الحكاية الشعبية في عصر الانترنت
العدد 26 - التصدير
منذ أن عرف العالم الانترنت في عام 1983 وهو يساهم بشكل فعال في تطوير مجالات التعليم والاتصالات والخدمات الصحية وخدمات شركات الطيران والبنوك، وحققت التجارة الألكترونية على شبكة الانترنت ازدهاراً كبيراً، إذ سجلت أرباحاً بمقدار 11.2 بليون دولار خلال العام 2003.
وأصبح الانترنت مثالاً واقعياً للقدرة على الحصول على المعلومات من مختلف أنحاء العالم، واصبحت له هذه السطوة القوية، والسيطرة الخطيرة على العصر، فقد فتح الآفاق، وألغى الحدود بين الدول والشعوب. وأفادت دراسة إحصائية من اليونسكو أن المعارف الإنسانية التي يتلقاها إنسان اليوم تصل إلى 900 معلومة يومياً، بينما كانت اثنان وعشرون فيما سبق، هذا بالإضافة إلى سرعة نشر المعلومة بالسرعة المطلوبة.
في المقابل أصبح جيل الانترنت والوسائط الأخرى مثل الفيسبوك والتويتر والواتس أب والهواتف الذكية أكثر انعزالية عما سبق من أجيال، وأصبح يفضل العيش فيما يسمى بالحياة الافتراضية، فهو جيل جديد منفتح على عالم أكبر لم تعرفه الأجيال السابقة، ينشغل ويتباعد عن العائلة التقليدية وعن المجتمع، ويسبب ذلك حالة من الإدمان أدى إلى خلل في أنماط حياة المستخدم لها مثل: قلة ساعات النوم، وإضعاف العلاقات الاجتماعية، وتقليل استخدام وسائل الإعلام الأخرى.
في مثل هذا العالم الافتراضي الساحر، المدعوم بالثورة المعلوماتية المتفجرة والمتغيرة، وفي ضوء التنافس الألكتروني الهائل، يبدو أنه لم يعد من السهل بمكان الجلوس والإصغاء إلى جدة عجوز تروي حكاية شعبية تنتمي إلى عالم قديم.
هل بالإمكان الربط بين الانفجار المعرفي والثورة التكنولوجية والعلمية وبين الحكاية الشعبية؟
منذ أن كان الإنسان القديم يتحلق حول النار ظلت الحكاية من أمتع الأساليب لتمضية الوقت، وكانت رواية القصص من أقدم فنون العالم، فالحكاية هي الذاكرة الشعبية في أي مجتمع، وكانت الحكايات تسلية الشعوب ووسيلتهم لفهم العالم، فكان السمر وسرد الحكايات أكثر وسائل الترفيه عن النفس شيوعاً، فقصص الجن والساحرات والوحوش الخرافية والبطولة الفردية والقصص المرحة أو الساخرة، كانت وسيلة رئيسية للتعبير عن آلام وآمال الشعوب وأسلوب تفكيرها.
فالجدة كانت تجلس في ليالي الشتاء الباردة بجوار موقد الفحم لإعداد الشاي ولسرد الحكايات على أبنائها وبناتها، معتمدة على مخيلتها وقدرتها على إحداث التشويق، واستخلاص العبر والدروس من حكاياتها، أما الحكواتي فكان يضع كرسيه في وسط المقهى بمكان مرتفع يرى فيه الجميع، ويبدأ حكاياته بعبارة (يا سادة .. يا كرام) ويبدأ في رواية حكايات البطولة والأمجاد المتوارثة عن البطولات القديمة.
الحكاية الشعبية إذن كانت تعتمد على الإلقاء والسرد وليس على التدوين، فالحكاية ليس لها مؤلف معروف، ويكاد يجمع الباحثون على أن أصل الرواية هو الأساطير والحكايات الشعبية، فأقدم رواية في العالم وهي رواية (الحمار الذهبي أو التحولات) ما هي إلا حكايات متنوعة جمعها الكاتب اللاتيني (لوكيوس ابوليوس) (125 ق م) وكتبها في أحد عشر جزءاً.
يقول الكاتب البوسني إيفو أندريتش:
(إن البشرية منذ ومضة وعيها الأول، تتداول عبر القرون نفس الحكاية بمليون شكل مختلف، على إيقاع نفس الرئة ونبضات القلب، وكأن هذه الحكايات تصبو إلى ما كانت تصبو إليه شهرزاد الأسطورية، وهو خداع الجلاد وتسويف حلول المأساة الحتمية التي تهدد، ومحاولة التوهم بالحياة والديمومة.من هذه الشرفة أرى أنه ليس مطلوباً إعادة تاريخ مضى، ولا إعادة سرد الحكايات، بل توضيح أهميتها وجمعها وتوثيقها، بلهجاتها المحلية والفاظها وأسلوبها، بعيداً عن أي تحريف، وهو بدوره يوثق للتاريخ الشفهي للجماعات.
ان العصر الجميل للحكايات الشعبية قد احتضر وانتهى، ولم يعد يهتم به أحد من الناس سوى الدارسين والباحثين الذين يعملون على جمعه وتوثيقه من ذاكرة الجيل القديم.
فالشاشة الصغيرة أخذت دور الجدة، والتلفزيون يروي للمشاهدين كل ليلة، ودون انقطاع حكايات لا نهاية لها.
ليس بوسع الحكواتي الآن أن يتحدى الفضائيات والانترنت والاختراعات اليومية. وليس بوسع المرأة المعاصرة، وهي تواجه الأوضاع الاقتصادية الصعبة، أن تجد متسعاً من الوقت لتجمع أولادها حولها لتروي لهم حكايات لم تعد تسعفها الذاكرة المتبعة.
وليس بوسع الجيل الجديد من الأبناء الذين نراهم منشغلين في عوالمهم الافتراضية الخاصة أن يتفاعلوا مع حكايات يحسبونها من خرافات الماضي.
تكمن أهمية مشروع جمع الحكاية الشعبية وتسجيلها ودراستها وحفظها بوصفها تعبيرا من تعبيرات الذاكرة الجماعية، ورافداً من روافد الإرث الثقافي للأمة.
فالغاية من تدوين هذه الحكايات ليست احياءها، وانما حفظها وتوثيقها ودراستها دراسة أكاديمية معمقة، وهو ليس بالأمر السهل، ويحتاج الأمر إلى بذل جهود كبيرة وجادة ومخلصة، لأن إضاعتها او تجاهلها هو إتلاف وإضاعة لموروث الأمة، وهو إتلاف لذاكرة الشعوب وموروثها الفني.