فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الثقافة الشعبية : الأنا في مواجهة الأخر

العدد 23 - آفاق
الثقافة الشعبية : الأنا في مواجهة الأخر
كاتبة من مصر

إن الوسيلة في حد ذاتها رسالة، الوسيلة التي تتوخاها المجتمعات في التعامل مع تراثها الثقافي  ( الأنا ) هي رسالة إلى الثقافات الأخرى ( الآخر )، فقدر الاحتفاء  و التعامل اللائق مع التراث اللامادي في المجتمعات والسبيل الذي تنتهجه تلك  المجتمعات سواء على مستوى الحكومات أو المؤسسات الأهلية أو الأفراد في الحفاظ على تراثها اللامادي ينبئ عن وضع هذا التراث في بيئته.

 

وإذا سلمنا بأن التراث كائن متطور ولم يكن أبدا ساكنا أوجامدا وأن الوسائل والأدوات والمناهج المتبعة في التعامل مع الثقافة الشعبية تشهد تطورا وتقدما ملحوظا، فإننا لابد بالتبعية أن نسلم بأن ما بقي هوتطوير النظرة إلى التراث، إرث الأجداد، والتعامل مع جدلية التراث بعقل ووجدان مفتوحين.. دون تهوين أوتهويل من الآثار المترتبة على ما يطرأ على هذا التراث من تحولات لابد أن نكون قد سلمنا بها.
ومع اعترافنا بوضعية تراث الأمة الذي يشكل في طرحنا هذا “ الأنا ” وما يحتاجه من حماية إلا أننا ندرك أن هذه الأنا تحوي كيانات صغيرة إهمالها يضر بقضية صون التراث وقضية حقوق الانسان في آن واحد. اذ مازالت بعض الثقافات الفرعية داخل مجتمعاتنا تعاني من تحرش “الآخر” ومحاولته طمسها، ومازالت بعض المجتمعات التي تحوي تلك الثقافات الفرعية تنظر إلى تلك الأقليات أوفي بعض الأحيان القبائل كمصدر للقلق الذي تسعى إلى تسكينه بالتنمية متجاهلة حق تلك الجماعات في الاختلاف والاحتفاظ بثقافة مغايرة، وقد يكون عدم احترام الخصوصية الثقافية لتلك الأقليات وراء ما تواجهه خطط التنمية من فشل .
نحاول هنا أن نتتبع مشكلة علاقة التراث اللامادي في مجتمعاتنا بما يحدث من تغيرات وتحولات بفعل الاحتكاك بثقافات مغايرة وما يؤدي إليه هذا الاحتكاك من تغيرات على عناصر الثقافة الشعبية. ثم تحديد عوامل هذا التغير، وأخيرا محاولة تقديم رؤية للتعامل مع تلك المعطيات بما يتيح الحفاظ على التراث اللامادي مع اللحاق بركب الحداثة.

أبعاد المشكلة:
المشكلة الرئيسية التي تواجه الأفراد والجماعات في عالم سريع التغير هي مشكلة التقدم والتكيف مع التغييرات دون التخلي عن العناصر التي تثمنها المجتمعات في التراث، وبقدر حاجة الشعوب على اللحاق بركب التقدم والحداثة تتنازعها هواجس الخوف على تراثها من الضياع تحت أقدام فرس الحداثة الجامح، فظهرت العلاقة بين القديم الأقرب إلى أن يكون « الأنا » وبين الحداثي الذي يمثل « الآخر » وكأنها علاقة صراع وتحد، وكأن كل طرف منهما ليحيا لابد وأن يقضي على الآخر، فإذا ما قرر مجتمع الحفاظ على تراثه وإحيائه لابد وأن يقاوم التقدم والحداثة، وإذا ظهرت الحداثة لابد وأن تقاوم التراث لأنه يمثل العودة إلى الوراء ويشكل التقاليد التي دائما ما يقترن ذكرها بكلمة «البالية »، والحق أننا بحاجة إلى إعادة بلورة العلاقة وتحليل أبعادها، التي نرى أنها ليست علاقة حدية كما يصورها البعض وإنما هي بطبيعتها علاقة جدلية أوهكذا يجب أن تكون.
ولعل من المسلم به أن التفاعل بين الثقافات يتم في إطار ديناميكي متحرك وليس ساكنا تستقبل فيه ثقافة ما يملي عليها أوتنهب دون أن يكون لديها الآليات التي تدفع بها هذا السطوالثقافي اذا جاز التعبير. وفي الوقت ذاته نجد تلك الثقافة نفسها تمارس مع غيرها من الثقافات المواقف التي نعتتها بالسطوتحت أسماء أكثر قبولا مثل التفاعل أوالتبادلات الثقافية .وفي ظل غياب تام للمعيار الدولي الواحد للتبادلات الثقافية فإننا نرى أن الاعتراف بهذا التبادل الثقافي أمر لازم مع ضرورة الاعتراف بحقوق كل ثقافة في مفرداتها، ويبقى أن نحدد ماهية تلك الحقوق وطرق أدائها.
ونحن هنا نمارس القلق المشروع، نبث قلقنا على تراثنا إرث أجدادنا من الضياع  وكل منا لديه هواجسه، ولأن الواقع ملتبس والتنوع بات مهددا بأن يتلاشى أمام آلة الإعلام والهجرات الخارجية ونمط الإنتاج الجديد وهيمنة المد الديني المتشدد على منطقتنا، ليصيغ العالم في شكل ثقافي واحد، كان لابد من تحديد موقف المؤسسات البحثية والحكومات مما يعتري تراثها اللامادى من تغيرات لن تستطيع أن تقف أمامها مهما اتخذت من تدابير، ولعل ما وضعه تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية من هدف لها في عام 1995 يمكن أن يشكل طرحا جيدا لتلك العلاقة التي نريد صياغتها هنا إذ يقول التقرير في مقدمته « يعمل هذا التقرير على إمداد أجيال الحاضر والمستقبل بالأدوات اللازمة لمواجهة هذا التحدي، ولتوسيع رقعة معارفها واكتشاف العالم بتعدديته المحتومة والسماح لكل الأفراد بحياة كريمة، دون فقدان هويتهم وإحساسهم بالجماعة، ودون إهمال تراثهم « تلك كانت الروح وهكذا ينبغي أن تستمر في النظر إلى التحديات الثقافية الجديدة، فهي معطيات الحاضر وهي الواقع التي علينا أن نجد مسارا سلميا للتعاطي معه، فلنسلم بأن هناك تغيرات كثيرة شابت مفردات الثقافة الشعبية لسنا في مجال تقييم ما إذا كانت تلك التغيرات تمت إلى الأفضل أوالأسوء إنما نحن بصدد تقرير واقع، وكل واقع في حقيقته هوواقع خاص ولا يطابق العام .. وإن كان مشتقا منه.
وتشخيص حال التراث اللامادي في بلاده لابد أن يقترن بتشخيص حال المؤسسات البحثية العاملة في هذا المجال وبحث وضع الباحثين في التراث وخلفياتهم  حتى تكتمل الصورة ونضع أيدينا على بيت الداء إلا أن هذا ليس موضوعنا هنا.
فمع هبوب رياح التغيير القادمة على مجتمعاتنا من كل الاتجاهات وجب التأمل في واقع التراث اللامادي في أوطاننا وطرح تساؤلات عن مدى تأثير تلك التغيرات على الثقافة الشعبية، وبداية أعراض لما أتصور أنها عوامل كانت حاسمة في الفترات الأخيرة في التأثير على الثقافة الشعبية، بعض تلك العوامل شكلت عوامل تغير مثل الإعلام والهجرة ونمط الإنتاج الجديد والبعض الآخر بدا وكأنه قوة تغيير مثل المد الديني المحافظ؛. ويمكن النظر إلى كل عامل من تلك العوامل كمصدر للتحدي والمواجهة بين خيارين: التمسك بالتراث أوالتسليم بحتمية التغير والتخفف من بعض الممارسات والعناصر التقليدية للحاق بركب الحداثة . أوالجنوح إلى خيار ثالث وهومحاولة السير في الطريق الآمن الذي يقضى بمحاولة التمسك بالتراث والحفاظ على ذاكرة الأمة بممارسة العادات والمعتقدات وتداول الفنون التقليدية طالما لا تتعارض الممارسة مع مقتضيات الحياة الحديثة وفي الوقت نفسه العمل على تتبع ما يتوارى من العناصر الثقافية وتسجيله وتوثيقه من ألسنة وأفئدة الرواة في الأرشيفات المتخصصة. إما وعيا بأهمية تقفي آثار الأولين للحفاظ على الهوية وتدعيم الوعي بالذات لدى أبناء الأمة أوليعاد تقديمه إلى الأجيال القادمة والمبدعين .
وبعيدا عن القضايا المسلم بها من ضرورة حماية التنوع الثقافي وحق الشعوب في امتلاك ثقافتها، هناك قضية أخرى لا تقل حيوية عن تلك القضية ألا وهي الحفاظ على التوازن الثقافي الذي يضمن البقاء لخصوصية الشعوب الثقافية ويحد من التفاوت الكبير في القوة والتأثير بين الثقافات، والتوازن الثقافي هوالمعادل الموضوعي للتوازن البيئي – التنوع الذي يضمن للبشرية البقاء، الذي يموت فيه شيء من أجل أن يحيا شيء آخر تفرضه مقتضيات الموقف الجديد، فالمشهد الثقافي الحالي يحفل بتنامي الاهتمام بقضايا التعددية الثقافية التي طفت على السطح في مرحلة ما بعد الاستعمار ثم مع انتهاء الحرب الباردة، فإذا كنا قد شهدنا مرحلة الاستعمار التقليدي الذي كان يأتي بجيوشه وأساطيله ثم ما أطلقت عليه الدراسات ما بعد الاستعمار والذي هوأيضا استعمار ولكنه اتخذ أشكالا جديدة اقتصادية ثم ثقافية، فإنه من الواضح أن القوى الكبرى أدركت تلك الحقيقة المقتبسة بالأساس من العلوم البيولوجية والتي تنادي باحترام الطبيعة وتحذر من أن تدمير ثقافة يعني خللا في التوازن يضر بتعايش الشعوب بعضها مع البعض.

الواقع ومتغيراته
ولعل أول الخطوات التي يجب البدء بها هوتشخيص الحالة الراهنة للثقافة الشعبية في المنطقة العربية من خلال تحديد العوامل التي أدت إلى ما اعترى تلك الثقافة من تغيرات والتعامل مع تلك العوامل دون عدائية وإنما من باب التسليم بالأمر الواقع والنظر إليها على أنها تشكل تحديات للبقاء يواجهها التراث اللامادى، ثم ننتقل إلى التساؤل التالي الذي تفضي اليه تلك المقدمات، وهوما يمكن من تقديمه لدرء خطر تلك التحديات، ما أمكن هذا، للحفاظ على التنوع الثقافي وبالتالي الخصوصية الثقافية لأوطاننا.
وأول ما نتعرض له كعامل من العوامل التي تؤثر على التراث اللامادي في منطقتنا هوتحديات سطوة التفكير الديني المحافظ وتسيده الموقف بما يحمله من مواقف متشددة من بعض عناصر وممارسات التراث اللامادي (والتي تتعدد أمثلتها من مواقف تحريم إقامة الأضرحة للأولياء أوإقامة الموالد لهم وصولا إلى تحريم الرسوم أوالدعوة لعدم الاحتفال ببعض الأعياد المصرية مثل شم النسيم)، أوطرح البدائل الدينية لتحل محل الممارسات الشعبية وتترك الاختيار للناس محبذة الاختيار الديني وبالتالي تزيح الممارسة الدينية الممارسة الشعبية بهدوء وبطريقة جد سلمية (والنموذج الذي يحضرني على هذه الحالة هوإحلال الاحتفال بالمولود بإقامة عقيقة بدلا من الاحتفال بإقامة السبوع المصري وما يتضمنه من ممارسات بدق الهون والتخطية على المولود سبع مرات وتلقين الوليد بمن يسمع كلامهم ومن يرفضه ورش الملح وتوزيع الشموع والحلوى على الأطفال والغناء، كل هذا يستبدل بذبيحة توزع على الفقراء ويقام بجزء منها وليمة يدعى إليها المهنؤون بقدوم المولود – على أنه يجب أن ننوه إلى أن “السبوع”مازال ممارسة حاضرة في الثقافة الشعبية المصرية تقاوم الإزاحة ويدعم من وجودها أن الممارسة البديلة باهظة التكاليف وليست في متناول الكثير من الأفراد خاصة ممن ينتمون إلى الطبقات الدنيا والمتوسطة )، ومع طغيان هذا النمط الجديد وتحت وطأة الشعور بالذنب للتقصير في أداء سنة نبوية يمكن أن نتوقع أن يتخلى من تمنعه ضيق ذات اليد من أداء العقيقة عن إقامة السبوع، ذلك الطقس المفعم بالمعتقدات والفنون والعادات، علاوة على أن الشق المادي من الاحتفال بسبوع المولود مرشح للاختفاء أيضا باختفاء أدواته فمثلا دقات الهون النحاسي نفسها ستختفي لإحلال الهون المصنوع من الألومنيوم أوالخشب بدلا منه، والوضع الراهن أن البعض مازال يجد طريقا إلى الجمع بين النمطين إلى أن ينتصر أحدهما ويستطيع أن يزيح الآخر تماما، وبديهي أن هذا التحول من نمط  إلى نمط آخر يحتاج إلى فترات زمنية طويلة، علها تتيح لنا فرصة للتوثيق والتسجيل إذا لم نكن قادرين على بث الحياة  فيه أوفي أي طقس في طريقه للاختفاء.
أيضا من آثار سطوة التيارات الدينية تعرض فن أدبي طالما عرفته الثقافة العربية  وحفظت نصوصه ألا وهورثاء الميت «العديد» الذي أصبح من الصعب تسجيل نصوصه بسبب النهي الديني عن ترديده ولا أقول اندثر ولكنه أصبح نادرا وعصيا على التسجيل ( وكثيرا ما سألت نفسي ولماذا العرب في الأزمان الأولى وكان الإسلام فيها في أوج عزته يرثون الميت بشعر ويظلون يرددونه حتى يصل إلينا وبعضه ندرسه في المدارس على أنه من التراث الشعري القيم للعرب ؟، على أن أبطأ عناصر الثقافة الشعبية في التغير هوالمعتقدات الشعبية التي تقاوم وتستطيع أن تحيا بعيدا عن رياح التغير، ويساعدها في ذلك طبيعتها من حيث أولا كونها ممكن أن يمارسها الفرد منفردا أوفي دائرة محدودة، أيضا أنها لا معيارية تترك لممارسها الحرية في أن يعتقد أولا يعتقد فيها دون أن يترتب على ذلك تبعات اجتماعية، فالاعتقاد في الكائنات الغيبية وقدراتها أواستطلاع الغيب بقراءة الفنجان أوفتح المندل نماذج لمعتقدات طالما مارسها المصريون وزيادة المد الديني تقف أمامها لكن القضاء عليها يحتاج كثيرا من الوقت.
وفي نفس الوقت هناك بعض المعتقدات الشعبية التي يصطدم بعضها بالمعتقد الديني كالسحر؛ وقياس درجة بقاء هذا العنصر مثلا من الثقافة الشعبية أمر ليس بسهل في ضوء انتشار التيارات الدينية المحافظة والتي حدت بممارسي تلك المعتقدات إلى تضييق دوائر ممارستهم له وعدم الجهر باعتقادهم فيه،كذلك بعض العادات والممارسات التي ينتهجها الأفراد في أعيادهم واحتفالاتهم، وإذا كان هذا هوحال تهديدات المعتقدات الشعبية للأغلبية فيمكن أن نتصور حال المعتقدات الشعبية للأقليات، والمعركة هنا لم ولا نتصور أنها ستحسم لصالح أحد الطرفين بشكل كامل ولكن تظل سيادة التفكير العلمي عاملا حاسما في تواري كثير من المعتقدات الشعبية ولا أقول اندثارها.
وتكمن عبقرية الشعوب في قدرتها على الحفاظ على رواسب وجذور الثقافة الشعبية وإعادة صياغتها داخل الإطار الجديد الذي فرضته وقائع الأمور، أيضا في تخليق ميكانيزمات دفاع تحول دون اختفاء العناصر الثقافية نهائيا من حياة الجماعات، والدليل على ذلك أن  كثيرا من العادات والمعتقدات الشعبية المصرية مازالت تحمل الجذور الفرعونية التي تعود إلى مصر القديمة والتي استطاعت أن تتشكل وتحتفظ بالرواسب الثقافية وتبنى عليها طبقات عبر التاريخ لتظهر بالشكل الذي هي عليه اليوم، تلك كانت دائما خصيصة من خصائص الثقافة المصرية إلا وهي القدرة على الامتصاص والهضم والاستيعاب للثقافات الأخرى لتظهر بشكل مصري في النهاية يحمل الرائحة والطعم المصريين،وعلى ذلك فإن ما نتصوره تحديات اليوم كان هناك دائما في تاريخ المجتمعات مثيلاتها فلا التراث اختفي ولا المعارك وضعت أوزارها.
ويطالعنا التاريخ بقدرة الشعوب على الاختيار وتبني العناصر التراثية التي تناسب بناها الاجتماعية وتبتعد دون صدام عن ما لا يتماشى معها ومن ذلك مثلا تبني المصريين بعض الممارسات والعناصر الثقافية إبان فترة الحكم الفاطمي مثل فانوس رمضان وحلوى المولد النبوي ولم تتبن الأفكار التي أتى بها هذا الحكم وكان هذا الموقف متسقا مع الرؤية النظرية التي مؤداها أن دخول عناصر الثقافة المادية يكون أسرع من نفوذ الأفكار والعادات والمعتقدات إلى الشعوب، وبذلك فإن المخاوف من أن سطوة التفكير الديني المحافظ يمكن أن تنزع عن الشخصية المصرية بعضا من خصائصها الثقافية والطبقات المكونة لتلك الشخصية وتفرغها مما اكتسبته على مر العصور ليكون نمطا ثقافيا خاصا بها ويهدد خصوصيتها الثقافية هي مخاوف مشروعة ولكن التاريخ شاهد على أن التحولات في النهاية تتم بإرادة الشعوب ولا تتم قسرا بأي حال.
والآخر الذي حددناه كقوى تغيير قد يأتي إلينا أونذهب له، وأعرض هنا للإعلام وتأثيره على عناصر الثقافة الشعبية ( يأتي إلينا )، والهجرة وآثارها ( نذهب إليه). ونعرض لكل من العاملين وتأثيرهما على الثقافة الشعبية،أول هذين العاملين الذي نعرض له كمسبب رئيسي في التغيرات والتحولات التي تطرأ على التراث اللامادي هوالإعلام الذي بات مسلما بدوره الفاعل في التغير الثقافي حتى أن العالم بفعل – ولا أقول بفضل – الإعلام أصبح يشهد حالة غير مسبوقة من السيولة الثقافية أوشكت أن تصيغ العالم في ثقافة كونية واحدة، صحيح أن الشعوب تختار لكن اختيارها ليس بالضرورة هوالاختيار المثالي، وصحيح أن الشعوب تمارس تلك العناصر الثقافية بأشكال وصيغ مختلفة طبقا لنوعية المجتمع ودرجة تطوره أوعدم تطوره، لكن التنوع الثقافي الذي تنادي المنظمات الدولية بحمايته أصبح في ظل السماوات التي فتحت على مصراعيها دربا من الخيال. ويحار المرء حين تخرج الدراسات عن جماعات عرقية لها ثقافات خاصة ( فرعية) داخل الثقافة الأم للمجتمع الذي تعيش فيه ومع كل محاولات الحفاظ على خصوصيتها الثقافية نجدها في مناسباتها (خاصة السعيدة) تلجأ إلى الأغاني والملابس والطعام وغير ذلك من أشكال الاحتفال الجاهزة التي يقدمها الإعلام. فالإلحاح الإعلامي يقدم البديل الجاهز الذي ينوب فيه المبدع المحترف عن الشعب ويكفيهم عناء الإبداع، ثم – وهوالأخطر – يقدم النموذج المثالي الذي يطمح إليه الأفراد ويحتذونه.
والإعلام الذي بفتحه الحدود بين الثقافات يسَّر كسر الفواصل بين الثقافات وأعاد صياغة بعض العناصر الثقافية لتطل علينا بمظهر جديد قد يصعب على أصحاب الثقافة أنفسهم التعرف عليها،إلا أن هذا الإعلام في نفس الوقت يمكن لوحسنت النوايا وأدركت الشعوب القيمة الحقيقية لما تملكه من تراث لامادي لجنحت إلى توظيفه  لتعزيز التنوع الثقافي ليلعب دورا ايجابيا في إحياء القيم والعناصر الثقافية الايجابية أوالدافعة التي يتخلى عنها أصحابها وذلك بأن يعاد إنتاجها بشكل يتوافق مع مقتضيات الحياة الجديدة التي يحياها الأفراد من خلال قنواته وبشكل يتوافق مع المعطيات الجديدة فإذا كانت تلك العناصر قد خلقت بالأمس إلا أنها يمكن أن تحيا في عالم اليوم، وبهذا فالعالمية اليوم هي مبدأ جوهري وأصغر جماعة عرقية لا يمكن أن نصفها اليوم بأنها جد منعزلة، وحال الجماعات البدوية في صحراء مصر اليوم يشهد على تلك المقولة ويؤيدها.
وما يتيحه الإعلام للأفراد من مجالات للاستهلاك الرحبة بات يغنيه عن عالمه الضيق، وما يقدمه من أنماط مغايرة للحياة يجعله يدخل في دائرة من الخيارات التي لم تكن متاحة له من قبل، وبهذا فإن هذا هوما يمكن أن نطلق عليه وبحق الغزوالناعم للثقافة، وما تقوم به الدراما التركية في بلادنا العربية هوبدايات تسريب ناعم لنمط حياة آخر تاركة الخيار – وهذا هوالحال مع الإعلام كعامل من عوامل التغير – للشعوب أن تتبنى ما تراه؛ فإذا ما ارتضينا أن ننظر إلى الدور الذي يلعبه الإعلام في عصرنا على أنه توسيع فرص الاختيار في الحياة  هنا يكون التمسك بالتراث اختيارا يجب أن تدعمه الحكومات وتطرح بالوسيلة ذاتها – الإعلام – اختيار القيم والصناعات التقليدية كنموذج قادر على الحياة جنبا إلى جنب مع البدائل المطروحة.
والعامل الآخر من عوامل التغير الجذري للتراث هوالهجرة، والهجرة تكون إما داخلية أوخارجية، وحديثنا هنا ينصب بالأساس على الهجرة الخارجية ذلك أن الهجرة الداخلية على ما لها من آثار كبيرة على النمط الثقافي الذي ينتهجه الأفراد في حياتهم إلا أن حدود التغير في هذه الحالة يظل داخل حدود الثقافة الأم  فيتم غالبا في إطار بنى ثقافية إن لم تكن متماثلة فهي – على الأقل – غير متنافرة، وإن كان لها تأثير بالغ على التنوع الثقافي،أما الهجرة الخارجية فتأثيرها يصيب جذور الثقافة ويتيح لثقافة أن تمحو عناصر ثقافية أصيلة للوافدين، على أن التخلى عن العناصر الثقافية في هذه الحالة يميل الباحثين إلى إطلاق عليه مصطلح  « التكيف الثقافي » لتخفيف الشعور بالذنب لدى المهاجرين الذين تخلوا عن ثقافتهم الأم طواعية وتبنوا عناصر الثقافة الحاضنة لهم. ومع عودة المهاجرين إلى ديارهم عادة ما يجلبون معهم ما افتتنوا به من المظاهر الثقافية في الثقافة التي عاشوا بين مفرداتها  سواء من أفكار أونمط زي أوأطعمة جديدة فتدخل إلى مجتمعاتهم كنمط مثالي يزاحم النمط الواقعي الذي يعيشه الأفراد في مجتمعاتهم، وتلك رحلة كثيرا ما تطالعنا بها كتب الرحالة الذين تعرضوا لثقافات مغايرة فذكروا تفاصيل عن مشاهداتهم بعضها بإنبهار يسر انتقال بعض تلك الممارسات إلى الثقافات الأخرى.
وإذا كنا نولي عامل الهجرة أهمية كبيرة كعامل من عوامل التأتير على التراث اللامادي فإن ذلك مرجعه إلى تزايد أعداد المهاجرين بين البلدان في الحقب الأخيرة والتي ساعد على تزايدها تقدم سبل المواصلات ووسائل الاتصال مما  قلل من مشاعر الافتقاد للأوطان فبدت الهجرة خيارا مطروحا وصار الفرد يختار أي الأماكن على وجه الأرض توفر له النمط الذي يبتغيه من الحياة والإمكانات التي تشبع احتياجاته سواء المادية أوالمعنوية.
والهجرة حالة خاصة في تلاقح الثقافات لا يمكن أن نغفل فيها تأثير المهاجرين في ثقافة دولة المهجر، ورصد نماذج هذا التلاقح متاح ومنها مثلا ما يتم من آثار لهجرة المصريين إلى دول الخليج، تأثر فيها الطرفان بدرجة ملحوظة تهدد الثقافتين بالتغير وتختلط العناصر الثقافية لتشكل وحدة ثقافية متخذة من وحدة اللغة والدين والتشابه في الظروف التاريخية والسياسية أساسا، تلك مقومات وحدة ثقافية داخل إطار من التنوع الثقافي المحتوم .
على أنه يجب ألا يفوتنا أن ننوه أن للهجرة في بعض الأحيان أثرا مغايرا؛ اذ قد يدفع الخوف من انقطاع الصلة بين الأفراد ومجتمعاتهم أوالانخراط في نسق قيمي يتعارض مع النسق القيمي للثقافة الأم، قد يدفع هذا الأفراد إلى التمسك بتراثهم وممارسة عاداتهم وطقوسهم بشكل أكبر مما كانوا قد تعودوا عليه في مجتمعاتهم فيبحثون عن السمات الثقافية التي تتجسد في تراثهم لمقاومة ما يعتبرونه تحديدا لوحدتهم وبقاء جماعتهم ولاستمرارية ثقافتهم وقيمها، على أن هذا التمسك إذا استمر لدى الجيل الأول من المهاجرين إلا أنه يخف قبضته مع توالي الأجيال وانخراطها في الثقافة الجديدة.
وعلت في الفترة الأخيرة أصوات تنادي بمحاولة الحد من الهجرات والنظر إليها كتهديد للطرفين ( المجتمعات الطاردة والمجتمعات الجاذبة ) في نفس الوقت منها ما يقر بأنه «في السنوات الأخيرة سجلت الدول ذات الدخل العالي صافي هجرات يبلغ 1,4 مليون سنويا، ثلثاهم قادمون من الدول النامية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الهجرة الدولية تجر في أعقابها ضياع الموارد البشرية بالنسبة لكثير من دول المنبع، وقد تؤدي إلى توترات سياسية واقتصادية واجتماعية في دول المصب ... فعلى حكومات كل من دول المنبع والمصب أن تعمل بكل جد على جعل البقاء في البلد الأم اختيارا متاحا للجميع».
Farida Shaded, Parellel and Intermediary Institutions within Nations States.
بحث تم إعداده للجنة العالمية للثقافة والتنمية، يونية 1995 ويكتسب هذا الطرح أهميته من نزعته المثالية الرامية إلى احترام التعددية الثقافية ومقاومة النزعة العالمية في الثقافة، وأنه إذ يحبذ الحد من الهجرات إلا أنه يدرك تماما أن تلك مسؤولية الحكومات وأن الأمر في النهاية ليس في كل الأحوال اختياريا وأن لجوء الأفراد إلى ترك أوطانهم غالبا ما يمثل الاختيار الثاني فالأصل أن ينتمي الفرد إلى مكان وبالتالي ثقافة تربطه بأفرادها روابط الدم والتاريخ .
ومهما بلغت قدرة الجماعات المهاجرة على مقاومة الاندماج في الثقافة الجديدة (الحاضنة) إلا أنها في النهاية تمارس معتقداتها وعاداتها داخل إطار مجتمعى وبنية اجتماعية يجب احترامها؛ والأمثلة على ذلك عديدة منها مثلا ما تلاقيه الجماعات الآسيوية من معاناة في الحياة في المجتمعات الغربية التي تجرم العنف الأسري وهوما يعد غير مناف للقيم الاجتماعية في المجتمعات الآسيوية، كذلك محاولة ممارسة ختان الإناث من قبل بعض الجماعات في مجتمعات تعد تلك الممارسة جريمة، كذلك الثأر الذي يعد عادة وعرفا لدى بعض الجماعات وترفض مجتمعات أن يمارس على أراضيها. من هنا كانت الهجرة في بعض الأحيان أداة تغيير قسري للعادات والمعتقدات الشعبية.
وأحد عوامل تغير التراث اللامادي التي لا يمكن إغفال تأثيراتها المباشرة هو سيادة نمط الانتاج الجديد الذي بات أقرب إلى أن يصيغ العالم في شكل استهلاكي واحد قاضيا في طريقه على التنوع الثقافي، وهذا العامل يعد عاملا حاسما يقود الثقافات إلى التغير الإرادي أوالطوعي الذي لا يستطيع أحد أن يطالب الثقافات أن تعزف عنه حفاظا على التراث، فيصبح هذا المطلب مطلبا عبثيا في عالم اليوم، مثلا الطرق التقليدية في حفر الآبار ومعرفة أماكن المياة الجوفية وطرق استخراج المياه من البئر ووسائل تنقيتها وأساليب توزيعها، كل تلك الثقافة والمعارف التقليدية باتت إلى زوال مع ظهور نمط الإنتاج  الجديد وأدواته الحديثة ومن منا يملك شجاعة المطالبة بالحفاظ على تلك الثقافة ومعاندة التطور التكنولوجي، لا أحد، ولكن غاية ما نطالب به هوتسجيل تلك المعارف وتدوينها وتوثيقها من حامليها لتكون شاهدة على حقبة في تاريخ الانسانية. وينسحب هذا النموذج على طرق الصيد التقليدية خاصة الصيد البحري الذي توفرت له تقنيات حديثة ووسعت من إمكانياته كما وكيفا.
والأمثلة على هذا النمط لا تحصى منها مثلا ما كان متبعا تقليديا من طرق طحن الحبوب باستخدام الرحاية وما تتطلبه من جهد عضلي مضن  خاصة وأن تلك العملية كان منوطا بها النساء، وكيف حلت الآلة محل الرحاية لتريح النساء من هذا الجهد ويختفي مع هذه المعرفة نمط فني من الغناء طالما أبدعت فيه النساء ألا وهوأغاني الرحى. أيضا معارف تقليدية برع فيها العرب نتيجة لحياتهم في الصحراء فعرفوا كيفية تحديد الاتجاهات بالنجوم وتحديد الشهور برؤية بزوغ الهلال في السماء فحسمت الآلة  والحسابات الفلكية أمر بعض  تلك المعارف وإحالتها إلى الاستيداع. ومعرفة برع فيها العرب مثل التعرف على أماكن تواجد المياه الجوفية وكيفية حفر الآبار لاستخراج تلك المياه ثم طرق تنقيتها، وطرق الصيد البري والبحري التقليدية وتجفيف الأسماك أين تلك المعارف الآن ؟بعض تلك المعارف التقليدية  مازالت موجودة ولكنها حبيسة في عقول ووجدان بعض كبار السن في أوطاننا العربية وأقصى ما نستطيعه حيالها أن نبذل الجهد على جمعها وتوثيقها لتكون شاهدة على الأسئلة الأولى أوالفروض التي أدت إلى إشعال وقود المعامل ومراكز الأبحاث لتقدم الأدوات والتكنولوجيا الحديثة التي تلبي احتياجات الشعوب. ببساطة لأن معارف الأمس كثيرا منها لم يعد يستطيع أن يقدم إجابات على أسئلة اليوم، والواقع يقدم الإجابات التي تقتنصها الشعوب  - بمنطق نفعي له ما يبرره -غير عابئة بمصدر تلك الإجابات .
 فحلت المعرفة العلمية المنظمة في كثير من الحالات محل المعارف الشعبية التي كانت في زمن من الأزمان تمثل الخبرة والمهارة في مواجهة ما هوقبلها هكذا هي عجلة التاريخ تدور،وتميل الدراسات إلى اعتبار المعرفة التقليدية مرحلة وسطى من مراحل التطور سبقها التفكير الغيبي وتلاها التفكير العلمي، وبذلك فإن التسليم بأن التغير هومرور بمرحلة من مراحل التاريخ ومحاولة إيقافها ليست مهمة الباحث الفرد في تراث اللامادي إنما هي مسؤولية المؤسسات والسياسات الحكومية.
والحقيقة المؤكدة هى أن الانخراط في نمط الإنتاج الجديد والتسليم بأدواته يحقق رفاهة وراحة الإنسان – وهي بلا شك غاية نبيلة- ولكن يظل السؤال هل يستطيع هذا النمط أن يجلب السعادة إلى الشعوب ؟ والفرق شاسع بين الرفاهية والسعادة !
كل تلك العوامل هي عوامل التغير الناعم للأنماط الثقافية التقليدية التي تشهدها المجتمعات، إلا أن عرض تلك العوامل لايجب أن ينأى بنا عن التعرض لأشكال التغير القسري للعناصر الثقافية والذي يتم في حالات الغزوأوالاحتلال  أوالإبادة والذي يدرك فيها المستعمر قيمة التراث اللامادي للمستعمر (بفتح الميم) في إثبات هويته أوفي البقاء فيجعل من أولوياته إخفاء معالم تلك الثقافة أوالسطوعليها. والنماذج على هذا النمط حولنا عديدة منها التعامل القسري مع ثقافة شعوب الهنود الحمر أوقبائل الأباتشى وشعب الموارى في استراليا وصولا إلى ما يتم حتى يومنا هذا مع التراث الفلسطيني والذي أدرك المحتل أنه لاسبيل إلى إبادة الشعب الفلسطيني إلا بالقضاء على تراثه اللامادي ونسبه إلى المكان وليس إلى البشر، ولكن حمل الفلسطيني معه تراثه في المهجر فاستعصى على الاندثار .. حتى الآن. ولعل رد أحد المفكرين الصهاينة على سؤال عن كيفية القضاء على الفلسطينين «ذلك يكون بقطع كل يد تطرز الثوب الفلسطينى» يدل على صحة فرضيتنا. والشاهد على تلك الفرضية التي قد لا تلقى موافقة بعض الباحثين أنه عندما جاء دور التصويت على مسودة حقوق السكان الأصليين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يوليو2006 تبنته ودعمته الدول النامية في مقابل اعتراض كثير من البلدان الغربية، بما فيها الولايات المتحدة وكندا ونيوزيلاندا واستراليا (وهي الدول التي مازال يسكنها جماعات ممن يطلق عليهم السكان الأصليين).
تلك كانت أهم عوامل التغير التي تؤثر في حركة التراث إلا أنها ليست كل العوامل فهناك عوامل أخرى أقل تأثيرا أويمكن القول بأن تأثيراتها بطيئة كالتعليم وما له من تأثير في التمسك أوالتخلي عن التراث وهنا يجب ألا نغفل ما يتم في عالمنا العربي من تغير في أنماط التعليم وانحسار التعليم القومي يوما بعد يوم أمام المناهج الأجنبية بتنوع اتجاهاتها والتي سيكون لها تأثير بلا شك على التراث اللامادي خاصة بعد تعرض عدة أجيال لهذا النمط من التعليم وبعد أن يصبح تلاميذ اليوم أساتذة الغد.
وبهذا نكون قد ناقشنا أبعاد الموقف الذي يبدوكأنه حالة صراع بين طرفين يحاول كل طرف أن يجذب المجتمع إليه ويكتسب أرضا كان يحتلها الآخر، ونكون قد سلمنا بأن التغير محتوم وأن قدر الشعوب ودورة التاريخ آتية لا ريب، وإذا كان ما عرضنا له هوعوامل التغير الحالية فإنه لا شك كانت هناك عوامل تغير على التراث في الأزمان السابقة وأن ما بين أيدينا اليوم وما نتداوله من حكايات ومعارف وحرف ليست كلية نتاج الأجداد إنما لنا فيها نصيب ساهمنا فيما جرى عليها من تحولات، ومن تلك العوامل التي أدت إلى تحول في شكل ثم مضمون التراث نزول الأديان السماوية وظهور الاكتشافات الحديثة مثل الطباعة أوالقطارات البخارية والكهرباء، وأن الشعوب تحفظ في ذاكرتها ووجدانها لب التراث وبمقدار قدرتها ومساعدة حكوماتها تستطيع أن تبقي على طبقات أعلى من ذلك التراث الذي نتصور أنه بطبيعته اللامادية عصي على الاندثار وإن طالته رياح التغير .فببساطة النسخة التي بين أيدينا ونتداولها ليست النسخة الأصلية .
وبعد ؟؟
يوحي العرض السابق لما يعتري التراث من تغيرات بأننا عند نقطة حرجة من تغير الثقافة الشعبية وأن ما يقدم من جهد اليوم لحفظ وتوثيق وإعادة تقديم بعض عناصر التراث اللامادي القادرة على المزاحمة في هذا الخضم هوالتحدي الصعب، وبهذا بات محتما البحث عن معايير وممارسات أكثر واقعية في التعامل مع قضايا صون التراث والتسليم أنه ليست هناك آلية واحدة تصلح للتعميم على كل الشعوب، وأن ما تقدمه المنظمات الدولية من آليات يجب أن يعاد تقييمها في ضوء ما حققته تلك البرامج من نتائج في البلدان المختلفة؛ وأن خصوصية وضع المؤسسات البحثية والعاملين على التراث لا تقل أهمية عن تشخيص حالة التراث بين التغير والمحافظة.
والخروج من هذا المأزق – إذا جاز لنا التعبير –لابد أن يتم على عدة محاور أولها إعادة النظر في وضع المؤسسات البحثية والمراكز المنوط بها جمعا ودراسة وتوثيق التراث وتزويدها بالكوادر البشرية المدربة والقادرة على التواصل مع التطورات في مناهج البحث واستخدامات البرامج والأدوات التكنولوجية الحديثة، والإيمان بأن العمل في مجال التراث يسير على قدمين إحداهما التمكن العلمي والنظري الذي تدعمه الموهبة والأخرى هي الإلمام باستخدامات التقنيات الحديثة والاستعداد إلى تطوير المعرفة بها.
ثانيا: إتاحة الفرص لإعادة إنتاج التراث بسياسات طويلة المدى تضمن سريان مفردات الثقافة الشعبية في مناهج التعليم ومواد الإعلام ووسائل الترويج السياحي وغيرها من القنوات. وثالثا تقنين التبادلات الثقافية والوقوف أمام سياسة الإغراق الثقافي التي تنتهجها بعض الثقافات تجاه ثقافات أخرى مع التنبه إلى أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم قسرا وإنما بتوعية الشعوب بأهمية استهلاك ثقافتها وتداولها واستلهامها بدلا من اللجوء إلى الأنماط الثقافية الوافدة التي تدمر التنوع الثقافي، لذا كان علينا أن نضم أصواتنا إلى نداء ليفي شتراوس الذي وجهه أمام اليونسكوعندما خاطبهم قائلا «يتوجب على الشعوب أن تحد من التبادلات الثقافية وتحافظ على مسافة فيما بينها». وإذا كنا ندرك صعوبة هذا الأمر إلا أنه بعد تطور أدوات البحث ومناهجه لم يعد مستحيلا وأصبح يمكن للباحث المتخصص أن يكشف الأصيل من الوافد وليس عليه إلا أن يؤشر لوجود تداخلات ويحدد مواضعها والطرق التي سلكها العنصر ليصل إلى الوضع القائم .
وبهذا نكون قد تهيأنا للاعتراف بأن حركة التراث الأفقية على وجه الأرض من جماعة إلى جماعة أمر مارسته البشرية منذ وجودها وحركتها على الأرض، فانتقلت الأفكار والمعتقدات والعادات والمعارف والحكايات والسير والأشعار مع السلع في رحلات التجارة والحروب والغزوات، هذا إلى جانب الحركة الرأسية عبر حقب التاريخ المتعاقبة؛ فعلى مر التاريخ كان هناك دائما «الأنا» الذي ينظر إلى « الآخر» تارة بانبهار وتارة بفزع لكنه لم يستطع أن يمتنع عن التفاعل معه دون أن يخل بما أطلقنا عليه « التوازن الثقافي».
وعليه فإنه يمكننا أن نقول إن التراث لا يسير أبدا في هذا المسار الحدي، بمعنى أنه إما التمسك بالتراث في صورته النقية أوالتخلي عنه،وأن الصورة النقية أساسا فرض خيالي  فدائما هناك تشكلات للعناصر ومسار دائري يظهر فيه العنصر ويتطور ويأخذ من غيره من الثقافات ويعود إلى نقطة البداية ليظهر مرة أخرى محملا بما أتت به رياح التغيير مع الظروف التاريخية التي يمكن أن تلعب دور الآخر في وقت ما.

أعداد المجلة