فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

المظاهر الدرامية لفنون الفرجة الشعبية

العدد 19 - أدب شعبي
المظاهر الدرامية لفنون الفرجة الشعبية
كاتب من مصر

يقصد بمظاهر الفرجة الشعبية تلك العروض التي كانت تؤديها الفرق الجوالة في الساحات العامة والشوارع، وأهمها: عروض خيال الظل والأراجوز وصندوق الدنيا، والمحبظين، وتعتمد هذه العروض على المحاكاة والتقليد والتمثيل الهزلي أمام الجمهور من خلال حفلات السامر الشعبي.

وترد أقدم إشارة إلى وجود فن مسرحي يؤديه البشر في مصر كما يقول د. علي الراعي في كتاب الرحالة كارستين نيبور الذي وصل إلى الإسكندرية في سبتمبر 1761م، ومكث في مصر سنوات طويلة مخالطاً سكانها من مصريين وأوربيين، وقد وصف نيبور عروض الشوارع والساحات، التي كان يؤديها الممثلون في ذلك الوقت، فأشار إلى فن الغوازي، الذي تؤديه فرقة راقصات ينتمين إلى الغجر بمصاحبة الموسيقى، سواء في الشوارع أو البيوت في مناسبات الأفراح، وأشار أيضاً إلى فني الأراجوز وخيال الظل، وكذلك فن الحواة، وهي من الفنون المنتشرة في أرجاء القاهرة، إضافة إلى القراد الذي يلبس قرده ملابس البشر، وكلها كانت تقدم بغرض التسلية والإمتاع والسخرية، سواء كانت عن طريق التمثيل المباشر والمرتجل الذي يؤديه الممثلون أنفسهم، أوعن طريق الوسائط، أي الدمى المستخدمة في هذه التمثيليات1.

وأهم مظاهر هذه الفرجة الشعبية ما يلي:

1ـ خيال الظل

وهو عبارة عن ظلال عرائس من الجلد أو الورق المقوى تظهر على ستار من القماش الأبيض الخفيف، وقد وضع خلف هذه العرائس مصباح ليعكس ظلالها على الستار، وهذه العرائس مكونة من أعضاء تتحرك بواسطة مفاصل وقد اتصلت بها وبأجزائها خيوط تتجمع في يد صاحب الخيال، وعن طريقها يحرك تلك العرائس وقتما يشاء ووفق مقتضيات الحوار الذي يجريه على لسان الشخصيات2.

وقد اختلف الباحثون في تحديد الموطن الأصلي لخيال الظل، فمن قائل إنه نشأ في الهند، وقائل إنه نشأ في الصين ومن أنصار هذا الرأي يعقوب لانداو الذي يؤكد أن الصين هي مهد خيال الظل، وأن هذا الفن قد عرف طريقه من الصين إلى بلاد الشرق الأوسط بواسطة المغول في القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين3.

بينما يرى د.عبدالحميد يونس أنه من الصعوبة بل والاستحالة تحديد الموطن الأصلي لهذا الفن، نظراً لتشابه وتماثل المراحل التي تمر بها الشعوب، وهي تعكس أنماطاً متشابهة في التعبير الشعبي، بالإضافة إلى أن الشعوب قد تبادلت التأثير والتأثر في فترات الهدوء والحروب معاً، ويرجح د.يونس أن تكون هذه النشأة في الشرق الأقصى في منطقة متسعة تشمل الهند والصين معاً4.  

وأقدم الإشارات التي وردت إلينا عن معرفة مصر لهذا الفن ما روي عن حضور السلطان صلاح الدين الأيوبي عرضاً لخيال الظل مع وزيره القاضي الفاضل وكان ذلك سنة 1171م - 567هـ، فقد ذهب العلامة أحمد تيمور إلى أن أقدم ما وصل إلينا عن وجود خيال الظل ومن اشتغل به إنما يرجع إلى العصر الفاطمي، وأنه كان من ملاهي القصور في تلك الآونة، ثم انتقل من قمة الهرم في الكيان الاجتماعي إلى أن أصبح فناً شعبياً مرتبطاً بالأعياد والمناسبات المختلفة، وكان السلاطين يستخدمونه في الدعاية لأنفسهم، وأول إشارة يعتد بها في ذلك هي تلك الرواية التي قرنت خيال الظل بالبطل صلاح الدين5، كما أن ابن إياس قد ذكر في تاريخه أنه في عام 855 هـ (1451م) رسم جقمق السلطان بحرق شخوص خيال الظل جميعها، وذكر أيضاً «أن السلطان سليم شاه لما كان بالمقياس أحضر في بعض الليالي خيال الظل فلما، جلس للفرجة قيل إن المخايل صنع صفة باب زويلة وصفة السلطان طومان باي لما شنق عليها، وقطع به الحبل مرتين فانشرح ابن عثمان لذلك وأنعم على المخايل في تلك الليلة بثمانين ديناراً، وخلع عليه قفطاناً محملاً بالذهب، وقال: إذا سافرنا إلى اسطنبول فامض معنا حتى يتفرج ابني على ذلك، ويرجح أن هذا هو أول عهد الأتراك بخيال الظل»6.

ومن هنا يمكن القول بأن مسرح الظل في تركيا قد اقتبس من مسرح الظل في مصر في القرن السادس عشر، حسب الرواية السابقة، بالإضافة إلى الأدلة التي تشير إلى أن لاعبي خيال الظل المصريين شوهدوا في تركيا في القرن السابع عشر لإحياء مناسبات الزواج السلطانية، وكان من بينهم لاعب العرائس الشهير داوود العطار7.

  وتسمى التمثيليات التي يعرضها صاحب الخيال باسم البابات ومفردها «بابة»، أي تمثيلية، وأول من أطلق عليها هذا الاسم محمد ابن دانيال الموصلي، الذي قدم القاهرة إبان حكم الظاهر بيبرس سنة 665هـ، وهو في التاسعة من عمره، فتتلمذ على شعرائها وأدبائها، وتخرج عليهم في الأدب، واشتغل بالكحالة بعد أن أكمل دراسة طب العيون8.

وقد خلّف لنا ابن دانيال ثلاث بابات، الأولى بعنوان: «طيف الخيال»، وهي تقدم لنا صورة واقعية للمجتمع المصري في القرن الثالث عشر من خلال بطلها «الأمير وصال» الذى يرغب في الزواج بعد أن ملّ حياة العبث ومعايشة الجنس الشاذ وتابعه طيف الخيال الناصح الأمين، والثانية بعنوان: «عجيب وغريب»، وهي عبارة عن اسكتشات مضحكة واستعراض للحياة وأرباب المهن المختلفة التي تمثل نماذج بشرية واقعية من المجتمع المصري، أما البابة الثالثة فعنوانها: «المتيم والضائع اليتيم»، وهي تدور حول الغرام والغزل وبها حركات ماجنة فاحشة، وتصور ما يدور في المجتمع من علاقات شاذة، وذلك من خلال مناقرة الديوك ومناطحة الكباش والثيران9.

وبالإضافة إلى هذه البابات الدانيالية هناك بابات أخرى ألفها مصريون، وتعد فنا من فنون الأدب العربي المصري في القرن السابع عشر الميلادي، وتمتاز هذه التمثيليات المصرية عن غيرها بتعدد مؤلفيها؛ فهي ليست من وضع مؤلف بعينه، بل من تأليف ثلاثة، وهم: الشيخ سعود، والشيخ علي النحلة، وداوود المنادي أو العطار، وأبرز هذه البابات: لعبة التمساح، التي تعرض لنا صوراً من الحياة المصرية في تلك الفترة، ولعب المنار أو حرب العجم، وقد وضعت خصيصاً لتصوير الحروب الصليبية، ولذلك سميت بـ «حرب العجم»، ووقعت حوادثها في الإسكندرية10، إضافة إلى بابات أخرى كثيرة مجهولة المؤلف ذكرها الدارسون لهذا الفن11.

ويطلق على اللاعبين في خيال الظل كلمة المخايل أو الخيالي، وهو اللاعب المتخصص في تحريك الشخوص، «ذلك لأنه لم يكن ممثلاً بشخصه، وإنما كان يتوسل بالخيال أو الصورة، كما أن الجمهور المتذوق لهذا الفن على اختلاف طبقاته كان يدرك تمام الإدراك أنه فن يقوم على التخييل أو الإيهام»12.

ويتفاوت عدد اللاعبين بين ثلاثة وأربعة وخمسة، وهؤلاء المخايلون كان لهم رئيس يقوم بدور المخرج، حيث ينظم حركات الشخوص، ويربط بين سياق الأحداث، وعرف منذ القرن السابع الهجري باسم «الريّس»، وسبق أن استعمله ابن دانيال في باباته13.

إن درامية هذا الفن تبرز من خلال سمات عروضه، فهناك مكان العرض، وهناك الشخوص المتعددة، وهناك المواقف والموضوعات المستمدة من واقع المجتمع، وهناك كذلك الحوار بين الشخوص الغزير بالألفاظ والعبارات الفكاهية والجنسية، وهناك جمهور المتفرجين. لكن رغم توافر كل هذه العناصر، فإن المسرح الظلي لم يمثل الفن المسرحي المتكامل بكل مقوماته المعروفة في العصر الحديث، فهو يفتقد الشروط التي ينبغى أن تتوافر في التمثيلية الحقة، «وأهمها التحليل النفسي الدقيق لأشخاص القصة والصدق الفني في تتابع مشاهدها، والتركيز على الفكرة التي هي محور القصة، ثم عمق النضال القائم بين شخوصها، ومن ناحية أخرى فإن المواضيع التي تعالجها قصص خيال الظل تجعل منها وثائق محلية ترسم ملامح الحياة الاجتماعية والسياسية أكثر مما ترسم ملامح الإنسان»14، ومن ثم فإن الصلة الفنية والتاريخية بين هذه العروض ومثيلاتها وبين المسرح العربي الحديث تكاد تكون منقطعة، وهذا ما أشار إليه جب بقوله: لقد أفلتت الفرصة المواتية وبقي مسرح الظل وما أشبهه على حالته الجنينية فماتت الدراما العربية في مهدها»15

وعلى الرغم من عدم وصول مسرح خيال الظل إلى الفن المسرحي المتكامل المقومات -كما ذكرنا آنفاً- فإن هذا الفن كانت لـه آثار واضحة وباقية على الكوميديا المصرية؛ «فقد تسربت شخوصه وأساليبه إلى الفصول المضحكة التي عرفتها البيئات الشعبية في الريف والمدينة، وخاصة في بداية القرن التاسع عشر16».

إن الفضل العظيم الذي أسداه مسرح خيال الظل إلى تاريخ الحضارة العربيـة -كما يقول يعقوب لانداو- يتجلى في «أنه حفظ للأجيال المستقبلة من أبناء السلف أفكارهم التي قام بتسجيل القليل منها، وكذلك عادات تلك الأجيال الغابرة، ومن ناحية الفن يتضح أنه مهد الأرض لوصول واستقبال وسيلتي التسلية الأوربيتين، المسرح والسينما، وتكاتف معه في هذه المهمة رواة القصص في عروض «المحاكاة» التمثيلية، وفي العروض التي قدمها لاعبو المسرحيات العاطفية، وإن كان خيال الظل في هذه  المفاضلة أكثر أهمية منها»17.

وإلى ذات المعنى يشير د.علي الراعي مبيناً أن هذا الفن، وإن لم يتطور إلى مسرح للتمثيل البشري، فقد «ظل محتفظاً للفن المسرحي بعناصره الرئيسية -التمثيل عن طريق صور وظلال لا يهم- وعن طريق الحوار، ونوع القصة مضافاً إلى هذا كله مشاهدة ترفيهية منوعة تقدم أمام جمهور، في دار مغلقة، أو في مكان مفتوح يقوم مقامها، وبهذا حفظت لنا فكرة المسرح، وجنبت الاندثار، واستقرت بين عادات الناس عادة الذهاب لمشاهدة التمثيل»18.

ولعل أكثر من تأثر بعروض خيال الظل في مسرحنا المصري الفنان علي الكسار، فقد استمد شخصية «البربري المهرج» من عروض السامر الشعبي وبابات خيال الظل، ومن أهم أعماله في هذا المجال مسرحية «بنت الشبندر» التي كتبها أمين صدقي، ومسرحيات «القضية نمرة 14»، و»سفير توكر» و»ناظر المحطة»19، وغيرها.

وممن تأثر بعروض السامر وخيال الظل بعد ذلك، كل من يوسف إدريس في مسرحية «الفرافير» (1964)، ورشاد رشدي في «اتفرج يا سلام» (1965)، ومحمود دياب في «ليالي الحصاد» (1967)، وغيرهم من الكتاب فيما بعد.

 

2 ـ الأراجـوز

الأراجوز أحد أشكال الفرجة الشعبية التي تنتمي لما يعرف بمسرح العرائس، وهو عبارة عن دمية قفاز، حيث نجد رأسه مصنوعة من خامة خفيفة صلبة كالخشب مرسوم عليها وجه ذو تعبيرات حادة, وتنتهي من أعلى «بطرطور» أحمر, ويداه قطعتان من الخشب، ويتم التحكم في الأراجوز ـ الدمية ـ عن طريق اليد, حيث يقوم اللاعب بتحريك العروسة دون أن يراه أحد من جمهور النظارة, ولهذه العرائس ملابسها الخاصة، التي يتم تصميمها تصميماً يدل على الشخصية التي تمثلها وتتفق مع أدق خصائصها20.

وقد عرف فن الأراجوز في مصر خلال القرن السابع عشر، وتبلورت شخصية الأراجوز الذي كان يقوم بالبطولة في التمثيليات التي تقدمها عرائس القفاز, وانتشر في المدن والريف, وهو أقرب إلى التهريج الشعبي وكانت تمثيلياته تقوم على الارتجال21.

ويصف لنا د. على الراعي بعضاً من عروض الأراجوز التي شاهدها قائلاً: «ولا زلت أذكر بعضاً من حفلات الأراجوز التي شهدتها في صباي في ساحة الاحتفال بالمولد النبوي بمدينة الإسماعيلية, وفي إحداها كان الأراجوز يعرض اسكتشاً قصيراً عن العلاقة بين زوج وزوجته, الزوجة تأتي لزوجها شاكية, فالعجين عليها والخبيز عليها وكنس الدار عليها .. الخ, ويحاول الزوج أن يهدىء من روعها, وأن يطيب خاطرها, لكنها ترفض السكوت, بل تنتقل من الشكوى إلى الردح والشتائم, فيمضي الزوج في محاولة استرضائها المرة بعد المرة دون جدوى, وتتحول الزوجة من الشتائم إلى العدوان اليدوي, وفجأة يغيب الزوج خلف الساتر ثم يظهر ومعه هراوة ينهال بها ضرباً على زوجته التي تهدأ وقتها وترضى، ثم تتحول علاقة التماسك بالأيدي بين الاثنين إلى علاقة جنسية تظهر أمام المتفرجين حركاتها الرئيسية, ويكون من نتيجتها أن تحمل الزوجة ويظهر وليدها على شكل دمية صغيرة»22.

   إن هذه العروض التي يقدمها الأراجوز، رغم بساطتها وعدم نضجها الفني, فإنها كانت تعبيراًً عن هموم المجتمع ومشاكل الناس عن طريق إبراز العيوب ونقدها ممثلة فى شخصية الأراجوز، التي تناولت شخصيات كثيرة بالنقد والتقريع, «فقد انتقد الأوضاع القائمة، وتناول الطبقات الحاكمة بالنقد والسخرية بالتلميح والتصريح, وكان من أحب وسائل التنفيس عن صدور الشعب المصري من ظلم الحكام, فالأراجوز كان يقدم بعض البطولات الشعبية, أدهم الشرقاوى, حرب بورسعيد, حارة اليهود, بل إن صفع القفا التركي أو المملوكي عريضاً وطويلاً، ثم الضرب عليه بصفعات الأراجوز يعد شكلاً من أشكال المقاومة، مهما كانت درجاتها»23.

وقد اتسمت تلك العروض بعدة سمات منها: تنميط الشخصيات؛ فشخصيات مسرح الأراجوز شخصيات نمطية ثابتة مثل: الأراجوز, زوجته, ابنه, الشحات, البربري, الحانوتي, الشاويش, الحرامي .. الخ, ولكل منها سماتها الخاصة بها، والتي تميزها عن غيرها من الشخصيات, فالأراجوز، على سبيل التمثيل، «خليط من المكروطيبة القلب، والشجاعة عند الحاجة، والجبن عند الضرورة، وسعة الصدر حينا،ً ثم الثورة المسلحة بالعصي دائما حيناً آخر»24، أما زوجة الأراجوز فهي دائماً: الشاكية من زوجها, الثرثارة, العنيدة, الذكية.

ومن سمات مسرح الأراجوز -أو عروض الأراجوز الدرامية- كذلك: الإيحاء بالزمان والمكان؛ فهذا المسرح يوحي بالزمان والمكان دون أن يجسدهما، في الفقرة الحوارية أو الصورة المرئية، إضافة إلى أنه لا توجد ديكورات تحدد هوية المكان أو نوعية العرض المقدم, أما عن اللغة في دراما الأراجوز, فهي لغة متنوعة, فهناك العامية المصرية ذات اللهجات, فالأراجوز يتحدث لغة أهل القاهرة, أما البربري فيتحدث لغة أهل السودان, والصعيدي يتحدث لغة أهل الصعيد, وهذه اللغة تحتوي على بعض الألفاظ القبيحة، كالسباب والشتائم، إضافة إلى الطابع الملهوي الساخر مثل كثرة القفشات والنكات والاعتماد على الضحك, وهناك أيضاً الصراع القائم بين الأراجوز ومن يحاول تعكير صفوه كالضيف أو الزائر الثقيل, فيقوم الأراجوز بمحاولات عدة كي يتخلص من هذا الزائر ويعود إلى نشوته25.

على أن فن الأراجوز بعروضه السابقة قد ترك أثراً واضحاً على الكوميديا المصرية, وكان أبرز مظهر لـه هو تحوله من مجرد دمية إلى شخصية إنسانية, وقد تحقق هذا الأثر  «حين اكتشف علي الكسار شخصية عثمان عبد الباسط ممثل الشعب الخفيف الظل, الطيب القلب, الطويل اللسان الذي يقول الحق دائماً وأجره على الله, وشخصية عثمان عبد الباسط ـ لو دققنا النظر ـ هي الأراجوز وقد طلى وجهه باللون الأسود، وخرج من أسر فنان بشري يحركه إلى نطاق أرحب ـ نسبياً ـ هو نطاق فنان يحرك نفسه»26، وتلك نقطة تحول كبيرة فى ميدان هذا الفن، «فالممثل هو الصلة الحية المباشرة بين المنصة والجمهور، والمسرح كوسيط (Medium) يختلف عن دراما الظل كوسيط آخر»27.

وتغلغل شخصية الأراجوز في المسرح المصري جعلها تضطلع ببطولة عشرات المسرحيات ـ وخاصة في مسرح الكسار ـ إضافة إلى شخصيات أخرى تسربت إلى المسرح من عروض الأراجوز كالفقى ذي اللسان الفصيح, والزوجة ذات اللسان السليط, «ولم يقتصر تأثير الأراجوز على هذه النواحي فحسب وإنما تجاوز التأثير إلى تقليد هذا المسرح لوظيفة مسرح الأراجوز، تلك الوظيفة الهادفة إلى خلق التسلية وإثارة المرح عن طريق كسر المحرمات التقليدية، وتحطيم التابو الجماعي مثل فضح العلاقة الزوجية ورسمها بصورة كاريكاتيرية مضحكة، والسخرية من الشخصيات الأجنبية ذات السلطة والنفوذ في المجتمع المصري كالتركي والخواجة، أو عن طريق سعي الأراجوز أن يأتي الممنوع من الأشياء»28.

 ثم تطور أثر هذا الفن في المسرح المصري ـ إلى حد ما ـ على يد الفنان محمود شكوكو, فقد كان يلقي منولوجاته الفكاهية مرتدياً «طرطور» الأراجوز, يعلق على الأحداث، ويتندر بالناس, وتلك من امتيازات الأراجوز الدمية ـ على حد قول د.على الراعي ـ ثم تسربت هذه الشخصية مرة أخرى إلى الكوميديا المسرحية المصرية،عن طريق الأدوار التي كان يؤديها الفنان عبد المنعم مدبولي, فقد أخذ من الأراجوز الدمية مكره الشعبي وسلاطة لسانه, وحبه للمرح, وضعفه الدائم أمام المرأة، ثم التهريج بالكلمة والحركة، والفعل, إلا أنه لم يسجن نفسه في شخصية الأراجوز كشكوكو والكسار, بل استعان بروح الأراجوز ليضفي طابعاً شعبياً على شخصياته العديدة التي مثلها وأداها في العديد من مسرحياته29.

وقبل الكسار وشكوكو والريحانى تأثر مسرح يعقوب صنوع كذلك بعروض الأراجوز, ويظهر أثر فن الأراجوز واضحاً فى مسرحية «الدرتين»، التي يمكن اعتبارها أحد أدوار الأراجوز أدخل عليه صنوع بعضاً من التطوير, وهي تعتمد على موقف تقليدي من مواقف الأراجوز, هو موقف الرّجل الحائر بين زوجتين»30.

ومن أبرز من تأثر بعروض مسرح الأراجوز من كتاب المسرح المصري الحديث يوسف إدريس فى « الفرافير»، وما شخصية الفرفور بتركيبتها الفنية ومواقفها الكوميدية إلا أثر واضح من الآثار التي تركها هذا الفن، سواء في الشخصيات، أو المواقف ،أو الحوار ـ كما سنبين فيما بعد.

 

3 ـ صندوق الدنيـا

الفن الثالث من فنون الفرجة الشـعبية، التي أثـرت في المسرح،هو «صندوق الدنيا»، وهو عبارة عن عرض متتابع لمجموعة من صور الأبطال والأحداث التي مروا بها عن طريق الراوي، الذي يقوم بالتعليق عليها، ووصفها، وإبراز سمات كل شخصية على حدة, وهذا النمط من التمثيل يدخل ـ كما يقول د. عبد الحميد يونس ـ في باب التمثيل على سبيل المجاز؛ لأن عارض الصور يتخذ منهج المنشد أو القصاص في السرد وتلوين الصوت, والصورة التي تعرض يتم تكبيرها عن طريق عدسات تحدد عدد المشاهدين لها، وكل واحد منهم له وجدانه الخاص, وقلما يزيدون في العرض الواحد على أصابع اليد الواحدة31

فالسمة الدرامية في هذا الفن تأتي من خلال عرض الصور والتعليق عليها عن طريق السرد والقص من جانب المنشد أو القصاص، إلا أنه يدخل في باب التمثيل على سبيل المجاز -كما أشرنا- لأنه ليست هناك قصة درامية تتطور إلى الصراع الذي هو جوهر الدراما بمعناها الحقيقي.

وصاحب العرض هنا يحمل «صندوق الدنيا» على ظهره, الذي هو عبارة عن صندوق من الخشب به فتحات ودوائر زجاجية، ليرى المشاهدون من خلالها الصور وهي تمر أمامهم، وهم جالسون على «الدكة» في أماكن تجمع الناس وخاصة الأطفال، وفي أثناء مرورها يحكي المخايل القصة، بعد أن يكونوا قد دفعوا «ملاليمهم» وأسدل عليهم الستارة، حتى لا يختلس معهم من لم يدفع, ثم يعلق على ما يرويه تعليقات مثيرة تستحث الآخرين على المشاركة في المشاهد قائلاً: شوف ياسيدى وأدي السفيرة عزيزة اللي جمالها ما خطرشي وعينها اللي ذي الفنجان وبقها اللي زي خاتم سليمان ثم وادي ياسيدى كمان عنتر بن شداد اللي قتل الفرسان وأدهش الأنام وكل ده عشان عبلة ذات الدلال والجمال .. الخ32».

ويلاحظ أن القصص التي يقدمها هذا الفن بسيطة في بنائها تقوم على السرد المصور عن طريق الراوي، الذي يعد عنصراً هاماً في العرض، «فهو يره, يشرح, يفسر, يعلق, ويدفع بالأحداث إلى ذروتها, وهو فوق كل هذا يمنح الشخصيات الحياة المؤقتة عن طريق صوته, فهو يؤدي هنا أبو زيد الهلالي ثم هناك الجازية, فعن طريق، إحلاله في الشخصية الصورة، ومن خلال التلوين الأدائى الصوتي يبعث الحياة في  الشخصيات، لإقناع متفرجيه بحقيقة ما يحدث»33.

وهذه الفنون الثلاثة من فنون الفرجة الشعبية تسمى بالتمثيل غير المباشر, أي أنها تعتمد على وسائط حتى يتم تقديم عروضها, أما التمثيل المباشر في فنون الفرجة، فإنه يتضمن عروض المحبظين والقرداتية ثم عروض السامر الشعبي، ويقدمها اللاعب أو الممثل أمام الجمهور مباشرة، دون التخفي أو الاستعانة بوسائط كالدمى، وغيرها.

 

4 ـ عروض المحبظين

المحبظون هم مجموعة من اللاعبين يقدمون عروضهم في الاحتفالات التي تسبق الزواج أو الختان في بيوت علية القوم والأثرياء, وهم يجذبون السامعين والنظارة في حلقات يقيمونها في الشوارع والأماكن العامة في مختلف أحياء القاهرة, ويغلب على عروضهم الفكاهات الفجة والأفعال الهازئة والهابطة بغرض التسلية والمتعة للنظارة، وقد استمرت هذه العروض الهازئة الهابطة حتى وقت متأخر في القرن التاسع عشر, عندما بدأ المسرح العربي المستوحى من الغرب34.

وقد وصف لنا المستشرق إدوارد وليم لين بعضاً من عروضهم التمثيلية، التي كانت تقدم في مناسبات الختان والزواج, حيث يجمعون حولهم حلقة من المشاهدين، ويقدمون عروضهم التي يلهون بها الجمهور وينالون ثناءه بفكاهاتهم, وعروضهم هذه ليس بها نساء, وإنما يقوم بدورهن رجل أو صبي في ثياب امرأة, ومن ذلك تلك الرواية التي مثلت أمام الباشا أثناء الاحتفال بختان ولد من أولاده, وأشخاص الرواية هم: ناظر, وشيخ بلد, وخادمة, وكاتب قبطي, وفلاح مدين للحكومة يدعى عوض, وزوجته, بالإضافة لخمسة أشخاص آخرين هم عازفو الموسيقى والراقصون. ويقول لين: وبعد قليل من الطبل والزمر والرقص يظهر الناظر وبقية الممثلين، فيقول الأول: «كم قرشاً دين عوض بن رجب؟» فيجيب العازفون والراقصان الذين يقومون بأدوار فلاحين: «مر النصرانى بالبحث فى السجل», ويحمل النصرانى دواة كبيرة في حزامه, ويلبس لباس الأقباط ويعتم بالعمامة السوداء. فيسأله شيخ البلد: «كم على عوض بن رجب؟» فيجيبه: «ألف قرش», فيسأله كم دفع؟ فيقول: خمسة قروش, فيخاطب الفلاح قائلا: يا رجل, لماذا لم تحضر النقود؟ فيجيبه: «ليس عندى نقود» فيصيح الشيخ: ليس عندك نقود؟ اطرحوه. فيأتون بجزء من معى منفوخ على شكل سوط ويضربونه به، فيستغيث الفلاح بالناظر قائلاً: «وشرف ذيل حصانك يا بك! وشرف سروال زوجك يا بك! وشرف عصابة رأس امرأتك يا بك!» وينتهى الضرب بعد عدة صيحات، ثم يقاد إلى السجن, وتحضر امرأته توّاً لتطمئن عليه فيرجو منها أن تأخذ قليلاً من الكشك والبيض والشعرية وتذهب إلى منزل الكاتب وتستعطفه ليخلصه. فتذهب الزوجة بالهدية إلى منزل الكاتب, وتسأل من هناك عن المعلم حنا الكاتب فيدلونها عليه. فتقول لـه: يا معلم حنا تفضل بقبول هذه الهدية وأنقذ زوجي الفلاح المدين بألف قرش» فيقول: احضري عشرين قرشاً أو ثلاثين رشوة لشيخ البلد» فتنصرف وسرعان ما تعود بالنقود, وتسلمها إلى شيخ البلد فيأخذها, ويقول: حسن جداً اذهبي إلى الناظر» فتنسحب وقتاً لتتكحل وتتخضب، ثم تقصد الناظر وتحييه. فيسألها عما تريد فتخبره أنها زوجة عوض المدين بألف قرش. فيقول: وماذا تريدين؟ فتجيب: إن زوجى مسجون وأستنجد بمروءتك لتخلصه» وتبتسم وهي تلح في طلبها, وتظهر أنها راغبة في مكافأته عن هذا المعروف. فيقبل ذلك, ويقوم بالدفاع عن الزوج, ويخرجه من السجن»35.

إن هذه الرواية التي أوردها «لين»، رغم بساطتها، فإنها تصور لنا عن طريق الشخوص تصويراً حياً ما كان يعانيه الفلاحون من مظالم ومرارة, وما استشرى من فساد بين الحكام ومساعديهم. إنها قد جمعت إلى جانب التسلية والترفيه طابع السخرية والنقد الاجتماعي لما يدور في المجتمع, ومن ثم فهي ناطقة بانتمائها إلى البيئة التي أنتجتها البيئة المحلية المصرية، فهي خالية من التأثير الأجنبي.

ومسرح المحبظين هذا لم يكن مسرحاً نظامياً أو رسميا،ً بل كان شعبياً، ونصوصه نابعة من البيئة المحلية والواقع الاجتماعي والسياسي الراهن،إلا أن هذه العروض في تركيبها الفني وطريقة صنع شخصياتها, لا تبين عن أثر فني آخر غير المسرحية الظلية والأراجوزية التي هي من فنون مصر المحلية36 -كما أشرنا- ومن ثم فإنها لم تمثل فناً مسرحياً متكاملاً ـ كما يرى البعض- فهي لم تكن سوى عبارة عن حلقات لهو وتسلية شعبية مما يبعد بها عن أن تكون أصولاً لبعض الأعمال المسرحية؛ لأنها لم تؤد إلى آثار ذات بال في هذا الصدد, فقد ظلت في أغلبها رهينة الموالد والأفراح والمناسبات الخاصة, إضافة إلى أن معظمها كان هابط الموضوع، بدائي الوسائل والأدوات مما حدا بجمهرة المثقفين والمشتغلين بالأدب إلى عدم اعتداد هذه العروض أصلا للفن المسرحي الحديث عندنا37.

لكنه على الرغم من ذلك، فإن هذه العروض تركت أثراً واضحاً في المسرح المصري، وخاصة في مجال الشخصيات مثل: الخادم المهرج, السائح الأجنبي, الزوج المخدوع, والغبي المتفاخر, وشيخ البلد، والكاتب القبطي .. الخ, وخاصة في مسرح يعقوب صنوع، الذي استخدم شخصية السائح الأجنبي على نحو قريب من استخدام الفصل المصري لـه38، ذلك الفصل المضحك الذي يتسم حواره دائماً بأنه عبارة عن نثر عامي ماجن مليء بالشتائم والإباحيات، بالإضافة إلى الشخصيات النمطية السابقة الذكر، وقد اشتهر الممثل السوري جورج دخول بتقديم مثل هذه العروض والفصول المضحكة؛ حيث أخذ يقدم عروضه في مقهى «كامل»، وكان بطله «كامل» الخادم يمثل الشخصية المحورية في مسرحه، ثم انتقلت هذه السمات بعد ذلك إلى مسرح نجيب الريحاني الذي برع فيها وأكسبها صبغة مصرية خالصة39.

 

5 ـ السـامر

السامر عبارة عن عرض مسرحي يقام في المناسبات الخاصة مثل الأفراح والموالد، تقدمه فرقة مكونة من عدة أشخاص محترفين للموسيقى والطبل وراقصة والمغني, أما الممثلون فإنهم في العادة أشباه محترفين؛ فهم أصحاب حرف يمارسونها نهاراً حتى إذا ما فرغوا من عملهم وحلّ الليل والسهر انقلب هؤلاء إلى فنانين يقدمون عروضهم في حفلات السامر لإمتاع المشاهدين, وقد كانوا يرتدون أزياء تناسب أدوارهم، ويضع بعضهم الدقيق أو «الجبس» على وجهه، ويلبس طرطوراً40.

ويصف لنا الأستاذ أمين الخولي عروض هذه الفرق ومسرحها الذي تقدم عليه هذه العروض قائلاً: «الفرقة تتألف من عدة أشخاص كانوا جميعاً رجالاً, ثم دخلت فيهم المرأة بتطور اجتماعي, وكان الطبل يتكون من ريّس ينسب إليه الطبل, ومع الريس شخص أو شخصان لدق الطبل, وشخص أو شخصان للزمر على المزمار الحديد, ثم الغايش, وهو الراقص الذي حلت محله مع الوقت السنيورة, وهي المرأة الراقصة .. وفي الفرقة الخلبوص, وهو شخصية فكهة ماجنة, ومع هؤلاء مساعدون, وكل هؤلاء ومساعدوهم يؤدون الأعمال الفنية الموسيقية, ويشاركون بأشخاصهم في التشخيص أو التقليعة ويريدون بها الفصل من فصلي التشخيص .. ومسرح هذه الفرقة أو «السامر» في الساحة الشعبية التي توجد في كل قرية وتتسع بطبيعتها لذلك وهي «الجرن» وأرضه مسواة ممهدة من أجل الدراس, وهي بليطة لا تزرع, وفي هذه الساحة تكون الحلقة المستديرة مفروشة دائرتها بالحصر،أو الدكك, أو الكراسي حسب المستوى, وتكون الإضاءة «بالشعل»، التي تصنع خصيصاً للفرح من خرق ملفوفة على عصي مغموسة في البترول أو ما يشبهه، ويحملها الريس حينما يظهر دوره، أو يحملها أفراد من أقارب أصحاب الفرح, وتوقد الشعلة من الأخرى في تتابع طول السهرة»41.

من هذا الوصف، الذي أورده الأستاذ أمين الخولي، يتضح لنا أن هذا المسرح (السامر) يتسم بسمات عدة أهمها: أنه مسرح شعبي, أي أن عروضه تقدم أمام الجمهور مباشرة في البيئات الشعبية المحلية، كالقرى والنجوع وفي الأحياء الشعبية بالمدينة أيضاً, فهو لا يحتاج إلى مكان مغلق مجهز لتقديم العرض, بل يكفي تقديمه في تلك الأماكن المشار إليها, وأنه يقوم على تصوير حياة الطبقة الدنيا وتناول مشاكلها، وهدفه إثارة الضحك بشتى الوسائل, وهو بذلك تنطبق عليه سمات الكوميديا الشعبية، التي يشير النقاد والدارسون إلى أن «لغتها مليئة بألفاظ هذه الطبقة وتعابيرها، وكذلك من يقومون بأداء التقليد والمحاكاة كانوا من نفس الطبقة يجيدون تقليدها في مرافق حياتهم، ثم يقومون بحركات مثيرة مضحكة شاذة غير معقولة, وذلك بسبب موضوعات هذه الكوميديا الشعبية، التي تتناول غالباً الغواني والرذائل المتفشية بين هذه الفئات، وحركات الرقص المقلد، أوالمعبر(بانتوميم) .. فالكوميديا الشعبية موضوع تقليد مضحك قصير محلي شديد الارتباط بالبيئة التي نشأ فيها، والأغلب فيه الارتجال, فلا يعتمد على نص مكتوب»42.

والرواية التي تمثل في السامر «ليست رواية واحدة وإنما هي عدة فصولات بعضها يعمد إلى الإضحاك وبعضها، الآخر يعمد إلى إزجاء الحكم والمواعظ, وهذه الروايات ليس لها نصوص مكتوبة، وإنما لها نصوص أو مواضيع متوارثة, وقبل بداية كل فصل يتفق الممثلون في همسات سريعة على الخطة العامة أو يعدلون فيها»43.

وعلى ذلك، فالنصوص التي تقدم في السامر تقوم -كما ذكرنا آنفاً- على الارتجال, وهذا يعتمد على مواهب الممثلين الذين يرتجلون الحوار, ومن ثم فإن هذه النصوص ليست ثابتة بل متغيرة حسب الظروف, ولهذا نجد للفصل الواحد أكثر من نص تحوي فروقاً أو إضافات, كما أن مهمة الممثل هنا تعد مهمة مزدوجة؛ إذ كان عليه أن يؤلف حوار دوره، وأن يؤديه في الوقت نفسه44.

والموضوعات التي تقدم في فصول السامر نابعة من صميم البيئة المحلية، وبالرغم من غلبة الطابع الفكاهي عليها فإنها «موضوعات اجتماعية ناقدة تسخر بروح مصرية تلك السخرية اللاذعة بأوضاع سياسية أو اجتماعية, وبغفلة الجندي التركي, وبلؤم الخواجة الأجنبي, واحتياله لابتزاز الأموال .. وهكذا»45.

أما الشخصية الرئيسية، التي يدور حولها مسرح السامر، فهي شخصية «الفرفور» أو «زرزور»، ويطلق عليه أيضاً «المهرج الهزلي»، وهي شخصية نمطية ثابتة, والفرفور ـ كما يقول يوسف إدريس «مثال صادق للبطل الروائي المصري, الحدق, الذكي, الساخر, الحاوي داخل نفسه كل قدرة على الزيبق وكل مواهب حمزة البهلوان»46.

وهذه الشخصية تعد سمة من سمات الشخصية المسرحية المصرية، وقد تكررت في العديد من الأعمال والأشكال المسرحية إلى حد «أنها فرضت نفسها فرضاً على كافة الأشكال المسرحية التي وفدت إلى مصر، وترعرعت في المدن مكونة مسارح عماد الدين وروض الفرج القائمة على الروايات المترجمة والمقتبسة والمعربة، وكانت هي السبب -مثلا- في خلق مسرح علي الكسار الكوميدي»47.

فالكسار تتحقق لديه سمة المسرح السامر الارتجالي بصورة واضحة؛ فقد كان يميل إلى تناول جمهوره كما يتناول فنان السامر متفرجيه, فما إن ينبس فرد من جمهور المتفرجين بتعليق على ما يجري فوق المنصة أو يرسل نكتة حتى يسارع الكسار بالرد عليها على الفور وبأملح، منها مما ليس له أصل في نص المسرحية المكتوب48.

ومما سبق يتضح لنا أن أبرز الآثار التي تركها المسرح المرتجل والسامر في مسرحنا المصري، يتمثل في استخدام الشخصيات النمطية الثابتة, وهي شخصيات دائمة الوجود في عائلة الكوميديا المرتجـلة مثل: الأبضاي والعاشق, والفتاة اللعوب واسعة الحيلة, والزوجة العاشقة المتظاهرة بالبراءة, واللص, والملك, والوزير, والأب العنيد, والعايق .. الخ, فهذه الشخصيات الجاهزة لا يتعب فنان الارتجال في خلقها وإنما يمد يده فيخرجها من المخزن ويدفع بها إلى عمله، تماماً كما يفعل فنان الأراجوز والعرائس»49.

فإذا أخذنا شخصية كشخصية «فرفور» أو «زرزور» -مثلاً- فسنجدها بتكوينها وتركيبتها، وقد استخدمها علي الكسار في مسرحه, وظهرت كذلك لدى نجيب الريحاني (عثمان البربري, كشكش بك), وهناك مسرحية الفرافير, ليوسف إدريس التي تعد مثالاً حياً لاستخدام هذا النمط من الشخصيات, وهناك أيضاً مسرحيـة «ليالي الحصاد» (1967م) للكاتب محمود دياب، ومسرحية الصفقة لتوفيـق الحكيـم (1957م)، وفي هذه المسرحيات وغيرها تظهر الآثـار التي تركها مسرح السامر بشخصياته النمطية المشار إليها، بالإضافة إلى سمة الارتجال التي تعتمد في المقام الأول على شخصية الممثل الذي يصنع حوار مسرحياته، ويختار لهجته المحلية التي تتفق وطابع الشخصية التي يؤديها, كما أنه ينتقي كذلك النكات والطرائف الفكاهية والتي تتغير من حفلة لأخرى تبعاً لمزاج الجمهور50  كما أشرنا آنفا.

ومن كل ما سبق يتضح لنا أن «درامية عروض السامر تنحصر في شمولية العرض، فهي تتضمن الكلمة واللحن والحركة، وارتجالية الفصول التمثيلية تبعاً لظروف مكان وزمان العرض، وتلبية لذوق ورغبة المتلقين، واستخدام الأدوات المساعدة من اكسسوارات وملحقات مسرحية وملابس واعتمادها على شخصية محورية هي الفرفور أو الخلبوص51» ، إضافة إلى شخوص أخرى تمثل نماذج من المجتمع بمختلف طوائفه وفئاته.

 

الهوامش

1: علي الراعي: المسرح في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 50 وما بعدها، وينظر كذلك رشدي صالح: المسرح العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مطبوعات الجديد، يونيه 1972، ص 40، 41، د.علي إبراهيم أبو زيد: تمثيليات خيـال الظل، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1999، ص 290 وما بعدها.

2: د. محمد مندور: المسرح، دار ومطابع الشعب (دون تاريخ)، ص 21 .

3: يعقوب لانداو: تاريخ المسرح العربي، ترجمة د.يوسف نور عوض، بيروت، دار القلم، 1980، ص21 .

4: د. عبدالحميد يونس: خيال الظل، الدار المصرية للتأليف والنشر (المكتبة الثقافية)، 1965، ص14، وعن نشأة هذا الفن ينظر: د.فؤاد حسنين علي: قصصنا الشعبي: مرجع سابق، ص 78، 79، د. إبراهيم حمادة: خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال، المؤسسة المصرية للتأليف والنشر، 1963، ص (34-36)، الدمى المتحركة عند العرب لسعد الخادم، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1966، ص 71، خيال الظل والعرائس في العالم لمختار السويفى، دار الكاتب العربى، القاهرة، 1967، ص 154 وما بعدها، الإسلام والمسرح لمحمد عزيزه، ترجمة د.رفيق الصبان، القاهرة، كتاب الهلال، العدد 243، 1971، ص 68، 69  .

5: عبدالحميد يونس: خيال الظل، ص 17، د.إبراهيم حمادة: خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال، مرجع سابق، ص 40، ص 52، المسرحية نشأتها وتاريخها وأصولها لعمر الدسوقي، دار الفكر العربي (دون تاريخ)، ص 13، خيال الظل والعرائس في العالم لمختار السويفى، ص 155 .

6: فؤاد حسنين على: قصصنا الشعبي، ص 81 .

7: متين آند: الأراجوز مسرح خيال الظل التركي، ترجمة د. منى حامد سلام، مركز اللغات والترجمة، أكاديمية الفنون بالقاهرة، 1998، ص 30 وما بعدها.

8: د. محمد مندور: المسرح، ص21، د.يونس: خيال الظل، ص 51، د. فؤاد حسنين علي: قصصنا الشعبى، ص 82، د. إبراهيم حمادة: مرجع سابق، ص 88، المسرحية لعمر الدسوقى، ص 93

9: د. إبراهيم حمادة: خيال الظل وتمثيليات ابن دانيال، ص (131-134)، د.مندور: المسرح، ص 23، المسرحية لعمر الدسوقي، ص 14. وفي تحليل هذه  البابات ودراستها ينظر د. علي إبراهيم أبو زيد: مرجع سابق، الصفحات (107 - 137).

10: د. فؤاد حسنين علي: مرجع سابق، ص 104 وما بعدها، ود. عبدالحميد يونس: خيال الظل، ص 83 وما بعدها.

11: للرجوع لأمثلة أخرى لهذه البابات ينظر: د. علي إبراهيم أبو زيد: تمثيليات خيال الظل، مرجع سابق، الصفحات من 154 - 163

12: د. عبدالحميد يونس: خيال الظل، ص 34 .

13: السابق، ص 35 .

14: زكى طليمات: التمثيل، التمثيلية، فن التمثيل العربي، الكويت، مؤسسـة المسـرح والفنـون، 1965، ص 103 (الهامش)، وفي هذا ينظر أيضاً : د.مدحت الجيار: خيال الظل مسرح العصور الوسطى، مجلة فصول، المجلد الثاني العدد (3)، 1982، ص 28، عبدالله العيوطى: مسرح خيال الظل، مجلة المسرح، ديسمبر 1964، ص 27 .

15: د. محمد فتوح أحمد: في المسرح المصرى المعاصر، ص 11 .

16: د. على الراعي: فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحانى، كتاب الهلال، العدد 248، 1971، ص 49.

17: يعقوب لانداو: دراسات في المسرح والسينما عند العرب، مرجع سابق، ص 102 .

18: د. على الراعي: فنون الكوميديا، مرجع سابق، ص 50، وكذلك مقاله: المسرح عند العرب قديما، كتاب العربي (المسرح العربي بين النقل والتأصيل)، الكويت، 1988، ص 30 وما بعدها.

19: في تحليل هذه الأعمال ينظر: د. نجوى عانوس: المسرح الضاحك، كتاب الهلال، العدد 466، أكتوبر 1989، ص (62-76).

20: فاروق خورشيد: الجذور الشعبية للمسرح العربى, مرجع سابق, ص 177, عادل العليمى: الدراما الشعبية المصرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المكتبة الثقافية, 1992, ص 64.

21: مختار السويفى: خيال الظل والعرائس في العالم, مرجع سابق, ص 169, د. مندور: المسرح, ص 26.

22: د. على الراعي: فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحانى, ص 51.

23: عادل العليمي: إحياء دراما الأراجوز, مجلة الفنون الشعبية, العدد (24), 1988, ص 93 وما بعدها, وينظر فى ذلك أيضاً سعد الخادم: الدمى المتحركة عند العرب ص 78, مختار السويفي: خيال الظل والعرائس, ص 170

24: د. على الراعي: فنون الكوميديا , ص 52

 

25: عصام الدين أبو العلا: المسرحية العربية الحقيقة التاريخية والزيف الفني (الفصل الخاص بموضوع: دراسة في مسرح الأراجوز), الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1994, ص (20-22).

26: د. علي الراعي: فنون الكوميديا, ص 65.

27: عادل العليمي: مرجع سابق، ص 81.

28: د.فائق مصطفى أحمد: أثر التراث الشعبي في الأدب المسرحي النثري في مصر (1914-1952), دار الرشيد, بغداد , 1980, ص 19

29: د. علي الراعي: فنون الكوميديا, ص 66, وما بعدها.

30: د. نجوى عانوس: مسرح يعقوب صنوع, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1984, ص 130, وينظر كذلك زكي طليمات: فن الممثل العربي (الفصل الخاص بشعبية ممثل الشخصية الواحدة)، الهيئة المصرية للتأليف والنشر, 1971، الصفحات (70-80).

31: د. عبد الحميد يونس: خيال الظل, ص 10.

32: د. محمد مندور: المسرح, ص 26 وما بعدها, سعد الخادم: الدمى المتحركة عند العرب, ص 91

33: عادل العليمى: الدراما الشعبية المصرية, المكتبة الثقافية, 1992, ص 60.

34: يعقوب لانداو: دراسات في المسرح والسينما عند العرب, مرجع سابق, ص 108

35: إدوارد وليم لين: المصريون المحدثون, شمائلهم وعاداتهم, ترجمة: عدلي طاهر نور, الهيئة العامة لقصور الثقافة, طبعة ثالثة, جـ2، ص 63 وما بعدها.

36: د. على الراعي: المسرح في الوطن العربي, مرجع سابق, ص 56, نعمان عاشور: المسرح والسياسة, المكتبة الثقافية, 1986, ص 12, وينظر كذلك: د. عبد المعطى شعراوي: الدراما الشعبية في مصر حتى نهاية القرن التاسع عشر, مجلة المسرح, أغسطس 1984, ص 22, عادل العليمى: الدراما الشعبية المصرية, ص 53, د. حمدى الجابرى: المونودراما والمحبظين, المكتبة الثقافية, الهيئة المصرية للكتاب, 1992, ص 126 وما بعدها.

37: د.محمد فتوح أحمد: المسرح المصري المعاصر، ص 12 وما بعدها، وفيما يتعلق بهذه النقطة ينظر أيضاً د. محمد يوسف نجم: المسرحية فب الأدب العربي الحديث، ص 76، ويمكن مقارنة هذه الآراء برأي د. حمدى الجابري في كتابه (المونودراما والمحبظين)، ص 193 وما بعدها.

38: د. على الراعي: فىالمسرح في الوطن العربى, ص 56, ود. نجوى عانوس: مسـرح يعقوب صنـوع, ص 137 وما بعدها, وكذلك كتابها: شخصية العمدة في المسرح المصري من الحرب العالمية الأولى 1914 إلى 1952, الهيئة المصرية للكتاب, 1989, ص 14 , 15  وما بعدها.

39: د. ليلى نسيم أبو سـيف: نجيب الريحانى وتطور الكوميديا في مصر، القاهرة، دار المعارف، 1972، ص 23 وما بعدها.

40: أمين الخولي: السامر ـ المسرح المكشوف, مجلة المجلة, مارس 1966, ص 17، د.   يوسف إدريس: نحو مسرح عربي, بيروت, 1974, ص 484.

41: أمين الخولي, مرجع سابق, ص 17

42: د. عبد المحسن الخشاب: التياترو القديم, مطبعة مخيمر بالقاهرة, 1971, ص 247 وما بعدها

43: يوسف إدريس: نحو مسرح عربي, مرجع سابق, ص 484

44: د. على الراعي: الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري, كتاب الهلال, نوفمبر 1968, ص 5, زكي طليات: فن الممثل العربي, مرجع سابق ص 67

45: أمين الخولي: مرجع سابق, ص 18

46: يوسف إدريس: نحو مسرح عربي, ص 484.

47: السابق ص 486.

48: زكي طليمات: فن الممثل العربي, ص 78.

49: د.على الراعي: الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري, مرجع سابق, ص 65.

50: زكى طليمات: مرجع سابق, ص 67.

51: د. كمال الدين حسين: التراث الشعبي في المسرح المصري الحديث، الدار المصرية اللبنانية،1998، ص 133.

أعداد المجلة