فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

مأساة نعيشها في حقل الثقافة الشعبية

العدد 27 - التصدير
مأساة نعيشها  في حقل الثقافة الشعبية
عضو هيأة مستشاري التحرير - الثقافة الشعبية

تعالوا نتأمل ما يحدث: على مدى عشرات السنوات السابقة قمنا بجمع آلاف الساعات الصوتية والفيديو وملايين الصور الفوتوغرافية والنصوص المدونة.. حتى تراكم لدينا كم هائل من المواد.. لن أتحدث هنا عن تعدد الجهود التي تقوم بعمليات الجمع الميداني دون تعاون مشترك أو حتى مجرد تواصل معلوماتي فقد تحدثنا كثيراً في إشكالية الجزر المنعزلة التي تعيشها مؤسسات التراث الشعبي العربي. ولن أتحدث عن مشكلة توثيق المادة بمنهج علمي رصين وإعداد أرشيف عربي موحد. بل سأتحدث عن ثالثة الأثافي، وأقصد بها «إتاحة المادة الفولكلورية» لمن يريد أن يبحث أو يستلهم أو يتخذ قراراَ.

إذا نظرنا للمراجع العلمية في العديد من الدراسات المنشورة.. فنادراً ما نجد مرجعاً يشير إلى أن هذه المادة مصدرها أرشيف كذا برقم كذا، أو أنها مأخوذة من الشريط رقم كذا بمركز كذا.. أو أن هذه الصورة من مجموعة فلان برقم كذا في الأرشيف الفلاني. ونادراً ما نسمع عن باحث استعان بمادة ميدانية لزميله، بل كل من يبحث يضطر لجمع المادة بنفسه من جديد.

المشكلة الرئيسية أننا لا زلنا نتعامل مع المادة الشعبية بعد جمعها وكأنها تحفة لايجب أن تُلمس ونظل نتشدق بعدد الساعات والصور التي نملكها، ونسينا أن الهدف هو إتاحتها لمن يريد البحث فيها.. فإذا ما شرع أحد في الاستعانة بمادة شعبية موجودة بأحد المؤسسات، سيجد العديد من العراقيل بداية من ملء العديد من البيانات الخاصة به، وهويته، ووظيفته، وصورة من بطاقته الشخصية؟ ثم ذكر سبب مجيئه لهذا الأرشيف؟، وماذا سيفعل بالمادة؟، وإقرار كتابي بأنه سيذكر المصدر؟ وخطاب من الجهة التي أتى منها، ثم موافقة مدير المؤسسة. وإذا كان كل ماسبق من قبيل الإجراء الإداري، فإن المفاجأة بعد ذلك هي عدم السماح للمستخدم سوى بدقائق صوتية معينة، أو صور محددة..إلخ. ناهيك عن عدم السماح له أساساً بحرية الاختيار بنفسه للمادة التي يريدها. وناهيك أيضاً عن عدم وجود شخص متخصص لإتاحة المادة.

أما المشكلة الأكبر في إتاحة المادة الميدانية الموجودة بالمؤسسات العلمية فهي في تصوري أشبه «بالفيروس» الذي انتشر بيننا ينخر في عظام التقدم في هذا المجال، وأقصد بها اتهام بعضنا البعض دوماً «بالسرقة».. نعم السرقة.. فكل من يحاول الحصول على مادة، أو يعمل في مؤسسة بها أرشيف، قد يُتهم بسرقتها. وأؤكد لسيادتكم أنه ما من باحث في الوسط الفولكلوري لم يطله هذا الاتهام كبيراً كان أم صغيراً.

ولا أعرف ماذا تعني سرقة مادة علمية، هل المقصود توثيقها في بحث وعدم ذكر مصدرها؟.. هذه مسألة تحدث كثيراً في المراجع العلمية، ولا يعني ذلك أن نحجب المادة عن الناس. وفي رواية أخرى أقرب إلى الكوميديا: أن فلاناً سيسرق المادة ويبيعها في الخارج بآلاف الجنيهات.. وهذه العبارة المأثورة لم نجد أية دلائل عليها، فلم نسمع مثلاً عن وجود مواد بالأرشيف المصري موجودة في أمريكا أو أوروبا ينعمون بها دوننا.. بل العكس فإن العديد من المصادر الأجنبية هي التي تحرص على ذكر مصدر المادة.

ولدي حكايات كثيرة خارج الإطار المؤسسي لأناس عاشوا عمرهم يجمعون مواداً شعبية، ولا يتيحونها لأحد خوفاً من سرقتها، أو يزعمون أنها مادتهم وليس من حق أحد الاطلاع عليها.. وأعرف أصدقاء عاشوا العمر يجمعون في مواد نادرة لم يتيحوها لأحد، ولما ماتوا. اضطر الورثة للتخلص منها باعتبارها أشياء ليست ذات قيمة.

في أبريل الماضي حضر إلى المعهد العالي للفنون الشعبية باحث أمريكي يبحث في مجال السيرة الهلالية، وأنهى محاضرته بقوله: أن جميع ما جمعه موجود على الموقع كذا على النيت. وأنه يرى أن المادة الميدانية التي قام بجمعها هي ملك للمجتمع الإنساني بأكمله، وليست ملكاً شخصياً له.

العالم كله يا سادة يتيح مادته طواعية بل والبحوث العلمية الكاملة على مواقع علمية متخصصة وتحظى بكل التقدير والاحترام لكل من أراد العلم والبحث والإبداع.. أما من كانت نيته السرقة والتشويه فلن يجد لنفسه مكاناً بيننا.. فكلما أتحنا المادة العلمية.. أصبحت فكرة السرقة غير ذات معنى..


فمتى نتعلم ثقافة الإتاحة؟؟؟

أعداد المجلة