فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
66

خطوة أخرى على الطريق

العدد 26 - المفتتح
خطوة أخرى على الطريق
رئيس التحرير

خلال أواخر خمسينيات القرن الماضي وحتى أواخر السبعينيات زار البحرين على فترات متقطعة باحثان ميدانيان كل منهما كانت وجهته واحدة وموضوعه مختلف، فوجهة الباحثين علمية ميدانية سافرا عبر آلاف الأميال قاصدين منطقة شرق الجزيرة العربية للاستكشاف والتعرف على الفنون الغنائية بالبحرين والكويت وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان استكمالا لأبحاث ودراسات معمقة هي مشروع حياتهما العلمية الأكاديمية.

في البداية جاء إلى البحرين البروفيسور بول روفسنغ أولسن (1922-1982)، أحد أبرز علماء الموسيقى التقليدية وعضو الجمعية الدنماركية للموسيقى الشعبية، تولى رئاسة المجلس العالمي للموسيقى التقليدية (1977 - 1982) وجاء وقتها ملتحقا بالبعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار بمملكة البحرين. كان هم الرجل هو استكشاف ماذا لدى أهالي منطقة الخليج العربي من أغان وموسيقى، وقد قدر أن يكون للراحل الأستاذ أحمد الفردان ولي شخصيا حين كنت طالبا في الإعدادية أن نكون من ضمن الأدلاء المرافقين له في جولاته الميدانية على دور الطرب الشعبي وملاقاة الفنانين والمؤدين والرواة في مدن البحرين المختلفة. وقد وفق البروفيسور أولسن في تسجيل أهم فنون الغناء البحري المؤدى على سفن الغوص على اللؤلؤ إلى جانب أغاني سمر البحارة على اليابسة مضافا إليها أغاني الأعراس والمناسبات. وبكل ثقة يمكنني القول بأن ما استطاع أن يسجله البروفيسور أولسن من فنون هو أنقى التسجيلات وأقربها إلى أصول تلك الفنون قبل ذهاب مؤديها المبدعين. كاتبني أولسن بعد عودته يسألني عن مسميات بعض الآلات الإيقاعية ويطلب مني ترجمة لما سجل من نصوص وكنت أجيبه بقدر ما تعلمته وقتها من لغة إنجليزية بمساعدة مدرس اللغة الإنجليزية الأستاذ عيسى الذوادي.

استطاع البروفيسور أولسن أن يكتب دراسة قيمة عن الموسيقى والغناء في البحرين والخليج العربي تعد خلاصة لأبحاثه أسماها (الموسيقى التقليدية في الخليج العربي) وظلت مخطوطة إلى أن توفي، فكانت وفاته خسارة لهذا الحقل من المعرفة. ومن خلال موقعي بمركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية كاتبت وقتها السيدة حرمه أسأل عن أصول ما تركه الراحل ويخص منطقة الخليج والرغبة في شراء نسخ عنها والاحتفاظ بها فأجابتني وقتها بأن كل المذكرات واليوميات وأصول الأبحاث التي أجراها الراحل بما فيها المراسلات التي تمت بينه وبين الأدلاء والمرافقين أحيلت لتكون ملكا للجمعية الدنماركية للموسيقى الشعبية والتي بدورها أهدتها إلى متحف الدنمارك الوطني ومازالت محفوظة بعناية فيه. ومن حسن الحظ وبجهود رسمية مخلصة أن تهيأ لمخطوط هذه الدراسة عام 2005 أن تشترى حقوق ترجمتها ونشرها وأن يتولى قطاع الثقافة والتراث الوطني بوزارة الإعلام البحرينية طباعـتـها ونشرها بلغتها الإنجليزية الأصلية رفق ثلاث أقراص مدمجة  CD بها كل تلك التسجيلات النادرة وأن تترجم إلى العربية وتنشر وتوزع، لتعد من نفائس الأبحاث الميدانية التي لم تتناول التراث الموسيقي للمنطقة فحسب وإنما تعدته لتنفتح على كل ما يؤثره السلوك الإنساني بمختلف رؤاه ومعارفه على الموسيقى.

لقد ترك البروفيسور أولسن حصيلة وافرة من التسجيلات السمعية النادرة والمذكرات والمسودات والمقالات المنشورة في العديد من الدوريات العلمية تشكل في مجملها ثروة وجزءا ثمينا مما تعتد به أرواحنا.
أما الباحث الثاني الذي جاء إلى المنطقة في بداية السبعينيات فهو البروفيسور سايمون جارجي رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية بكلية الآداب بجامعة جنيف، وهو من أم عربية وأب سويسري يتكلم العربية بطلاقة ومهتم بجمع ودراسة الأغاني الشعبية وكان قد أصدر كتابا ثمينا قبيل مجيئه إلى المنطقة جمع فيه نصوصا من الموال في بلاد الشام قرين دراسة تحليلية. جاء الرجل إلى البحرين من بعد زيارة إلى الكويت باحثا عن نصوص تغنى على شاكلة فنون الموال في سوريا ولبنان والأردن  ليجري دراسة مقارنة، لكنه أخذ بغناء صيادي اللؤلؤ واستهواه فن الصوت الشهير بهذه المنطقة فركز دراسته على الأغاني الشعبية الخليجية وسجل برفقتي كدليل تسجيلات لأهم الفنون الغنائية الشهيرة بالبحرين ثم انتقل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وعمان ثم عاود المجيء لمرات إلى أن استكمل دراسته وأصدر ما سجله وما جمعه من معلومات وإفادات نادرة في أربع اسطوانات مضغوطة رفق كل منها مطوية تحوي المعلومات وأسماء الرواة والاخباريين والأدلاء وذلك عن طريق متحف سويسرا الوطني بجنيف أوائل الثمانينيات. وتبذل (الثقافة الشعبية) في الوقت الراهن جهودا حثيثة قطعت شوطا متقدما لشراء حقوق إعادة نشر هذه التسجيلات مع ترجمة عربية لكل مطوية من المطويات المرافقة، لتكون هذه الخطوة مكملة للخطوة التي سبقتها.

إن الجهود الميدانية المبكرة التي سعت لجمع وتسجيل الفنون الغنائية بمنطقة الخليج والجزيرة العربية هي بلا شك أعمال جليلة ونادرة، هيأ الله لها ذوي الاختصاص من المشتغلين في هذا الميدان فلولا هذه الجهود وما آلت إليه من عناية في غير موطنها الأصلي لما تم حفظها ذخيرة لأجيالنا القادمة ..

أعداد المجلة