام العرب الأواخر»، وهو أشبه بالمقدمة النظرية والمنهجية لها، أو لنقل بمثابة عمل تطبيقي لكيفية التعامل العلمي مع هذه النصوص والاستفادة منها وفق رؤية علمية تتكئ على مستحدثات العلوم الإنسانية والاجتماعية، وعلى المناهج الراسخة في الأنثروبولوجيا واللسانيات، وعلى المناهج الحديثة في التاريخ الشفهي والأدب الشفهي، وذلك للخروج بتصور واضح عن الاستمرارية الثقافية واللغوية والأدبية في الجزيرة العربية، وعن تاريخها الثقافي والاجتماعي والقبلي منذ العصر الجاهلي حتى قيام الدولة الحديثة.

ونحن من جانبنا في انتظار هذا العمل الذي سيضيف الجديد لهويتنا الثقافية العربية.

المزامير.. المعتقد حول الموسيقى والاضطراب النفسي
هذا هو الكتاب الثاني الذي نال جائزة تقدير لجنة تحكيم الجائزة من حيث المنهجية والمحتوى العلمي والإخراج، وهو كتاب «المزامير.. المعتقد حول الموسيقى والاضطراب النفسي» لمؤلفه علي الضو. والكتاب صدر عام 2009 عن معهد الدراسات الأفريقية والأسيوية بجامعة الخرطوم ضمن سلسلة دراسات في التراث الشعبي السوداني رقم (41)
وتتمحور الدراسة في ملاحظة المؤلف الميدانية أنّ هناك عدداً غير قليل ما يربو عن العشرة عازفين من محترفي العزف على المزامير بالسودان قد أصيبوا باضطرابات نفسية، وبات عددٌ آخرٌ على شفا حفرٍة من ذلك ورغم أن الموضوع قد يُوحي بأنه من اهتمامات العلوم المختلفة الأخرى التي تدرس سلوك الإنسان وتصرفاته كعلم النفس، أو الطب النفسي، أو علم وظائف الأعضاء، أو حتى الدين، إلا أن هذه الدراسة تتناوله من منظور علمي الفولكلور وموسيقى الشعوب. وقد عكف الضو على جمع مادته العلمية من أقاليم السودان التي اشتهرت ثقافاتها الموسيقية بالمزامير والصافرات والأبواق، فضلاً عن المادة التي تم جمعها من محترفي العزف على المزامير، ومن الرواة العارفين بتاريخ الثقافة الموسيقية بالسودان وعلى هذا النحو حاول الوصول إلى نتائج معممة ومنطقية للعلاقة بين المعتقد حول الموسيقى والمزامير، وما أصاب بعض محترفي العزف عليها في السودان من اضطرابات. وبذلك يمكن لعلم الفولكلور أن يسهم في إثراء موضوعات، كالاضطراب النفسي، ظلت على الدوام من اهتمام فروع معرفية أخرى.

وعلى هذا النحو يبدأ علي الضو باستعراض مكونات الثقافة الموسيقية السودانية مشيراً للمناطق التي تتعدد فيها الآلات الموسيقية وتلك التي تنحصر فيها لضعف الموارد المادية.

ووجود وحدة في المنظومة النغمية الخماسية الخالية من نصف البعد الصوتي والتي تميز جل الثقافات الموسيقية للمجموعات السودانية. وتُستثنى من ذلك مجموعات صغيرة نسبياً تسيطر على موسيقاها نظم موسيقية أخرى، كالنظام النغمي الخماسي المحتوي على نصف البعد الصوتي أو النظام النغمي السباعي Diatonic. وأهم هذه المجموعات هي البقارة والرشايدة والمواليد (السواكنية). فيما يتناول المؤلف المكون الثقافي الإفريقي مشيراً إلى أن المؤدين للموسيقى وممارسيها أناس تجلهم المجتمعات الإفريقية وتضع لهم مكانة اجتماعية مرموقة. ويقع المسؤول عن تنظيم العروض الموسيقية في مجتمع «البرتا» بجنوب النيل الأزرق بالسودان، على سبيل المثال لا الحصر، في مرتبة اجتماعية واحدة، من حيث المسؤولية والتقدير، مع شيخ القرية (المسئول الإداري) وشيخ العادة (المسئول الديني أو العقدي). ويستعين في جل هذه المجتمعات كل من: العرّاف أو الكاهن أو «الكجور» أو مسئول العقائد، بالموسيقى لأداء مهامه وواجباته تجاه المجتمع. وبالتالي يمرر كل الأجندة العقدية التي يرغب في إيصالها لجموع المؤمنين عبر هذا السياق.

أما المكون العربي – الإسلامي فيشير إلى إن الثقافة الموسيقية العربية والواقع الاجتماعي الذي تبلورت فيه، على النقيض تماماً من ذلك المكون الإفريقي، فقد كان العرب لا يمارسون احتراف الموسيقى بل يستمعون إليها. وترى كرستينا نلسن Kristina Nelson أن وظيفة الترفيه هذه والمرتبطة بالموسيقيين المحترفين هي التي تم اختيارها لتتحمل وطأة عدم السماح بممارسة الموسيقى لدى العرب بصفة عامة. وقد ميز هذا الوضع بين المؤدي والمتلقي وجعل ممارسي الموسيقى ومحترفيها في أسفل السلم الاجتماعي. وذلك لارتباط هذه الممارسة تاريخياً بالخدم والقيان، وابتعاد الأشراف وقادة القوم عن احتراف مثل هذا النشاط.
هذا المبحث العلمي للمكونات الثقافية الموسيقية كان مدخل المؤلف لبحث المعتقدات حول الموسيقى والمزامير بالسودان، حيث يُعتبر المعتقد حول الموسيقى أحد العناصر الرئيسة المكونة للثقافة الموسيقية والتي تشتمل بجانب ذلك على التنظيم الاجتماعي والمخزون الموسيقي والثقافة المادية. وتشير المادة الميدانية إلى أن جل المجتمعات السودانية تمنع الصبية عن الصفير على وجه العموم والصفير عند مغيب الشمس على وجه التحديد. ويُعتقد أن حلول الظلام مرتبط بحضور الأرواح الشريرة كالجن والشياطين، ويسهل الصفير أمر استدعائها. فقد ذكر بعض عازفي المزامير في المقابلات التي أجراها المؤلف معهم أن آباءهم إما اعترضوا على تعلمهم العزف على المزامير ابتداءً أو منعوهم من ممارسة عزفها بالمساكن بدعوى أنها تستدعي الجن والشياطين. وهناك اعتقاد شائع أن العزف من صوت الجن ويمكن استحضارهم بصوت العزف. ويُصرح بأن الآلات الموسيقية من أكبر الوسائل التي يغوي بها الشيطان الرجال تأثيراً. فالآلة الموسيقية هي مؤذن الشيطان يدعو لعبادته. ويعتبر كثير من قاطني جنوب النيل الأزرق أن الصفير بالفم رجس من عمل الشيطان ويحضون على تجنبه. كما يُعتقد في مجتمع القّارة بغرب السودان أن قمة الكفر هي: القُجّة عند الكبير والصفير عند الصغير. ففي زمن الجاهلية كانت قريش الكافرة تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق، و(المُكاء) الصفير، والتصدية التصفيق، لقوله تعالى
«وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ» (الأنفال: الآية 35).

وذلك هو سبب اعتبار العرب الصفير إغواءً من الشيطان حتى اليوم. وفي إطار رصده لأثر الموسيقى والزمر على الدماغ وأعضاء الجسم الأخرى استخلص المؤلف من بعض الدراسات أن الموسيقى تُوجد بالمخ في مكان غير الذي يوجد به الكلام. فإن حدث اضطراب للإنسان، فقد تختل لديه ذاكرة الكلام وتبقى ذاكرة الموسيقى متقدةً، بحيث يمكنه العزف على آلته الموسيقية أو أداء ما يحفظ من أغانٍ. ويضيف قوله أن البعض يرى أن هناك ثمة علاقة واضحة بين التأليف الموسيقي والجنون، حيث يعمل هذا التجريد في الموسيقى على إخراج منتجيها من عالم الواقع إلى عوالم يخلقونها هم لأنفسهم ويعيشون فيها. فقد ذكر أحمد عكاشة أن الدراسات التي قام بها الأطباء النفسيون تبين مدى انتشار المرض العقلي بين المؤلفين الموسيقيين، وخاصة الدراسة التي أجراها «ترثون» في كتابه المعنون: المرض العقلي والموسيقى.

وتنتهى الدراسة بتساؤل المؤلف: كيف اضطرب عازفو المزامير بالسودان؟ مشيراً إلى أن إرث الثقافة العربية الإسلامية يمثل عملاً مؤرقاً للبعض ويأخذ مساحةً من تفكيرهم. فيؤدي أحياناً، ومعه عوامل أخرى، إما إلى الهروب بترك النشاط الموسيقي والانغماس في عالم التصوف، أو الهروب إلى عالم المسكرات والمخدرات، كأنما هذا السلوك صار يرتبط شرطياً بالنشاط الموسيقي. فتعكس التوبة التي قال بها بعض محترفي الموسيقى بالسودان التاركين لهذا النشاط حالة التنازع والصراع الداخلي التي ظلت تلازم هؤلاء النفر حتى لحظة اتخاذ القرار والهروب للتصوف بالتوبة. ويكون النوع الآخر من الهروب، والمتمثل في الانغماس في المسائل المادية المذهبة للعقل، أحد العناصر السالبة التي تتجمع في نهاية المطاف لدى بعض الفئة المعنية بهذه الدراسة لتسهم مع غيرها من العناصر العضوية والعقدية - الاجتماعية في اضطرابهم نفسياً.

وتصل ضغوط المجتمع على محترفي النشاط الموسيقي قمتها حين الحديث عن عازفي المزامير. وذلك فيما يُعتقد من ارتباط هذه المزامير والصفير الذي تصدره تحديداً بالشياطين. ويذهب البعض إلى أن المزامير ممنوعة أو محرمة على حد اعتقاد بعض المسلمين. وحتى وإن لم يأخذ كثيرٌ من هؤلاء العازفين هذا الاعتقاد حينها مأخذ الجد وظلوا على ممارستهم تلك، إلا أن الأمر يكون مختزناً في اللاوعي ويتم استدعاؤه لا شعورياً حال حدوث اضطرابات. وإن كان مرد تلك الاضطرابات أسباب عضوية ناتجة عن الإفراط في التمارين، أو أخطاء الممارسة، أو الأصوات الحادة الصادرة من المزمار نفسه والمؤثرة على الجهاز السمعي.

يجهل هذه المسائل جل محترفي العزف على المزامير في السودان لقصور أو انعدام منهجية التدرب على هذه الآلات. وهذا يعني أن جلهم يفرطون على الدوام في النفخ عند محاولتهم العزف على الأصوات العليا لآلة موسيقية يمتد مداها لواحدٍ وعشرين صوتاً. ويقود هذا الأمر بدوره إلى إرهاق الجهاز التنفسي، حيث تعمل الرئتان كمنفاخ يمول الفم بالعمود الهوائي، بينما تُوظف الشفة العليا كريشة مفردة بحيث تتذبذب في ارتباط مع حافة الفتحة الموجودة على رأس المزمار بغرض إصدار الصوت الموسيقي.

ولا تواجه هذه الإشكالية لدى عازفي المزامير التقليدية للأسباب التالية: أولاً لمحدودية المدى الصوتي والذي لا يتعدى في بعضها أو جلها خمسة أصوات. ثانياً لاستخدام أسلوب «التباعض» في حال المزامير التي يتجاوز مداها ذلك، حيث يقوم كل عازف لهذه المزامير بإصدار صوت واحد فقط لتتمكن المجموعة المكونة من عشرة عازفين من بناء خطين لحنيين متوازيين. فلا يكون العازف مضطراً في مثل هذه الحالة للإتيان بالصوت وقراره أو جوابه من ذات المزمار أو البوق. ثالثاً للتدرب على تقنيات النفس الإرادي مع وضع المزامير المصنوعة من القرع في الماء حتى يعمل تمدد القرع على إغلاق الفجوات التي يمكن أن يتسرب منها الهواء ما يفضي إلى إرهاق الجهاز التنفسي للعازف.



أعداد المجلة