فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الإبداع وآليات التجديد في الشعر الصوفي الشعبي

العدد 23 - أدب شعبي
الإبداع وآليات التجديد في الشعر الصوفي الشعبي

تحاول هذه الورقة أن تختبر نظرية الصيغ الشفاهية Oral Formulaic Theory التي رادها كل من ميلمان بارى Milman Pary وألبرت لورد Albert Lord، وهي النظرية التى طبقت على الملاحم اليوغوسلافية الطويلة. وقد تم اختيار أحد الأنواع الأدبية الحية، وهو الشعر الصوفي الشعبي –وهو نوع قصير نسبيا- الذي يتداوله منشدو الذكر ودراويش الصوفية في الموالد والمواكب وحلقات الذكر والحفلات الصوفية لتطبيق هذة النظرية.

وتهدف الورقة إلى إلقاء الضوء على آلية التناقل وبعض أساليب الإبداع والتجديد في هذا النوع الأدبي الشعبي، الذي نشأ مرتبطا بالطرق الصوفية وما زال أداؤه مستمرا حتى الآن.
والمنشدون هم حملة هذا النوع من الشعر ويعتمدون بعض كتب الإنشاد المطبوعة كمصدر لمحفوظهم الأدبي مثل كتاب صفاء العاشقين، والأنوار البهية في مدح خير البرية.. وغيرها، كذلك الأشعار المنسوبة لابن الفارض وابن عربي والبوصيري وغيرهم من كبار شعراء الصوفية، إلا أن هؤلاء المنشدين يعتمدون كذلك على مصدر شفاهي إلى جانب هذا المصدر المدون. وقد برع المنشدون في خلق طرق جديدة للأداء معتمدين على التقاليد الموروثة وعلى المادة المتناقلة شفهيا. من خلال علاقة التلميذ بأستاذه أو علاقة الابن بوالده كما هي الحال عند عدد كبير من المنشدين(1).
وهؤلاء المنشدون “يتعلمون بالتلمذة- مثل الصيد مع صيادين ذوي خبرة، على سبيل المثال، وبالأخذ عن الشيوخ وهو نوع من التلمذة، أو بالاستماع وبإعادة ما يسمعون، وباستيعاب مواد أخرى قائمة على الصيغ، وبالاشتراك في نوع من التأمل الجمعي في الماضي –إنهم- يتعلمون بكل هذه الطرق وليس بالدراسة بمعناها الدقيق”(2).
وحتى نلقي الضوء على قضية الصيغ الشفاهية وأساليب التجديد من قبل المنشدين، فإننا نتناول ذلك من وجوه أربعة:
أولا: مفهوم الشعر الصوفي الشعبي.
ثانيا: الخلفية التاريخية لهذا النمط من الإبداع حسبما تظهره الشواهد التاريخية.
ثالثا: الشكل أو الأشكال الأدبية التي يبدع فيها هذا الشعر.
رابعا: أساليب التجديد والإبداع.
وعلينا أن نسلم قبل الدخول في الموضوع بنقطتين أساسيتين:
- الأولى أن بعض هذه الأشعار يؤلفها أفراد من الصوفية الرسميين أو لنقل المتعلمين، ثم أنها تدولت بعد ذلك بين جموع الدراويش والمريدين فرددوها.
- والثانية أن بعض الأفكار الصوفية اتخذت من الأشكال الأدبية الشعبية كالموال والزجل والموشح...إلخ مجالاً للإبداع إلى جانب القصيدة المعروفة في العربية.
ولكن التأليف بواسطة أفراد معروفين لا يمنع من استمرار الإبداع والتجديد وبخاصة في المواويل (الشروح) والأزجال.

أولا: مفهوم الشعر الصوفي الشعبي
نقصد بالشعر الصوفي الشعبي ذلك الشعر الذي ينتجه –تأليفاً وأداء وتلقيا- جماعات دراويش الصوفية بوصفه نتاجا للمعتقدات الصوفية الخاصة بهم، وما نتج عنها من طقوس وشعائر. ويختص بأداء هذا النوع من الشعر مجموعة من المنشدين المحترفين، ومن ثم لا يستطيع أشخاص غيرهم روايته، فالمنشدون هم حملة هذا النوع من المأثورات، وفي ذلك تصدق إشارة يان فانسينا التي يقول فيها: “إن هناك بعض المأثورات التي تتصف بأنها قد تكون معرفة خاصة بمجموعة معينة، كما أن البعض الآخر قد يكون معرفة عامة، ترددها جميع طبقات الشعب”(3).
وإذا كان منشدو الذكر –الرواة الأساسيون لهذا الشعر- يقومون بدور مؤثر وفعال في سبيل الحفاظ عليه سواء من حيث حفظ النصوص وتداولها، أو من حيث تطويرهم لأساليب الأداء، فإنهم يعتمدون على مصدرين أساسيين. الأصل المطبوع (القصائد والموشحات) والأصل الشفاهي الخالص (المواويل والأزجال والأدوار)، وبمعنى آخر تلك التي اتخذت شكلا ثابتا وحفظت عن ظهر قلب ثم تناقلها الرواة، أو تلك التي تخضع لحرية المؤدي فيؤديها بطريقته الخاصة. حيث تنتمي القصيدة إلى النوع الأول، بينما ينتمي إلى النوع الثاني الشروح (المواويل) والأدوار.
ويتحد­د الشعر الصوفي الشعبي بمعايير ثلاثة هي:-
1 - التزامه الشكل الأدبي الشعبي قالبا للتعبير مثل الموال والزجل وغيرهما، وتوسله بالعامية على الرغم من أنه ينشد مع الشعر الصوفي الفصيح.
2 - التزامه التعبير عن وجدان جماعة معينة من الصوفية هم الدراويش (الفقرا)(4)، وهم جماعة من أتباع الطرق الصوفية يميلون إلى الجانب العملي، ويبتعدون عن الجانب الفلسفي، حتى عندما يعبرون عن الأفكار والتصورات الصوفية المستمدة من تراث الصوفية الشعري الرسمي.
3 - اتخاذه المناسبات الشعبية مجالا للأداء مثل الموالد والليالي وحضرات الساحة أمام أضرحة الأولياء.
ووفقا للمعايير السابقة، فإن الشعر الصوفي الشعبي هو ذلك الشعر الذي يؤدى إنشادا في مجالس الذكر الشعبية في الموالد (مولد النبي وموالد الأولياء) وفي الليالي وحضرات الساحة، وينتمي في أغلبه إلى الثقافة الشعبية، من حيث ارتباطه بالممارسات الخاصة بجماعات الدراويش ومرتادي الموالد.
هناك ثلاثة مستويات من الشعر الصوفي ولكنها تتداخل جميعا أثناء الأداء، وتتحكم في كل نوع منها اعتبارات خاصة، وهذه المستويات الثلاثة هي:-
1 - الشعر الصوفي الرسمي –إن جاز القول- وهو القصائد التقليدية ذات المحتوى الفلسفي والرمزي المنسوبة لشعراء معروفين، والتي كتبت بلغة فصيحة مثل قصائد ابن الفارض وابن عربي والبوصيري، وغيرهم من كبار شيوخ الطرق الصوفية.
2 - الشعر شبه الرسمي وهو القصائد المدونة في كتب الإنشاد ذات الطبعات الشعبية من أمثال: روضة الصفا في مديح المصطفى، والأنوار البهية في مديح خير البرية، ومناهل الصفا، وقاموس أهل الفلاح وغيرها من المصادر، بما تحتويه من قصائد في المدح، والتغزل بالله، وبالنبي، والتوسل بالنبي وآل البيت وغير ذلك.
3 - الشعر الصوفي الشعبي وهو النابع من أفواه الشعب سواء من ناحية الشكل الأدبي مثل الموال (الشرح)، أو من ناحية السياق الذي يؤدى فيه، بالإضافة إلى المعايير الخاصة بالشعبية بوصفها تعبيرا جماعيا، حيث ينشد هذا الشعر خارج إطار المساجد والحضرات المرتبة الخاصة بكل طريقة، وإن كان يمتزج في الميدان مع النوعين السابقين(5).

ثانيا: تطور هذا النمط كما تظهره الشواهد التاريخية
ارتبط السماع بمجالس الذكر الصوفية منذ نشأة هذا الاتجاه في الإسلام، كما ارتبط بها إنشاد الشعر بالنغم، وقد تغذت هذه الظاهرة وتطورت بعد إنشاء الخانقاوات والربط والزوايا لدراويش الصوفية في مصر في منتصف القرن السادس الهجري كما تشير إلى ذلك المصادر التاريخية(6). وقد صارت هذه الخانقاوات والزوايا مدارس لتلقي تعاليم المشايخ، فانتشرت الظاهرة حتى عمت مصر كلها بين الأوساط الشعبية، بل إن الصوفية “أعطت مجالا خصبا للتدين الشعبي فلم تقتصر حلقات الذكر على الشيوخ ومريديهم، ولكنها تعدتهم إلى آخرين من الناس ممن لم يلتحقوا تماما بالطرق الصوفية ولكنهم رغبوا في تحقيق السلام الروحي من عملية الذكر”(7).
وقد كان لمشاركة هؤلاء الناس في حلقات الذكر الصوفية أثر كبير في انتشار الصوفية بين الأوساط الشعبية، فحقق بذلك الانتشار قوة واستمرارية عبر الزمن(8).
ومهما اختلفت الآراء في أصل ونشأة الإنشاد والسماع والتواجد في حلقات الذكر، وإرجاع تلك الأصول إلى مصادر غير إسلامية (مصرية قديمة أو بوذية، أو مسيحية، أو فارسية) إلا أنها تجمع في النهاية على أن تلك الأصول قد تفاعلت في النهاية وخلقت لنا هذه الظاهرة التي تعبر عن الأفكار والمعتقدات من خلال أشعار خاصة بها، “وكان المنشدون والقوالون يترنمون بقصائدهم وأشعارهم في الخلوات وبين المقابر وفى حضرات الذكر الصوفية... كما كان يصحب إنشادهم ضرب بالدفوف وعزف بالشبابة” (9).
ثم إن انتشار الصوفية في الأوساط الشعبية أدى إلى ظهور فئات الدراويش الذين ألفوا أشعارهم بالعامية المصرية، وحرصوا على إنشادها في الأسواق والساحات، ونموذج ذلك أبو الحسن الششترى في أزجاله المشهورة(10).
شويخ مـن أرض مكنــاس
        وســط الأســــواق يُغنـــي
إيش علــــى مـن الـنــــاس
        وإيش على الـنــــاس مني إيش عـلــيـــا يـا صـاحـب
        مـــن جميــــع الـــخـــلايق
إفعل الـخـيــــــر تـنـجــــو
        واتبـع أهـــل الـحـقـائــــق
لا تقــــل يـا بنـــي كلمـــة
        إلا إن كنـــــت صـــــــــــادق
خوذ كلامي فى قرطاس
        واكتبــــوا حــــــرز عنــــي
إش عـلــيـــا مـن الـنــــاس
        وإيش على الـنــــاس مني

ومما رواه الجبرتي عند الكلام على أهل البدع كجماعة العفيفي والسماني والعربي والعيسيوية «فمنهم من يتحلق ويذكر الجلالة ويحرفها وينشد له المنشدون القصائد والموالات، ومنهم من يقول أبياتا من بردة المديح للبوصيري ويجاوبهم آخرون مقابلون لهم، بصيغة صلاة على النبي»(11).
وقد أشار إدوارد لين إلى بعض مظاهر الإنشاد في كتابه المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم، ولكنه لم يورد أيا من أشعار هؤلاء الدراويش أثناء مواكبهم، أما بوريان “Bouriant” المستشرق الفرنسى في نهاية القرن الماضي فقد جمع مجموعة من الأزجال (أدوار الزجل) أو أحمال الزجل من أدب الدراويش التي تكشف عن أفكارهم ومعتقداتهم في الأولياء، وتوسلهم بالنبي وآل البيت ومواعظهم للنفس ومدائحهم، ومنها هذا النص الذي أورده محمد قنديل البقلي في كتابه أدب الدراويش.
وامدح رسول الحق عين الأعيان
            كهف العواجز في نهار الموقف
هيم يا فؤادى هيم بمدح المختار
           وابذل المجهود بمدحه أشرف
من يمدح الهادى ينال المطلوب
           آهيـن فلو دهــري إلىّ أنصــف
واسعى على عنده وأقول له جيرنى
      يا محمد أنا منسوب أتيتك زاير
يا رب بالهادي تكن لي هادي
              واغفر جميع ذنبي لأنك غافر(12)

ومع بدايات القرن العشرين استخدمت أشعار الدراويش في الموالد والمواكب خارج نطاق الحضرات، وارتبط بها مظاهر من التجديد في أسلوب الأداء، بما يشبه (الموجة) في مجالات الإبداع، وكان من أهم مظاهرها في الشعر الصوفي الشعبي، والشعر الديني عموماً، أنه خرج من حدود الحضرات داخل المساجد وانتقل إلى الساحات والموالد متخذا أسلوبا جديدا باستخدام الآلات الموسيقية ومن بعدها أجهزة الصوت الحديثة، مما فرض عليه تقاليد جديدة، وأضاف إليه مظاهر حديثة من مظاهر التجديد حتى يومنا هذا.

ثالثا: الأشكال الأدبية في الشعر الصوفي الشعبي
تؤكد الشواهد أن الصوفية قد التزموا بالإبداع من خلال الأشكال المعروفة في الشعر العربي عموماً، فكان أغلب ما يرددونه القصائد والشروح (المواويل) والأزجال وبعض الموشحات والأدوار، واتخذت قصائد الصوفية شهرة كبيرة في اتجاهين هما:-
1 - الحب الإلهي، وانصرف إلى التغزل في الذات الإلهية، والتوحيد وذكر صفات الجلالة، وبرع فيه صوفية مشاهير كابن الفارض وابن عربي واتخذ من شكل القصيدة العربية وبنائها نموذجا يحتذى، وقد استمر هذا الشعر يؤدى في المجالس والحضرات منذ نشأته وحتى الآن.
2 - الحب النبوي (المدائح)، وانصرف إلى التغزل بالحضرة المحمدية والتوسل بالنبي، وأوصافه وقصة المولد، وقد برع في المدائح الصوفي الشهير البوصيري الذي أثرت بردته في كل من مدحوا الرسول من بعده، ولا زال كثيرون ينشدون قصيدته أو يؤلفون على نهجها حتى عهد قريب كالبارودي وشوقي حتى إن بعضهم نهج على مطلعها القائل:
أمـن تـذكــر جيـــران بـذى سلـم
             مزجت دمعـــا جـــرى مــن مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
            وأومض البرق فى الظلماء من إضم

وأما الشروح (المواويل) والأزجال فقد تأثرت بذات الأفكار التي تناولتها القصائد، إلا أنها اعتمدت على «الصيغ الشفاهية» لصياغة الأفكار الشائعة بين الدراويش، وانطلقت من مجموعة من الأفكار العظمى تتداخل منها أفكار أصغر وهكذا، فأغرقوا في أشعار التوحيد، ووصف الذات، والتوسل بالله، والنبي، وآل البيت، والأولياء، فضلا عن الخمر المعنوية والحب والعشق الإلهي والنبوي، وفي السلوك وتربية المريدين، ثم أغرقت في كرامات الأولياء المنظومة. واحتل باب المدائح النبوية قطاعا كبيرا من الأشعار الشعبية في أشكال الموال والأزجال. وقد استقرت مجموعة من الصيغ من خلال تقاليدهم. وأهم تلك الصيغ ثباتا هي التي تعبر عن أكثر الأفكار شيوعا وانتشارا(13)؛ فنجد فكرة النبي “ساقي الأرواح” وهو يسقي القوم خمراً معنوية، وفكرة تعلق الدراويش بآل البيت “نزيلهم لا يضام” “حبيبهم لا يضام”، ووصف الدراويش أنفسهم “ساهرين الليل” “ساهورجى الليالى” “ساهر عقب ليل” وهكذا، وحتى التوسل بالأولياء المعروف بالمدد فقد استخدموا فيه الألقاب المشهورة على صورة صيغ “يا سيدنا الرفاعى، يا مقيد الأفاعى”، يا أبا العلمين يا ساكن أم عبيدة ياغ بو شموع قايدة”، وقد استخدموا في ذلك طريقة الإحلال والإبدال بالنسبة للصيغ كما يظهر في النص التالى:
يا قطب جينا الحمـى ننظـــر كراماتك
يا قطب دا احنـــا رعيـــه مـن رعاياتك
وإذا كنـــا تلفنـا بضايــع مـن بضاعاتك
الذنب يغفر، ولكن الصفح عاداتك(14)

وينشد آخرون هذا النص مع إبدال وإحلال بعض الكلمات.
يا أبا الحمل، جينا الحمى، نرجو كراماتك
ما نقصــــــد الـهـجــر، دا احـنــا بـــدايــاتك
إذا كنـــــــا أســـأنـــــا فــــــــــــى طلــــبــاتــــــك
العيــــــب مـــــن شــــأننا، والصفــــح عاداتك
*(أبا الحمل لقب لسيدى الأعصر ببهتيم)

كما يظهر في صورة ثالثة مع إحلال اسم ولي آخر:
يا بدوي جينا الساحة، نرجو بركاتك
مـــا نقصــــد الهجــــر، دا احنا بداياتك
إذا كنـــــــا قـــصـــــــرنا فـــــي طلبـــــاتــك
العيب مـــــن شــاننـــا، والصفــح عاداتك

ومع ذلك فإن التأثر بالقصائد التي أنشدها الصوفية (المتعلمون) كابن الفارض وابن العربي، والبدوي والدسوقي وغيرهم، ظاهر تماماً في أشعار الدراويش الشعبية التي وإن كانت تحمل بعض الأفكار الرمزية لدى الصوفية، إلا أنها أقل إغراقا فيها وأخف حدة، شأنها في ذلك شأن التعبيرات الشعبية الأخرى، كما يشير إلى ذلك الأستاذ أحمد رشدي صالح في كتابه الأدب الشعبي عند تناوله للشعر الصوفي الشعبي وإشارته إلى أدب المعتقدات وأغاني التخمير الدينية. فقد ذكر أنها «تميل إلى التجسيد وإلى تقبل الخوارق مما يستتبع كثرة التضمينات الأسطورية، والصورة البارعة في مأثوراتهم تظهرنا على اختمار تجاربهم الفنية ونضجها المشهود» (15).
فالدراويش من الصوفية يختزلون هذه الإشارات الأسطورية والقصصية ويستحضرون بها محفوظاً من التاريخ الأسطوري والاجتماعي:
السيد إللّـــي مـــن الشبــــال مــــد ايـــــده
جاب الأسير مـــن بـــلاد الكفـــر بحديده

 وهي تشير إلى كرامة البدوي «جلاب اليسير». ونص آخر يشير إلى كرامة الدسوقي عندما أخرج الطفل سليما من جوف التمساح بعد أن ابتلعه يقول:
القطب نادى من الخلوه وسره فاح
جاب الولد من البحر راكب التمساح
وليس معنى أن أشعار القصائد من تأليف أفراد معروفين، أو بمعنى آخر (متعلمين) أن الإبداع في هذا المجال كان حكراً على هذه الطبقة دون غيرها، فهناك من الدراويش الصوفية من غير المتعلمين من المبدعين والمنشدين من يمتلكون القدرة على الإبداع والتأليف، سواء كان ذلك أثناء الأداء أو كان ارتجالا لبعض النصوص، ويوضح محمد الجوهري ذلك بقوله «أن يكون الإبداع حكرا على طبقة معينة أو الطبقة الأعلى القادرة على الإنتاج والتأليف... فهذا أمر غير منطقي، حقيقة قد تكون الطبقة العليا هي التي تلتقط المبدعين من الطبقة الدنيا وتحتضنهم وتوصلهم إلى مستويات أوسع، فالطبقة العليا لديها القدرة للخروج عن المألوف فموقف التجديد (الموضة) يكون في الطبقة العليا أولا، لأنها أقدر الطبقات على التعبير. ولكن في حقيقة الأمر هو استخدام حياة فلا يوجد شيء ينتهي، إنه يتجدد» (16).
وتؤكد الشواهد الميدانية هذا الرأي إذ أن دراويش الصوفية لم يتركوا شكلا من أشكال التعبير الأدبية الشعبية إلا وصاغوا فيه أفكارهم، حتى أنهم عبروا عن تلك الأفكار في بعض الأنواع الشعبية المنقرضة كالقوما والكان وكان، ومن ذلك بعض النصوص التي كانت تغنيها إحدى المغنيات وتدعى “فاطمة الجمالية” (17)، وهي من مغنيات القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، وهى تهنئة بأخوة وأخذ عهد فتقول في مطلع الكان وكان:
هذا النهار يصلح
نعمل وليمة هايله
لأجل هذه الأخوة
في حضرة الأجواد

إلى أن تقول
فالمصطفى قد خاوا
بالعهد بين المؤمنين
الهاشمي التهامي
من جاد بالإرشاد
وفى نص آخر «تهنئة بلبس الصوف» لأحد الدراويش الذين انضموا إلى طريقة صوفية:
يـــا زاهــــداً فـــى الـــدنـيــا
                  وطــــــالبـــا لــلآخـــــــــــــرة
إن ردت إنـــــــــك تُحســـــب
                  مــن جمــلــــــة الســــــادات
قم والبس الصوف ووافق
                  قوما عند الدنيا أعرضوا
وطلــقـــــــــوهـــــــا ثـــــلاثــا
                 خــــــــوفــــــا مــــن الآفــــات

إلى أن تقول
والعهد مأخـــــــــوذ عليــك
                  لابــن الرفاعــــي قـــدوتى
وللسطوحــــي(@)شيــــخـــى
                             ومـــــــــــن لـــه الـــحـــــالات
فــــلابـــس الصــــوف يقنـع
                           بدُقة(@@) أو ملح جريش(@@@)
أو كسرة أو قرقوشة(@@@@)
                              تغنـــــى عــــن الشــــهـــوات
*السطوحي أحد ألقاب القطب المعروف السيد البدوى.
(**) ملح جريش: ملح خالص مجروش.
(***) دقة: كلمة عامية تعني خليط من الملح والسمسم.
(****) قرقوشة: قطعة الخبز الناشف.

ومن الواضح أن نزول الأفكار من الطبقات المتعلمة (الصوفية) انتقائي وليس أوتوماتيكيا، ومصحوب بإعادة تفسير وتحوير وتعديل في الوظيفة. فهذه المغنية أو هذا النص اختار بعض الأفكار الصوفية في الدعوة إلى الدروشة وتفضيل حياة الفقر والزهد وهو مقام صوفي عبر عنه كبار شعراء الصوفية بأساليب مغرقة في الرمزية. وهنا تحول النص إلى الغناء في مناسبات عديدة وقام بوظيفة جديدة وهي التطريب.

رابعا: أساليب التجديد والإبداع
من أساليب التجديد والإبداع في الشعر الصوفي الشعبي وجوه ثلاثة هي:-
1 - كيفية تطويع الشكل الأدبي القائم (القصيدة/ الموال) إلى الأداء.
2 - إدخال الآلات الموسيقية في الأداء بصورة كبيرة.
3 - إدخال بعض الألفاظ والعبارات الجديدة في ثنايا النصوص المؤداة كمظهر من مظاهر الإبداع.
فهل نستطيع أن نطبق نظرية الصيغ الشفاهية على أنواع قصيرة من الشعر الشعبي؟ عند أداء القصائد الصوفية يلجأ المنشدون إلى طريقة التقطيع إلى أجزاء حتى تتوائم مع الأداء فمثلا القصيدة التالية للدسوقي التي مطلعها:
 سقاني محبوبي بكأس المحبة
      فتهت عن العشاق سكرا بخلوتي
وكنت أنا الساقي لمن كان حاضرا
      أطـــــوف عليهـــم كــرة بعـد كـرة

نرى المنشد (أحمد بعزق)(18) يقطع هذين البيتين على سبيل المثال على النحو التالي:
سقاني (محبوبي) بكاس المحبة... موسيقى     (5 ثوانى)
سقاني (حبيبي)..../ موسيقى
(3 ثوانى)
سقاني محبوبي بكااااس المحبة/ موسيقى
(10 ثوانى)
فتهت عن العشااااق/ موسيقى
(5 ثوانى)
فتهت عن العشااااق سكرا بخلوتي/ موسيقى
(8 ثوانى)
وكنت أنا السااااقي لمن كان حاضرا/ موسيقى
(8 ثوانى)
أطوف عليهم ...../ موسيقى
(3 ثوانى)
أطـــــوف عليهـــم كــرة بعـد كـرة/ موسيقى
(5 ثوانى)

ونلاحظ إبدال كلمة حبيبي بمحبوتي، وتفاوت المدة الزمنية لكل مقطع عن الآخر، ولا يرجع ذلك إلى عدد الكلمات في كل مقطع، وإنما يعود إلى أسلوب الأداء والتنغيم الذي يتبعه المنشد أثناء الغناء، ويختلف المنشدون في أساليب الأداء ويطلعنا الميدان على نماذج تند عن الحصر.
أما الموال فإن تغييرا كبيرا يحدث في الشكل وفي أسلوب الأداء بوصفه خلقا جديدا للنص، بالإضافة إلى الحذف والإحلال ومما يلاحظ بصدد الموال ما يلي:
1 - يطلق المنشدون ودراويش الصوفية على هذا الشكل الشعري الشعبي (الشرح) وكأنهم يميزونه عن الموال كمصطلح، إذ لا يسوغ في نظرهم أو يطلق على شكل أدبي يتناول التوحيد والمديح لفظ موال، وهم بذلك يفرقون بينه –ونقصد الشرح- وبين الموال الذي يقصرونه على التطريب لدى المغنين الشعبيين، بينما الشروح تحتوي معاني صوفية في التوحيد والمديح تشرح القلب على حد قولهم أو أنها تشرح المعاني.
2 - أدخل الدراويش تحويرا على شكل الموال المعروف من حيث بنائه الذي يعتمد على الفرشة (العتب) ثم يختم بالغطا أو (الطاقية)، ليصبح شرحاً تتوالى شطراته ويساعد على ذلك الاختلاف في طبيعة الأداء التي تفرضها الظروف، فبينما يعتمد الموال على تنغيم الصوت بحيث يبدأ بالهدوء ثم يزداد علوا حتى يقفل المغني في الشطرة الأخيرة كإجابة تتضمن الحكمة، نجد الشرح يعتمد على طبيعة الذكر وحالة المجلس، ويختار المنشدون أداءه مع بداية مجلس الذكر غالباً حيث تميل الحركة إلى الهدوء.
3 - لا يلتزم الشرح بنظام الموال من حيث الشكل (Form) بقافية الموال المعروفة على النحو التالى:-
- الرباعي (أ ، أ ، أ ، أ)
- والخماسي (أ ، أ ، أ ، ب ، أ)
- أما السباعي (أ ، أ ، أ ، ب ، ب ، أ) وهكذا.
وفي الشرح يميل الشكل إلى توحيد حرف الروي تماما بحيث تظل جميع القوافي ثابتة على روي واحد(19).
أنا ناديـــت علــــى يمن(@)، قالت نعـم مالك؟
بتنده على إيه يا مريد، ياللي العيا جالك
لو كنت خالص وواصل، كان بان على حالك(@@)
لما انته نوام يا مريد، منين الرضا جالك؟(@@@)
يا واخـــد العهـــد، روح ابـكــى عـلــى حالك
وإن ضحكـت النــاس يـا مريـد تكـون باكـى على حالك
قوم اسهــــــر الليل يا مــــريد، يـاكــش(@@@@) ينصلح حالك
أهل الطريقة رجال، إياك ينظروا لحالك
يلقوك ملون وغشاش وتبقى الفضيحـة لك
إوعى تميل فى الطريقة، ويعجبك حالك
سيف الطريقة طويل. وإن لحقك حالك(@@@@@) (20)
(*) يمن: اسم أنثى دلالة على الجلالة.
(**) حالك: حالتك فى الطريق.
(***) ياكش: عسى.
(****) جالك؟: جاء إليك.
(*****) حالك: قطعك.
ويقول في هذه الطريقة الشيخ رمضان فرج عويس

“الشرح بيترص على الواحدة، وممكن يزيد عدده أو يقل حتى ولو كان أربع كلمات أو إن شاله يكون ميه، فإذا بدأته بالنون تستمر على الحرف، وإذا بدأته بالره تستمر عليها زى الرحمن، القرآن، العدنان، الحنان.. أما الموال بيكون تركيبه مختلف، تبدأ بتلاتة، وفيه ستة شجر وأربعة فى الآخر يبقى 13 مثلا، أما الخمسة فيكون ثلاثة فى الأول والرابع حرف مختلف والخامس زي الثلاثة الأولين، وتقفل زي ما فتحت يعني فرش وغطا، أو طاقية”.
4 - يحمل الموال غالبا فكرة أساسية واحدة عن الصبر، الزمن، الصداقة، الحبيب... وهكذا، فهو يبدأ بالفكرة ويختم بالنتيجة التي تكون على هيئة نصيحة أو حكمة يكثفها المبدع في الشطرة الأخيرة، بينما يلجأ الشرح إلى تكثيف مجموعة من الأفكار فيبدأ أحيانا بالتوحيد، ثم ينتقل إلى المدح، ثم إلى التخمير، أو التوسل، وقد يمتد إلى أكثر من ثلاثين شطرة.
ولا شك أن عوامل عديدة تؤثر في تكوين هؤلاء الأفراد المبدعين كما يشير إلى ذلك أحمد مرسي“كشفت (بعض الأبحاث) عن الدور الكبير الذي تلعبه في الشعر الشفاهي كل من المهارة الفنية الشخصية والتدريب والموهبة والذاكرة ومختلف أوجه النشاط العقلي للفرد..(21) “ لقد ثبت أن أيا من حملة الفولكلور، أي كل مؤد للأعمال الشعرية الشفاهية(22) ، إنما هو –في نفس الوقت وإلى حد كبير مبدعها ومؤلفها”(23) ولن نعدم نماذج من المنشدين الذين تنطبق عليهم هذه الصفات فمنشد مثل أحمد حسنين (74) سنة يلجأ أثناء الأداء إلى الزخرفة بألفاظ وعبارات كثيرة ومتنوعة خارج النص:
1 - يابن المدد خلى بالك، دا عمك حالــه من حالك
2 - وإن كنت طالب رضا، يا بنى خلى بالك
3 - تاخد عهدهم، منيـــن القبــول جالك
4 - ثم اسعى بالليل، وجد ينصلح حــالك
5 - القبر ضيــق، وفيــه ملكيــــن لســـؤالك
6 - إذا كنت عاصى، يوم الحساب يا ويلك
7 - وإن ضحكت الناس، كن باكى على حالك

وعند أدائه لهذا النص نراه يقول في الشطرة الثالثة:
(تاخد عهدهم (تبوع بسرهم، وتخون ودهم، وتدعى إنك بتحبهم).
منيــن القبــول جالـــك
وفي الشطرة الرابعة يقول:
(احرصوا يا رجال المدد، دا حاضر فى وسطنا القطب المتولى)
(والحق على الجمع متولى)

وفيه إشارة إلى حضور أرواح الأقطاب والأولياء الموتى إلى حضرات الذكر.
ونستطيع أن نلمس تنويعات عديدة من خلال النصوص الميدانية تكشف عن مدى ما يضفيه المنشدون المبدعون، فقد قام الباحث بالتسجيل لاثنين من المنشدين أحدهما كبير السن (معلم)، وآخر أصغر سنا (تلميذ) تلقى على يد أستاذه، وقد أدخل (التلميذ) بعض التعديلات والتحويرات على النص (24)التالي:
(1)    خمــــــار(@) جمــــــــع الصفـــا(@@) شافــــــــوا الـخــمــر فـــــى دنــه
وتــــــمـــايـــلــــو لــلــطــــــــــــــــــرب، لـمــــــا شافـــــــــــوه غنـــــــــوا
وهند ترقـــــص، وسعــــاد ماليــــــــه الكــــــاس علــــــــــىّ رنـــــــه
وصاحب الكــــيـــف(@@@) مجبــــور يمـــد فمه على الكاس ويكنه
وكلهم مستنظريــــــن (حضـــــره) النبــــــــى يستأذنـــــوا منــــه
قالوا بكام القدح يا مالى الكاس، ضحك فى الحال وبان سنه
قـــــــــال يـــــا سعــــاد هاتــــى أصنـــــــاف الـــخمـــــــور والنـــــور
واللــــــــى يعجبــــــه صـــنــــف اعـــطــــــى لــــه كــتــيــر منـــــــــه
بــــس قبــــــــل مــــا تعطيـــــه، فـــى دفتر سيدنا النبى واكتبيه
وعنـــــدمــــــا تمضـــــيـــــــه يبـــــــــــان لــــك مـــــــــا جـــــرى منـه

    
(2)    خمـــــــــــار جمــــــــــع الصفـــــــــــا شـــــــافـــــةل الـــخمر فى دنه
تمايلــــــــــــــــوا لــلــطــــــــــــــــــرب، للـمــــــا شافـــــــــــوه حنــــــــوا
سمعــــــــــــــــوا رنيـــــــــــن الكـــــــــــاس، تمــــــــايلـــــــــــو وغنــــــوا
وكلهــــــــــم فـــــــــى انتظار (ساقى الأرواح)(@)  يستــأذنوا منـه
لما حضر ساقيها النبى ضحك فى الــحــــان(@@) وبــــــان سنـــــــه
نادى يـا ماليـــــه الكــــــاس، هــــــــــات الــخمـــــــــــــور والنـــــــور
واللـــــــــــــــــى يعجبـــــــــــــه صنــــــــــــف ادى لــــه كتيــــــر منـــه
لكـــــــــــن اللـــــــــــى تســقـــــيـــــــه فــــــــى دفتـــــــره ومضيــــــــه
ومــــــــــن قصتــــــــه تعرفيـــــــــــــه، ويبـــــان لك إللـى جرا منه

1 - (*) خمار: المقصود النبى (ص).
        (**) جمع الصفا: الدراويش.
       (***) صاحب الكيف: الدرويش.
2 - (*) ساقي الأرواح: كناية عن النبي.
        (**) الحان: مجلس الذكر.
وهذا التنويع راجع إلى إبداع مباشر يمارسه المنشدون على المادة التي يحفظونها (يشيلوها) من معلميهم»... نجد التعديلات التي يدخلها الأفراد على النصوص والألحان التي سبق أن سمعوها، ونجد التنويعات الراجعة إلى إبداع مباشر مارسه أفراد شعبيون... وعلى أن هناك بعض النقاد بل ومؤرخي الفولكلور، الذين لا ينسبون لهذه القدرات الإبداعية أي مستوى رفيع ويعتبرونها مجرد لعب بعناصر موجودة من قبل... والواقع أن هذا الكلام يمكن أن يكون صحيحا لو أننا طبقنا عليه معايير النقد الرسمي بشكل صارم، ومن وجهة النظر الفردية الصريحة، أما إذا أردنا أن نكون منصفين في تقييمه، فلابد لنا أن نعتبره إبداعا، مهما يكن تواضع وبساطة القوى المبدعة الصادر عنها(25).
وهناك طراز من المنشدين يؤلفون الشروح (المووايل) أو يلجأون إلى مؤلفين لتأليفها لهم، بسبب التحول الذي طرأ على الإنشاد باستخدام الآلات الموسيقية (العدة) في حلقات الذكر، مما جعل أكثر الأنماط قبولا لدى المنشدين والجمهور الأدوار الخفيفة، وقد ساعد معرفة أكثر المنشدين بالقراءة والكتابة وما يمتلكونه من ذواكر جيدة فضلا عن قدراتهم الإبداعية العالية، على تأليف هذا النوع من الشعر، فقد نشأوا في أحضان الطرق الصوفية وتربوا دراويش يرتادون الموالد. أضف إلى ذلك رغبة الكثير منهم في التجديد وطرح شرائط تسجيل في الأسواق وسعيهم إلى تحقيق الشهرة من خلال هذه الوسيلة، واندفاع بعض شركات طبع الشرائط إلى تأجير مؤلفين لتنفيذ ذلك، فالمنشد يعيش حالة عقلية في مجال الإنشاد state of mind لكثرة تجربته ومعايشته للصوفية والدراويش، مما يجعل الصيغ والتراكيب السائدة هي الغالبة عنده(26) ، وهذا ما يعبر عنه أونج بقوله “الطريقة الشفاهية” تسمح للأجزاء غير المريحة من الماضي بأن تنسى بسبب مقتضيات الحاضر المستمر، كذلك ينوع الرواة الشفاهيون المهرة عن عمد في سردهم التقليدي، لأن جزءا من مهارتهم يتمثل في قدرتهم على التلاؤم مع المتلقين الجدد والمواقف الجديدة، أو في قدرتهم على التلاعب”(27). ويمتد هذا التلاعب لدى المنشدين إلى إحلال كلمات جديدة في القوالب أو الصيغ القديمة، فمثلا صيغة الشرح (الموال) التالي:
روح الـمريد لـوصفـت تـمشى فـوق الـريــح (الصفاء)
من كتر سهر الليالى، بتصـلى بالتـســابـيـح   (سهر الليالى)
مركب الحـق اتمـلت، مــن رجــال مصــابيــح

يرددها بعض المنشدين على النحو التالى:
روح الـمــريـد لــوصفت، بتسابق الصواريخ
مـــن كتـــر سهــر الليالـــى، بتعلـــى للمــريـخ
سفينه الفضاء اتملت من رجــال مصابيـــح

وواضح من هذا الإحلال التأثر بألفاظ جديدة لم تعرف إلا في عهد قريب جداً.
ومهما يكن من أمر فإن هؤلاء المنشدين يحاولون إدخال هذه الألفاظ الجديدة في نصوصهم إذ «أن الإبداع الثقافي الفردي كامن في كل ثقافة جماعية من هذا النوع. والفرق بين شعب وآخر وعصر وآخر هو في عدد وأساليب هذه الشخصيات الإيجابية المبدعة»(28).
والتعديل مع كل هذا أمر حتمي، إذ تساعد ظهور الفكرة الواحدة بأشكال متعددة المنشدين على المزج أو الاختيار فيما بينها، وإلى دمج القصائد والشروح مرورا من شرح إلى آخر. وهذا التعديل لا يأتي بسبب النسيان على ما يبدو، ولا يأتي عفويا أو “كيفما اتفق”؛ وذلك لعدة أسباب منها:
أولا: عدم وجود نص ثابت في الأداء.
ثانيا: أنه لا يوجد بين المنشدين مفهوم للحفظ الحرفي كما نعرفه نحن.
وثالثا: لأنه في بعض مناطق القصيدة (النص) الواحدة توجد قوى عديدة تتجه إلى اتجاهات مختلفة، وعلى المنشد ترجيح أن يتجه نحو إحدى هذه القوى، فإذا كانت خبرته قليلة بأحد النصوص، فإن الاتجاه يكون تلقائيا صوب النص الذي سمعه أكثر من بين هذه الاتجاهات(29).
ويفرض الأداء كما سبقت الإشارة إجراء تلك التعديلات لأن جمهور الإنشاد (الذكيرة والمستمعين) من الدراويش ومرتادي الموالد، يعرف النصوص التي يؤديها المنشدون فقد استمعوا إليها عشرات المرات، بل إن بعضهم يحفظ بعض هذه الأشعار، ولكن الأداء يحقق لهم التواجد (من الوجد) عند سماعها، فتحدث لهم النشوة، والسعادة وهي لديهم بمثابة “إعادة اكتشاف المأهول أو المعتاد عليه” كما يقول ألن دندس(30). ويؤكد أداء النصوص السمات الخاصة للأدب الشفاهي ومظاهر اختلافه عن الأدب الرسمي أو المدون والتي تتجسد في “أن نصوص الأدب الشعبي بأنواعه المختلفة، حية دينامية مرنة، تتقبل الإضافة والحذف والتعديل دائما. بينما تعيش الأنواع الأدبية الخاصة على حالتها التي أبدعها بها مؤلفوها دونما أدنى تعديل”(31).
ونستطيع أن نحدد التغيرات التي تتم في النصوص المؤداة وفق العناصر الآتية:
1 - إنشاد النص نفسه مع اختيار عدد أقل من الشطرات أو الأبيات، بسبب طرق المنشدين في إدماج بعض الشطرات مع بعضها أو ربط شطرة بأخرى.
2 - توسيع النص أو زخرفته بإضافة تفصيلات أكثر وتعليقات عليه (المنشد أحمد حسنين).
3 - إضافة مادة جديدة للنص من نص آخر، بشرط أن تتوافق مع فكرة النص الأساسي (المنشد أحمد بعزق).
4 - إحلال فكرة محل أخرى في ذات النص.
ويضع بعض المنشدين مبررات حتمية للتجديد والإبداع في النصوص الشعرية الصوفية الشعبية، ومنها:
- أن التكرار يصيب الناس بالملل ومن ثم العزوف عن المشاركة فى مجالس الذكر (السماع والذكر)، ويفطن المنشدون إلى ذلك فيلجأون إلى التنويع بإدخال نصوص جديدة ويعدلون فيما حفظوا لأن “الناس بتحب الحاجة الجديدة، ويشتاقوا ليسمعوا جديد، وبيطلبوه مرة واتنين وتلاتة”(32).
- أن التجديد ضروري لمسايرة حركة الذكر الذي يتدرج من البطئ إلى السريع فالأسرع وهكذا، مما يفرض على المنشدين أن ينوعوا من محفوظهم الشعري، فما يقدمه المنشد على مدى الليلة الواحدة يتنوع فيشمل القصائد، والشروح (المواويل) والأدوار الخفيفة، والموشح ويتنوع كذلك في كل ليلة، بل يختلف عن وعي من المنشد بذلك فهو لا يريد أن يكرر نفسه كما يقول “وقد يزيد محصول أحد المنشدين من الأشعار عن غيره أو في شكل من الأشكال إلا أن الثابت أن عليهم جميعا أن يحفظوا عددا غير محدود” منها جميعا ليغطوا به المناسبات والليالي المختلفة.
والسؤال المطروح في نهاية هذه الورقة، ما هي الصورة التي سيبدو عليها الشعر الصوفي الشعبي الذي ينشد في الموالد والحضرات مستقبلا؟ هذا ما لا يمكن الإجابة عنه ببساطة. ولكن المؤكد أن هذا النوع الأدبي الشعبي (الشعر الصوفى الشعبي) سيظل حيا طالما ظلت الصوفية وبقيت الموالد وحلقات الذكر على قيد الحياة.

 

الهوامش والمراجع

1 - تعتمد هذه الدراسة على بعض المنشدين ممن يؤدون الإنشاد، وقد تم التسجيل مع عدد منهم وهم الشيخ أحمد حسنين، 74 سنة، وولديه سيد ومصطفى، والشيخ حسنين عبد العاطي (54 سنة) والشيخ أحمد بعزق 42 سنة، والشيخ عبد العزيز صالح 72 سنة. ولمزيد من التفاصيل انظر إبراهيم عبد الحافظ، الشعر الصوفي الشعبي، القاهرة، المركز القومي للموسيقى والمسرح والفنون الشعبية، ع13، 2008.
2 - والتر أونج، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن البنا عز الدين، الكويت سلسلة عالم المعرفة، فبراير 1994، ص65.
3 - يان فانسينا، المأثورات الشفاهية، ترجمة أحمد مرسى، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1981، ص134.
4 - الدرويش كلمة فارسية الأصل مكونة من مقطعين در: باب، ويش: فقير وكانت تطلق في بادئ الأمر على الفقراء والمحتاجين الذين يسألون الناس إحسانا، ثم أطلقت بعد ذلك على الزاهدين من المسلمين، وقد استخدمت الكلمة في اللغات التركية واللغات الأوروبية ثم أطلقت بعد ذلك على أعضاء الطرق الصوفية. ويمكن التمييز بصفة عامة بين الصوفي ذي النزعة الفلسفية والدرويش، كما يمكن التمييز بين النظرية أو التطبيق العملي لها، فأما الصوفي فهو المسلم الذي يتزود بنظرية فلسفية معينة، وأما الدرويش فهو المسلم الذي يحيا حياة خاصة تهتم بالجانب العملي من التصوف كالذكر والعهد والخلوة...إلخ. ومن حيث التسميات التي تطلق على الدراويش يطلق عليهم اسم الفقراء، أو الإخوان وقد ظهرت هذه التسميات في بلاد عديدة من العالم الإسلامي. (انظر بالتفصيل. محمد قنديل البقلى، 1970م، ص ص 4-5) وحسين مجيب المصرى، 1983، ص63 وفاروق أحمد مصطفى، 1981، ص80).
5 - إبراهيم عبد الحافظ، الشعر الصوفي الشعبي، مرجع سابق، ص13.
6 - الخطط للمقريزي، والخطط التوفيقية لعلي مبارك، ومقدمة ابن خلدون.
7 - Bernard G. Weiss & Arnold H. Green, A Survey of Arab His, The American University in Cairo Press, 1988, p. 166.
8 - Ibid, p. 168.
9 - د. على صافى حسين، الأدب الصوفي في مصر، في القرن السابع الهجري، دار المعارف، 1971، ص 112، ومواضع متفرقة من الكتاب.
10 - د. على سامي النشار، الغناء والسماع، عند أبى الحسن الششتري، مجلة الفنون الشعبية، العدد الثانى، 1960.
11 - د. توفيق الطويل، التصوف في مصر إبان العصر العثماني، الهيئة العامة للكتاب، جـ1، 1988، ص82.
12 - محمد قنديل البقلي، أدب الدراويش، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1970، ص149.
13 - يعبر ألبرت لورد فى كتابه “The Singer of Tales” (مغني الحكايات) فيقول عن الصيغ الشفاهية، وفضلا عن ذلك كانت الصيغ النموذجية تتجمع على نحو متساو حول موضوعات ثيمات نموذجية، مثل المجلس، واجتماع الجيش، والتحدي، وسلب المهزوم، وكرسي البطل، وهكذا دواليك، كما عقد مجموعة من المقارنات لكيفية ظهور هذه الثيمات في النصوص المختلفة التي جمعها بنفسه، أو قام بنشرها من قبله أستاذه مليمان باري، راجع:
- Albert. B. Lord, “The Singer of Tales” Harvard University Press. Cambridge 1964, pp. 89-68.
14 - النص من مجموعة نشرها شوقي عبد الحكيم فى كتابه “الشعر الشعبي الفولكلوري عند العرب” دراسة نماذج، دار الحداثة بيروت، 1991، ص154 تحت عنوان أغاني –تخمير – دينية. وقد جمع الباحث النص فى مناسبتين مختلفتين إحداهما مع أحد المنشدين أثناء الأداء الطبيعي (أحمد حسنين) والثانية في مقابلة بمنزل المنشد (حسنين عبد العاطى) بعرب الطوايلة خلال شهر أغسطس 1993.
15 - أحمد رشدى صالح، الأدب الشعبي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط3، 1971، ص60.
16 - محمد الجوهري، علم الفولكلور، جـ1، دار المعارف، ط3، 1978، ص ص 314-317، ومقال الإبداع والتراث الشعبي، القاهرة، منشورات الهيئة العامة لقصور الثقافة، يوليو 1991.
17 - النصوص منشورة في ديوان الكان وكان للدكتور كامل الشيبى، مجلة التراث الشعبي، العدد الثامن، السنة 12، أغسطس 1981.
18 -  سجل النص المؤدى للمنشد أحمد بعزق (42 سنة) بقرية بهتيم في مولد سيدى على الأعصر 15 مارس 1993.
 19 - انظر إبراهيم عبد الحافظ، مرجع سابق، ص303.
 20 - انظر النص في إبراهيم عبد الحافظ، المرجع السابق، ص ص 336-337.
21 - أحمد مرسي، مقدمة فى الفولكلور، القاهرة، دار النهضة المصرية، ط1، 1978، ص.
22 - Earli Wagh, The Munshidin of Egypt, Their World and their song, University of south Carolina, Press, p. 135.
23 - د. محمد الجوهرى، الإبداع والتراث الشعبي، مرجع سابق، ص14.
24 - المنشد (المعلم) أحمد حسنين و(التلميذ) حسنين عبد العاطى، وقد استقل التلميذ عن معلمه وكون فرقة للإنشاد قبل خمسة عشر عاما تقريبا.
25 - د. محمد الجوهري، الإبداع والتراث الشعبي، المقال السابق، ص16.
26 - Earle Waugh, The Munshidin of Egypt Their world and their Song, University of South Carolina Press, 1989.
27 - والتر ج أونج الشفاهية والكتابة، مرجع سابق، ص114.
28 - د. محمد الجوهري، الإبداع والتراث الشعبي، السابق، ص18.
29 - Albert. B. Lord Ibid. p. 30-29.
30 - ألن دندس، الأدب الشعبي دراسة في الفولكلور والأنثروبولوجيا، ترجمة محمد الشال، مجلة الكاتب، أغسطس 1977، العدد 197، ص22.
31 - المرجع السابق، ص23.
32 - المنشد أحمد بعزق 42 سنة، الجدش، بلبيس شرقية، مقابلة فى يناير 1994.

أهم المصادر والمراجع
أولا: المصادر
1 - شريط تسجيل كاسيت للمنشد أحمد حسنين فرج بمولد سيدى الأعصر ببهتيم
يونيه 1993.
2 - شريط تسجيل كاسيت مقابلة مع المنشد حسنين عبد العاطى بمنزله عرب الطوايلة بتاريخ 20 أغسطس 1993.
3 - شريط تسجيل كاسيت للمنشد أحمد بعزق بمولد سيدى على الثورى ببهتيم يناير1994.

ثانيا: المراجع العربية
1 - إبراهيم عبد الحافظ، الشعر الصوفى الشعبى، القاهرة، المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، ع 13، 2008.
2 - أحمد رشدى صالح، الأدب الشعبى، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط 3، 1971.
3 - ألن دندس، الأدب الشعبى دراسة فى الفولكلور والأنثروبولوجيا، ترجمة محمد الشال، القاهرة، مجلة الكاتب، أغسطس 1977.
4 - د. محمد الجوهرى، علم الفولكلور، جـ1، القاهرة، دار المعارف، ط3، 1978.
5 - د. محمد الجوهرى، الإبداع والتراث الشعبى، القاهرة، مطبوعات وزارة الثقافة الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1991.
6 - محمد قنديل البقلى، أدب الدراويش، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1970.
7 - والتر أونج، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن البنا عز الدين، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، فبراير 1994.

المراجع الأجنبية
1 - Albert. B. Lord, “The Singer of Tales” Harvard University Press. Cambridge 1964.
2 - Bernard G. Weiss & Arnold H. Green, A Survey of Arab History, The A.U.C, Press, 1988.
3 - Richard Bauman, Performance (in) Bauman Folklore, Cultural Performances, and Popular Entertainments, Oxford University, Press, 1992.
4 - Michel Gilsnan, Saint and Sufi in Modern Egypt, Oxford at the Clarendon Press, 1973.
5 - Ruth Finnegan, Oral Poety, (in) Bauman, Folklore, Cultural Performances, and Popular Entertainment, Oxford University, Press, 1992.
6 - Oral Tradition and the Verbal arts, a guide  to research practices, Rutledge, 1992.
7 - Earle Waugh, The Munshidin of Egypt, Their world and their Song, University of South Carolina Press, 1989

أعداد المجلة