فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

السفـر العجـيــبــي فـي الحكايـة الشعبية بواحة فجـيـج

العدد 22 - أدب شعبي
السفـر العجـيــبــي فـي الحكايـة الشعبية بواحة فجـيـج
كاتب من المغرب

تمثل الحكاية أحد أهم موضوعات المنجز النقدي الحديث. ويأتي في مقدمة مسوغات هذا الاختيار البحثي انتشارها الواسع باعتبارها جنسا أدبيا سرديا وشفويا يتسم بالغرابة والتشويق. والحكاية  الشعبية عمل جمعي غير مرتبط بمؤلف، مخترق للحدود وعابر للأمكنة، لا يُعرَف تاريخ محدد لتأليفها. قد ظلت ولا تزال ملغزة بحمولتها الرمزية الثقافية والوجدانية المتقاطعة والمشتركة بين بني البشر، في مختلف أنحاء المعمور على اختلاف الخصوصيات والهويات المحلية.

ويمثل الطابع العجيبي للحكاية الشعبية إبداعية خلاقة تسم الكون التخييلي والبناء السردي لهذا العمل الخاضع لطقوس مخصوصة في التناقل الشفوي. ونخص بالذكر منها الحكاية الخرافية، وهي ذات طابع خارق ومفارق للمألوف. ويظهر السفر في الحكاية الشعبية بواحة فجيج، من خلال نماذج هذه الدراسة باعتباره فعلا عجيبيا يمارس علينا إبهاره ويدعونا إلى التساؤل عن طبيعة هذا السفر ولماذا نصفه بالعجيبي؟ وما العمق الكامن في الدلالات التي ينطوي عليها السرد في هذه الحكاية؟ هل يمكن الحديث عن بنية للمفارقات تنتظم النسيج السردي؟ وما هي بؤرة هذه البنية؟...
نتوخى من طرح هذه الإشكالية الاقتراب من عمق الحكاية بواحة فجيج، ومن التفكير الجمعي الثاوي في البنى السردية الشفوية، وهواجس الفرد والجماعة في المجتمع الواحي التقليدي، وتمثلاته حول العالم والآخر من خلال مفهوم السفر، كرحلة للاقتراب من هذا الآخر من أجل التوافق معه، أو كغزوة لدحر شره، أو كهجرة لاكتشافه وتعرف آليات تفكيره. وليس هدف هذه المساهمة المتواضعة تقديم إجابات ناجزة ونهائية، بل محاولة صياغة أسئلة يمكن أن تشكل منطلقا لمشروع علمي يقوم على دراسة الحكاية الشعبية بواحة فجيج من منظور جديد يبرز الصبغة الخلاقة للمنتج السردي الشفوي وموقعه ضمن الصيرورة الثقافية.

1 - السفر والسفر العجيبي إلى «فجيج»
يميل الإنسان بطبيعته الاجتماعية إلى حياة الاستقرار. ولا يمثل السفر بالنسبة لهذه الحياة سوى استثناء. فحتى حياة المجموعات البشرية القائمة على الترحال تمثل بحثا دائما عن هذا الاستقرار. لا ترحل المجموعة من جديد حتى تجد نفسها غير قادرة على الاستمرار في نفس المكان، بعد نضوب الماء واستنفاذ الكلأ أو انعدام الأمن وتفاقم قساوة ظروف العيش، فتكون مضطرة إلى الرحيل. والسفر محاط دائما باعتمالات وجدانية تكون – أحيانا – متعارضة، إن لم نقل متناقضة، يمتزج فيها التهيب بالفرح والقلق بالترقب والخوف بالتمني والحذر بالشوق...تهتاج الإنسان وهو يتأهب للسفر وفي الطريق أيضا مشاعر جياشة متداخلة، مهما كان أفق هذا السفر الذي ليس مجرد انتقال في المكان والزمان، وإنما هو حركة في الوجدان وخلخلة للسكونية وانفصال نسبي ومؤقت عن الانتماء والروابط والأشياء الحميمية وإحساس عابر بالاغتراب...وهو أيضا فعل ثقافي ذو أبعاد فلسفية. يدفع بالإنسان إلى النظر في داخله ليعيد طرح هوية الذات وعلاقتها بالآخر، مأخوذا بالحيرة ومتوسلا بالسؤال. ويزداد مفهوم السفر تعقيدا كلما كان عجيبيا. ويتسم كل فعل عجيبي بالغرابة والخرق للمألوف. فالسفر العجيبي بهذا المعنى هو انتقال في المكان والزمان ودينامية في الوجدان الثقافي مطبوع بالفعل الخارق. في لسان العرب «فارقَ الشيءَ مُفارَقَةً وفِراقاً: باينه»(1).  فالمفارقة مصدر لفارق بمعنى باين واختلف. ونعني بالمفارقة هنا ما يثير الاستغراب والدهشة لكونه مباين ومختلف وخارق للمألوف. وتتكون كل حكاية في هذه الدراسة من بنية دلالية ينتظم فيها عدد من المفارقات. ترتبط عناصرها مع بعضها بعض، ترابطا عضويا. وتتظافر لتمنح للسفر دلالات عجيبية، حين يتخذ صبغة رحلة في حكاية «جوهر فرساني» أو غزوة في حكاية «المنتصف والغولة» أو هجرة في حكاية «المرأة البلهاء». وتخضع بنية المفارقات الدلالية في النماذج الحكائية الثلاثة المدروسة هنا لبؤرة، تتسم بالمفارقة. نسميها: بؤرة التوافق / النفي. ونعني بها وجود تعارض/ تناقض بين الذات والآخر. يحدث هذا التوافق أو النفي أو هما معا في جدلية تتميز بالتقاطع والتداخل، مع الآخر الخارق أو المماثل/ المغاير كرمز للشر في إطار علاقة تناقض، أو كرمز للمصلحة الضيقة في إطار علاقة تعارض.
يشكل السفر -لأول مرة- إلى واحة فجيج جنوب شرق المغرب، بحد ذاته فعلا عجيبيا. سينتابك إحساس غريب وأنت تتوغل في منطقة ذات طبوغرافيا شبه صحراوية، في طريق شبه خالية، وفي مسار يكاد يكون كله مستقيما، كثيرا ما تزحف فيه الرمال على الإسفلت وتتحرك فيه الهوام. تشق الفضاء الممتد اللانهائي للخلاء المترامي المكسو بغطاء نباتي مكون من السهوب؛ وهي نباتات صحراوية، نذكر منها «الحلفاء» و«الدكعة» و«الشيح» و«الحدجة» و«الحرمل» و«السدرة»... وهناك أنواع من الفطر في فصل الربيع، خاصة منه «الترفاس» و«الفقاع». لا بد من قطع مسافة تناهز384 كيلومترا من مدينة وجدة عاصمة الجهة الشرقية نحو فجيج، ومن الأفضل أن تكون الرحلة في الساعات الأولى من الصباح، خاصة في فصل الصيف، تجنبا للتعرض لشمس حارقة. ستسير تحت أشعة لاهبة تصور لك في الأفق تدفق السراب. وترى من حين لآخر خيمة بعيدة من فرو الماعز، للرحل من العرب أو الأمازيغ المتعايشين منذ قرون في منتهى التوافق والإخاء. تسرح بصرك فترى قطعان ماشية كثيرة العدد. يزداد إحساسك بالعجيبي، عندما تقترب من الواحة. فتخلبك أجواء التاريخ والأسطورة معا. «واحة فجيج لؤلؤة الجنوب الشرقي وزينته.. وقلبه ورأسه..فيما مضى. خلع عليها المستكشفون الغربيون نعوتا وادعة رقيقة.. وعنيفة مثيرة.. من تحفة رائعة بآثارها العتيقة المعجبة.. ومياهها المنعشة الوفيرة.. وجبالها المحيطة بها في شكل سور طبيعي.. ونخيلها الناعمة المضياف (جذورها في الماء وهامتها في السماء)... إلى بقعة ملغزة غامضة منيعة.. وبؤرة للمتناقضات والأضداد.. اجتمع فيها الأولياء وشذاذ الآفاق.. والعلماء والأفاكون والثوار والذؤبان.. واحة فجيج ريح آخر من عبق التاريخ..بها نقائش صخرية وكتابات حجرية..تشهد على توغلها في قدم سحيق»(2) . تتمتع بثقافة عالمة تقليدية غنية، من معالمها الفكرية الباقية الخزانة القيمة للعلامة عبد الجبار الفجيجي التي تشهد على حركة ثقافية بفجيج ضاربة في القدم. لها أيضا ثقافتها الشعبية الزاخرة في الأهازيج(3) والأمثال والحكايات الشعبية...
   
2 - سفر الحكاية عبر الثقافات
الحكاية الشعبية عمل سردي شفوي وإبداع إنساني جمعي أكثر قدرة على اختراق الحدود وإدراك العالمية. لكونها الشكل التعبيري المجبول على السفر عبر الثقافات منذ قديم الزمان. وذلك من خلال التناقل الشفوي الذي يسمح بالتبادل السردي والإضافات الإبداعية التي تجد طريقها إلى الحكاية عبر تدخل الكفايات المخيالية والابتكارية الجمعية... وهي كلها تمثل تجليات عملية المثاقفة التي مارستها المجموعات البشرية – ولا تزال – عبر احتكاكها الحضاري، وفي مناسبات عديدة، منها الرحلات التجارية التي كانت تستغرق شهورا، بل سنوات في ما مضى، حيث كانت وسائل النقل بدائية، غير متطورة بما يكفي لتقليص المسافات والمدد الزمنية التي يستغرقها السفر. وكانت الحكاية زادا للمسافرين يستأنسون بها. تعينهم على التخفيف من طول الطريق ووحشتها. ولعل بنيتها السردية(4)  المتفردة عن بقية الأجناس الأدبية الأخرى، بوحداتها وعناصرها العجيبية وأحداثها المتداخلة الطويلة، وحبكتها المعقدة المشحونة بالصراع والأهوال، وبما فيها من انتصار وانكسار وترقب لما سيحدث لاحقا، تجعل منها عملا إبداعيا جمعيا ناضحا بالتشويق والإثارة. وتجعلها هذه السمة تلقى إقبالا كبيرا من لدن فئات المجتمع، خاصة وأن الحكاية شكل إبداعي شفوي متحرر من أسر اللغة. فالمتلقي لا يحفظها بصياغة مقيدة ومحددة، وإنما يحفظ الحدث السردي بأدق تفاصيله، مع بعض التعابير والأشعار أو الأغاني الحكم والأمثال التي تدخل في بنيتها السردية. ويقوم بإعادة إنتاجها برؤيته ولغته الخاصة. فلغة الحكاية الواحدة تبقى دائما مفتوحة، مرنة ومنفلتة للثبات، لأن طابعها الشفوي وخاصية الانتقال والتناقل واختلاف الإلقاء والتلقي كلها تخضعها باستمرار لإعادة الصياغة. فينتقل مضمونها مع تلك الثوابت من مجموعة إلى مجموعة ومن ثقافة إلى أخرى. إن خاصية الانتقال هذه التي نعبر عنها بـ«السفر عبر الثقافات»، تعزز الطابع الجماعي للحكاية الشعبية. فتتحول من كونها منتجا سرديا لمجموعة محلية إلى ظاهرة ثقافية عالمية. ومن إبداع جماعي يمثل تجربة حياتية ووجدانية خاصة، إلى إبداع كوني يتمثل التجربة الإنسانية برمتها. ذلك أن هذه التجربة بشكل عام واحدة، رغم الخصوصيات واختلافات المجتمعات. «وربما كانت إحدى نتائج البحث الأنثروبولوجي العديدة أن العقل الإنساني، بالرغم من الفروقات الثقافية بين مختلف أجزاء البشرية، هو ذاته هنا وهناك، وأنه يمتلك الطاقات ذاتها»(5) . إن وحدة التجربة الإنسانية في كليتها، ووحدة العقل البشري بشكل عام، والطبيعة الاجتماعية للإنسان التي تسمح بسفر الحكاية الدائم عوامل أساسية لإنتاج ثقافة سردية تتسم بتوالد حكائي ذي بنى متقاربة، متماثلة وأحيانا متطابقة تتمحور حول أفكار جوهرية واحدة، تكثف الوجود الإنساني وصراع الإنسان من أجل البقاء وإخضاع الطبيعة، والصراع بين القوى المتناقضة أو المتعارضة في المجتمع، من أجل منظومة قيم ومصالح معينة. تهيمن على هذا التفكير الذي يمارسه الإنسان من خلال الحكي - غالبا - تيمة الصراع بين الخير والشر، لتعيد إنتاج القيم الثقافية والدينية المؤطرة للمجتمع، أو تساهم في بلورة الأفكار الجديدة الملائمة للتحولات الاجتماعية. كما تمثل الحكاية امتدادا لحياة اجتماعية لفئة ما حتى في صورها العجيبية، إذ «يمكن لكون تخييلي، غريب عن العالم التجريبي تماما في الظاهر، كخرافات الجن مثلا، أن يكون مماثلا تماما، في بنيته لتجربة زمرة اجتماعية بعينها أو، على الأقل، مرتبطا بها بطريقة ذات دلالة(6)،». وتحمل الحكاية الشعبية في مختلف أنحاء العالم موضوعات واحدة تمثل العلاقة مع الآخر المناقض، كالجن والغول، في صنف الحكاية الخرافية، كما سنرى في نماذج من حكايات واحة فجيج. وتحمل الكثير من الطقوس والمعتقدات المشتركة الضاربة في القدم والمرتبطة بالقربان والتطير والنحس وغيرها الموجودة في حياة وأساطير الشعوب. لأنها ترتبط بالحياة الاجتماعية شأنها في ذلك شأن أي إبداع أدبي أو فني. «ولم يعد ثمة أي تناقض في القول بوجود علاقة وثيقة للإبداع الأدبي بالواقع الاجتماعي والتاريخي وبأكثر الخيالات المبدعة قوة»(7).

3 - «جوهر فرساني»:
بؤرة التوافق ومأسسة العلاقة مع الآخر الخارق
يمثل السفر العجيبي في هذه الحكاية رحلة لاكتشاف الآخر. إنها حالة التاجر الذي سافر للتجارة وهو مسكون بهاجس يتعلق بهوية الآخر “جوهر فرساني”(8)  من يكون؟ والسفر هنا رحلة للتوافق معه وخلق قاعدة حد أدنى من الانسجام، بل إنه أيضا رحلة لاستعادة هذا الانسجام، بعد القطيعة واختلال تلك القاعدة، بالنسبة للعروسة المرتقبة التي تنكرت في هيئة طبيبة لإرجاع العلاقة مع الآخر الخارق/ الجني، بمساعدة عصفوري الحب “حبيبي”. أما بالنسبة لهذا الآخر فالسفر العجيبي رحلة في طريق خاصة (النفق الزجاجي) في اتجاه الآخر/ الإنسان لحسم أمر العلاقة معه، سواء بالخير أو بالشر. إنها رحلة شاقة. لكنها ممتعة وسعيدة النهاية، حيث توجت بزواج الجني من الإنسي : “جوهر فرساني” من الفتاة.
تتسم العلاقة بين الإنسي والجني في الموروث الثقافي الشعبي بالصراع الدائم المرتبط بالحذر والخوف والميل العدواني. تتعدى قوة الآخر الخارق/ الجني حدود خيال الإنسي. ومع ذلك تصور الثقافة الشعبية صفة العدوانية كسمة من سمات الإنسي أيضا، من المفترض أن يخشاها الجني. قد تكون هذه العدوانية نتيجة أخطاء غير مقصودة. ولكنها تبقى ممارسة للعنف على الآخر الخارق. تسبب له أضرارا. وتدفع به إلى استنفار غريزة الانتقام لديه، والقيام بردود أفعال عدوانية تجاه الآخر الإنسي. ومن تلك الأخطاء التي تؤكد الثقافة الشعبية على تجنبها؛ صب الماء الساخن في المواسير والمجاري، أو في مكان مظلم، ضرب الحيوانات كالكلاب والقطط والضفادع، الوقوف على الينابيع والمجاري والأحواض ليلا، السير في الخلاء والنزول إلى غابة النخيل في الظهيرة ... وترتبط مشاعر الخوف والحذر من الآخر الخارق بأجواء السكينة والظلمة والوحشة. فيؤدي عدم احترامها إلى توتر العلاقة معه.
يمارس الآخر الخارق/ الجني عدوانيته على الإنسي بالمس أو بالاحتلال والتملك. فهو يحتل مكانا أو يتملك كنزا أو يمس نفسا بشرية، وقد يختطف إنسيا. توجد أساطير كثيرة في ثقافات الشعوب مرتبطة بهذه الأشكال من العلاقة العدوانية بين الإنس والجن. ونستحضر هنا أسطورة “عروسة آيت علي وعيسى” في قصر الحمام الفوقاني(9). تحكي الأسطورة أن هذه العروسة تظهر بفستان الزفاف وهي تركب بغلة تجوب بها أزقة مظلمة بالحي الذي تسكنه عائلتها التي تحمل اسم «آيت علي وعيسى»(10). وتقول الأسطورة إن الجن قد اختطفتها ليلة عرسها حين تركت لوحدها في غرفتها، إذ تلهت عنها النسوة وانشغلن بالضيوف، فألم بها غم عظيم اختفت على إثره، إلى أن أخذت تظهر بين الفينة والأخرى ممتطية بغلة في مناسبات مختلفة في الأفراح والأتراح وأثناء تقلبات الطقس، وهبوب الزوابع والرياح...
تتكون البنية الدلالية المفارقة لحكاية «جوهر فرساني» من أربع وحدات متشابكة. تمثل كل وحدة منها مفارقة ناضحة. يتجلى السفر في المفارقة الأولى كرحلة للاستكشاف وفعل انتقال واقتراب من الآخر المناقض؛ الإنسي نحو الجني، والجني نحو الإنسي. إنه فعل لا يسعى إلى نفي الآخر أو تدميره، وإنما يبتغي التوافق معه عبر الزواج. في المفارقة الثانية يكون السفر نحو الجني من دون خطورة. بخلاف السفر نحو الإنسي فهو محفوف بالمخاطر. يظهر الآخر هنا، كرمز للقوة والخير. لا يمارس الشر، بل يمارسه الإنسي، ممثلا في السلوك المتهور للأخت الصغرى بدافع الفضول حين قامت بإلقاء الصعيد في الطريق الزجاجية للجني. وهنا مفارقة ثالثة، تتمثل في التضحية لدى الآخر -ونقصد عصفوري الحب المعروفان باسم: حبيبي لأنهما يتناجيان بما يشبه هذه الكلمة- في مقابل اقتراف الأذى بسبب التهور أو بدافع الغيرة لدى الإنسان ممثلا في سلوك الأخت الصغرى. أما المفارقة الرابعة فتظهر في سفر أب الأنثى/ الإنسي نحو الذكر/ الجني لخطبته، وهي مفارقة مزدوجة : من جهة وبخلاف ما هو مألوف يقوم الأب بالخطبة لابنته وليس لابنه، حيث إن الذكر عادة هو من يتقدم لخطبة الأنثى وليس العكس. ومن جهة ثانية تقبل الأب فكرة الزواج من الجني عندما علم أن ما تطلبه ابنته الكبرى أي «جوهر فرساني» هو كائن وليس هدية اعتيادية كتلك التي طلبتها الأخت الصغرى. وهذا الكائن ليس إنسيا بل جني. فالمفارقة هنا مركبة وذات بنية دلالية عميقة. تجد تفسيرها في مفهوم المأسسة، القائم على إعادة صياغة العلاقة مع الآخر الخارق على قاعدة توافق. يهدف إلى تحقيق الحد الأدنى من الانسجام الكفيل بضمان السلم بين الطرفين. وصيغة هذه المأسسة هي الزواج والمصاهرة مع جنس العفاريت. بمعنى آخر يمثل هذا التقارب بالمصاهرة استراتيجية يبادر إليها الإنسي، ويقبلها الجني، تهدف إلى الحد من مصادر التناقضات المحدقة بالإنسان على وجه الأرض. سفر التاجر بحثا عن هذا الزوج العجيبي هو رحلة للبحث عن الاستقرار والسعادة.

4 - «النصفي والغولة»:
بؤرة النفي وغزوة دحر الشر في الآخر الخارق
تتجلى طبيعة السفر العجيبي في هذه الحكاية(11) في كونه غزوة تستهدف دحر الشر. يتمثل هذا الشر في الآخر الخارق / الغولة. ويظهر الغول أو الغولة في الثقافة الشعبية دائما بمواصفات كائن بشري متوحش، مفترس لبني جنسه، يعرف بطول قامته وضخامة بنيته. وبروز أنيابه، وانتصاب قرنين قصيرين في جانبي رأسه من الجهة الأمامية. له هذه السمات الحيوانية، بالإضافة إلى سمات بشرية. فهو حيوان منتصب ناطق. وقد يكون إنسانا عاديا أول الأمر فيصير متوحشا، يلجأ إلى غابة نخيل أو إلى مغارة بجبل قريب من الواحة. وتختلف علاقة الإنسان بالغول/ الغولة، في الحكاية الشعبية بواحة فجيج عن علاقته بالجن. فهي مع الآخر الخارق الجني علاقة صدامية. وقد تكون مبنية على الانسجام والتوافق. لكن الآخر الخارق/ الغول أو الغولة لا تكون علاقته بالإنسان إلا عدوانية. فهو يغير ليلا على القصور ليختطف الأطفال والدواجن. ويصطبغ رد فعل الإنسان في الحكاية الشعبية، دائما بالحذر والحيطة والخوف والدفاع عن النفس. ويمثل الغول/ الغولة رمزا للشر. ولا نجده يمثل أي جانب من جوانب الخير بالنسبة للإنسان، خلافا للآخر الجني الذي قد يمثل جانب الخير.
تهيمن على هذه الحكاية بنية مفارقات دلالية تتسم بؤرتها بنفي الآخر، باعتبار الطبيعة الصدامية لعلاقة الإنسان بالغول في تصورات الثقافة الشعبية. وإذا كان دحر الشر في حكاية “جوهر فرساني” يتم عبر استراتيجية التوافق التي تؤطرها مؤسسة الزواج العجيبي الخارق بدوره الذي يجمع الإنسي بالجني ويوحد بينهما من أجل السلام والوئام والخير، فإن دحر الشر في حكاية “النصفي والغولة” يتم عبر الانتصار عليها بالقوة والحيلة. فدحر الشر هنا لا يقوم على قتل الغولة، ولكن بالتفوق عليها. ووضع حد لامتداد الشر الصادر عنها. وتتمحور بنية الدلالة المفارقة في السفر العجيبي نحو الآخر الخارق/الغولة حول شخصية “النصفي البطل باعتباره شخصية مفارقة في تكوينها وقوتها ودهائها العجيبي. بدأت ملامح شخصية “النصفي” تتشكل منذ حدث التفاح. تشتهي النسوة زوجات الرجل الثري التفاح فاكهة الغواية التي أخرجت آدم وحواء من الجنة. وستجلب له هذه الفاكهة التفوق بإكسابه صفات الشجاعة والقوة والذكاء، شريطة القناعة والزهد في لذة التفاح، حين اكتفت أمه وهي حامل به بتناول نصف تفاحة، فجاء وليدها ناقص البنية لكنه ظاهرة في التفوق. بخلاف النسوة الأخريات، فقد قامت كل واحدة منهن بأكل التفاحة كاملة. وكان أن ولدن جميعهن أولادا كاملي البنية لكن ناقصي النبل والشجاعة والفروسية والحيلة… ولذلك خيب “النصفي” أفق انتظار العائلة كلها حين توقعوا أن يفوز أي ولد من الأولاد السبعة في رهان لقب الفارس المغوار إلا “النصفي” الذي لا حول له ولا قوة.
 5 - “المرأة البلهاء” :
بؤرة النفي- التوافق بحثا عن العقل الغائب
يمثل السفر العجيبي في حكاية “المرأة البلهاء”(12)  هجرة للبحث عن العقل الغائب، تتخذ شكل هجر أول الأمر، حين ترك الرجل زوجته التي تتصرف بلا عقل، فترتكب حماقات تُسبب في ضياع ماله. تظهر بؤرة النفي عندما يرفض/ يلغي الأنا (الزوجة) عقله في سلوكه تجاه الآخر المغاير (الزوج). وتظهر هذه البؤرة أيضا حين يرفض/ يهجر الأنا (الزوج) الآخر المغاير(الزوجة)، بسبب رفضها وإلغائها للعقل. تحيل بؤرة النفي في هذه الحكاية إلى وظيفة المرأة في المجتمع التقليدي الفيجيجي ونظرة الدونية التي يكرسها اتجاهها، إذ ينحصر دورها في فضاء البيت الضيق مهما اتسع. بينما يتمتع الرجل بفرص يوفرها له خروجه للعمل. تمكنه من توظيف ملكاته العقلية وتطوير ذكاءاته. ويمثل هذا الرفض عند الزوج في عمقه رفضا لصفة البلاهة في الآخر المغاير/ المرأة. ويعكس رغبة الرجل في امرأة تتحلى بالحد الأدنى من القدرة على استنفار إمكانيات العقل لدى الأنثى لمجابهة مواقف ووضعيات معقدة. يتحول الهجر إلى هجرة للمكان وللناس الذين لا يجد الرجل بينهم امرأة تتحلى بالعقل، وذلك عندما لحقت به زوجته. لماذا لم تذهب المرأة مع زوجها منذ البداية، وإنما بقيت في بيتها ثم لحقت به بعد ذلك؟ نجد الإجابة على هذا السؤال في دلالة نزع الباب لتحمله المرأة على ظهرها، فقد اعتبرته لحافا فالتحفت به. ومن وظائف اللحاف الستر. فالتحفت به لتستر جسدها الأنثوي الذي يتمتع بحرمة تصل حد القدسية في المجتمع التقليدي الفيجيجي. والباب التي تصون هذه الحرمة والقدسية تمثل الدار برمتها. وفي المثل الشعبي “داري ستارة عاري”. وسَتاّرة صيغة للمبالغة من فعل ستر، تحمل الزيادة في المعنى. وهذا معناه أن دار المرأة في الثقافة الشعبية هو المكان الأكثر حفاظا عليها وعلى كرامتها. فكيف تغادره؟ ولكن المرأة عز عليها أن تترك زوجها الغاضب لغضبه وهجرانه. فأرادت أن تلحق به، وفي نفس الوقت لا تستطيع أن تترك دارها. فنزعت الباب وجعلتها لحافا لها فحملتها على ظهرها. وأرادت أيضا أن تحمل معها دارها وهي تلحق به. لكنها وجدت هذا مستحيلا فاستعاضت عن الدار بالباب، فحملت الباب كما لو أنها تحمل الدار بأكملها. وهكذا تكون قد جمعت بين الأمرين: تشبثها بدارها واللحاق بزوجها. وهذه هي المفارقة الدلالية الأولى في هذه الحكاية.
تتمثل المفارقة الثانية في صورة المرأة البلهاء وسلوكها الذي يصفه زوجها بأنه لا يصدر عن عقل. إنها تسقط رغبتها المكبوتة في مشاركة الجيران الفرجة والفرحة في حفل الزفاف على الخروف، فتضيعه وتضيع الحلي الذهبية. وتضيع مال الرجل حين تهديه للتاجر المتجول. تلوذ بالبلاهة وتلغي العقل كي تثير انتباه زوجها إليها، وهو الغائب في عمله طوال النهار. فما الفائدة من جمع المال في ظل الحرمان؟ لكن هذه الإثارة تسببت في ردة فعل قوية من الزوج كثفها السفر العجيبي في الحكاية في صيغة الهجر والهجرة. أما المفارقة الثالثة فسيكتشفها الرجل في سفره بحثا عن العقل وهي بلاهة المجتمع الآخر الذي سافر/هاجر إليه وشكل ملاذه الموهوم. وهو سفر عجيبي كانت طريقه محفوفة بالمخاطر. ولاحظ في معايشته لهذا الآخر الدرجة القصوى لتعطيل العقل لدى أفراده، حتى صاروا يهتمون بأشياء تافهة، ك“تداخل سيقان النساء في الحمام” و“تدلي أمعاء الصومعة”، ويعتبرونها مشاكل حقيقة تحتاج إلى تدخل العقلاء الذين يضن بهم ذلك المجتمع. فيعود الرجل إلى بيته رفقة زوجته ليتحلى بالصبر ويقرر أن يهتم بها ولا يغفل عنها كي لا تُغَيّب عقلها ثانية.

6 - خلاصة تركيبية
يمثل السفر العجيبي في النماذج الحكائية المدروسة انتقالا في المكان والزمان واعتمالا وجدانيا - ثقافيا يتسم بالغرابة. ويتخذ تارة صيغة رحلة وأخرى غزوة وثالثة هجرة. تحكم هذه الأعمال السردية الجمعية الشفوية بنية للمفارقات الدلالية الخارقة للمألوف، وهي من سمات الحكاية الشعبية خاصة الخرافية منها. وتتحرك هذه البنية محكومة ببؤرة تتموقع بين التوافق والنفي. ففي حكاية «جوهر فرساني» تتبأر بنية المفارقات الدلالية حول استراتيجية التوافق الهادفة إلى مأسسة العلاقة بين الإنسان والآخر الخارق- الجني بحثا عن السلم والطمأنينة. ويظهر الجني في هذه الحكاية كرمز للقوة والخير. وفي حكاية «المنتصف والغولة» نجد بؤرة بنية المفارقات الدلالية في النزوع نحو نفي الآخر الخارق - الغولة، باعتباره رمزا للشر. ويتخذ النفي في هذه الحكاية دلالة هزم الغولة معنويا بالذكاء والحيلة ووضعها أمام ضعفها دون اللجوء إلى تدميرها بالقتل. أما في حكاية المرأة البلهاء، فإن بؤرة النفي/ رفض العقل وإلغاؤه بالنسبة للزوجة الموسومة بالبلاهة من جهة ورفض اللاعقل عند الزوج المستاء من هذه البلاهة من جهة ثانية تسيطر على بنية المفارقات الدلالية في بداية الحكاية، باعتبار فعل الهجر والهجرة سفرا عجيبيا للبحث عن العقل الغائب. بينما تتحكم بؤرة التوافق في بنية المفارقات الدلالية خلال أحداث ومشاهدات وفرها السفر العجيبي للرجل وزوجته البلهاء، نحو عوالم شهدت إخفاق عملية البحث عن العقل فيها. وعقبها أيضا، تمثل عودتهما إلى بلدهما ودارهما أفول بؤرة النفي وصعود بؤرة التوافق في بنية المفارقات الدلالية، بين الرجل وزوجته التي أهملها طويلا، وبينه وبين العالم الذي لا يخلو من بلاهة.

7 -  متن الدراسة
حكاية «جوهر فرساني»
كان في قديم الزمان تاجر كثير السفر على أهبة الرحيل لجلب بضاعة من بلاد بعيدة. سأل ابنتيه عن طلب كل منهما ليحضره عند عودته. طلبت الصغيرة أن يحضر لها هدية ثمينة. وطلبت الكبيرة طلبا غريبا؛ قالت لأبيها أريدك أن تأتيني بـ«جوهر فرساني». تعجب الأب لهذا الطلب. سألها عن ماهية هذا الشيء وأين سيجده. فطلبت منه أن لا يسألها عن شيء. فلما وصل التاجر إلى البلاد التي يقصدها. وفرغ من عمله، خرج يبحث عن طلب ابنته الكبرى. فلم يجد من يدله عليه. كان حائرا بسبب هذا الطلب العجيب. واحتار معه كل من سأله عنه، إلى أن وصل إلى مكان قصي وجد به راعيا مع غنمه فسأله. استغرب الراعي أن يسأل هذا الرجل عن «جوهر فرساني» فبدا للتاجر أن الراعي يعرف شيئا عنه. فألح عليه أن يخبره عنه. أخبره الراعي بأن الذي بحث عنه ليس من الإنس، بل واحد من الجن. ودله على طريق موحشة، لا ينجو في الغالب من يسلكها. فشكره التاجر. وسلك تلك الطريق حتى بلغ إلى جبل. صعده فوجد نفسه قرب مغارة. ولم يدر بنفسه إلا وهو في حضرة الجني. قدم التاجر له طلبه. وقال إنه يخطبه لابنته. فسر  الجني بهذا الطلب. واشترط عليه شرطين: أن يكتم هذا السر، وأن يمهله حتى يحضر حاله. عاد التاجر إلى بلده مسرورا. وأسر لابنته الكبيرة ما سمعه من «جوهر فرساني» وأخبرها بشرطيه، منبها لها أن تحفظ سره. فأبدت البنت حرصها على صون السر، وأن لا تفشيه حتى لنفسها. لكن البنت الصغيرة كانت تتنصت عليها فسمعت كل شيء. بدأ «جوهر فرساني» في إنشاء طريقه نحو البنت. فشق نفقا تحت الأرض وبناه بالزجاج.  أخذت البنت الكبرى تستعد للقاء عريسها. فذهبت إلى الحمام واصطحبت معها أختها الصغرى. وفي الحمام تبين لها أنها نسيت مشطها. فأرسلت أختها كي تأتيها به. دخلت البنت الصغرى غرفة أختها. حملت المشط. وعندما همت للعودة إلى الحمام، لفت انتباهها أمر غريب في الغرفة، وفي الحصير بالتحديد. لمسته وجرته قليلا. كم كانت دهشتها كبيرة، وهي ترى ثقبا في الأرض. نظرت بداخله، لكنها لم تر إلا الظلام. أخذت صعيد التيمم كان في جانب من الغرفة وألقت به في الثقب. فسمعت أصوات ارتطام وانكسار الزجاج، وانتابها خوف شديد. لكنها لم تشأ أن تخبر أختها بهذا. في تلك الأثناء كان العريس «جوهر فرساني» قادما في طريقه الزجاجية التي أخذت تتشظى بفعل الانكسار الذي سببه رمي الصعيد وتدحرجه في النفق. أصابته جروح بليغة. فعاد من حيث أتى. وبقيت الأخت الكبيرة تنتظر عريسها الذي منعته هذه الحادثة الخطيرة من الوصول إليها. وبقيت حائرة، لا تدري لماذا لم يأت. وتتساءل كيف ستصل إليه؟ تاهت أياما في الخلاء تبكي، وتبحث عنه إلى أن وجدته يئن في كهفه. فعرفت أنه مكلوم، ويحتاج إلى علاج. خرجت من الكهف تبحث عن معين يساعدها. ولما تعبت من البحث من دون جدوى، جلست تحت شجرة وهي لا تزال تبكي حبيبها المجروح. سمعها عصفوران من فصيلة عصافير الحب تدعى «حبيبي»، وتسمى بهذا الاسم لأن الواحد منها إذا أراد أن يناغي حبيبته يناديها بنغمة شجية عذبة كأنه يقول: «حبيبي !». وكانا على غصن بتلك الشجرة. فرثيا لحالها وقررا أن يساعداها. فاقترحا عليها أن يقدما نفسيهما لها لتذبحهما وتعالج حبيبها بدمهما. ففيه شفاء له. فرحت البنت وأخذت العصفورين. ذبحتهما وأخذت دمهما في قارورة. وضعت قطرات منه في كل جرح بجسد «جوهر فرساني». وعندما لاحظت أن الجني يتماثل إلى الشفاء، عادت إلى بلدها. وعاد «جوهر فرساني» يبني نفقه الزجاجي من جديد. وذات ليلة، كانت البنت الكبرى في غرفتها، فأحست بهدير تحت سريرها، فإذا بالجني يقف أمامها شاهرا سيفه، يريد قتلها. فاستحلفته بتلك الطبيبة التي عالجته. فعرف أنها هي. حكت له كل ما حدث. فالتمس لها العذر وأتم زواجه منها.

حكاية «النصفي والغولة»
تزوج رجل ثري بسبع نساء. أصبحن حوامل كلهن دفعة واحدة. أحضر لهن تفاحا. أكلت كل واحدة منهن تفاحة كاملة، إلا امرأة من بينهن اكتفت بأكل نصف التفاحة. ولما حل يوم الولادة، ازدان فراش كل واحدة بولد كامل الخلقة، إلا المرأة التي كانت قد أكلت نصف التفاحة، فقد ولدت صبيا هزيل الجسم، صغير الحجم وضعيف البنية. يقع في النصف من جسم الولد لدى النساء الأخريات. فسماه أبوه بـ «النصفي» نسبة إلى نصف التفاحة. كبر الأولاد وصاروا شبانا أقوياء. فأراد أبوهم أن يختبر قوتهم وشجاعتهم وذكاءهم، فأهدى كل واحد منهم حصانا. فتبين لـ«النصفي» الذي كان حاد الذكاء، أن الأدهم أسرعها ولم يكن من نصيبه. وأراد أن يحصل عليه، إذ فطن إلى تحضير أبيه لرهان ما. وتسلل في الليل  نحو الإصطبل وغرز إبرة في كعب الأدهم. وفي الصباح بدا كأنه أعرج. فتُرك الحصان الأدهم للنصفي. ولما أيقن أن الحصان الذي يريد قد صار له، نزع عنه الإبرة. وكان الرهان أن طالبهم الأب بالسباق نحو «الغولة» في أعلى الجبل بمكان قصي. وقال لهم :
- من أراد أن يحصل منكم على لقب الفارس المغوار، فليأتني بالغولة على صهوة حصانه !
تنافس الإخوة في السباق. وكان النصفي أول من وصل إلى غار الغولة. ودخل عليها يحمل كيسا فارغا. شمت رائحته فسال لعابها. قال لها
- خالتي نانا ! كيف حالك؟(13).  قالت بخبث:
- بخير يا ولدي !
وفي نفسها أسرت : «الحمد لله الذي بعث إلي بهذا الضأن الفتي». قال النصفي:
- جئت إليك اليوم يا خالتي ! لأتناول غذائي معك حاملا لك أفضل ما تحبين في هذا الكيس.
تركت ما كان بيدها واندفعت في فضول أعمى لترى ما في الكيس. وحينها فتحه النصفي بسرعة ودفع بالغولة في أسفله وأحكم إغلاقه، ثم حملها على حصانه الأدهم. وانطلق نحو قريته التي تنتظر من سيعود حاملا تلك الغولة ليحرز على لقب «الفارس المغوار». التقى إخوته في الطريق تباعا، فعادوا من حيث أتوا بخفي حنين. تعجب الأب لهذا العمل الشجاع الصادر عن ولد لم يتوقعه منه.. وطلب منه أن يرجع الغولة إلى مكانها. ففعل النصفي ونال اللقب. وفي الغد، أراد إخوته أن يفعلوا ما فعله النصفي. لكنهم لم يفلحوا وأسرتهم الغولة كلهم. ولحق بهم النصفي لما أدرك تأخرهم، فحبسته معهم وكانت مغتاظة منه، فأرادت أن تفكر في كيفية عقابه. فأجبرته على تناول العشاء معها، من لحم بشري طبخته في قدر كبيرة. كانت تأكل وهو يمثل عليها أنه يشاركها هذا الأكل. وحبسته بعد ذلك مع إخوته. أخذ يناديها في كل مرة منشدا :
« أنــــا النصــفيُّ لن أنامَ.. لـــن أنامَ
اسقيني ماءً كــي أنــامَ ..كــي أنامَ »
تأتيه الغولة بالماء فيهرقه على طوبة في الجدار الترابي. ثم يناديها من جديد. إلى أن امتصت الطوبة البلل فصارت هشة. دفع الطوبة بقدمه. فأحدث في الجدار الترابي ثقبا كبيرا. وكانت الغولة تشخر وتغط في نوم عميق. فتسلل النصفي وإخوته خارج غار الغولة، وعادوا إلى قريتهم.

   حكاية «المرأة البلهاء»
يحكى أن امرأة بلهاء سمعت زغاريد وإيقاع دفوف تتناهى إليها من سطوح الجيران، وكان لها خروف يتناغى بثغائه مع الأنغام المنبعثة نحوه، فسألته إن كان يريد حضور عرس الجيران. أجابها الخروف :
- باااااااااااع...
قالت :
- هل تريد أن تتحلى بأبهى حلل؟
قال :
- باااااااااااع...  
ألبسته أجمل ما عندها من لباس وزينت رقبته بأثمن الحلي من الذهب والفضة. وفتحت له باب الدار، وأوصته بأن لا يتأخر. خرج الخروف ولم يعد. غضب زوجها غضبا شديدا لما علم بالأمر عند عودته من عمله في المساء. وكانت له جرتان مليئتان بالنقود والذهب، وخشي أن تضيعهما، فنبهها إلى عدم الاقتراب من الجرتين. وقال إن واحدة يتركها لرمضان، والثانية لعوادي الزمان. وفي اليوم الموالي مر يهودي قرب البيت يبيع أدوات الزينة. خرجت المرأة اليلهاء إليه وسألته :
- هل أنت رمضان؟
ضحك وقال :
- طبعا أنا رمضان بن شعبان
أخرجت الجرة التي خصصها زوجها لشهر رمضان وناولته إياها. ترك اليهودي سلة بضاعته على الأرض من فرط الدهشة ومشى مسرعا. نادت المرأة عليه وقالت له :
- خذ سلعتك قد نسيتها يا رجل !
 لكنه لم يحفل بها واختفى عن الأنظار. وانتظرت بالباب إلى أن مر رجل يشتري من البيوت قشور الرمان التي تصنع منها مادة لدباغة الجلود. فقالت في نفسها «هذا الرجل هو لا محالة من يسمونه عوادي الزمان». فاستوقفته وسألته :
- هل أنت عوادي الزمان ؟
 ضحك الرجل وقال لها :
- أنا عوادي الزمان ومصائبه كلها...!
هم بالانصراف، فاستحلفته أن يأخذ القشور التي عندها في البيت، وهي أمانته التي اعتقدت أن الرجل تركها عند زوجها. دخلت إلى البيت وأتته بالجرة الثانية. فأخذها الرجل ومشى مسرعا. ولما عاد زوجها في المساء أقبلت عليه فرحة. قال :
- ما بك يا امرأة ؟!
قالت :
- أبشر ! لقد سلمت الأمانتين للرجلين؟
-أي أمانتين؟ وأي رجلين يا ربي ؟ !
- الجرتان ...ألم تقل لي واحدة لرمضان بن شعبان والثانية لعوادي الزمان؟
   فقد الرجل صوابه وجن جنونه. وقرر أن يهجر هذه المرأة البلهاء ويهاجر إلى أرض الله الواسعة لينظر هل يجد امرأة أو أي أحد في مثل بلاهتها. توسلت إليه وبكت واستحلفته أن تكون هذه آخر مرة. لكنه لم يستطع أن يتحمل الأمر فجمع بعض أغراضه وخرج في جنح الظلام. بكت المرأة، ثم فكرت أن تلحق بزوجها. لكنها بقيت مترددة قليلا، ثم قالت في نفسها «داري ستارة عاري، فكيف أتركها؟ لكن هل أترك زوجي يضيع مني؟». وقررت أن تنزع باب الدار وتلتحفها كي تسترها. ولحقت بزوجها. سارا سوية في الخلاء، إلى أن طلع النهار، فوصلا إلى بلدة. تجولا في وسطها، وسمعا مناديا يقول :
- يا عباد الله ! إن الخليفة يعلمكم أنه من استطاع أن يفك سيقان نسوتنا، يغنيه إن أغناه الله.
سأل الرجل أحدهم عن معنى هذا النداء. فأفهمه أن سيقان النسوة تشابكت في الحمام البلدي، ولم يستطعن فكاكا. لحق بالمنادي، وقال له :
- خذني إلى الخليفة، فأنا أقدر على حل المشكل
ولما دخل على الخليفة سأله :
- كيف يمكنك حل هذا المشكل يا رجل !؟
قال الرجل :
- ب«قرنيفة» يا مولاي !(14)
أمر الخليفة بإحضار «قرنيفة» وأُخِذ الرجلُ إلى الحمام البلدي، حيث تشابكت سيقان النساء. فأُدخِل َعليهم، وجعل يضرب أرجلهن ب«القرنيفة». وكلما ضرب واحدة سحبت ساقها. فحل المشكل وحصل على مكافأة الخليفة. خرج الرجل وزوجته البلهاء من البلدة فرحين. لكنه قال في نفسه «هؤلاء أكثر بلاهة منا». واستمرا في المشي، إلى أن وصلا بلدة أخرى. سمع الرجل المنادي يقول
- يا عباد الله ! إن أمعاء الصومعة متدلية. فمن أعادها إلى بطنها أغناه الخليفة إذا كتب الله له الغنى.
 وكانت زوجة الإمام قد لونت خيوط الصوف ونشرتها على الصومعة لتجف كي تغزل بها رداء لزوجها. فصعد الرجل إلى الصومعة وجمعها، تعجب القوم لقدرة هذا الرجل العجيبة. فنال ثانية مكافأة الخليفة. قال الرجل لزوجته :
- هؤلاء أيضا بلا عقل مثلك. فهيا بنا نعود إلى بلدتنا وبيتنا !
وعادا محملين بالذهب والنقود. وفي الطريق حل الظلام. فنبهها إلى المشي بحذر خشية اللصوص. وفجأة سمعا جلبة فاختبآ خلف شجرة. رأى الرجل قافلة تجارية تمر غير بعيد عنهما. قالت المرأة البلهاء لزوجها :
- في حلقي زغرودة لا أستطيع أن أمسكها
 قال الرجل :
- هل جننت؟ هل تريدين أن يقتلنا هؤلاء ويأخذوا مالنا؟
لكنها لم تأبه لكلامه فأطلقت زغرودتها. اعتقد أصحاب القافلة أن الجن والعفاريت تسكن المكان. ففروا تاركين جمالهم بما حُمِّلتْ. فأخذ الرجل كل هذه الثروة وعاد إلى بلدته هو وزوجته البلهاء ورضي بحاله معها. وقرر أن يهتم بها وأن لا يغفل عنها كي لا تضيع ثروتهما من جديد.

الهوامش

1 - ابن منظور، لسان العرب، المجلد الخامس (الغين- اللام)، مادة فرق، القاهرة: دار المعارف، تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله،هاشم محمد الشاذلي، ص 3398، عمود 2.
2 - بنعلي محمد بوزيان، واحة فجيج، تاريخ وأعلام، الدار البيضاء: مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الكتاب الأول، 1987، ص9.
3 - عبد القهار الحجاري «الأهازيج  الجماعية بواحة فجيج»، أبحاث في التربية الموسيقية، منشورات مجلة نغم، الطبعة الثانية، 2011، ص - 17.
4 - لا تدخل البنية السردية للحكاية في دائرة موضوعنا بهذا المقام، ولذلك نكتفي بالإشارة إلى أحد أهم الأعمال التي أنجزت في هذا الصدد، ويتعلق الأمر بخطاطة بروب وغريماس وبريمون للبنية السردية للحكاية Structure Narrative du Conte وهي كما يلي:
أ- وضعية الانطلاق situation initiale    
ب- عنصر مشوش élément perturbateur (يسبب الاضطراب)
ج- انقلاب طارئ péripéties (أحداث تضع البطل في محنة)
د-عنصر الحل élément de résolution
هـ- وضعية النهاية la situation finale.
 D’après les travaux de Propp, Greimas et Brémond Cycle 2 - Ecole Joseph Brenier - Saint-Priest - 2004
5 - كلود ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، ترجمة صبحي حديدي، الدار البيضاء: منشورات عيون، دار قرطبة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1986، ص 19.
6 - لوسيان غولدمان، المنهجية في علم اجتماع الأدب، ترجمة مصطفى المسناوي، الدار البيضاء: مؤسسة بنشرة لطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1984، ص 12.
7 - نفس المرجع السابق والصفحة.
8 - نص الحكاية  بالمتن في آخر هذه الدراسة.
9 - القصور: تجمعات سكنية صحراوية محصنة بأسوار عالية. توجد في الواحات حيث يكون الاستقرار حول منابع المياه وأشجار النخيل.  في واحة فجيج حاليا سبعة قصور هي: قصر زناقة، قصر الوداغير، قصر المعيز، قصر آيت سليمان، قصر الحمام الفوقاني، قصر الحمام التحتاني وقصر العبيدات.
10 -  تعني لفظة (آيت) بالأمازيغية:آل أو  بنو، والواو التي بين العلمين الشخصيين علي- عيسى بمعنى (بن). ومعنى العبارة (آيت علي وعيسى):  آل علي بن عيسى.
11 -  نص الحكاية  بالمتن في آخر هذه الدراسة.
12 -  نص الحكاية  بالمتن في آخر هذه الدراسة.
13 -  «نانا» تصغير لاسم العلم المؤنث «يمينة» أو «آمنة».
14 - «القرنيفة» باللهجة المحلية في واحة فجيج هي عصا تصنع من الجزء السفلي من جريد النخل

المراجع

8-1 مصادر ومراجع بالعربية :
ابن منظور، لسان العرب، المجلد الخامس (الغين- اللام)، مادة فرق، القاهرة : دار المعارف، تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله،هاشم محمد الشاذلي. 1981.
بنعلي (محمد بوزيان)، واحة فجيج، تاريخ وأعلام، الدار البيضاء: مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1987.
الحجاري (عبد القهار)، أبحاث في التربية الموسيقية، فاس: منشورات مجلة نغم، الطبعة الثانية 2011.
غولدمان (لوسيان)، المنهجية في علم اجتماع الأدب، ترجمة مصطفى المسناوي، الدار البيضاء : مؤسسة بنشرة لطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1984.
ليفي شتراوس (كلود) ، الأسطورة والمعنى، ترجمة صبحي حديدي، الدار البيضاء: منشورات عيون، دار قرطبة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1986.

 8-2 مصادر ومراجع  بالفرنسية :
Propp, Greimas et Brémond , Cycle 2 - Ecole Joseph Brenier - Saint-Priest – 2004
Driss Bahhar, Figuig dans les récits des premiers voyageurs européens, ed. El-Jassour, Oujda, 2007
Samira Mizbar, Résistance oasienne au Maroc, aux racines du développement. Recherches sur l’évolution des oasis dans la province de Figuig, Lille, 2004

أعداد المجلة