فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

حيزية الجزائرية شهيدة العشق

العدد 20 - أدب شعبي
حيزية الجزائرية شهيدة العشق
كاتب من تونس

قد تذهب الأحداث وتبقى آثارها.

أما الذكريات فترسب في أذهان الناس وفي آثار تحتفظ بها الأرض وهل هناك  أحفظ  من الأرض؟

تطوي السنين والآماد وهي لا تبوح بسرها.

والحب هذا العاتي الجبار(1)  الذي يطرق الأبواب بدون إذن، ويفتح القلوب بمفتاحه السحري فتخفق وتحترق.

وقد تثخنها الجراح في كثير من الأحيان. 

يأتي فيحملنا بجناحيه إلى حيث يحب أو لا نحب. ومن هنا تسلل إلى البادية الجزائرية.غربي مدينة «بسكره»(2) بلاد النخيل إلى قرية سيدي خالد(3) وفي برنامجه أن ينسج ملحمة سداها الحب والثأر والحمية وأخيرا الموت

في البادية ينبت الحب كما ينبت النبات الشوكي في أرض قاحلة يخز ويجرح ولا يريد أن يعترف به أحد.حتى يأتي من يحتك به وتكون النهاية.إما الجراح وإما الموت الذي لايحن ولا يرحم :

مجروح في كبدتي بالسوية(4)  

جـــــراحــــي خـــفــــيـــه

 طـــــبيب الهــــــــــــــــوى

 خــــــانــــي وغــــرّ بـــــي

«وحيزيه»الفتاة البدوية التي أخذت من البادية الطهر والصفاء والنقاء.كانت ذات جمال فطري

غزال في زي كاعب عربية.أول ما يجذبك إليها عيناها وهي كما قال الشاعر:

 عيون ريم المجافــــــــيل(5)       

    في أرض المشاتيل (6)

 شارد صعيب المحاصـــيل   

        لإيجيه نوم القوايــــل

 

قعيدة الخيمة لاتخرج منها إلا إلى»السقي».أما قلبها فهو لا يستقر كالبيت الذي يبحث له عن ساكن

وبمرورها على مهل وهي تنوء تحت ثقل قربتها كانت هناك عين تلحظها.ولكنها لا كالعيون إنها تختصر البعيد وتنفذ إلى قلب «حيزيه «وهي لاتستطيع أن تطفئ الحريق بماء قربتها وتعود إلى «الخيمة» ومعها لهيب العشق ومن هنا تبدأ القصة.

إنها قصة واقعية احتضنتها الصحراء ببراحها الواسع وقرية «سيدي خالد» التي كأنها هربت من العمران وجاءت لتسكن في الفجاج الخالية فجاج يسكنها أناس تحكمهم قوانين القبيلة ويرون الحب منكرا ولا يتعاملون معه في زمان غير زماننا هو زمن الحب العفيف والغرام العذري الذي يحترق به الإنسان داخليا ولا يقترب إلى من يحب.

«حيزية» غزالة بسكرة ومتجه العيون التي ترمقها. كانت جميلة من جميلات البادية وجمال البادية فطري ليس به تبرج(7) ولا تزويق هو كما خلقه الله كانت زينتها الوحيدة ظفائرها وشعرها المتهدل على كتفيها فهو كما قال الشاعر:

طايح ممشــــــــــــــوط(8)     

كاسي صدر الجعـــــارة(9)

كأنه حنــــــــــــــــــــوت

        فتحو سوق العطـــــــــارة

 

أما كحل عينيها فهو من بدع الله الذي أحسن كل شيء صنعا. ووشم الحنة في راحة يدها ورجليها زخارف أبدعها فنان ماهر. وعندما نرجع إلى ذلك الذي كان يتبعها بنظره نعرف أنه «سعيد» ابن عمها الذي كان من فرسان البادية. فهو يتصدى لها عند خروجها، ويلاحظها وهي تمر إلى موارد الماء ولا يبرح قلبه يتعذب من أجلها. وأحست هي بذلك بما أودعه الله فيها من شعور يهفو إلى الحب. وأحب بعضهما الآخر  لكن بصمت والصمت نار محرقة تأتي على كل شيء في الداخل فالحب يحتاج إلى البوح لا إلى الصمت وحتى إذا تحدثا فبلغة العيون. البحر الذي يسع الأشجان والأحزان ويغرق فيه العشاق. ولم تلفت «حيزية»  نظر سعيد وحده بل لفتت إليها خيرة شباب « سيدي خالد» فكان كل واحد منهم يتمناها شريكة لحياته.

مفاجأة: وفي يوم من الأيام استيقظت «حيزية» و إذا بعشرات الفرسان على باب خيمتها وقد فرشوا هداياهم أمامها وكانت منوعة وفاخرة فمنهم من أهداها ذهبا والآخر فضة والآخر يجر وراءه ألف رأس من الإبل والغنم. وتقدم إليها الفرسان واحد بعد الآخر... ولكن جوابها كان دائما الرفض المطلق وكانت «حيزية» تعبر الهدايا المفروشة إليها وتنظر إلى سعيد وهو جالس بعيدا عن الخيمة صامتا لا ينطق بكلمة وأخيرا ألجأه الموقف أن يتكلم فقال:

«حيزيه لا أملك مالا ولا ذهبا ولا سلطانا أملك هذا القلب الذي بين جنبي وأهديه إليك على راحة كفي» فقالت له بعد ما ابتسمت « قلبك هذا يا ابن العم يغنيني عن هذه الكنوز ولن أكون إلا لك» وبين عشية وضحاها علمت القبيلة.بما آل إليه الأمر وإلى أين وصل هذا الحب الصامت. وانتشر الفزع بين أفرادها.واجتمع كبراؤها ليقرروا مصير «حيزية» وسعيد.ولكن صوت الحق

انطلق من بعيد مناديا بما شاءه الله:

 

 ياقوم إن «حيزية» ليس لها خيار فيما اختارته إن قلبها هو الذي اختار.وليس لها خيار فيما اختاره قلبها.فدعوها في مسيرتها ولاتتبعوا خطواتها.وما قدره الله يكون:

وأقيمت الأفراح وانطلق صوت البارود وأعدوا جحفتها (10) وانطلقت الزغاريد مدوية:

ومنين صقعوا(11) جحفـــتهــــــا             باللملـــف(12)والحرير ألـــــوان

ودارورا الـــذهب في رقــبتــــهــا                   قبـــه في جــــامع السلطــــــــــان

 

وزفت حيزية على هودجها إلى سعيد وكانت ليلتهما من أسعد الليالي التي يحلم بها العشاق والمحبون وإن كان يظهر الخجل في عيني حيزية البريئتين و تحمر وجنتاها من شدة الاحتشام وأخذ سعيد بيدها وكانت ترتجف فقالت له:

«أنا خائفة يا سعيد أن يكون كل ما وقع حلما زائلا إن الإيمان لم يدخل إلى قلبي بأننا اجتمعنا وصرنا قرينين يجمعنا الحب وتضمنا السعادة إن الحياة لا تعطي باليمين إلا لتأخذ بالشمال       وأخاف على حبنا حتى من النسمات التي تغمر وجوهنا» فقال لها سعيد:

«إنك يا حيزية تتوهمين أشياء ليس هذا وقتها إنه وقت الفرح والغبطة والانشراح إنك قرة عيني وحبي الذي أسكنته في سويداء قلبي فلماذا نعكر هذه اللحظات السعيدة بواردات الخواطر التي هي في الغيب ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى» ومر الأسبوع الأول من زواج سعيد     وحيزية كما يريد المحبون أن يمر وفي اليوم العاشر من زواجهما قالت حيزية لسعيد:

«أتدري إن الموت بدأ يسكنني إني أحس كأنه طائر يطير بجناحيه متجها إلي» فأجابها سعيد:

«لماذا تتحدثين عن الموت ونحن في ساعة وداد وصفاء ألا تعرفين أنه المفرق الوحيد الذي يستطيع أن يبعدنا على بعضنا لا تهتمي بهذه الهواجس وتحدثي عن شيء آخر».

و مضت الأيام والأسابيع وفي اليوم الأربعين من زواجهما وعند رجوع سعيد من العمل    وإذا به يرى حيزية ممددة على الفراش وهي تشكو من شدة الألم وتصيح بصوت عال: «رأسي سينفجر يا سعيد. الألم يسري في كل جزء من بدني، لم أعد أفرق بين الأبيض والأسود سأفارقك يا سعيد إني أحس بسكرات الموت وهي تذهب بي يمينا وشمالا». فقال لها سعيد إنني سأقاومه سأشهر سيفي في وجهه» يقول ذلك وقلبه يرتجف كطائر مذبوح، فقالت له حيزية: «عدوك جبار يا سعيد لا يستطيع أحد أن يبارزه. وسبحت في عالم آخر وفي بحر لا يخوضه إلا من عرف أمواجه. واستسلمت لليد التي سوف تأخذها «و مات الحب وماتت حيزية» أما سعيد فقد هام في الصحراء ودخل الفجاج التي لا نهاية لها يبحث عن لا شيء ويذكر «حيزية» تارة بصوت مرتفع وأخرى بصوت هامس ينازع فيه قلبه شدة حسرته على من أعطاها قلبه ولكنها تركته في أوان الفرحة والغبطة.وفي صحراء لانهاية لها انطلق صوته المشحون بالشجن يتصاعد عاليا:

           افرح ياقبر ياحنــــــــــــــي(13)         راي جاتك العــــــــــــنود(14)

            باصباع مخضب بالحــــــــــنه         ووشام في الزنــــــــــــــــود

                                       يانـــــــاري على من ننشد(15)

وذهبت «حيزية» وتاه «سعيد» في صحراء لانهاية لهاو ولكن بقيت قصة حبهما حية في أفواه الأجيال تغنى وتلحن وتروى. ومن عادة الشعراء أن يتصيدوا هذه النوع من القصص وجاء من يرويها ملحمة ويخلدها على مر العصور «ترادة» سداها الحب ولحمتها الموت.

بن قطــيــون:

محمد بن قيطون شاعر من مشاهير الشعراء في الجنوب الغربي الجزائري أصله من قرية «سيدي خالد» ناحية بسكرة  ألف ابن قيطون هذه القصيدة سنة 1878م بطلب من أحد أصدقائه يدعى «سعيد»، وكان هذا رزئ بوفاة امرأة عزيزة عليه اسمها «حيزية»  فأراد أن يرثيها بهذه القصيدة تخليدا لمأساة حبه لها.وحزنا على شبابها وجمالها الفتان.

ويتجلى في هذه القصيدة صدق العواطف وعمق التأثر.وقد جاء أنها نظمت بعد ثلاثة أيام من و,فاة «حيزية» وقد ألفها «ابن قيطو ن» على غرار القصائد العربية الكلاسيكية.

تبدأ بمخاطبة الأصدقاء.ثم ذكر أيام الحب والسعادة ووصف الحبيبة.ثم وصف الفرس ورحيل القبيلة.ثم يصف المناظر الطبيعية ويعود إلى الرثاء مرة أخرى.فيصف دفن «حيزية» ويطلب لها من الله الرحمة والغفران.

 

رثاء حيزية

يبدأ «محمد بن قيطون» قصيدته بطلب العزاء في التي ذهبت قبل وقتها وسكنت اللحود(16) فأشعلت ناره وصار لا يدري أهو بصير أم ضرير وقلبه هل سافر مع حيزية أم بقي بين ضلوعه.

 

عــــزوني يــــا ملاح في رايـس لبنـــــــات    سـكنت تحــت اللحود ناري مقديــا(17)

ياخــــي أنا ضـــرير(18) بيــا ما بـــــــــيــا    قلبي ســافــر مع الضامرة(19) حيزيـــا

يا حســـرة علــى قبيل كنا في تأويـــــل       كينوار لعطيل(20) شاوي(21) النيقيـــة

ما شـــفنــــا من دلال في ظـل الخيــــــال     راحـــت جـــدي الغــزال بالجهد علـــي

و اذا تمشـــــي قبال تسـلب الأعقــــــال        اختــــي باي المْحال(22) راشــــك كمـيــا

جات العساكر معاه والقومان(23) وراه طــلــــبت ملقــــاه كــل واحــد بهـديــــة

ناقل ســـيف الهنود ويشـاري من بعيد يقسم طرف الحديد ولّي الصمية(24)

ما قتــــــل من عباد من قوم الفســــــــاد       يمشـــي مشــي العناد بالفنطازيـــة(25)

ما تشـــــر البيْ(26) جـدد غنايــــــــــــــــــا     بنــت احمـــــد البي شكــري وغنايـــــا

 

المعنى:

 ثم يتحسر على ما فات من عهد جميل عندما كان في حال يغبط عليه ويشبه ذلك العهد بالأزهار التي تنبت فوق جبل من جبال «الشوية»: قبيلة معروفة في جبل أوراس بالجزائر ثم يتحسر على ما رأياه من عز ودلال في عهد كأنه طيف الخيال ثم يعود فينعي عن الغزال الذي فقده غصبا عنه  هذه التي إذا مشت أمامك تسلب العقل كأنها باي (ملك) في عزه وجلال ملكه ثم يصف هذا الباي كيف جاءته عساكره (القومان) تطلب لقاءه وبيد كل واحد هدية وهو يحمل سيفا هنديا يقسم الحديد والصخرة الصماء كم قتل من عباد أولائك الذين يفسدون في الأرض ولذلك تراه يمشي بكبرياء وخيلاء.

عزوني يا ملاح في رايس لبنـــات      سكنت تحت اللحود ناري مقديـــا

ياخي أنا ضرير بيا ما بيـــــــــــــا      قلبل سافر مع الضامرة حيزيـــــا

ثم ينتقل» ابن قيطون» الى وصف «حيزية» ويبدأ بالحديث عن شعرها وهو ما يسمونه بالغثيث(27) أو الممشوط هذا الذي ضمخته بأنواع الروائح العطرية فيقول :

طلقــت ممشــوط طـاح بروايــح كـي فـــاح        حاجب فوق اللماح(28) نونن بريـــا(29)

عينك حب الرصاص حربي في قرطــاس سوري قياس في يدين الحربــّيــة(30)

خـــــدك ورد الصـــــباح وقـرنفل وضـــــاح       الدم عليه ســاح مثل الضــــــــــوايا(31)

الفـــــم مثـــــل الــعاج والمضحك لعـــــــــــاج              ريقـك سيْ النعاج (32) عسل الشهــــايا

شـــوف الرقـبة خير من طلع الجــــمار(33) شـــعلت كيف النار وعواقب ذهبيـة

صـــدرك مثل الرخــام فيــه زوز تـــــــــوام       من تفاه نسام ماء السهديــــــــــــــة(34)

بدنك كيف القطيفة(35) من قطن وكتـان     وإلا روح طـــاحــت في ليله ظلمــــــتية

*******

عزوني يالملاح في رايس البـــــــــــنات       سكنت تحت اللحود ناري مقديـــــــــا

ياخي أنا ضريربيا ما بيـــــــــــــــــــــــا        قلبي سافر مع الضامرة حيزيــــــــــا

المعنى: وفي هذا القسم من القصيدة الملحمة ينتقل إلى وصفها فيقول:

أرسلت شعرها من بعد ما مشطته فتضوعت منه روائح العطور.   أما الحاجب الذي تلمحه من بعيد كأنه نونان في «بريه» رسالة والنون حرف معروف أما عيناها فوصفهما بحب الرصاص السوري «الأوروبي» لنفاذهما في العمق وشدة حدتهما وقد سددهما عارف بالهدف أما خداها فهما كورد تفتح في الصباح وقرنفل انتشرت ألوانه تحت ضوء الشمس»الضوايا» أما الفم فوصفه بالعاج الذي يشع من بعيد ببياضه والريق فطعمه «كسي النعاج « حليبها. أوالعسل

والعسل الذي يشتهى. وتأمل في رقبتها إنها أجمل من الجمار»وهو قلب النخلة»في بياضه الناصع

وكم يشوقك صدرها العريض وفوقه نهدان كأنهما توأمان شربا من صافي مياه نهر «السهديه» ثم يصف بدنها « بالقطيفة» وهي المخمل لنعومته ولينه.

 

ثم يعود لوصف شعرها وحليها وما لبسته من خلاخل «قران»أي زوجين اثنين:

طلقــــت شعر مال وتخبل تخـــــــــــــبال       على جـــو ف الدلال دنيا على دنيـــــتا

شــــوف الســيقان بخلاخل يافـــطـــــان تسـمع حس القران فوق الريحية(36)

تســتحـــــوج بالمــروج بخــــــلال اتــزوج     عقـلي منها يــــروج عقلي وعضايــا(37)

في التــــل مصــــفين جينا مــــــحـــــدرين      للصحــــرا قاصدين أنــا والطوايـــــــــا

الاجحـا ف مصـــقعين والبارود ينــــــين       الازق في الايمــــين ســـاحة حــيــــزيــا

ماذا درنا عراس الأزرق في مـرداس(38)       يـــــدرق بي خــــلاص في روحـــانيـــــــــا

تاقت طول العلام جوهر في الابتســام  تــمــعـنــــى قـي الكـــلام وتفهم فــــــــيا

بنت حميـــد تبان في ضـــي الومــــــــــان      نخـلــة في بســتان وحــدها شعويـــــــــا

زنـــد عنهـــا الري قلعهـــا في الـــــــــــميح     ما نخســبها تطـيح دايم محضـــــيا(39)

في ذا الليلة وفـــاة عـــادت في الممـــــــات     كحــلت الرمقات(40) عادت دار الدنيـا

خطفت عقلي راح مكحولة الاشـــــبــاح بنـــت النــــاس المـــلاح زادتني كـــــــــيا

       *****

عزوني ياملاح في رايس البنــــــــات        سكنت تحت اللحود ناري مقــــــــديا

ياخي أنا ضرير بيا ما بيـــــــــــــــــــا       قلبي مسافر مع الضامره حيـــــزية

وما زال «بن قيطون» يتمادى في أوصاف «حيزية» فيعود إلى شعرها الذي من طوله تمايل وتداخلت خصلاته في بعضها حتى وصل إلى جوفها ثم انظرأيها الفطين إلى ساقيها وقد زانتهما

«بخلخالين»يسمع حسهما فوق «الريحية» الحذاء النسائي فتراها وهي تمشي فوق المروج الخضراء تسبي العقل بجمالها.ثم يصف موكب العرس وهو يطوي الصحراء والهودج وقد رفعوه إلى الأعلى ووراءه البنادق وهي تطبق البارود إلى أعلى وهي تذكرنا بالأعراس التي حضرناها من قبل :

ثم يعود لوصف حالة الموت التي كانت فيه عندما وضعوها في الأكفان وازداد عند ذلك الحمى التي تساورني وتتصل بمخي وعقلي وعندما وضعوها في النعش رأيت نفسي كأني مجنون     ولم أعد أدري ماهو الشيء الذي ساورني ورأيت كل ما حولي خرابا كالنجم الذي غاب وراء السحاب في العشية وكثرت همومي عندما تذكرت أن حيزية لم تعد ترجع من قبرها لقد ماتت موت المجاهدين وقصدوا بها بلادا خالية ليس بها أحد وعادت في عشيتها تحت اللحود وغابت الزنود الموشومة والعيون الشاردة:

 

حـطوهــــا فلكفــان بنت علي الشــــــــــــــان   زادتني حمان نفضت مخ حجايا(41)

حطوها في أنعاش مطبوعة الأخراص(42)      راني وليت باص(43)وا اللي بيــــــــــا

في حــومـتـها خـراب كـي النجم اللي غاب     زيد قدح سحاب ضيق العشويـــــــــا

كثـــرت عنــي همــوم مــن صـافي الخرطوم   ما عادش تقوم في دار الدنيــــــــــــــا

ماتت موت الجهاد مصـــبوغة الأثمـاد(44)      قصـــدوا بيها بلاد خالد مسميـــــــا

عشات تحت اللحاد موشومة الأعضاد(45)       عينين الشراد(46) غابت على عينيا

 

ثم يلتفت إلى القبار الذي سوف يواري جسد «حيزية» في التراب محذرا إياه وهو يضعها  في القبر أن  يرفق بها ويبعد الصخور مخافة أن تقع عليها ويقسم عليه بكتاب الله وحروفه أن لا يهيل التراب على «أم مرايا» كناية على «حيزية» لو لا القدروحتمية الموت لاخذتها بقوة السلاح وإذا حلفت برأس كاحلة العينين لا أحسب أحدا في الناس ولو كانوا بالمئات وعندما أدخل إلى الحرب وأقاتل عنها ولو دام القتال عاما أو أكثر أما إذا ما حكم الله رب العالمين لا أستطيع أن أرجعها إلى الحياة ولم يبق لي إلا الصبر والذكريات التي لا تحمل إلا إسمك، عودي لنا كما كنت سارحة في هذه التلول راعية كما ترعى الخيول والفرس في ميدان القتال يخرج للقران ولا عجب في ذلك إذا كانت أمه «ركبية» وهو لا يدوم عندي شهرا وبعد ثلاثين يوما لحق بحيزية     وتوفي بعد أخته لم يعد يحيا في هذه الدنيا، لقد ذهب ذهاب الوداع كما ذهبت هي وطاح من يدي ذلك الفرس الأزرق يا ربي اجعل الحياة بعدهم مماتا فروحي قد فنيت ولقيتم فراقهما رزية كبيرة، وفي هذا يقول الشاعر محمد بن قيطون:

أحفّـــار القبور سايس(47) ريم القــور(48)         لطيحـش(49) الصخور على حـــيزيـة

قسـمتـلك بالكـتاب وحروف الوهــــــاب         لاطـــيح التـراب فوق أم مرايـــــــا(50)

لو تجـــي للعناد ننطــح ثلث أعقـــــــــــاد       نديـه بالزناد(51) عـن قـوم عـدايـــــا

و يذا نحلف براس مسبوغة الأنعـــاس  ما نحســش الناس لو تجي نيــــــــــة

لو تجــــي للزحــام نفتن عنها عــــــــــــام      نــديـها بالـدوام ناب وسهميــــــــــــــة

كيعــــــاد أمــــر الحنين رب العالميـــــــــــن    لا صـــــبتلهــا مين نقلبها حيـــــــــــــــة

صـــبري صبري عليك نصبر إن نأتيــك       ما نتفكـر فيك يا اتي غير انتـيـــا(52)

عـــــودي في ذا التلـول راعي كل خيــول      ويــــذا والي الهـول شاوي المشليـا(53)

ما يعـــمل ذا الحصان في حرب الميــدان       يخرج ســاوي القران أمه ركبيــــــــة

بعد شـهـر ما يدوم عندي ذا الملجوم(54) نهار ثلاثين يوم يوم أوراء حيزيـــة

توفـى ذا الجـــواد وولّى في الأوهــاد(55)        بعد أخـتي مازال يحيي في الدنيــــــا

صــــدو صـــــد الوداع هــو وأختي قــــاع     طـــاح من إيــدي طاح الأزرق آديــــــا

ربـــي اجعـــل الحـــياة وراهم ممــــــــات      منهـــم روحـــي فنـات لثنين رزيــا(56)

 

و لم يبق له بعد ذلك إلا أن يبكي  عل  الفراق الذي افتك منه حبيبته كما بكى العشاق من قبله إنه يحس بالحرقة في قلبه ويسائل عينيه ماذا بكما ومالكما تنوحان فلا يكون الجواب إلا بالدموع    وما كان ذلك إلا من أجل «حيزية» لقد زادت في عذاب قلبه بعدما سكنت تحت التراب وهي قرة العين أبكي وقد شاب رأسي من أجل بيضاء الأسنان وفرقة الأحباب لا تترك العين جافة ولا تصبر عن انهمال الدموع إنها شمس أضاءت الكون طلعت ثم غابت وبعد أن استوت خفتت في الضحى مثلتها قمرا بان ضوؤه في أول رمضان وذلك هو حكم الإله سيدي مولى الجاه الذي أنزل قضاءه وذهب بحيزية إلى عالم الغيب صبرني يا ربي فإن قلبي مات بدائه وحب الجميلة ذهب به عندما صدت :

نبكـــي بكــي الفراق كبكـي العشـــــــــاق       زادت قلـبي حـــراق خــوضـت مايــا(57)

يا عـــين واش بيكي تنوح يلا تشكيـــك          زهـو الدنيا بيديك ما تعفي شي عليا

زادت قلبي عذاب مصـــبوغة الأهداب  سـكـنــت تحت التراب قرة عينيــــــــــا

الشـــمس اللي ضــوات طلعــت وتمسـات       سخفت بعت أن ستوات بعد الضحـويا

القـــمر اللي بــــان شعشـــع في رمضــــان     جاه المســــيان طـــلب وداع الدنيـــــــــــا

هذا حكـــم الإله سيدي مول الجــــــــاه  ربـــــي نــزل قضــــاه وودى حيزيــــــــــا

صــــبرني يا إلــــه قلبي مـات بـــــــــــداه      حــــب الزينــة اداه كيصدت هــــــــــــي

 

ثم يتحدث الشاعر بن قيطون عن القيمة الغلية والكنز المفقود الذي ذهب به الموت وهو لا يعرف أي شيء واراه في التراب وأودعه في القبر فيقول :

تســــوى ميـــتين عود من الخــيل الجيــــد        وميــت فــــــرس زيـــــد غير ركــــبيـا

تسوى من الليبيل(58)عشــــر ميـــات مثيل         تسوى غابة النخيل في كل الدنيــا

تسوى عرب التلول والصحراء والزمول          مامشات القفول عن كل ثنيــــــــــــا

تســــوى اللي راحلين واللي في البـــــــرين     تسوى اللي حاطين عادوا حضريـا

تســـــوى خيل الشـــــليل ونجمة الليـــــــل         في أختى قليــل طبي ودوايـــــــــــــا

نســــتغفر للجـــــليل يرحم ذا القليـــــــــــل        يغفر للي يعيل سيدي وملايــــــــــــا

ثم يطلب بعد ذلك العزاء من كل من يصادفه من الصغار والرجال ويذكر زوجها سعيد الذي أحبها ومال به هواها يمينا وشمالا إنه لم يعد يلقاها بعد الآن وعندما يتذكرها يغمى عليه وذلك حيث يقول:

عـــزوني يا اسلام في ريمة الأريــــام          سكنـت دار الظلام ذيك الباقيـــــــــا

عزوني يا صغار في عارم الأوكار(59)         ما خـــلات غــير دار قعدت مسميـــــا

عـــزوني يا رجل في صافي الخلخــال         دارو عنهــــا حيـال لسة مبنيـــــــــــــا

سعيد في هواك ما عادش يلقـــــــاك             كي يتفكـــر سماك تديه غميــــــــــــا

اغفرلي يا حنين أنا والأجمعيـــــن              راهو ســــعيد حزين به الطوايــــــــا

أرحم مول الكلام واغفر مول علام               لاقيهم في المنــام يا عالى العليــــــا

يا علام الغــــيوب صــبر ذا المسلــوب         نبكي بكــي الغريب ونشف العديــا

ما ناكلس الطعام ماســك في الأفــام             وحرم حتـــى امنام على عيـنـيـــــــــا

بين موها والكلام غير ثــلاثـة أيــام             بقتــني بالســــلام ومـا ولت ليـــــــــــا

تمـــت يا ســـامعين في الألف وميتين           كملي تســـعـين وزيد خمسا باقيـــــا

كلــمــت ود صغـير قلناها تفكيــــــــــر          شـــهـر العيد الكبير فيه الغنايـــــــــا

في خالد بن السنان(60) بن قيطون فـلان           قــال علــى الــزمان شفناها حيــــــــا

في هذه القصيدة التي هي فريدة في نوعها ولم تتكرر في الأدب الشعبي الجزائري نرى ملامح ملحمة تتمثل في الإحساس الدافق والعواطف الجياشة بالمأساة وتبرز فيها أشياء منها صرامة التقاليد وقوة الصبر والبعد الذاتي في الصمت والكتمان ورغم أن اللغة تباعد في بعض الأحيان بين الإنسان وفهم مرامي هذه القصيدة إلا أنها عموما للمغرم بالأدب الشعبي لا تغيب  حدودها وإن كان لا يستطيع أن يتعمق في أغوارها كما كتبها صاحبها ابن قيطون.

الصحراء والفراغ وشدة المراقبة  وتسلط الحب هذه الأشياء تذهب بالإنسان مذاهب شتى وقد يتغلب عليها في بعض الأحيان ولكنه مهما كان ضعيفا أمام جيشان العاطفة فهويحاول الوقوف صامدا أمام دواهي في أغلب الأحيان لم يكن ينتظرها. وقد خلدت قصة حيزية في الأفلام          والمسلسلات وغناها المغنون واهتم بها الشعب الجزائري اهتماما كبيرا ولولا الحب الذي داهمه الموت لما كان ذلك ولعل الشيء الذي خلدها هو البداية الصعبة والنهاية الأصعب وبذلك دخلت  إلى ميدان التراث الشعبي وبقيت في أذهان الأجيال ولم تمح من سجل التاريخ.

هذه حيزية  والمعذب سعيد وجه آخر من وجوه تراثنا المتصل بذاتنا وهويتنا أرضا وتهاويل    وشعرا ولغة. ويبقى الشاعر بن قيطون هو الذي يحمل كل هذا والذي بلغ ما وصل إلينا.

 

 

 

الشرح والهوامش:

1- العاتي الجبار: القوي المتسلط.

2- بسكره: مدينة بالجنوب الغربي الجزائري اشتهرت بواحاتها.

3- قرية سيدي خالد: قرية تتبع «بسكرة» في جنوب الصحراء.

4- كبدتي بالسوية: أي مقسومة إلى قسمين متساويين.

5- ريم المجافيل: الغزال الشارد.

6- أرض المشاتيل: الأرض الخصبة.

7- تبرج: تباهى بزينته.

8- ممشـوط: استعمل فيه المشط.

9- الجعــارة: التي تستحي.

10 - جحفتها: هودجها.

11 - صقعوا: رفعوها إلى أعلى.

 12- الملف: نوع من القماش الصوفي الفاخر.

13 - يا حني: يا من تحن علي.

14 - العنود: الشابة الصغيرة.

15 - ننشد : أسأل.

16 - اللحود : جمع لحد وهي القبر.

17 - ناري مقدية ناري مشتعلة.

18 - ضرير : أعمى.

19 - الضامرة: النحيفة.

20 - نوار لعطيل: مكان في الصحراء.

21 - شاوي: نسبة إلى قبيلة الشاوية البربية.

22 - المْحال: العسكر الذي يتبع الباي.

23 - القومان: الجنود في الحرب.

24 - الصّمية: الصخرة.

25 - بالفنطازية: الكبرياء والتحدي.

26 - البيْ: الملك.

27 - الغثيث: الشعر المتهدل.

28 - اللماح: العينان.

29 - البرية: الرسالة.

30 - الحربـّية: المحاربون.

31 - الضوايا: الشمس.

32 - سيْ النعاج: حليبها.

33 - الجــــمار: قلب النخلة الأبيض.

34 - ماء السهدية : اسم لنهر.

35 - القطيفة : المخمل.

36 - الريحيـة: نوع خفيف كم الأحذية الجلدية.

37 - عضايا: بدني.

38 - مـرداس: برجاس (ملعب الخيل).

39 - محضية: مصانة.

40 - الرمقات: العينان.

41 - حجايا : ما فوق الحاجبين.

42 - الأخـــراص:  نوع من الحلي يلبس في الأذن.

43 - وليت باص: صرت مجنونا.

44 - مصبوغة الأثماد: مكحلة العينين.

45 - موشومة الأعضاد: سنتشر الوشم في عضديها.

46 - عينين الشراد: عينا الغزال.

47 - سايس: حاذر.

48 - ريم القــور: غزال الصحراء.

49 - لطيحش: لا تسقط.

50 - أم مرايــــا: كناية عن حملها للمرايا.

51 - نديه بالزناد: البندقية.

52 - انتـيـــا : أنت.

53 - المشليـا: اسم مكان.

54 - الملجوم : الفرس.

55 - الأوهاد : الأماكن المنخفضة.

56 - رزيـة: مصيبة.

57 - خوضت مايــا : عكرت مائي.

58 - الليبيل : الإبل.

59 - الأوكار : بيوت الطيور.

60 - خالد بن السنان : هو خالد بن السنان بن عبيث، نبي من الأنبياء ظهر بعد عيسى عليه السلام وهو من بني عبس جاءت ابنته للنبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه وقال لها «أبوك نبي ضيعه قومه»     وقيل إنه هاجر إلى شمال إفريقية واستقر بالجزائر قرب «بسكرة» في قرية سميت باسمه وهي «سيدي خالد» قرية حيزية التي عاشت فيها وبعد ما ماتت دفنت في ثراها وقبرها مازال معروفا في تلك القرية.

أعداد المجلة