من أجل تجديد الشفاهية: الضروري والعاجل
العدد 12 - آفاق
تعريب:نور الهدى باديس
يتعلق هذا النص بمسألة الشفاهية في المغرب ولكنه من حيث الإشكالات التي يطرحها، والحلول التي يتحسسها يمكن أن يكون صالحاً لمسألة الشفاهية في البلاد العربية جميعاً. وإذا ما تجاوزنا أسماء الأماكن والمؤسسات، فإن تلك الأسماء الواردة في النص يمكن أن تكون صالحة لأي مكان أو مؤسسة تتناول مسألة الشفاهية في الثقافة العربية لذلك اخترنا هذا النص لباب آفاق لهذا العدد.
(التحرير)
«ينخرط القول في سياق تبادل الطاقة.إنه وقائع، أحداث، حركات. إنه سلطة، هو نداء، وهو لعبة. إنه رابط. يأتي القول من مكان ويذهب إلى آخر. يصدر عن نية ويذهب إلى عناية.ينشأ بين متخاطبين، بين قريب وقريب، يربط هؤلاء بأولئك والداخل بالخارج والشبيه بالمختلف والمعروف بالمجهول والقريب بالغريب، يربط بين أجيال فيما بينها، يربط الحي بالميت. فهو الرباط الأكثر ضرورة لقيام مجتمع، إنه الرابط الأكثر إلحاحا لفهم الواقع.»
لماذا نهتم اليوم بالتراث الشفوي؟ لماذا في اللحظة التي يتحول العالم فيها إلى الاهتمام بالعولمة والتكنولوجيات الدقيقة وكل علامات التطور المادي يبرز جليا التعلق بالتراث اللامادي وتبدو الحاجة إليه ملحة لمصيرنا؟ هل نحن في حاجة إلى رواية الحكايات وقد أتقن السينما والتلفزيون تصويرها ونقلها في شكل مشاهد حية وسيناريوهات وأفلام مغامرات؟ هل يتعلق الأمر بإظهار تردد أمام سرعة التطورأو رفض الاستسلام إلى هذه «الموجة»؟ تبدو الذاكرة والمستقبل والمادي واللامادي والأصالة والزخرف في علاقة حذر وكأنها في صراع أجيال.
فالذاكرة تخشى النسيان والمستقبل يخاف تدفق الماضي.فحاجتنا إلى الحكي وإلى سماع القصص تبدو متجاوزة كل الظواهر وتعكس حاجتنا لعقد الصلة من جديد مع القول كشكل عريق لإنسانيتنا.
عندما نزور بعض قرى طفولتنا نكتشف أحيانا بفرح ترميمات وإصلاحات معمارية جعلت من اليومي أكثر رفاهية. ولكن كم هي كبيرة خيبتنا عندما لا نعثر على أي أثر للأماكن التي كان يحتلها قديما القاصون«hlaykya»(ج.حلايقي) وعندما نرى فضاءهم يتقلص شيئا فشيئا أو يختفي نهائيا. إنهم يفقدون نشاطهم بما أن الجمهور بدوره لم يعد يجد مرجعياته المكانية. فقد عجل المعمار الفوضوي اللاواعي بالخصوصيات الثقافية لمدننا بزوال تراثنا الشفوي الذي كان «الحلايقي» حارسها الأمين. ولأكون أكثر دقة سأعرض نموذج مدينة وجدة. فقد كانت بالفعل هناك ساحة عامة أمام أحد أبواب المدينة وتدعى باب سيدي عبدالوهاب. كان يحتل تلك الساحة في البداية «الحلايقية» من كل الأصناف وبعد ذلك أقيم بجانبها محطة كبيرة للحافلات وبعد ذلك انتقل كل شيء إلى مكان بعيد. واليوم لايوجد أي أثر لساحة باب سيدي عبد الوهاب الكبيرة. وأنا واثقة أن العديد من المدن المغربية قد عرفت في فترة ما تغييرات مماثلة أو بالأحرى أكاد أقول «وحشية» لأن النتائج كانت وخيمة على الموروث الثقافي عامة. ففي بني ملال منذ أربع وثلاثين سنة ظل قاص واحد يقاوم الزمن والتغييرات بكل أصنافها.
فيبدو أننا ونحن نسعى إلى تعصير مدننا ننسى الحفاظ على كل ما يخص هويتنا الثقافية.
فعندما نعلم أن العروض الأولى التي كان دوما يحضرها المغاربة كانت تقام في نطاق «الحلقة» وليست في المسارح على الشاكلة الغربية. وعندما برهن الباحثون أن الحلقة هي جزء حميم من ثقافتنا وأن أصل كلمة «دوار»هو دائرة وأن هندسة البيت العربي كان دوما مفتوحا في الوسط على الفضاء ويتخذ شكلا دائريا كما كان الحج قبل الإسلام وبعده يتخذ شكلا دائريا حول الكعبة. لكل هذه الأسباب مجتمعة نتساءل عن الدواعي التي جعلتنا نتجاهل جزئيات هويتنا الثقافية.
للأسف لقد احتفظنا بنظرة ازدراء لممارسة مغربيةكان دورها متعددا كما أعلن الانتروبولوجي فيليب سكيلرPhilip Skiler: «فمنذ زمن ليس بالبعيد كان صناع العرض في الأسواق يكشفون في الأسواق المغربية الوظائف الحية بتعبيرهم بحضورهم كصحفيين يحملون أخبارا من سوق إلى آخر وكوعاظ يقدمون تعاليم أخلاقية يشرحون نصوصا دينية لجمهور كبير من العامة وفكاهيين ينقدون الوضع الاجتماعي أو السياسي. أما القصاصون فإنهم يقدمون دروسا في المبادئ التي نحصلها من تاريخنا وكان الموسيقيون يحولون كل تلك الأقوال إلى أغان».
إن سوء التقدير الذي شهدته الحلقة زمن الاستعمار وبعده وحولها إلى «فولكلور» تعكس هدف المستعمر لجعلها ممارسة أولاد البلد.(حتى نحافظ على عبارتهم الاستهجانية آنذاك). ممارسة قديمة تخلو من كل أهمية وغير جديرة بالعنايةبل جعلوها فرصة لمراقبة البلد المستعمر. وإلى اليوم ظل الاحتقار يرفض هذا التظاهر المشهدي ويقصيه من خصوصياتنا الثقافية.
وقد أدركت انطلاقا مما رأيت أمرا عاجلا، هو إنقاذ الموروث وأن ذلك يتطلب فكرا جديا وعملا واعيا قدر المستطاع بضرورة التوفيق بين احترام الموروث الثقافي والوعي بانسجامه مع الحاضر وقدرته على الإيعاز بالمستقبل.
ومن حسن الحظ أنه منذ سنوات بدأ الاهتمام بالشفاهية ينشأ في الجامعات المغربية، في وجدة وفاس وبني ملال والقنيطرة ومراكش وأغادير وتطوان. وهذا الاهتمام مختلف من مكان إلى آخر، فالبعض مهتم بالجمع وآخرون بالبحث والبعض الآخر بالفرجة وآخرون بكل هذه المشاغل في الآن نفسه. وينبغي القول إن كل هذه المظاهر مهمة وتتكامل.
فالموروث الثقافي بصدد الاندثار بشكل مستمردون أن يقوم جمع شامل لإنقاذه، فلا شك أن جهود الجمع موجودة ولكننا نظل بعيدين عن مكنز كامل للحكاية المغربية. فأي بحث بيبلوغرافي عن هذا الموضوع يمكن له أن يكشف الخلل سريعا.ومن هنا يتحتم حسب رأيي التفكير بجدية لدرئه.
بيد أن القول بالحفاظ على الموروث لا يعني البتة سجنه في متحف (أكاد أقول «إلجامه» مما يجعل منه حروفا ميتة).فالشفاهية لا تعيش إلا بالممارسة، فمن البديهي أن الحفاظ عليها يكون أولا عبر القول.فحكاية مقروءة ليست حكاية مروية. فالأول يفترض قاصا وجمهورا. ولعله من المستحيل عليك أن تحرمه من بعده المشهدي.إنه يندرج في حميمية كل منا بعيدا متجوزا التواصل الوظيفي اليومي الساذج. وكما عبر عن ذلك
برونو دي لاصال Bruno De la Salle
في كتابه «دفاعا عن فنون القول»
Plaidoyer pour les arts de la parole :«إن المتكلم يتكلم عن شيء بداخله والسامع يفهم ما بداخله هو.وهذا يجعلنا نعتبر القول لا وسيلة تبادل معلومات فقط ولكن أيضا تبادل حياتي جوهري.
فيبدو فعلا وهذا يمكن أن نتثبت منه مع أنفسنا ومع الآخرين بشكل أيسر أيضاأننا بحاجة إلى الكلام وإلى السماع وهذه الحاجة في مظاهرها المتعددة شبيهة بحاجتنا إلى الأكل.فالقول سواء في شكله أو في سماعه لا ينفك أن يكون غذاء لغويا يكوننا ويعيد تكويننا باستمرار.»
نقطتان أساسيتان حسب رأيي في المسار الذي ينبغي توخيه:
- استعادة الأماكن الضائعة وتجهيز البدائل.فإضافة إلى ضرورة إعادة الاعتبار لكل الساحات العامة في المدن المغربية (كما حدث مع ساحة جامع الفناء في مراكش وساحة بوجلود بفاس)فوزارات الثقافة والتعليم والباحثون والفنانون قادرون على أن يكونوا الممثلين الحقيقيين لشفاهية جديدة.
فسياسة تعاضد بين هذه الأقطاب الأربعة قد تسمح بتحقيق استراتيجية ملموسة في صالح فنون القول.
فالتكوين والسياسة الثقافية والإبداع الفني كلها أعمال ينبغي أن ندركها في معنى التكامل.
1 - فالإصلاح الجامعي يسمح اليوم بتنظيم التكوين حسب احتياجات المحيط فيمكن تصور برامج تهدف إلى تكوين وسطاء ثقافيين مختصين في مجال الشفاهية.فالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي يمكنه من جانبه إنجاز تكوين القصاص.فـ«حرفنة» هذه المهنة يمكن أن يعيد لها نفساآخر.وبفضل عزيمة هذا وذاك يمكن أن نسمح لموجة جديدة من القصاصين الجدد من الظهور على الساحة الفنية المغربية كما نرى اليوم في فرنسا. فقد نشأت طاقة جديدة بفضل الفنانين القادمين خاصة من المسرح.
2 - ويمكن للمبدعين أن يكافأوا بفضل برنامج مساندة الإبداع الذي يمكن أن تضعه وزارة الثقافة في نطاق تطوير فنون القول. فالمساعدات المالية لا تقدم إلا للإبداع المسرحي في الوقت الحالي لذلك ينبغي على وزارة الثقافة إقحام أجناس أخرى للقول:الحكاية في تصور فني.
3 - ينبغي إقحام الحكاية في مؤسسات التعليم (مدارس، معاهد...) وفي فضاءات الثقافة والساحات العامة للقاء كل أنواع السامعين وجعلهم يعيدون اكتشاف الحكاية بشكل مختلف.
وانطلاقا من هذا التصور البسيط عن وضع الموروث الشفوي في المغرب وضرورة التحرك من أجل بقائه. أريد الإلحاح على ضرورة الوعي المؤسساتي إن أمكن لي التعبير بهذا الشكل وليس الوعي الفردي فحسب.فذاك ما سيسمح بوضع خطة ووسائل عمل مضبوطة لبعث نفس جديد في هذا الموروث الجماعي المندثر بشكل تدريجي.