فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

في حضرة الزار ..

العدد 19 - في الميدان
 في حضرة الزار ..
كاتب من البحرين

في الطريق لتلبية الدعوة :

كان الطريق إلى مدينة المحرق بمملكة البحرين مكتظا بالمركبات على غير عادته، فاليوم هو الإثنين ثاني أيام عيد الفطر المبارك لعام 1433 الواقع في العشرين من شهر أغسطس 2012. كنت وصديقي البروفيسور متهيئين لحضور حفل شعبي خاص طلبنا من أحد المعنيين أن يرتب لنا حضوره وانتظرنا موعده طويلا.

 

من المدخل الغربي لمدينة المحرق المواجه لجسر الشيخ حمد وعلى طول الطريق الذي يقسم المدينة إلى نصفين جنوبي وشمالي كانت أرتال المركبات في تتابع لا يفصل بعضها عن بعض سوى مسافات قصيرة جدا، وكنت في قلق الوصول إلى المكان المقصود على الموعد المحدد بعد صلاة العشاء حوالي الثامنة والنصف بالضبط.

عبق المحرق السحري الذي حدثت عنه الركبان يكاد يتدفق من شقوق الجدران العتيقة. فالمحرق من المدن الخليجية العريقة التي يقال إنها إذا سكنت منك القلب احتلته بشراسة وأبت أن تبرحه. البيوت والحوانيت هي ذاتها مع بعض التحويرات الطفيفة إلا أن الساحات والطرقات والأزقة بدت لي أضيق مما كانت، وكان أحد ممن عاش طفولته بهذه المدينة يتساءل كلما عاوده الحنين إليها: هل من المعقول أن تكون الجدران قد زحفت لتكون أقرب من بعضها؟ أم أن الطرقات على ما هي عليه وبدت له وهو صغير واسعة وساحات اللعب كبيرة واختلف النظر إليها عندما كبر؟ ويتساءل كثير من الناس عن سر تعلق أهل المحرق بمدينتهم واعتدادهم بها إلى حد الهوس عند البعض، فليس بها مايميز أو يبهر سوى أخلاقيات ذاك الترابط الأسري الحميم الذي يشد أهل المدينة إلى بعضهم، وقد يكون السر الخفي الذي لا يدركه إلا من عاش بالمحرق وتملكته تلك الروح النبيلة.

 

يا لهذه المدينة ..!

إلى وقت ليس ببعيد جدا، كانت المحرق عاصمة البحرين السياسية، بها مقر الحكم وسكن الحاكم ورجالات الدولة، تميزت بين كل مدن الخليج باحتضانها للفن والأدب وأنجبت العديد من المبدعين في شتى المجالات حتى عدت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي عاصمة الفنون الشعبية في الخليج والجزيرة العربية لازدهار ما كان بها من نشاط حي لفرق الفنون الشعبية الرجالية والنسائية ولكثرة ما تأسس بها من أندية الثقافة ودور للطرب وبيوت للأنس والإبداع، حتى عدت موئلا حاضنا لمختلف الفنون الوافدة من

 

أفريقيا عبر عمان والسواحل المواجهة القريبة.

كانت المحرق ملجأ لطالبي حرية التعبير من المفكرين والفنانين والشعراء. تأسس بها أول ناد أدبي في الخليج، زارها الأديب اللبناني الشهير أمين الريحاني ضمن جولاته وسكنها الشاعرالشعبي الكويتي الكبير عبدالله الفرج والشاعر النجدي المبدع محمد بن لعبون ودرّس في مدرستها الأولى المفكر خالد الفرج إلى جانب نخبة متميزة من المربين من مصر وفلسطين ولبنان وسوريا، وتركت بصمات أبنائها إلى اليوم على حركات الشعر والفن التشكيلي والموسيقى والصحافة ومختلف فنون الإبداع والأداء النوعي المتميز.

وصلت والبروفيسور إلى نقطة التلاقي على الموعد تماما، وكان من الصعب إيجاد موقف للسيارة. حـيّـانا الفنان جمعة ورحب بنا وهو الذي كنا نناشده منذ فترة أن يتفضل بدعوتنا إلى أهم حفل لعلاج الزار، حسب تقديره، مؤكدين هدفنا في التعرف على طبيعة هذا الحفل ودراسة أساليب التعامل مع الحالات المصابة وعلاقتها بفنون الإيقاع ونصوص الأغاني والتهليلات والأدعية التي تتخلل تلك الأغاني. في البداية، بدا الفنان جمعة في ريبة من أمرنا كلما ألححنا عليه في تأكيد الرغبة بحضور حفل حقيقي لعلاج الزار بالطرق الشعبية. وقد أيقنت والبروفيسور أن الأمر ليس بالخفة والبساطة التي حسبناهما، فقد أوقعنا الرجلَ بين أن يأخذنا إلى أرقى حفل فلا يحرج معنا وبين ألا يصدر من أحدنا نحن الإثنين أي تصرف مما هو محضور أو غير جائز فيحرج مع منظمي الحفل.

 

داخل الـ( مكيد):

اشترط علينا الفنان جمعة لحضور الحفل خمسة شروط صارمة جدا وشدد على أهمية الأخذ بها:

1 - أن نلبس اللباس الخليجي المعروف، لكن بدون العقال الذي يوضع على الرأس.

2 - ألا يتم التصوير خلال الحفل  بأي شكل من الأشكال.

3 - ألا يتم التسجيل بأية آلة كانت.

4 - ألا تبدر منا أية ضحكة أو مزحة أو تعليق على ما نشاهد.

5 - ألا نسأل أي سؤال عما نشاهد.

وفي الحقيقة حرمتنا هذه الشروط الخمسة من أهم عناصر الأرشفة والتسجيل والحفظ، إلا أننا لم نجد سوى أن نذعن بكل طيب خاطر، وكان لا بد من الالتزام مسبقا، لذا بدا صاحبي المعتاد على لبس القميص والبنطلون في أزمة التعامل مع اللباس الخليجي لأول مرة، وكان علي أن أتعود الحركة دون وجود العقال لتثبيت الغترة.

قادنا الفنان جمعة عبر تعرجات أزقة المحرق الضيقة حتى وصل بنا إلى باب بيت صغير دخلناه لنجد أننا مباشرة نعبر ممرا في مواجهة باب آخر يقود لغرفة ضيقة بها أربعة رجال قاموا لتحيتنا ودعوتنا إلى الجلوس فدارت القهوة العربية في الحال. من خلال باب موارب غير الباب الذي دخلناه ظهر جزء من غرفة واسعة، بدا لنا من جدرانها التي كانت مغطاة بستائر حريرية خضراء ذات نقوش ذهبية مقصبة وبدا في الداخل ثلاثة رجال يتجاذبون أطراف حديث هامس وحولهم ثلاثة طبول كبيرة الحجم وآلة طنبورة مسندة وجاهزة للعزف.

لاحظت أننا لم نلتق خلال الأزقة التي قادتنا لهذا المكان أيا من المارة إذ كانت الأزقة التي عبرناها ساكنة صامتة إن لم أقل هامدة، وكان ذلك بالنسبة إليّ أمرا غريبا لم أعهده في مدينة كالمحرق فترة العشاء.

من لقط الحديث بين الحضور القليل أدركنا أن هناك ضيوفا خليجيين في الطريق إلينا، بعضهم على جسر الملك فهد والبعض الآخر وصل المطار قاصدا المكان الذي نحن فيه. وخلال أقل من ساعة بدأ الضيوف بالتوافد على المكان فدعينا إلى داخل تلك الغرفة الواسعة وهي عبارة عن قاعة مربعة الشكل قدرت قياس أضلاعها بعشرة أمتار. يغلب اللونان الأخضر والأسود على الأقمشة التي تغطي الجدران فيما السقف باللونين الأحمر والأبيض، من بين الأقمشة آيات قرآنية وأدعية وبعض مما يعلق في المآتم والحسينيات من يافطات قماشية بها ذكر لأهل البيت صلوات الله عليهم. أرضية الصالة مغطاة بالسجاد وعلى جوانب أرضية الجدران الثلاثة المقابلة للجدار الذي به الباب مجموعة من الجلسات الشعبية (الدواشق) والمساند أما الجهة التي بها الباب فبها مصطبة من الخشب عليها جلسة ومساند وتتسع فقط لثلاثة أشخاص كنا عليها، ويبدو أنها مخصصة للضيوف أو الأغراب من غير أصحاب الكار. وفي الأعم فهي مجرد غرفة كبيرة مصمتة دون نوافذ حتى لا ينفذ صوت الطبول والمعازف إلى الخارج مراعاة للجيران.

تسمى هذه الصالة الـ (مـُـكِــيـْـد)، وهو الإسم الذي يطلق على المكان الذي يهيأ لعزف الطنبورة واستحضار الزار في جلسة فنية، ولا يستخدم لأي غرض فني آخر غير ذلك. وقد يؤخذ المريض إلى مكان منعزل خارج المكيد لاستحضار الزار ويسمى هذا الحفل (حضره) من حضور الزار إلى الميدان متلبسا المريض وناطقا بلسانه، ويقال للمريض الذي في هذه الحالة (استنزل) بمعنى أن الجان قد نزل من عالمه إليه، كما يقال بأن فلانا (استحضر). ومن طرق استحضار الزار في البداية أن يدار حول رأس المريض بـ (الميمر) والمقصود هنا المجمر الذي توقد به الجمرات لحرق العود وأنواع البخور لتهيئة الجو لحضور الزار الذي قد يستعصي حضوره لاعتقادهم بزعله من المريض.

والمكيد الذي نحن به الآن، يملكه شخص يدعى (عبد الواحد) وهو شاب بحريني في حوالي الأربعين، صامت أغلب الوقت ولديه مساعد هندي عجوز. يؤجر (عبد الواحد) المكان لحفلات الزار بمواعيد مسبقة، وبواقع مائة دينار لليلة للبحرينيين ويترك تقدير قيمة إيجار الليلة لكرم المؤجرين من أبناء الخليج الذين يكرمونه بمبالغ أعلى.

 

في البعيد :

وفيما المكان يمتلئ شيئا فشيئا بالحضور سرحت بذاكرتي إلى البعيد، عندما كنت طفلا، ربما في الثامنة أو العاشرة من العمر، وكنت في الطريق صحبة والدتي، فقد لفت انتباهي رجل أسود البشرة عليه كامل لباس الرجال الشعبي إلا أن من تحت الثوب الخليجي يبدو أنه يلبس سروال امرأة فيروزي اللون محلاة أطرافه السفلى حول الرجلين بخيوط ذهبية مقصبة فكان اللون الفيروزي الفاقع ملفتا من تحت الثوب القطني الناصع البياض، فكان ذلك محط استغرابي، وأتذكر بأن الرجل كان يمشي مكسورا وبداخله خجل ظاهر، فقلت لوالدتي: انظري إلى الرجل يلبس سروال امرأة. فنهرتني الأم بغضب وانفعال قائلة: قل الحمد لله رب العالمين. إلا أن ذلك لم يقنع فضولي فعاودت سؤالها في البيت بحذر فأفهمتني بأن الرجل مصاب بالزار وأن الزار الذي يتلبسه امرأة طلبت أن تلبس سروالا بلون معين ونقوش محددة مما تلبسه النساء فكان عليه أن يمتثل ليرضيها وإلا أزعجته بكثير من العلل والأمراض الجسمانية. كان الأمر محيرا بالنسبة لي وقتها، وعندما سنحت لي فرصة الانفراد بالوالد وكان من الرجال الأشداء الذين عملوا بمهنة الغوص على اللؤلؤ طرحت ذات التساؤل، فابتسم ابتسامة غريبة وكأنها تقول لي: وما لك أنت وما لهذه الأمور. صمت الوالد برهة، ثم قال قولا لا أنسى معناه: لماذا لا يتلبس الزار الغواصين والرجال الأقوياء المشغولين ليل نهار؟ لماذا يتلبس الزار هؤلاء الضعفاء المساكين ويتعبهم .. إنه الشيطان والوسواس الخناس. ولم يزد. ولم أشغل بالي وقتها بأكثر من ذلك.

من خلال لقاءاتي بالرواة وأنا أجمع نصوص الموال، أوائل سبعينيات القرن الماضي، يأتي موضوع الزار عرضا. إذ يتأكد في أذهان أغلب الرواة الثقاة ومنهم المرحوم السيد سعيد بن سالم البديد المناعي والسيد عبدالرحمن بوضرار الشاعر أن الزار في المفهوم الشعبي اعتقاد راسخ ونوع من المرض يصيب النفس وتتسبب فيه شياطين الجن ليعبثوا بالبشر ويعملوا على تسخيرهم لأغراضهم. وهناك نوعان من الجن ذكر وأنثى، أرضي وسماوي، ولكل منهما طلبات قد تكون تعجيزية. وفي حالات تكون هذه الطلبات مضحكة ومحل استهزاء. وأصعب الطلبات تأتي عادة من الزار الحبشي الذي يصفه الرواة بأنه عصبي ويصعب التفاهم معه.

 

منبع الاعتقاد وطرائق العلاج:

لا شك بأن الاعتقاد بالزار في المجتمعات الإسلامية مرده الاعتقاد الديني بوجود الجن في هذه الحياة الذي يعززه قوله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: Çوما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونÈ1، وأن هناك من الجن منهم أخيار ومنهم  شياطين Çوأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك، كنا طرائق قدداÈ2

قال شيخ الإسلام ابن تيميه: Çلم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم.. وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلوما بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيونÈ. وهو قول شائع ومشهور.

والأدلة على وجود الجن من القرآن كثيرة منها، ولا أدلَّ على ذلك من أن الله سمى سورة كاملة باسمهم ÇالجنÈ وقص فيها من أخبارهم وأقوالهم الشيء الكثير، وأما أحاديث السنة الدالة على وجودهم فأكثر من أن تحصر.

ويتم علاج الزار في جو نظيف عطر خال من أي دنس وذلك بإطلاق العود3ومختلف أنواع البخور على يد نوعين من المعالجين (شيوخ دين) يمتهنون مثل هذا العمل بتلاوة آيات الذكر الحكيم في جلسات مغلقة، و(شيوخ فـن) متمرسين، في جلسات فنية أشبه بطقوس شعبية لها رقصات خاصة تصاحبها دقات دفوف وطبول صاخبة تتخللها عبارات بمعان معينة. ويتم ذلك إما في جلسة خاصة يحضرها عدد محدود جدا وإما في حفل كبير كالذي نحضره الليلة. في بعض الحالات يحدد الشيخ نوع الجلسة أو الحفلة وفي أغلب الحالات تفرض طبيعة الحالة نوعية الحفل الذي يمكن أن يأتي بنتيجة حسب اعتقادهم. ويختلف أسلوب (شيخ الدين) عن أسلوب (شيخ الفن) في التعامل مع الزار، فالأول يَستحضر الزار كشيطان ليطرده ويأمره بالخروج من جسد المريض بالزجر أو بالضرب أحيانا (ضرب المريض)، والثاني يَستحضر الزار ككائن قار في جسد الضحية، يرحب به كضيف عزيز ويسترضيه ويطلب منه السماح إن تكدر خاطره من شيء والمعذرة والرأفة بجسد المريض على أن يلبي المريض من بعد كل ما يطلبه الزار. وهنا تأتي فرص الدجالين والمحتالين والمشعوذين الذين يستغلون السذج من البشر لفرض طلبات وإقامة حفلات مكلفة ودفع مبالغ باهظة.

وفي جانب آخر فإن أشباه مثل هذه الحالات العصبية والنفسية التي تصيب بعض البشر يختص بعلاجها علم النفس ويتولاها بالدراسة علماء الاجتماع وتكون محل اهتمام الدراسات الفولكلورية والانثروبولوجية.

وترجع بعض الدراسات وجود مثل هذا الاعتقاد والطقوس المتعلقة به عند العرب إلى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر مع ازدهار تجارة الرقيق على السواحل الأفريقية وجلب أفارقة بسطاء بمعتقدات بدائية وطقوس وثـنية وشحن نفوسهم بالقهر والعبودية والامتهان الذي يرسخ حالات كبت نفسي شديد تولد انفجارات عاطفية داخلية ووساوس شيطانية لا يمكن التعبير عنها إلا بمثل هذه التشنجات العصبية مع تحميل نتائجها فعل فاعل آخر يأتي من الغيب لا دخل لمن يؤديها فيها.

وكلمة الزار في الأساس عربية مستعارة على الأرجح من اللغة الأمهرية، ويذهب بعض الباحثين إلى أن أصل كلمة الزار عربي، وهي من زائر النحس4.

تنبهت من استغراقي في تذكر ما مر بي وما قرأت من مواد بحثية حول الموضوع على دخول أربعة شباب من ذوي البشرة السوداء ملأى أرواحهم بالحيوية والنشاط أشاعوا جميعا جوا من البهجة في المكان بعد ذلك الجو المتجهم، وحالما استقروا جلوسا جنب بعضهم جيء بالبخور إلى آلة الطنبورة وتم تبخيرها مع تمتمة حامل البخور بكلمات لم يصلنا منها شيئ، لكن فهمنا منها بأنها مجرد أدعية وأن لكل آلة طنبورة إسما نسائيا تعرف وتدعى به.

حضور (شيخ الفن):

تبين لي من خليط الحضور بأن هناك بالفعل ضيوفا من الكويت وقطر والإمارات وعمان، وكنت أبحث بين الضيوف وأتساءل من هو من بين الحضور يا ترى الشخص المعني بهذا الحفل؟ وتراه من أي بلدان الخليج؟ قطع علي تساؤلاتي الداخلية دخول الفنان إبراهيم (شيخ الفن) وهو فنان شعبي شهير ذو مكانة ومعرفة بمختلف الفنون، قمنا جميعا لتحيته والسلام عليه وتقبيل رأسه إجلالا. وما كاد يستقر على المصطبة بجواري حتى دبت في المكان حركة الاستعداد لفرش سفرة العشاء في أكثر من مكان بالقاعة بحيث تحلق كل ستة أشخاص حول صينيتين معدنيتين بإحداهما رز باللحم وبالأخرى رز بالدجاج مع بعض الفاكهة حول كل سفرة. رمقني صاحبي البروفيسور بما يعني أنه غير راغب في أكل الرز واللحم ليلا فاقتربت منه وقلت له بحزم:عليك أن تجلس حول السفرة وتمثل من يتناول العشاء معنا ولا يجوز أن تنفرد. فامتثل.

وبسرعة انتهت فترة تناول العشاء وسحب الصحون والـسُـفَـر وتهيئة المكان. اتخذ العازفون أماكنهم وانتصب واحد من الأربعة السود الذين دخلوا مؤخرا واعتمر (المنجور)5 بلفه حول وسطه وقام آخر منهم وتقدم نحو الطنبوره وباشر عزفا شجيا خفيضا رافقته الدفوف والطبول وصوت المنجور وترديد عبارات ذات طابع ديني تدعو إلى الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، منها:

صلوا على المصطفى العدنان

                             الهاشمي جـده الأشـرافي

قـولـو ..

 وبدأ الجمع في انسجام يحركه الإيقاع الرتيب الصاخب، وكلما فترت الدفوف جيء بأخرى محماة ليتواصل العزف دون انقطاع.

حقيقة كانت إيقاعات فنون القادري أخاذة وترديد جوقة الغناء متقن ومنضبط لكن لا يمكن لأحد أن يتبين كل الجمل التي تردد بوضوح تام، ومع اصطخاب الجو وتداخل الكلمات أمكن تبين شيء مما يردد:

شي لله يا سيد أحمد

                          شي لله يـــا العيـدروسي

.......................

وفـّـيه .. وفـّـيه .. وأنا ما وفـّـوني

                  كل الزار وفـّـوه وانا ما وفـّـوني

قد يكون سيد أحمد المشار إليه في الاستشهاد هو الولي الصالح أحمد بن عروس. وقد يكون العيدروسي هو أبو بكر بن عبدالله العيدروس (1447 - 1509) الزاهد والولي الصالح الشهير الذي ولد بحضرموت، يقال إنه مبتكر القهوة المتخذة من البن اليمني، له كتب في التصوف والأوراد6..

 

حضور الزار:

كان الجو شيئا فشيئا يميل إلى ما يشبه الصخب، تداخلت الإيقاعات وبدأت نصوص الأغاني تتحول إلى لغة غير العربية، ربما السواحلية، أو الميناوية وتبينت (دام دريه .. يا دام دريه ..) وكانت الجملة تردد بإلحاح وبصوت جماعي يتصاعد ويعلو وفجأة صرخ أحد القريبين من آلة الطنبورة صرخة قوية وهو يرتجف بشدة ويتلوى ويتأوه بألم فتم إفساح المكان لحركة جسمه وسارع شخص - عرفنا فيما بعد أنه مالك المكان الذي نحن فيه - إلى رف بالغرفة وأحضر وشاحا أحمر محلاة أطرافه بنقوش القصب المذهب وألقاه على رأس الرجل ليخفي تعابير وجهه في الوقت الذي واصل فيه عازف الطنبورة العزف بانفعال واستمرت الإيقاعات، وعلى جانب آخر اهتز شاب آخر بحركات هستيرية ثم شاب آخر تم تغطية وجه كل منهما بغترته واستمر تركيز الحضور على الرجل المغطى بالوشاح الأحمر. تأملت المشهد بدقة لأتبين حركة ارتجاف جسم الرجل وباقي حركاته العصبية فوجدتها حقيقية صادرة عن إنسان مأزوم يتأوه ألما وقام رجل بإمساك رأسه ومساعدة زحفه للوصول إلى المكان الذي به شيخ الفن. وصل الرجل إلى قدمي شيخ الفن الجالس بجواري منذ قدومه إلى المكان،

فبدأ شيخ الفن يقول مخاطبا الرجل ذا الوشاح واضعا يده اليمنى على رأسه: أهلا وسهلا .. حيا الله من حضر .. شرفتونا .. أهلا وسهلا .. حياكم الله .. يا مرحبا .. يا مرحبا .. حيا الله من حضر .. شرفتو المكان .. اطلبوا آمروا. . كلنا في خدمتكم.

وبصوت نسائي نزق وخفيض نطق الزار بلسان الرجل قائلا: لا .. لا .. ما يسمع كلامنا ولا يطيع شورنا عليه .. هذا عاصي .. احنا مو راضيين.

شيخ الفن: لكم الحشيمه والكرامه.. ما لكم إلا اللي يرضيكم ويسر خاطركم .. سامحوه من فضلكم .. هذا مسكين وايد تعبان.

ويرد عليه الزار: لا .. لا .. ما يبي يسمع ولا يبي يطيع .. جربناه من قبل.

فتزداد ارتجافات الرجل إلى الحد الذي لا يستقر الوشاح على رأسه ويزداد تأوهه ويزحف زحفا من مكان إلى آخر. ويشير شيخ الفن إلى أخذ الرجل إلى مكانه قرب آلة الطنبورة، ويشير إلى العازفين بالاستمرار في العزف والغناء والرجل يزحف إلى أن وصل ملتحفا الوشاح الأحمر وهو يرتجف متأوها.

لفت انتباهنا أن الشابين اللذين قاما بحركات تشبه ما قام به الرجل ذو الوشاح ما فتآ أن قاما يتجولان في القاعة عاديين فقدرنا أن ما بدر منهما لايعدو كونه تمثيلا تم ترتيبه مسبقا للفت نظر الحضور عما يجري للرجل المريض.

بدا الرجل ذو الوشاح في حالة صعبة وزادت عصبية حركاته وأخذ كامل جسمه في الارتجاف والتم من حوله أربعة أشخاص واحد بيده المبخر والآخر بيده مرش ماء الورد وثالث يمسك بالوشاح كلما انحسر عن رأسه.

وجاء إلينا الصديق جمعه يرجو منا بلطف المغادرة ويطلب من الآخرين أن يغادروا أيضا ليبقى المريض مع شيخ الفن ونفر قليل من العازفين. خرجنا بهدوء لنتبين طريقنا بين تلك الأزقة للوصول إلى السيارة. كانت الساعة قد جاوزت الثانية صباحا، وكانت المحرق تغط في نوم عميق.

 

الهوامش و المراجع

* توضيح بشأن صور هذا المقال

    قامت (الثقافة الشعبية) بالتعرف على مكان الـ(مكيد) المشار إليه بهذه المقالة وانتدبت المخرج الفني للمجلة رفقة المصور أنور حبيل، قاما بالاستئذان من صاحب الدار لالتقاط الصور المنشورة هنا مع المقالة للمكان وما به من أدوات وهو خال من مرتاديه. فلصاحب الدار الشكر والتقدير على تفهمه وحسن استقباله.

1: القرآن الكريم،  سورة الذاريات ، الآية 56.

2: القرآن الكريم، سورة الجن، الآية 11.

3: العود: الجزء المصاب بنخر من خشب شجر الأكار (Aghar Wood) الذي تسببه  حشرة معروفة يعمد الشجر ذاته إلى إفراز مادة دهنية لمقاومة هذه الآفة، فجعل الله من خشب هذا الشجر الذي تتخلله هذه المادة الدهنية أعطر أنواع الخشب عندما يحرق على الجمر. وقد استخدم العود في تعطير المعابد البوذية والهندوسية . وقد جلبه التجار الهنود إلى الخليج العربي فاعتاد الناس التعطر بأبخرته مع ماء الورد، ولا يكاد يخلو بيت في الخليج من وجود العود الذي تصدرت أبخرته ردهات القصور وقاعات حفلات الزواج والأفراح والمناسبات،  وجعل منه السكان أطيب وأثمن أنواع البخور العطرة. يجلب حاليا من كمبوديا وتايلند وماليزيا، ويباع للجمهوربالغرام وحسب مستويات جودته  يصل سعر الكيلو من أجود أنواعه إلى  أكثر من عشرة آلاف دولار أمريكي، وتستخلص تلك المادة الدهنية التي يفرزها الشجر من الجزء المصاب وتسمى (دهن العـود) وتباع بأغلى الأثمان كعطر رجالي ونسائي خاص. ويندر أن تجد خشب عود أو دهن عود هندي في كل أسواق الخليج لندرته ولكثرة الطلب عليه من قبل الحكام، ولأسباب أخرى لا محل لذكرها هنا.

4: الموسوعة العربية الميسرة، محمد شفيق غربال وآخرون، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر - القاهرة 1965، ص 916      

5: المنجور: آلة عزف تصدر خشخشة ولا تستخدم إلا في هذا الفن، وهي عبارة عن قطعة قماش ملاة منها في صفوف متقاربة أظلف ماعز مفرغة ومجففة يربطها العازف  حول إليته ويحرك جسمه حركات إيقاعية حسب اللحن المطلوب فيحدث احتكاك الأظلف ببعضها خشخشة خاصة تدخل ضمن تكوينات اللحن والإيقاعات، وتحتاج جهدا غير عادي في الأداء.

6: الموسوعة العربية الميسرة، محمد شفيق غربال وآخرون، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر - القاهرة 1965، ص 1247

أعداد المجلة