في الثقافة والتنوع والتعدد والاختلاف
العدد 25 - التصدير
التعدد والتنوع من السمات البارزة التي تتصف بها المجتمعات في بلاد المعمورة جميعا. فقد شاءت عوامل تاريخية، جيوسياسية وحضارية أن تجتمع الأعراق المختلفة في رقعة الأرض الواحدة. إثنيات وأعراق وطوائف تشكل النسيج الاجتماعي الذي على أساسه تستقيم الأوطان. ترتسم آفاق هويتها وتتبلور مراجع شخصيتها. تعاقب الحقب يزيدها نضجا. ويكسبها الوعي بوحدة المصير مشروعية وألقا. وعبارة عن ذلك كله تفصح عنها ضمن نتاج ثقافي شعبي وعالم يحتمل السعة التي تنبثق عن هذا التنوع، تعرب عن غناه.. ومداه .
ترى بلادا تحرص على نتاجها الثقافي هذا باعتباره ثروة وطنية جديرة بالاستثمار. يرى المواطن في ثقافة مواطنه «الآخر » جزءا من شخصيته الثقافية يعنى بها ويعتزّ. ويرى فيها لبنة من لبنات هويته الوطنية يستلهمها مهما تباينت مشاربها. ويستند إليها في بناء المشروع الوطني الواحد. جهد مشترك وعمل سواء يتيحان الانصهارفي هوية وطنية واحدة أساسها العميق تنوع وتعدد. لاحظنا ذلك في غير بلد اختار التنويع في مصادر ثروته البشرية وتنمية مكوناتها السكانية سياسة ديمغرافية. بلاد عدت ذلك خيارا استراتيجيا يضمن لمجتمعاتهاجذوة متقدة وطاقة متجددة. لا تتوانى وهي تحرص على إدماج الوافد إليها, في ثقافتها الأم على اعتبارثقافته المخصوصة عنصرا جديدا ينمي ثقافتها.وإن كان لايخفى أن ذلك يحصل أحيانا في غير قليل من الألم والمعاناة. نرى ذلك ضمن ظواهر يطول الحديث فيها.
ونرى مجتمعات أخرى، ما يقرّب الناس فيما بينهم، أكثر مما يباعد. حتى لتكاد تحسبهم نسيجا واحدا. موروث ثقافي واسع متواشج في تعبيراته بحكم التواشج في وجوه الاجتماع التي نشأ عنها. ترى ذلك، فتقدر أن الانسجام الثقافي خليق بأن يوفر أسباب العمل المشترك من أجل سؤدد الوطن ومنعته لولا ما تراه من انحراف البعض إلى التنقير عما يفرق بدل الاحتكام إلى ما يجمع. يحرك المياه الراكدة في ذاكرته الضحلة بحثا عن ضغينة أو ثأر قديم غيّبته سجف التاريخ يستدعيه في الاستعداء على شريكه في الوطن. فتتسع الخروق وتتقرح الجراح وتشيع ثقافة الخراب وتتعثر الأوطان ويخسر الجميع المشروع الوطني الواحد.
إن الانسجام بين أبناء الوطن هو في جوهره مسألة قيمية ومشروع حضاري ورسالة ثقافية يسهم فيها الجميع. تنبني في وجدانهم المشترك قبل أن تتجسد واقعا معاشا. ويتحملون جميعا مسؤولية الانتهاء بها إلى غايتها حيث يتيسر لهم معها أن يمتحوا عناصر انسجامهم وتآلفهم انطلاقا من سمات تنوعهم واختلافهم. فتستحيل نوازع التباين حوافز تناغم. وتتحول أسباب الفرقةإلى دواعي تقارب. فالوطن بناء يشترك الجميع في إقامة صرحه وهو صيرورة واحدة يسهم الجميع في نحت ملامحها. لكن دور المثقف يبقى في تقديرنا الأهم لأن الثقافة ليست مجرد عبارة عن قدر لا محيد عنه. وإنما هي أساسا صياغة للقدر على النحو الذي يستجيب لإرادة الأمم ويحقق مثلها في رؤيتها لذاتها ولدورها ولمنزلة الفرد فيها كائنا ماكان عرقه أومعتقده. ومن ثم فهي ليست فقط صدى لما هو كائن وإنما هي طموح إلى ما يكون، تطلع لما تريد الأمة أن تكون. ضاربة في الأعماق منفتحة على الآفاق.
ولا يتيسر ذلك إلا بشيء من الصبر والإرادة وتسامي الروح حيث يكون اللقاء في النقطة التي تجمع ولاتفرق وتبني ولاتهدم. وغني عن القول إن البناء أعسر بكثير من الهدم والتخريب.
ذاك هو الإبداع الذي لاتقدر عليه إلاالثقافة - سواء أكانت شعبية أم عالمة- عندماترتقي إلى مرتبة الإبداع. ترسم من ألوانه أسباب خلودها وتنحت مصير أمتها شموخا وسؤددا.