فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
58

رقصة أحيدوس طقوس جماعية لإعادة الشمس من موطن غروبها

العدد 25 - موسيقى وأداء حركي
رقصة أحيدوس طقوس جماعية لإعادة الشمس من موطن غروبها
كاتب من المغرب

تعكس الفنون الشعبية المغربية مشتركة تراثا موسيقيا وغنائيا أصيلا وإلهاما شعبيا ضاجا يترجم كل جهة من جهات المملكة باختلاف طقوسها وعاداتها وتقاليدها.
فمن الأطلس الكبير والصغير بالشمال إلى الوسط حيث قبائل الشاوية وعبدة إلى الجنوب حيث موسيقى الصحراء.. مزيج غنائي وموسيقي ساحر تماهى لقرون مضت و في تماس عجائبي مع بعضه البعض ليخلد أحد أجمل أشكال الإبداع الإنساني المفعم بالبداوة والبساطة.

«أحيدوس» كلمة أمازيغية تعني الرقصة الجماعية المتميزة بخفة الحركة والسرعة وتمتد هذه الرقصة الجماعية الفلكلورية من الجنوب الشرقي للمملكة إلى الشمال الغربي وتنتشر أساسا في جبال الأطلس المتوسط حيث الطبيعة الغناء وحيث تكتمل العناصر الأساسية لرقصة أحيدوس.. وهي الشعر والغناء والرقص والإيقاع وقد ارتبط  فن أحيدوس بوسطه الطبيعي والجغرافي لإنسان الأطلس المشبع بالمياه والأعراس والجبال والمنتجعات الغنية بالخضرة والمنابع، وحافظ هذا الفن الذي ظهر منذ قرون على طريقته وإيقاعاته وشكله الدائري والذي قوامه النساء والرجال على حد سواء تعبيرا عن الفرحات الجماعية التي تواكب إحياء الإنسان لحياته الجبلية والزراعية في سهول وتخوم المتوسط.
ويعتبر «البندير» أو الدف الآلة أو الأداة الموسيقية الوحيدة المستعملة في الإيقاع وترافقه بالضرب على الأيدي فرق نسائية ورجالية في شكل دائري متماسك قوامه الأكتاف وتارة الأيدي، ويصمم الرقصات رئيس الفرقة (المقدم) في لوحات متناسقة موسيقيا وحركيا بالقدر الذي يمكنه من التحكم في حركات وصرخات أزيد من خمسين فردا من رجال ونساء تستثنى منهن وبصفة خاصة النساءالمتزوجات.
وتعتمد هذه الرقصة الجماعية على خفة الحركة والدوران السريع والتنقل بسرعة فائقة وتعتمد بالأساس على النداء والإيقاع فالنداء هو ارتجال غنائي منفرد يسمى «تماويت» ويكون في مقام الصبا غالبا ويؤديه مغن ذو صوت قوي وحاد أما الإيقاع فهو إيقاع معتدل السرعة يمكن تقليصه إلى النصف في بعض المناطق الأخرى ويتكون من خمس عناصر أولهما إيقاع شبيه بإيقاع طائفة حمادشة (مغربي تراثي) ثم إيقاع خماسي مقلص إلى زمنين ونصف الزمن شبيه بالكباحي في الملحون، وأخيرا إيقاعات ثنائية ورباعية وهي الأكثر استعمالا في الموسيقى الشعبية المغربية.
أما بخصوص مقامات أحيدوس فيمكن أن نصادف أنغاما تستمد تركيبتها من مقامات شرقية كالصبا والبياتي لكن استعمالها في الموسيقى الأمازيغية يعطيهاطابعا محليا خاصا.
هذه الخصوصية يفسرها الباحث في فن أحيدوس الحسين الدمامي حين يوضح أنه لا يمكن الحديث عن احيدوس بنمط واحد مشيرا إلى أن هذا الفن يختلف من قبيلة إلى أخرى وداخل نفس القبيلة يتم التمييز بين عدة أنواع من أحيدوس، معتبرا أن محور دوران رقصة أحيدوس هو نفس محور دوران الكرة الأرضية أي من جهة الشرق حيث تنبعث الشمس من موطن غروبها مضيفا أن الدليل الميداني على ذلك هو أن رقصة أحيدوس تتم ليلا وتنتهي مع بزوغ الفجر حيث نجمة الصباح تؤذن بعودة الشمس من رحلة الغروب من جديد وذلك ما يضفي طابعا رمزيا على مسار الرقصة التي تتحرك من جهة اليمين جهة اليمن والعطاء يختم الباحث دمامي الحسين.
رمزية أيضا يستحضرها الشاعر الأمازيغي والباحث ميلود الحور في أشعار رقصة أحيدوس مشيرا إلى أن مضمون هذه الأشعار لايخلو من السخرية مع التركيز على تجنب الخطابة وكأن الناظم يوضح ميلود الحور يمتحن قدرة الخصم المفترض على الفهم وفي نفس الوقت يضلل الكلمات حتى لاينعكس مفعولها السحري ضده طالما أن المرقص هو مكان «حرم» مما يعرض خارق طقوسه إلى الإصابة باللعنة.

أحيدوس والشعر
رقصة أحيدوس هي أيضا مجال للتنافس الشعري بين «نظّام» الكلام الذين يعكسون العلاقات الاجتماعية المحكومة بالتوتر والمنافسة، بمعنى يوضح أحد شيوخ أحيدوس أن الرقصة مجال لتمرير التنافس حيث تصبح الكلمة أداة لفرض الهيبة أو تحصيل الجاه...
شرارة التنافس بين «الناظمين» في الرقصة تخف حدتها كلما قربت الرقصة على الانتهاء وغالبا ماتنتهي بأشعار طلب الغفران والمسامحة وكأن الرقصة مثل الحكاية (تبدأ بطقس صعب وتنتهي النهاية السعيدة ) فرقصة أحيدوس في الأصل كما يعتقد العديد من الدارسين لهذا الفن هي مناسبة للتطهير ولتفريغ العدوانية بنوع من التسامي الشعري الذي يبقى دون غيره من طرق الخطاب القابل للتأويل خاصة حين يؤخذ القول الشعري في رقصة أحيدوس كعلامات للتفاؤل ولتحصيل البركة والأمل وطلب الخير وأداة لقراءة الطالع أو تعجيل الفرح.

فن «العيطة»
تراث موسيقي أصيل يعكس إلهاما شعبيا ضاجا
فن «العيطة» في المغرب من الفنون الشعبية التراثية والأصيلة التي ارتبطت في كلماتها بملكة شعرية شعبية ثرية تستنجد بالسلف وتستنهض الهمم وتستحضر الغياب والفرقة واللوعة بفواصل موسيقية وإيقاعية ضاجة لا تستطيع معها الأجساد كتم الرغبة في الرقص.
يراد بمفهوم «العيطة» النداء، حيث تنادي «الشيخات» (و هن النساء المؤديات والراقصات في المجموعة الغنائية) استنجادا بهمم القبائل والرجال في إشارة إلى حكاية شعبية قديمة بطلها أحد القواد الذين نصبهم الاستعمار الفرنسي لكبح جماح القبائل الثائرة آنذاك، فقام باختطاف امرأة حرة وجميلة من أحدى القبائل لتظل ترفضه وتتحداه إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة.
الباحثون في المغرب يصنفون فن العيطة إلى ثلاث أصناف رئيسية ظهرت أساسا على امتداد السهول الوسطى للساحل الأطلسي وبالأساس بالشاوية وعبدة ودكالة مرورا ببعض المناطق القريبة منها والمجاورة لها وهي أنماط رئيسية حددت في النمط المرساوي والنمط الحوزي والنمط الملالي، فيما تأتي أنماط أخرى تصنف كفروع وهي الحصباوي والجيلالي والساكن والورديغي إلا أن الأبحاث الحديثة تقر بوجود فروع أخرى بالنظر إلى تعدد لهجات الغناء في المغرب وتنوعها، مشيرة إلى أن المشترك الكبير في كل هذه الأصناف والفروع من غناء العيطة هو استقاء شيوخ ونظام العيطة مواضيعهم من الحياة الاجتماعية للإنسان المغربي والتي غالبا ماتكون عبارة عن قصائد العشق والمتعة والذم والتغني بالطبيعة والجمال فيما لايعني الفرق في الإيقاعات الموسيقية إلا صنف العيطة الجبلية التي تمتح من إيقاعات أمازيغية وإن كان ذلك بدرجة أقل.

الشيخات
تتكون فرقة «»الشيخات» من الشيخ وهو لقب يطلق على عازف الكمان وثلاث مرافقين له الذين يشكلون الإيقاع على الدفوف (البنادر) والطعريجة (آلة إيقاعية صغيرة الحجم لها صوت رنان) ثم أربعة «شيخات» على أن تكون بينهن «العياطة» التي تؤدي مقاطع العيطة بصوتها الجهوري المتميز فيما باقي الشيخات يرددن بعضها ويتمايلن أو يرقصن على الإيقاع الراقص عند كل قفلة (القفلة في العرف هي الفواصل) وتنصب موضوعات غناء العيطة على موضوعات مختلفة تعكس إلهاما شعبيا ثريا لدى شيوخ وشيخات العيطة حيث تتنوع بين موضوعات العشق واللوعة والحسرة والفراق وتعب الرحيل والتغني بالجمال والطبيعة، وحيث تفننت العيطة كثيرا في ترجمة طبيعة وأنماط الحياة الاجتماعية لمناطق وجهات وتجمعات سكنية من المغرب ماجعل من هذا الفن الشعبي الأكثر انتشارا وأحد المكونات الأساسية للتراث الموسيقي المغربي الذي يعد دليلا حقيقيا على هوية ثقافية وفنية وحدت المملكة ببواديها وحواضرها سهولها وجبالها ولمئات السنين وفي صمود هذا الفن حتى الآن والذي ما تزال «عيوطه» وبرواله تصدح في كل المناسبات والفضاءات بمباركة الزغاريد وطلقات البارود ما يعكس حقيقته كفن أصيل.
«خربوشة»
«خربوشة» من أشهر أغاني فن العيطة،وهي الأغنية «الحكاية» التي تعد من كبريات القصص الشعبي التي تحظى بإقبال شعبي كبير وتتفنن فرق «العيطة» في أدائها بأسلوب شيق ومتسلسل يسرد قصة امرأة حقيقية تحولت إلى أسطورة، وكانت عنوانا للتحدي بمواقفها القوية الرافضة للظلم ومقاومتها لبطش وطغيان القائد عيسى بن عمر الذي سباها فخلدته في «عيوطها» بعد موتها بأقبح الصفات
سير أعيسى بن عمر
أوكال الجيفة
أقتال خوتو
أمحلل الحرام
سير عمر الظالم
مايروح سالم
وعمر العلفة
ماتزيد بلا علام
وراحلفت الجمعة مع الثلاثاء
ياعويسة فيك لابقات
وهي كلمات شعبية دالة تعكس خيانة هذا القائد وتصفه بقاتل إخوته وتتوعده بالآتي بكلمات تتفجر غضبا،وبنظم محموم وقول فتاك،وكانت آخر كلمة تلفظت بها «خربوشة» قبل رحيلها قولها لحارسها في السجن (قل لقائدك الحب بزاف عليك) أي مامعناه أنها تستكثر على هذا القائد الذي سباها الحب ومعنى الحب.

الحاجة للصيانة والتدوين
اليوم وكباقي الفنون الأصيلة يعرف هذا الفن بعض التشويه والتمييع خاصة مع تناقص عدد الحفاظ والحافظات «للعيوط»، حيث تتسع رقعة المساس بالقيمة الفنية للعيطة كما يردد عشاق هدا اللون الموسيقي والغنائي فبدعوى التجديد والتحديث يتم تشويه أصول وثوابت فن العيطة وهو الأمر الذي يعكسه الدكتور حسن نجمي المهتم والباحث بفن العيطة موضحا أن هناك خلطا كثيرا في غناء العيطة عندما يتم تشويهه من بعض الأفراد الجدد الذين لا يستوعبون المغزى فيغيرون في المخزون الشعري لغناء العيطة مشددا على أن العيطة في حاجة ماسة إلى تدخل الدولة لصيانتها وتدوينها وإعادة الاعتبار لشيوخها وشيخاتها اجتماعيا وماديا.
الموسيقى الحسانية الصحراوية
 تماس إفريقي وعربي ساحر
الموسيقى الحسانية هذا المزيج الساحر مابين الموسيقى الإفريقية والعربية..هي عنوان شاعرية مفرطة لإنسان الصحراء من بلاد البيطان (موريتانيا حاليا ) إلى جنوب الصحراء المغربية حيث يتوحد الشعر والغناء والإنسان والمكان.
ارتبطت الموسيقى الحسانية في الصحراء المغربية بالشعر الحساني حيث سمي المغني بالشاعر وسمي الشاعر بالمغني لأن كل مقام من مقامات الموسيقى الحسانية يغنى في بحر أو أبحر خاصة من الشعر الحساني الذي يمكن اعتباره امتدادا للشعر النبطي العربي القديم حيث أن سماع الأغاني الحسانية يعني تمثل بناء شعري فريد في توزيع الأغاني وقد لعب على مر التاريخ المغني الحساني دورا رياديا في مجتمعه الصحراوي، وحظي باحترام كبير بالنظر إلى أن الغناء الحساني في هذه المجتمعات الصحراوية المغلقة اكتسب لسنين طويلة عن طريق الوراثة وفي مجال عائلي ضيق ومحتكر ما أعطى للشعر والغناء الحساني تلك الحظوة والقوة والتأثير وأعطى للنشاط الغنائي الحساني هيبته وطقوسه التي لا تنتهك حيث تعد الخيمة الصحراوية المكان المناسب لكل نشاط غنائي حساني بما يرافق ذلك من ذبح الذبائح وإعداد اللحوم المشوية بحليب النوق والشاي الصحراوي الذي يعد من العادات المتأصلة في الصحراء.

النفس العربي
النفس العربي في الموسيقى الحسانية هي أحد المميزات الكبرى لهذه الموسيقى حيث يظهر ذلك جليا في الإيقاعات وخاصة إيقاع « الطبل» هذا الأخير يشكل الجزء الأهم في هذا النوع من الموسيقى خاصة عندما تترافق إيقاعاته الرنانة مع براعة الرقص الصحراوي الذي تتفنن فيه بشكل خاص النساء اللواتي يقمن بحركات تعبيرية بالأيدي والأصابع المخصبة بالحناء في تماه ساحر وناعم ومحسوب بين الجسد والموسيقى وقد فرق المهتمون بالفن الحساني مابين الرقص لدى الرجال والرقص النسائي حيث يعتبر محمد بابا ولد حامد أن الرقص أو (الركيص باللهجة الحسانية ) فن إيقاعي لدى الرجال وهو أكثر حركية وأكثر التصاقا بالشباب ويعطي مثلا برقصة « كيرى» التي يؤديها رجلان متقابلان يقتصران فقط على تحريك الأرجل، أما فيما يخص الرقص النسائي فيلاحظ الباحث ولد حامد أن النساء المسنات يرقصن وهن يضعن اللحاف الصحراوي على وجوههن مكتفيات بحركات اليدين أو ما تسمى ب «الترتيم» على إيقاع موسيقي هادئ بعكس الفتيات الشابات حيث يرقصن الرقصة الأكثر صخبا وهي رقصة «كمبة» والتي تقترب في جوهرها من رقصة «الكدرة» الأكثر شهرة في الغناء الحساني والمتميزة بإيقاعاتها الهزازة واحتفاليتها والتي تتميز دون غيرها من الرقصات برقص امرأة واحدة وسط حلقة (دائرة) من الرجال يضربون بالأكف ويلفون في أماكنهم في طقس بهي وحماسي منقطع النظير.

الطبل
الطبل في الموسيقى الحسانية هو صانع اللحن الصحراوي المتميز وعنوان الإيقاع الصحراوي الذي ارتبط بالمكان لآلاف السنين حيث يعد من أهم وأعرق الآلات الموسيقية التي يستعملها المجتمع الحساني الذي برع أهله في صناعته من مواد بسيطة ومتوفرة في مجتمعات صحراوية كجلود الماعز والخشب المأخوذ من الشجر المنتشر في الواحات الصحراوية، وقد أبدع وتفنن الفنان الحساني في الحصول على صنوف صوتية بديعة وجذابة عن طريق آلة الطبل التي صارت أهم الآلات الموسيقية التي يفضلها الصحراويون عن غيرها من الآلات التي تستعمل في كل الطقوس والمناسبات دون استثناء.
وقد كتب الكثير عن الطبل كآلة عريقة موغلة في القدم حيث يعتبر البعض أنها تعود إلى حوالي 6000 سنة قبل الميلاد، فيما تحدثت الكثير من الكتابات عن المكانة المقدسة التي حظي بها الطبل في الحضارات السومرية والبابلية وفي بيوت الحكمة والهياكل الدينية القديمة.

الآلات الموسيقية
إذا كان الطبل كما يقال أب الموسيقىالحسانية فإن ميزة الموسيقى الحسانية أنها استعملت دائما آلات موسيقية تقليدية يصنعها صناع حرفيون تقليديون في تماس مع شكل ولون وزمان ومكان الموسيقى الحسانية ومن بين هذه الآلات نجد آلة « التدنيت» وهي آلة موسيقية تقليدية عبارة عن خشب دائري عليه طبقة من جلد الغنم وخشبة طويلة مصنوعة من شجر محلي وعليها أوتار كانت تصنع قديما من ذيول الخيل أما الآن فتصنع من أمعاء الشاة بعد ذبحها وهي آلة رجالية يعزف عليها الرجال فقط وهذا طقس مقدس لأنه من النادر وأحيانا من العار أن تعزف النساء على آلات الرجال والرجال على آلات النساء آلة «الاردين» هي آلة موسيقية نسائية بامتياز في الموسيقى الحسانية وهي آلة لا تختلف كثيرا عن آلة « التدنيت « الرجالية باستثناء أوتارها التي تنقسم بين الوتر الطويل والوتر القصير عكس الأوتار الطويلة جميعها في آلة التدنيت الخاصة بالرجال وهي آلات إلى جانب آلات أخرى مساعدة أو مكملة في الموسيقى الحسانية كالربابة والناي والمزمار والتي يبقى الطبل فيها روح وجوهر هذا النوع من الموسيقى الساحر والعتيق.

«الكدرة»
رقصة إنسان الصحراء وهي واحدة من أعرق رقصات المجتمع الصحراوي في الجنوب المغربي.
رقصة «الكدرة» هذا التجانس العجائبي بين الحركة والصوت المعطر بعطر الجذور الإفريقية.. التعبير الخالص لإنسان الصحراء في قبائل عريقة حيث عشش التصوف وانعكس على الكثير من أوجه إبداعات هذه التجمعات المتفردة.
لا تتأتى رقصة «الكدرة» دون الآلة الإيقاعية الرئيسية وهي «الطبل» أي «الكدرة» الذي هو في الأصل عبارة عن إناء خشبي مغطى بجلد الإبل أو الغنم ومشدود بحبال من نفس الجلد ومزركش بالحناء كعلامة رئيسة لطبل رقصة الكدرة الذي يخضع قبل استعماله كآلة موسيقية في الرقصة لمراسيم خاصة واستثنائية عجائبية تقترب من «القداسة»، حيث إن عملية ربط قطعة الجلد على فوهة الإناء، تتم داخل إطار شعائري، يكمن في إنشاد كلمات ذات بعد ديني وهو ما يعني دخول الإناء إلى مجال المقدس.
وحسب المشتغلين على رقصات الشعوب العريقة فان رقصة الكدرة هي عبارة عن مسرحية مرتجلة يؤديها أساسا الشباب الذكور الذين يوزعون المهام بينهم حيث يقوم العارفون بالإيقاع بالضرب على الطبول بواسطة قضيبين خشبيين (المغازل) فيما يتحلق الآخرون في شكل دائري مرددين نشيدا على شكل حوار حول موضوع معين يتم اختياره مسبقا، لتأتي المرحلة الفاصلة في رقصة الكدرة حين تدخل وسط حلقة الراقصين فتاة في كامل زينتها ملثمة لا يظهر منها إلا العيون تؤدي بدورها رقصات تزيد من حماس الرقصة ليأتي بعد ذلك الدور على البطل الذي يدخل ليكشف القناع عن الفتاة ويتعرف على محاسنها ويعلق على صدرها خنجرا دلالة على حمايتها وفي ذلك إشارة إلى أنه اختار زوجة المستقبل ليشتد بعدها الإيقاع إيذانا بانتهاء الرقصة ولتستأنف من جديد بعد استراحة قصيرة بنفس الشباب وبفتاة أخرى.

سؤال القداسة
من بين أكثر الأسئلة المثيرة التي لم تجد لها جوابا والمتعلقة برقصة الكدرة هناك سؤال القدسية التي ارتبطت بهذه الرقصة وطقوسها حيث توارثتها الأجيال في مجتمع صحراوي قبلي منغلق في إشارة إلى توارث كنز تراثي نفيس ومن ذلك ما يعطي لبعض التفسيرات والقراءات دلالاتها فقد ربط العديد من الباحثين بين هذه الرقصة وبين طقوسها الصوفية حيث تنبني غالبية الكلمات التي تسرد أثناء الرقصة على أدعية وأهازيج مفعمة بالمعاني الدينية التي تناجي الرب وتطلب العفو والغيث (المطر) والنجاة من عذاب القبر والآخرة وقد فسر الدكتور عيسى الطوسي في قراءاته لرقصة الكدرة التي تؤديها راقصة شابة أن الجسد يتناسق في حركاته مع الصوت(النشيد) في إشارة إلى الشطحات الصوفية التي يراد منها بلوغ الحقيقة الإلهية..وفي ذلك ما يفسر أن راقصات «الكدرة» يفقدن التواصل بالعالم الخارجي أثناء تأديتهن للرقصة ما يزيد من غموض هذه الرقصة الخالدة.

رقصة الأعراس
المجتمع الصحراوي في مناطق بعينها من الجنوب المغربي يحرص أشد الحرص على الإبقاء على العديد من التقاليد والعادات القديمة والتي تحولت إلى طقس لازم هذه القبائل في كل مناسبتها الموسمية والمناسباتية كالأعراس مثلا التي لا يمكن إحياؤها دون أن تكون رقصة «الكدرة» مثلا أحد أهم مكونات الفرحة والانتشاء لما تمثله في ذاكرة ومخيال وروح إنسان الصحراء من علامات الفرح التي تعكسها بجلاء الرقصة والتي تتميز أساسا بخفة الحركة وتزامنها مع الإيقاع الرنان للطبل الذي يترك صدى مميزا ومختلفا وساحرا في نفس وشعور متتبع حلبة الرقص، فرقصة «الكدرة» حسب الباحث في المجال الاستاذ بلعيد أطوي هي نتاج البيئة البدوية الحسانية صيغت في قالب يناسب الحياة في الصحراء و ترتبط بالجماعة في نشاطها و احتفالاتها و في جو تحدوه التلقائية، العفوية، و روح الإبداع، و لغة متعددة الدلالات والمعاني و خطاب جسدي مرئي يقول ما لا يمكن أن ينطق به اللسان. وهو لغة معبرة تتكلمها كل أعضاء الجسد.

موسيقى «اكناوة»
طقوس خاصةومناجاة الزنوج العبيد لأرواح خفية.
رغم أن المغرب معروف بتعدد «الطوائف» الموسيقية - كعيساوة وجيلالة - واحماد اموس...إلا أن طائفة «اكناوة» تبقى الأهم من حيث شهرتها وأتباعها في كل أنحاء العالم،ورغم كل ماقيل وكتب عن هذه الموسيقى فإنها ستظل غامضة ومحملة بثقل الأساطير والأزليات المفعمة بالإرث الإفريقي والأمازيغي والعربي على السواء.

موسيقى العبيد
كناوة الحقيقيون ينحدرون من سلاسة العبيد الذين تم استيرادهم نهاية القرن 16 الميلادي إلى المغرب خلال العصر الذهبي للإمبراطورية المغربية وخاصة من السودان الغربية أي دولة مالي حاليا وتعد كلمة «كناوة» تحريفا للاسم الأصلي الذي هو «كينيا» وما تزال عدد من المدن المغربية شاهدة على آثار هؤلاء العبيد الذين اضطروا إلى تأسيس زواياهم الخاصة بهم والحفاظ على طقوسهم السودانية خاصة بمدن مراكش والصويرة والرباط ومكناس،فيما تعد مدينة الصويرة المقام الروحي لطائفة العبيد داخل المغرب لتوفرها آنداك على ميناء بحري مهم ومركز تجاري كبير على ساحل المحيط الأطلسي ومنها كان يتم استقدام العبيد مع الذهب إلى المغرب.

طقوس موسيقية خاصة
يصر أعلام الموسيقى «الكناوية» على أنها موسيقى بطقوس خاصة ولا تتأتى في الظروف التي يمكن أن تتأتى بها أي موسيقى أخرى فموسيقاهم مناجاة ومغازلة للأرواح الخفية وهي سليلة عذابات الزنوج العبيد في دهور القهر يتوسلون بالإيقاعات القوية والألوان والقرابين وإحراق البخور كي تتم معالجة المسومين بالجان بآلات موسيقية خاصة وهي «الكنبري أو السنتير (آلة وترية أوتارها من معي الماعز) والطبل والغيطة (مزمار)ثم القراقش وهي الصنوج الحديدية ذات الصوت الضاج كما أن العزف «الكناوي» له هندامه الخاص وهو لباس عبارة عن أسمال بالية مميزة الألوان خاصة الخضراء والحمراء والزرقاء.

الليلة «الكناوية»
الليلة «الكناوية» هي واحدة في السنة وتسمى ليلة «الدردبة» وحسب علماء الانثربولوجيا فإنها تشبه إلى حد ما حفلات الزار بمصر وبعض الاحتفالات الطقوسية في البرازيل وأمريكا اللاتينية وتنظم الليلة غالبا خلال النصف الثاني من شهر شعبان أو في أوقات أخرى من الأشهر القمرية، وحسب المعتقد «الكناوي» فإن مصائر الناس للعام الموالي تحدد خلال ليلة منتصف شهر شعبان من كل عام وبالتالي ينبغي التوسل لملوك الجان لأجل تحقيق أمنيات العلاج وزوال العكس والنجاح في الأعمال وغيرها من الأغراض قبل أن يسجن الجان طيلة النصف الثاني من شهر شعبان ولن تعانق حريتها إلا في ليلة القدر وتمر الليلة بثلاث مراحل هي مرحلة الطواف بالأضحية والتي تكون عبارة عن تيس أسود وتكون مفتوحة أيضا لغير المنتسبين للطريقة «الكناوية» وبها تنطلق إيقاعات الطبول وأنغام المزامير والقراقب ثم مرحلة التصعيد الإيقاعي تمهيدا لهياج جماعي واستعدادا للمرحلة الثالثة المغلقة والتي لايسمح خلالها بالحضور لأتباع الطائفة دون غيرهم حيث الهياج الجماعي في أوجهه اعتقادا أن الجان ينزلون بين المحتفلين بالليلة.

الصويرة المقام الروحي
ضريح سيدي «بلال» الموجود غرب مدينة الصويرة المغربية يعتبر هو المقام الروحي لطائفة «كناوة» داخل المغرب ومن هنا ارتبطت هده المدينة التي اشتهرت بريحها ونوارسها وخشب العرعار بموسيقى «كناوة» حتى صارت محجا لأتباع هذه الطائفة من داخل المغرب وخارجه ولتتحول فيما بعد لمدينة استثنائية ضاجة بالموسيقى المختلفة التي تؤلف بين حفيف الريح وزعيق النوارس ونقش الصناع على خشب العرعار و بين إيقاعات كناوة لتنسج لحنا جميلا يغري زائرها بالعودة مرات ومرات.

الملحون فن كل الأزمنة
أول ظهور لفن الملحون كان في العصر الموحدي في القرن السابع الهجري قبل أن يتطور في العصر السعدي وليتألق كفن شعري وإنشادي وغنائي في نهاية القرن التاسع عشر مجاورا في موضوعاته ما هو ديني قبل أن يتغنى بالطبيعة والجمال والحبيبة والغرام.
التوسلات الإلهية والمدائح النبوية والرثاء والهجاء والولع والربيعيات...هي مواد وموضوعات فن الملحون التي تغنى بها أعلام هذا الفن الذي يعتبر من أهم الفنون المتميزة بالمغرب التي تعكس تراثا بديعا وتكشف غنى وثراء الثقافة والفن المغربيين بأصالته ومعاصرته وقد عرف الملحون كشعر وكإنشاد وكغناء التفافا جماهيريا كبيرا توارثته الأجيال تلو الأجيال وعرف كفن يتخذ من اللهجة العامية أداته انتشارا منقطع النظير خاصة ببعض المدن العريقة في المغرب كسلا وفاس ومكناس ومراكش وتطوان وطنجة حيث كانت ولا تزال هذه المدن موطن أعلام وشيوخ فن الملحون ومركز تواجد أكبر معاهد تدريس فن الملحون ليبقى هذا الفن مخلصا ووفيا لشكله ومضمونه وعمق أفكاره وقيمة أشعاره الدالة والهادفة والمستوعبة دوما للتحولات التي يعرفها الزمان والمكان.

القصيدة «الملحونية» تخرج من عباءة الديني
ارتبط فن الملحون في بداية ظهوره بالمضمون الديني حيث شكلت القصيدة الملحونية السرد الأوحد للمساجد والزوايا قبل أن تتطرق هذه القصيدة على يد شيوخها إلى مواضيع أخرى اعتبرت حينها انقلابا في مسار هذا الفن العريق حيث اعتمدت في بداية الأمر على إيقاع اليد «الأيدي» أو ما سمي «بالتوساد» قبل أن يتم في مرحلة متقدمة اعتماد آلة «الطعريجة» وهي آلة صغيرة للإيقاع قبل أن يتسع المجال لدخول آلات أخرى شكلت الوجه الجديد لفن الملحون الذي اقترب في أشعاره وألحانه وغنائه من مواضيع جديدة جاورت الطبيعة والغزل والرثاء والهجاء ما أعطى لفن الملحون جماليته وروعته التي تكاد لاتوجد في أي شكل غنائي آخر،وحول أصوله كفن يقول الباحث في فن الملحون الفنان جمال الدين بنحدو أن هناك رأيين الرأي الأول يقول أن أصله من تافيلالت وسجلماسة، حيث كانت تستوطنها الأسر العربية والأمازيغية لتتكون في ما بعد لغة عامية. فبدأت تكتب أشعارا بلهجاتها المغربية، ودليله في ذلك هو أن جل قصائد الملحون الأولى تعتمد على وزن أو بحر «المبيت» وهو شبيه ببحور وعروض اللغة العربية الفصيحة خاصة الشعر العمودي الذي كتبه أغلب شعراء الملحون القدامى والفطاحل والذين ينتمون إلى هذه المنطقة، أما الرأي الثاني فيعود للأستاذ المؤرخ والباحث محمد زنيبر الذي أعاد أصول الملحون إلى الأندلس مستشهدا بكون أقدم قصيدة ملحونية عثر عليها حتى الآن هي «الحربة» لابن عبود، الأندلسي الأصل، كتبت في وصف معركة أبي عقبة بن أحمد الوطاسي وأحمد الأعرج السعدي سنة 1536 م. 943هجرية وقد أنشدت بين يدي أحمد الوطاسي الذي وضع رهن إشارة ابن عبود مكانا لإنشاد قصائده يوم عيد المولد ابتداء من ذلك التاريخ. وهو مسيد سيدي فرج الموجود بسوق الحناء بفاس.

أشهر قصائد الملحون
بالرغم من أن فن الملحون تغنى بالكثير من الأشعار التي كتبت في مدح الرسول الكريم وفي ذكر أخلاقه، وبرغم تسابق أعلام وشيوخ هذا الفن منذ ظهوره في كتابة وغناء قصائد تجاور الديني وماهو أخلاقي استجابة لمحبي هذا اللون الغنائي فان الصدف الغريبة لا تريد إلا لقصائد الغزل وأحيانا لقصائد المجون أن تكون الأكثر شهرة والأكثر استماعا من غيرها وخاصة قصيدتي «فاطمة « و» الشمعة « اللتين حولهما فن الملحون إلى تحفتين غنائيتين بديعتين.
يقول الشاعر ادريس بن علي الملكي في مطلع قصيدة «فاطمة»
رحمي يا راحة لعقل ترحامي
        مـــــن جفـــاك طـــال سقامـي
كيف نبقى حاير وانت مسليــة
         روفـي يـــا لغـــزال فـــاطـمـة
امولاتي والحب والهوى والعشق ونار الغرام
        من حالت الصبا فعضايا قاموا
كل واحد دار مقامو فمهجتي
        وضحى بحسامو مـع سهـامــو
يطعن ويزيد بالجراح عدامي
        فـــي غـــــــــراد هـــذ الــدامي
غير ملكت عقلي بجمالها
        وغلقت عنوة باب المراحمة
والى جانب هذه القصيدة الرائعة التي تتكون من أكثر من ألف بيت شعري، توجد هناك قصيدة «الشمعة » التي نظمها شاعر الملحون الكبير محمد الشريف ولد أرزين وهي تحفة شعرية غنتها إلى جانب فرق الملحون وأعلامه وشيوخه عدد من الفرق الغنائية الشهيرة في المغرب كناس الغيوان ومجموعة جيل جيلالة ومن القصيدة يقول الشاعر:
لله يـــا الشمـعــة سالتــك ردي لــي سآلي
              وش بيك فالليالي تبكي مدى انت اشعيلا
علاش يا الشمعة تبكي ما طالت الليالي
              وش بيك يالي تتهيء لبكـاك فـكـل ليالي
وعلاش كتباتي طول الديجــان كتلالــي
              وش بيك يا لي ما ريـنـا لـك فلبكـا امثيــلا
علاش كتساهر داجك ما سهـرو نجــالـي
              وش بيك يالي وليتي مــن ذا البـكــا عليلا
وعلاش باكيا روعتي ناس لهــوى امثـالي
              وش بيك يا لي تنصرفي بدرارك الهطيلا
علاش باكيــا وانــت فــمــراتب الـمـعـالي
وش بيك يالي فيك اوصاف العاشقين صلا*صلة
وعلاش باكيا مدالك لـلبـــاكـــي وســالــي
               وشبيك يالي ظاهر حالك حالة لى وحيلا
اذا نشوف لصفرارك يصـفــارلو خيـالـــي
              واذا نشوف دبلتك زادت لخاطـري دبيلـة

وهي قصيدة طويلة بدورها شكلت وتشكل مطلب عشاق الملحون في كل أنحاء المغرب وبعض البلدان المجاورة كالجزائر التي يحظى فيها أيضا فن الملحون بنفس الحظوة التي يحظى بها في المملكة حيث يتكاثر جمهور هذا الفن الراقي والذي تنظم له العديد من المهرجانات واللقاءات طوال أيام السنة في إشارة دالة على أن الأسر العريقة في المملكة تورث الفن أيضا لأحفادها مثلما تورثهم أشياء أخرى .

أعداد المجلة