فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

معرض قويتشو – الصين يحتفي بالثقافة الشعبية

العدد 25 - أصداء
معرض قويتشو – الصين  يحتفي بالثقافة الشعبية
كاتب من تونس

كان أغلب المتابعين للشأن الصيني واثقين, أن مستقبل التوازنات في العالم  خصوصا منها الاقتصادية,التجارية والمالية  سيكون مغايرا لما سبق انفتاح الصين الشعبية على اقتصاد السوق. ولكن لم يتوقع أحد أن يتم ذلك بمثل هذه السرعة وخاصة بمثل تلك النجاعة  والفاعلية. في سنوات معدودة تبوأ الاقتصاد الصيني المرتبة الثانية عالميا. وشهدت الموازين التجارية والمالية فوائض ذات اعتبار لفائدتها. وتدخلت الدولة أكثر من مرة لتعويم العملة الوطنية بحيث تضل في تداولات الصرف أقل من قيمتها الحقيقية.

ولا ينضب حديث الأرقام عن النجاحات الهائلة التي تحققت للصين الشعبّية على جميع المستويات الاقتصادية والصناعية والتجارية والمالية والعلمية.
كان لافتا أن هذه النهضة العارمة التي تعلقت بأكثر من صعيد لم تكن منصبة على التكنولوجيات المعاصرة في مختلف أبعادها فحسب. وإنما تركزت أيضا – وهذا من وجوه المفارقة والتميز في النهضة الصينية الحديثة – على ما يكوّن الشخصية الصينية ويبرز هو يتها عالميا. فكانت العناية بالمحلي صنو الشغف بالعالمي والاحتفاء بالثقافة الشعبية لا ينفصل عن الاهتمام بالثقافة العالمة.ولم يكن بدعا والحال ذاك أن يكون فرع الصين للمنظمة الدولية للفن الشعبيI.O.V)  ( من أنشط فروع المنظمة وأكثرها إقداما على المبادرة.

في هذا السياق دعينا إلى معرض « قويتشو « للحرف الشعبية والمنتجات الثقافية الذي انتظم من 13 إالى 19 نوفمبر 2013 ب قويان (GUIYAN)عاصمة الإقليم التي تقع في الجنوب الغربي للصين في منطقة جبلية على علو 1,100 متر ويبلغ تعداد سكانها 4.324.569 نسمة وذلك سنة 2010.
بدءا, لم تكن إقامة هذا المعرض في هذه المنطقة بالذات مجرّد اعتباط فهي رغم مساحتها الجغرافية المحدودة قياسا بمساحة البلاد إذ لا تمتد إلا على 8,034 كلم مربع فهي تضم 23 قومية من جملة القوميات ال55 المعترف بها في الصين الشعبية مع حضور قوي لقومية المياو (MiaoPeople) قياسا بقومية الهان الغالبة على الصين حيث أنها تمثل 91,9 % من مجموع سكان الصين الشعبية. وبصرف النظر عما يقال عن تعامل الصين الشعبية مع أقلياتها القومية , فقد بدت إقامة معرض قويتشو هذا في قوييان عاصمة المحافظة استثمارا في التنوع واستفادة من الاختلاف والتعامل معه باعتباره جزءا من الثروة الوطنية المشتركة بين الجميع. ولقد تيسر لنا أن نرى ذلك رأي العيان.

تبدو قوييان مدينة في عنفوان نهضتها العمرانية والاقتصادية. بنية تحتية تنبئك عن المستقبل المشرق الذي ينتظرها. وشبكة مواصلات عصرية وورشات عمل في كل مكان. لكن ذلك جميعا لا يخفي بساطة أهلها وطيبتهم.ومن وجوه ذلك حفاوة قوييان بالوفود القادمة إليها من مختلف أرجاء المعمورة فقد يسرت لهم أسباب الإقامة والراحة قبل يوم و يومين وثلاثة من انطلاق الفعاليات. تلك نفحات كرم الشرق التي لم تنل منه معالم الحداثة الزاحفة.

خصص مساء اليوم الأول لزيارة موقع المعرض الذي تحولت إليه الوفود على متن ثلاث حافلات كبرى ملأتها حقائب ومشغولات يدوية وبضائع كأن الضيوف جاؤوا بها لأمر يتجاوز مجرد العرض. حدد الناس مواقعهم وشرع بعضهم في محاولة ترتيبها على النحو الذي يلائم طبيعة المعروض لديه. لكن التعليمات جاءت لا تتركوا شيئا مما جئتم به. لم تكن الزيارة إلا لمجرد الرأي والتدبير. عادت الوفود بعد أن تحددت لها مواقعها وقدرت كيف سيكون الشأن معها عند انطلاق فعاليات المعرض التي ستستمر ثلاثة أيام كاملة.

أقيمت افتتاحية المعرض صبيحة يوم 15-11-2013 بالقاعة الكبرى التي هرع لها أعضاء الوفود بعد أن أودعوا أغراضهم في الأروقة المخصصة لهم.
غصت القاعة بالحضور وانتصب كبار المسؤولين المحليين بمدينة قوييان فوق الركح إلى جانب المشرفين على المعرض تتوسطهم كارمن باديلا رئيسة المنظمة الدولية للفن الشعبي , وايما شان هوفلر Emma Chen Hoefler نائبة رئيسة المنظمة رئيسة فرع الصين للمنظمة عينها توسطا يبرز مدى الاهتمام الذي تحظى به الثقافة الشعبية في بلد التنين.
ألقيت جميع الكلمات الترحيبية باللغة الصينية وترجمت فورا إلى الانجليزية وانطلق المعرض.

    ثلاث قاعات كبرى ضمت ردهات المعرض المختلفة. أما الأولى فقد خصصت في المنطلق للوفود القادمة من أرجاء المعمورة.  وأما الثانية فكانت للمنتجات الصينية الشعبية فلاحية كانت أو يدوية. وأما الثالثة فقد كانت خالصة للمشغولات اليدوية الصينية.

قسمت القاعة الأولى بحسب القارات الخمس آسيا, إفريقيا, أروبا, أوقيانوسيا، أمريكا. ولكن غياب بعض البلدان وبقاء ردهاتها شاغرة فتح باب «السياحة» والانتقال من موقع إلى آخر. ثم كان فتح الأبواب لمختلف الحرفيين المحليين للتنقل بين القاعات فجعل بعضها مكتظا اكتظاظا وبعضها الآخر يكاد يكون قفرا.
بعض المواقع غلب عليها العرض الفني للمشغولات اليدوية أو المنتجات الثقافية وهو في الحقيقة قليل والأغلب الأعم غلب عليه البعد التجاري.
بين النسج وتجميع الخيوط ( مصر, الصين, بلغاريا, الهند ) والحفرفي الخشب(هولندا, تشيكيا) والمشغولات الفضية ( مقاطعات مختلفة في الصين ) الحجارة الكريمة ( الصين, النيجر ) مشغولات من العنبر (لاتفيا) النحت (مقاطعات صينية ) الآلات الموسيقية (فرنسا, الصين ) الرسم بالشمع (قويتشوالصين ) الحروفيات (البحرين, الصين).. بين كل ذلك تتعدد البلدان وتختلف معروضاتها السعودية, الكويت, اليمن, البحرين, مصر, لاتفيا, بلغاريا, التشيك, الهند, النيبال, كينيا, الكامرون, الصومال, نعم ! حضرت بلاد وغابت أخرى وتنافست في العرض وخاصة في البيع والشراء. تقترب من المعروض وتبتعد ويظل عالقا بذهنك تنوع ما رأيت من قدرة الانسان على الإبداع. مهارة حباه بها الله, تحول الخيوط إلى منسوجات عجيبة الأشكال تختلف بإختلاف البلاد وثقافتها وعاداتها وتقاليدها. باقات ورد بألوانها النابضة حياة, ولوحات ليس عزيزا عليها أن تجد طريقها إلى أرقى القاعات. مهارة تحول الخشب والحجارة إلى كائنات عجائبية أسطورية بين الإنسان والحيوان وتتعدد الأشكال وتتكاثر الألوان وتختلف المجسمات لكنها تتفق جميعا في إبراز قدرة الانسان على محاورة الكيان من خلال إدراكه المخصوص له.

ومن ألوان محاورة الكون تجد المشغولات النفخية والإيقاعية التي اختصت بانتاجها بلاد عديدة من مختلف القارات والتي كانت تشد اهتمام الناس وتشد فضولهم كلما حدث عزف أو إيقاع.
كان الرسم بأنواعه المختلفة حاضرا في هذا المعرض حضورا قويا لافتا خصوصا منه ذاك الذي يتخذ من الشمع مدادا له. فقد بدا أنه من هوايات أهل الصين الأثيرة ردهات كثيرة شغلها حرفيون وحرفيات. يرسمون الموتيفات المختلفة على قطع القماش أو الورق السميك. يذيبون الشمع على ألوان مختلفة. ثم يجرونه على رسومهم في عناية أي عناية ! ويظلون مع «اللوحة»  ينتقلون من لون إلى آخر إلى أن ينتهوا بها إلى غايتها. يتأملونها بعد الفراغ منها كأنهم يلتقون غائبا عائدا من بعيد. عندها يمكن أن ينتبهوا لوجودك ويهتموا بفضولك.
المشاركة العربية كانت محدودة لكنها مهمة. شدت الاهتمام. ساهمت الكويت بوفد يقوده الدكتور صالح حمدان الحربي. وضم صانع بشوت   ماهر خبير, وأحد المهرة في المشغولات المتخذة من سعف النخيل وآخر فنان في صناعة المركبات البحرية يصنع لها مجسمات حظيت باهتمام رواد المعرض.  

كذلك كانت المشاركة المصرية قوية الحضور بجدائل خوص النخيل والرسوم على ورق البردي, رسوم احتذت الجداريات الفرعونية على نحو اشتهر باعتباره اختصاصا مصريا. أما المنسوجات المعروضة في هذاالرواق  فقد كانت فائقة التميز. حظيت باهتمام الزوار وجائزة المعرض .
أما الرواق البحريني فقد شغله الفنان, الخطاط محمود الملا. عرض لوحات له أبدع فيها تشكيل الألوان وأجاد إخراج حروف العربية مبرزا طواعيتها في الانتقال من مجرد التواصل العادي, إلى تواصل فني آسر شد اهتمام الزوار عامة والصينين منهم على وجه الخصوص. وحتى يزيد من إبهارهم فقد جند موهبته لإسعادهم. إذ كان يعمد إلى رسم أسمائهم بالعربية. أمر يبدو بسيطا لكن لا تسأل عن انبهار الصيني به وتهافته عليه وصبره الطويل وسط الزحام حتى يفوز ب «لوحة » تحمل اسمه , بحروف أخرى غريبة عنه لا يدري كيف استطاعت أن تعرب عنه! فإذا ادرك مبتغاه أخذ اللوحة مندهشا وطلب منك حيث عرف أنك عربي أن تقرأ ما فيها فإذا نطقت بما تحمل زادت دهشته وعلت محياه سعادة لا توصف وقال لك ما معناه: هذا أنا.
قريبا من الرواق البحريني كان الخطاط الصيني يرسم إسم الراغب من الزوار بمبلغ محدد لاينزل عنه, كأنه يبيع بضاعة ثمينة. لذلك قل أن ترى أحدا يطيل الوقوف عنده. أما الرواق البحريني فلا تسل عن الزحام أمامه والمار من الزوار يسأل بكم اللوحة ؟ فيجيبه أحد الجماعة إنها بالمجان ! وقد يتولى الفنان نفسه الإجابة إن كانت السائلة بنتا: بقبلة واحدة ! فيتعالى ضحك الجميع. ويتمسكون بالحصول على  «لوحتهم».لايثنيهم طول الانتظار عن ذلك.

كان الرسام سعيدابكثرة الراغبين في فنه يعمل دون كلل حتى نفاذ كمية الورق لديه. عندها يتوقف ريثما يحصل على كمية أخرى ليعود إلى منتظريه.
لقد أبرز معرض قويتشو أن الثقافة الشعبية عنصر أساسي في النهضة الصينية الحديثة في أبعادها الانسانية والاجتماعية والاقتصادية.

أعداد المجلة