سيميائية الخطاب الأسطوري للتصور الشعبي للكون الخطاب الأسطوري لفن النيروز في التراث الثقافي العماني أنموذجاً
العدد 19 - أدب شعبي
إذا كان العالم فضاء متصلاً وسيرورات متصلة فإن اللغة والفكر يقسمانه وفق نظام بنيتها إلى موضوعات وسيرورات متمايزة، ويصنفان تلك الموضوعات والسيرورات في طبقات وأصناف ومقولات صورية مجردة؛ فلكل لغة طريقتها الخاصة في إعادة إنتاج العالم في تسمية أشيائه وتصنيف ظواهره وترتيبها وتنظيمها ، أي أن لكل لغة طريقتها في رؤية العالم وتصوره؛ فعندما يفكر كل فرد في قضاياه من دون أن يشعر بذلك فإنه يفكر “ تحت مفعول سلطة اللغة التي نشأ عليها، وفي إطار رؤية العالم التي تتضمنها”1.
غير أن الكلمات لا تكتفي في أي نظام لساني تاريخي بتسمية الأشياء وتمييزها بل إنها تتعدى ذلك إلى إعادة الإنتاج والإبداع والابتكار. فهي تُستحضر في الذهن بحضورها فيه وهذا الوجود حتى وإن كان غائباً عن البصر يتمثل في صور ذهنية أو على شكل مقولات وتصورات ومفاهيم وكأنها ذات قدرة على تحويل طبائع الموجودات إلى وقائع وتحويل الغائب إلى حاضر، والواقعي إلى فكري . إن هذا النظام يبتكره الإنسان في سلسلة منتظمة من العلامات اللسانية أو غير اللسانية التي يستطيع من خلالها وبها أن يفرض وجوده في الواقع وفي الخيال؛ فهو باستخدام اللغة يلج إلى عالم الواقع كما يلج إلى اللاواقع باعتباره ممكناً .
وعليه فإن العلامات التي يستعملها الإنسان والتي تشكل فكره - وإن تكن الحياة تسلسلاً من الأفكار - فإن Òذلك يثبت أن الإنسان علامة. إنه طريقة أخرى للقول إن الإنسان والعلامة التي توجد خارجه هما في واقع الأمر شيء واحد ... وهكذا لغتي هي المجموع التام لتكويني، ذلك أن الإنسان هو الفكرÓ2 ، ومن منطلق هذه النظرة السيميائية الفلسفية فإن الإنسان كونه علامة هو أيضاً صانع للعلامات، يتواضع عليها في مؤسسته الاجتماعية وهو القادر على تشكيلها ضمن نسق وسيرورة معينة .
من هذا المنطلق سيكون البحث عن الخطاب الأسطوري في النيروز بوصفه Ð أي النيروز- واحداً من العلامات التي ابتكرها الإنسان واستعملها وطورها عبر حقب تاريخية معرفية ممتدة .
وإذا كانت الأسطورة كلمة أو كلمات تُحكى تأخذ معاني سياقات محددة ، يضاف إليها باستمرار معانٍ جديدة وسياقات جديدة تتراكب فوق بعضها البعض مع الزمن ، أو ربما تفقد جزءاً من معانيها القديمة ودلالاتها القديمة لتجد تسويغها في لحظة تاريخية مغايرة أو في الحاضر؛ فإن ما نحن بصدد تحليله وتفكيكه هو أسطورة بالمعنى الفكري من حيث المعتقد من ناحية ، ووصف لغوي وأداء بصري من ناحية أخرى ، لذا فهو يُصنف على أنه فن من الفنون الاحتفالية له زمان ومكان معينين ، ومن هذا الاعتبار يبدأ تحليلنا لفضاء الخطاب الأسطوري اللساني وغير اللساني بغية سبر العلاقات التواصلية في منظومة النيروز باعتباره علامة.
ماهية الخطاب الأسطوري في السيميائيات:
إن ضروب الخطاب هي من بين الأطر الثقافية (التفسيرية) التي اعتبرها بعض سيميائيي الثقافة أساطير وبنى أسطورية. فعادة ما نربط بين التسمية (أساطير) وبين الحكايات الكلاسيكية الخرافية الآلهية والأبطال. ويوحي الاستخدام الشعبي بأن مصطلح (أسطورة) يرجع إلى معتقدات يمكن البرهنة على خطئها، لكن ليس من الضروري أن يوحي الاستخدام السيميائي للمصطلح بذلك. فالأساطير في السيميائيات Òكالاستعارات تساعدنا على إضفاء معنى على تجاربنا في ثقافة ما . إن دورها هو تنظيم طرق مشتركة في أفهمة شيء ما (إعطائه مفهوماً) والتعبير عن ذلك في ثقافة معينةÓ3 .
في إطار مبحث الثقافات عند بارت يمكن اعتبار الأسطورة مشابهة للدلالة الضمنية ، هي مستوى أعلى من الدلالة4 . ويرى لويس هيمسيليف Louis Hjelmslev أنه يوجد فوق مستوى الدلالة الضمنية مستوى سيميائي تقعيدي تنتمي إليه مسائل جغرافية وتاريخية وسياسية واجتماعية ونفسية ودينية ترتبط بمفاهيم كالوطن، المنطقة، الأشكال القيمية للأساليب الشخصية.
لم يعتبر بارت Roland Barthes أساطير الثقافة المعاصرة مجرد تجمع دلالات ضمنية وفق طُرز معينة ، بل رأى فيها مرويات أيدولوجية، وتبع هيلمسليف Louis Hjelmslev اعتبار الشكل الأسطوري لغة تقعيدية. وعرَّف هذه الأخيرة بأنها Òمنظومة يتشكل مستوى المحتوى فيها من منظومة دلالية في الدلالة الضمنية. تصبح الإشارة التعينية هي الدال؛ وفي حالة الأسطورة تصبح اللغة أو (صيغ التمثيل الموجودة فيها) التي تتخذها الأسطورة لتبني منظومتها الخاصة هي مدلول التقعيدية الأسطورة.5 وعلى ذلك فهو يعتقد أنه من خلال الأسطورة نستطيع أن نكتشف الطريقة التي نفهم بها المعاني والتي تثير المتلقي ليستطيع عن طريق الاستدلال والتبصر اختبار المؤولات المتسارعة نحو الموضوع ليحصل ببصيرته ورؤيته على ثمرة هذه المؤولات التي تؤدي إلى فهم وإدراك عمق علاماتها.6
وعليه يمكن تعريف الأسطورة على أنها Òنمط من أنماط القول الذي يتمثل فيه قيمة الصيغة (المترجم ـ الخائن) إلى الصفر عملياً Ó7، فمكان الأسطورة على صعيد وسائل التعبير اللسانية، في مقابل الشعر مثلاً نجد أن الشعر شكل من أشكال اللسان يجد المترجم مشقة كبيرة في نقله إلى لغة أجنبية ولا تخلو أية ترجمة شعرية من تشوهات متعددة وبالعكس، في حين تستمر قيمة الأسطورة كأسطورة مهما كنا جاهلين بلغة وثقافة الشعب الذي تلقيناها منه؛ ذلك لأن جوهر الأسطورة لا يكمن في الأسلوب أو طريقة السرد أو النحو بل في الحكاية التي وردت فيها والمعتقد الفكري الذي حوته.
بنية الخطاب الأسطوري في السيميائيات:
يستند ليفي ستراوس Claude Levi Strauss وغريماس Algirdas Julion Greimas في تفسيراتهم لبنية السرد إلى تقابلات ضمنية. اعتبر ستراوس أن أساطير الثقافة تستند إلى عدد محدود من الموضوعات القائمة على تقابلات تتصل بالتضاد بين الطبيعة والثقافة (من الملاحظ أنه حتى التمييزات التقليدية بين الإشارات الطبيعية وتلك الاصطلاحية تنم عن هذا التقابل) بالنسبة إلى ستراوس يمكن اختزال كل أسطورة إلى بنية أساسية فقد قال: Ç إن جمع الحكايات والأساطير المعروفة ينتج منه مجلدات كثيرة جداً ، لكن اختزالها إلى عدد بسيط من الأنماط إن نحن استخلصنا من تعدد الشخصيات عدداً قليلاً من العناصر الوظيفيةÈ.8
يقترح غريماس Algirdas Julion Greimas نحواً للمروي يمكن أن يولد كل بنية سردية معروفة. يتوصل غريماس نتيجة الاختزال السيميائي للأدوار السبعة عند بروب V . propp إلى ثلاثة أنماط من التركيبات السردية؛ التركيبات الإنجازية (مهمات وصراعات)، التركيبات التعاقدية (إبرام العقود أو تجاوزها). تركيبات الفصل (الرحيل والعودة). يعلن غريماس أن ثلاثة تقابلات ثنائية أساسية تكمن وراء تكون موضوعات السرد والأفعال وأنماط الشخصيات (ويسمي هذه العناصر بمجملها (مشاركون))؛ المسند إليه/ المفعول به (عند بروب V . propp الباث والبطل أيضاً)، الباث/ المتلقي (عند بروب V . propp البطل Ð مرة ثانية/ المبعوث)، المساعد / الخصم (هذا جمع من ناحية بين المساعد والمانح ومن ناحية أخرى بين النذل والبطل المزيف). يقول غريماس Algirdas Julion Greimas إن البطل مسند إليه ومتلقِ في الحين نفسه. المسند إليه هو الذي يسعى، والمفعول به هو المسعيُّ وراءه. الباث يبعث المفعول به، والمتلقي هو من يستلمه. المساعد الفاعل والخصم يعيقها.9
إن الخطاب Discourse والخطاب الأسطوري شكل من أشكاله الأساسية ينتمي إلى نظام اللغة؛ فالأسطورة كلام وتتعلق بالكلام بحسب تعبير ستراوس Claude Levi Strauss، ولذلك كانت الأسطورة مثلها مثل اللغة ذات طبيعة بنيوية تتجلى هذه الطبيعة البنيوية في اللغة على شكل حزمة من العلاقات القائمة على أساس أبسط وحدة دلالية هي الفونيم (أي الصويت الذي لا ينفصل في اللغة عن المعنى)، أما في الخطاب الأسطوري فإن Òالميثيم (وهو مورفيم لا يأخذ معناه إلاَّ من موقعه في الجملة ) وهو ما يماثل الفونيم كوحدة بنائية أساسيةÓ.10
الخطاب الأسطوري العلامة:
إن العلامة في تصور بورس Charles Sanders Peirce هي الوجه الآخر لأوليات الإدراك11، لذا لا يمكن تصور سيميائيات مفصولة عن عملية إدراك الذات وإدراك الآخر، إدراك (الأنا) وإدراك العالم الذي داخله هذه(الأنا) لحياتها ولنموها ولموتها أيضاً. فلا شيء يفلت من سلطان العلامة، ولا شيء يمكن أن يشتغل خارج نسق يحدد له سمكه وطرق إنتاجه لمعانيه، ولا وجود لشيء يخلق حراً طليقاً لا تحكمه حدود ولا يحد من نزواته نسق. وهكذا فإن الكون في تصور بورس Charles Sanders Peirce يمثل أمامنا باعتباره شبكة غير محدودة من العلامات ، فكل شيء يشتغل كعلامة، ويدل باعتباره علامة ويدرك بصفته علامة أيضاً. ولإدراك هذا الترابط الوثيق بين فعل الإدراك كما تصفه المقولات وبين الشكل الوجودي للعلامة لابد من تحديد عناصر العلامة والكشف عن أشكال وجودها.12
إن سوسير Ferdinand de Saussure وبورس Charles Sanders Peirce لم يدرسا الاستخدام المجتمعي للإشارة ، لكن رؤية سوسير للسيميائية كانت تشتمل على اعتبارها Ò علماً يدرس دور العلامات باعتبارها جزءاً من الحياة المجتمعيةÓ13 ، أما بورس فقد أصر على أن الإشارات لا يمكن حتى أن توجد من دون مفسرين (حتى وإن لم يتحدث عن البعد الاجتماعي للشفرات).14
وإذا كانت الأسطورة تتحدد بواسطة نظام زمني ينسق خصائصها فإنها تستند دائماً إلى أحداث ماضية (قبل خلق العالم) أو (خلال العصور الأولى) أو على أية حال (قبل وقت طويل) وإلاَّ فإن القيمة الذاتية المنسوبة إلى الأسطورة تنجم عن أن هذه الأحداث المفروض أنها حدثت في لحظة من الزمن تؤلف أيضاً بنية دائمة15، وعليه فإن الدلالة الأسطورية يظهر دائماً فيها شيء من المحاكاة والتقليد وتحوي بالضرورة شيئاً من المماثلة بين الماضي والحاضر؛ فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالزمان والمكان اللذين ساهما في تشكلها وتكونها لتصبح بعد ذلك علامة كما سيتضح حينما نحلل النيروز باعتباره علامة، وعلى الرغم من ذلك Ò لا يمكننا أن نتعرف إلى اعتباطية دلالة الأسطورة إلاَّ في جزئها الذي بدأ يبطلÓ16، فهذا الجزء هو الذي يشكل الفكر الأسطوري الخرافي وإلاَّ فهي لغة وأداء قائم .
الخطاب الأسطوري والتصور الكوني :
إن الأساطير مرسلة من أجدادنا تتناول الجنس البشري وعلاقتنا بالطبيعة ، وعلى وجه الخصوص كيفية انفصالنا عن الحيوانات الأخرى على سبيل المثال تتيح الأساطير الاستخدام المنزلي للنارانتقالنا من الطبيعة إلى الثقافة، ومن الحيوانية إلى الإنسانية بوساطة الانتقال من النيئ إلى المطبوخ. لكن لا يمكن أن نجد المعنى في أي مروي مُفرد إنما نجده في الطُرز التحتية للأساطير التي تتضمنها ثقافة بعينها . ليس للأساطير معنى إلاَّ باعتبارها جزءاً من منظومة17. لذلك فقد عالج ستراوس شكل الأساطير باعتباره لغة يقول إن المنهج الذي انطلق منه هو تحليل بنية الأساطير إلى وحدات مكوِّنة إجمالية أو أسطورات، هو تفكيك الحكاية التي تقصها الأسطورة إلى أصغر جمل ممكنة. وتشبه هذه المعالجة تحليل المفردات الصغرى، وهي أصغر وحدات ذات معنى في الألسنية. ولتفسير بنية الأسطورة يقوم بتصنيف كل أسطر بالاستناد إلى وظيفته في الأسطورة ثم يربط ضروب الوظائف بعضها ببعض، ويرى أنه يمكن المزج بين الأسطورات انطلاقاً من كونها تخضع لضرب من النحو العالمي التحتي الذي يشكل جزءاً من البنية العميقة للفكر.18
تسمح لنا هذه المعطيات بملاحظة وجود ثلاث مستويات يتدرج عبرها فعل تعقل الواقع وتصور الكون الفضائي، تعلن هذه المستويات متداخلة عن مكان جوهري من مكونات الممارسة المعرفية، وهو المكون الذي يصطلح عليه بـ Ò نظام التعقلÓ وهذه المستويات في ذاتها تتقرر كما يلي19:
أولاً : مستوى الواقع الضروري حيث ما يزال في الدرجة الصفر من موضعته أي أنه مجرد شيء، وعلى ذلك أقترح تسميته: الموضوع الشيء.
ثانياً : مستوى الواقع الممكن حيث تنشيط فاعلية التعقل ومنه إعادة إنتاج الواقع معرفياً، من خلال اقتطاع جملة وقائع وتمثلها تمفصلاً معرفياً منهاجياً تبعاً لمجموعة شروط ومحددات. والموضوع هنا موضوع معرفي ممكن متمثل ومرتسم .
ثالثاً : مستوى مشتق ومكمل للمستوى السالف، ويتعلق بتوفير إسنادات برهانية ومستندات اختيارية للموضوع المرتسم من خلال تأليفه تأليفاً نسقياً متيناً بما فيه من تجريد وترميز قائم على لغة علمية مثلى .
وتأسيساً على ما سبق نجد أنفسنا أمام التقابل المحايث للوجود الإنساني بين عناصر طبيعية كونية تعم النوع البشري برمته ولا دلالة لها في حد ذاتها من جهة، وبين التصورات والدلالات التي تكتسبها في خضم الحياة الاجتماعية عندما تخضع لصياغة العقل صياغة تختلف من مجتمع إلى آخر ومرحلة تاريخية إلى أخرى، من جهة ثانية. وبموجب هذه العلاقة بين الجانبين تكون الطبيعة عبارة عن مادة خام واحدة، عامة، كونية، تشمل النوع البشري برمته، ولا تتغير بتغير المجتمعات والعصور ولا تختلف باختلافها. مادة خام ينظمها العقل وفق قواعده ومفاهيمه الثنائية بكيفيات تختلف باختلاف المجتمعات والحقب، فيتكون من أشكالها المختلفة هذا التنوع المهم من الثقافات التي تختص بكل منها هذه الجماعة دون تلك، ويتميز بها هذا المجتمع دون ذاك. فأمام كونية الطبيعة وشموليتها للجنس البشري برمته تنتصب خصوصية الثقافة ونسبيتها. ووراءهما معاً يقف نشاط العقل البشري الذي يجمع في ذاته بين Òكونية الطبيعي (كونية قواعده وعملياته التي هي ذاتها قواعد وعمليات المخ البشري)، وخصوصية الثقافي المكتسب ونسبيته (الناجمة عن الكيفيات والأشكال المتباينة التي شغَّلت بها المجتمعات على مر الحقب قواعد العقل في التفكير في الطبيعة (البيولوجية والفيزيائية والاجتماعية) والإحساس بها والفعل فيهاÓ.20
سيميائية الخطاب الأسطوري للثقافة الشعبية العمانية (فن النيروز أنموذجاً):
الترميز وعلاقاته الدلالية في التصور الكوني في فن النيروز:
إن سيمياء الكون تمثل نموذجاً يحدد شروط إنتاج وتبادل الأخبار (المعرفة) التي تتمظهر على شكل خطابات أدبية وجمالية ومؤسساتية وسياسية وغيرها . هذه الشروط التي تقترن عامة بسيرورة كونية هي خرق الحدود بين الفضاءات والمجالات السيميائية . تبدو سيمياء الكون من هذا المنظور مثل فضاء حواري تلتقي فيه كما يمكن أن تتعارض أو تتفاعل عناصر معرفية أو تواصلية أو صيغ قولية وتلفظية مختلفة.
لقد انبثقت قدرة الإنسان على التمثل الرمزي بانبثاق ذاته في الكون بوصفه فاعلاً اجتماعياً ؛ إذ يشكل اجتماعه مع غيره من بني الإنسان وتعاونه معهم في سبيل الإنتاج ، وإعادة إنتاج شروط الإنتاج والانتفاع من الطبيعة أو ربما السيطرة عليها ، شرطاً لازماً لاستمرار بقائه ووجوده . وهذا يعني أن القدرة على التمثل الرمزي لا يمكن أن تختزل في مجرد معطى فطري بيولوجي في الإنسان ما دامت نتاجاً لتفاعلات اجتماعية جرت خلال سيرورة تتطابق مع السيرورة التارخية لتشكل الإنسان وانبثاقه في هذا الكون ، فتلك القدرة ليست مجرد استعداد فطري يتميز به الإنسان عن غيره من الحيوانات بل إنها تطبع فيه ، Òوهي تنجم من هذا الجدل المستمر في الحياة الاجتماعية للبشر بين الأنا والآخر ، والذات والموضوع ، والداخل والخارج ، والفردي والجماعي ، الذي بموجبه وبواسطة الفعل الإنساني يتحول الطرف الأول إلى ثانٍ ويتحول الثاني إلى أول تحولاً مستمراًÓ.21
إن المواقع والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية، والملابس هي أشكال رمزية أودعها الإنسان تجربته لتصبح قابلة للإبلاغ؛ فوجود الإنسانية مرتبط بوجود المجتمع، ولكننا يمكن أن نضيف أيضاً أن وجود المجتمع رهين بوجود العلامات. فـ Òبفضل العلامات استطاع الإنسان أن يتخلص من الإدراك الخام ومن التجربة الخالصة كما استطاع أن ينفلت من ربقة (الهنا) و(الآن) فبدون تجريد لا يمكن الحديث عن مفهوم ولا وجود تبعاً لذلك لعلاماتÓ22. ولقد استطاع الإنسان أن يركب لهذه العلامات تأويلات واقعية أو خيالية أو لا يمكن حتى تخيلها لتنشئ بدورها علامات جديدة دالة على كيانات جديدة أخرى ومن هذه الكيانات والعلامات ما يطلق عليه رموزاً أو علامات رمزية فهي أدوات من ناحية عندما يريد الإنسان أن يربط بها بين كيانات العالم الفضائي من حوله وإن صح لنا التعبير هي أدوات تشكل ثقافة المجتمع المعين التي يستطيع السيطرة على الطبيعة ، ولذا فبحسب تعبير إيكو: Òأن وضع الأداة رهين في وجوده بوجود نشاط رمزيÓ23 ، وهذا النشاط نجده بارزاً في أنموذج النيروز الذي نحن بصدد تحليله إذ نجد أنه عبارة عن تشكل من الرموز تكون مجتمعة تواصلاً من الفضاء الكوني ومن بين الرموز التي تشكل النيروز:
الرموز غير اللسانية:
رمز الحيوان:
إن الوجود في الثقافة البشرية الكونية له دلائل تواضعية وتصويرية تكفي لأن تبرز الثنائية السيميائية التي تعد الشكل الأدنى لتنظيم نسق سيميائي فاعل وهذا النسق إنما يتشكل في منظومة ذات سيرورة كونية فالعلاقة بين الإنسان وما حوله من كائنات تجعله مرتبطاً بها حتى في خيالاته وإبداعاته بل ومُنتمِياً إليها نجد ذلك في تشكيل ما يطلق عليه (الدمبوشه) في النيروز والذي سيمثل لنا الحيوان / الخرافة؛ إذ يتم صنع وجه حيواني مبتكر بشكل خيالي له رداء فاخر طويل وواسع، وأثناء الأداء يدخل ثلاثة من الرجال واحد يقف في المقدمة يمثل وجه الحيوان واثنان يمثلان المؤخرة فهما ظهره ودبره .
إن هذا التجسيد يكون الإنسان داخله، في عمقه ، فبه Ð أي بالإنسان Ð يتحرك هذا الكائن وبه يصدر الأصوات وردات الأفعال. وبعيداً عن افتراض بدائية صنع هذا الكائن نقول أنه كان بالإمكان أن يستخدم الإنسان الحجر أو الخشب أو غيرها من المواد الطبيعية المتوفرة، إلاَّ أنه أراد بقصدية واضحة أن يتجسد هو هذا الكائن ويمنحه صفة الحياة في الحركة والأداء. فهذا الكائن يقوم بأداء مجموعة من الحركات المنتاغمة من إيقاعات الطبل، وهو أداء غير منظم فليس له تحديد واضح موحد وإنما يكون مرتجلاً.
إن رمز الكائن في النيروز قد يدلنا على ارتباط الإنسان بالحيوان من ناحية وبالخرافة من ناحية أخرى؛ ما يؤكد لنا ذلك هذا التمثل الذي يصنعه الإنسان للحيوان / الخرافة. فلولا ذلك لاستطاع أن يُشرك في الأداء الحركي أحد الحيوانات الاستعراضية كالخيول مثلاً. إذن هو ليس استعراضاً محضاً إنه ارتباط رمزي بين الإنسان والعالم الكوني الذي يعيش فيه وذلك العالم الخيالي البعيد الذي يؤمن به أو فلنقل أنه يعتقده ويسعى إلى ترسيخه وتأكيده .
إن رمز الحيوان / الخرافة هنا Ð والذي أطلق عليه بارت (البطل الخرافة)- يشكل بؤرة التجلي وبؤرة التشكل الرمزي التي تنطلق منها رموز أخرى سيميائية هي :
رمز النبات:
إنه إذا كانت كل Òعلامة ملموسة توحي بمقتضى علاقة طبعية بشيء غائب أو لا يمكن إدراكه حسياًÓ24 ، فإن هذا هو الحال في العلاقة التي تربط بين رمز الشجر في النيروز ودلالاته التي يمكن أن تؤول؛ ففي النيروز تستخدم نباتات خضراء أو أغصان تُحضَّر خصيصاً، ترفعها النساء والفتيات عالياً في موكب الاحتفال.
تستخدم النساء هذا النبات في الأداء الحركي الذي يقمن به وهو أداء بسيط أو تمايل يُشعر بالحركة غير أنه ليس للنبات هنا وظيفة أساسية في الأداء إذ أن حركة النبات هي عبارة عن استجابته لحركة الجسد الذي يحمله لا أكثر. وعليه فإن الوظيفة الرئيسة التي يؤديها النبات هنا هي الوظيفة الرمزية فهو رمز للخصب الذي تنشده مسيرة النيروز في تشكلها الأساسي، وهذا ما سيتضح عند تحليل العملية التواصلية.
رمز البحر:
إنه ليس رمزا كباقي الرموز الأخرى من حيث طبيعة الترميز الاجتماعية والرابط الذي يوجبه هذا الترميز بين الدال والمدلول؛ فالبحر في هذا الاحتفال هو الغاية المكانية التي تنشدها المسيرة فهو المتلقي الحقيقي للرسالة التي تحملها هذه المسيرة. ولذلك فإن رمزية البحر تكمن في أنه ملتقي ومصب ونهاية الرمز الحيواني والنباتي فإليه تنتهي رمزية الحيوان/ الخرافة وذلك بعد أن يتم إدخاله في البحر بطريقة رمزية تمثيلية، وإليه تنتهي رمزية النبات حينما يرمى في عرض البحر.
وعلى رأي جاكبسون Roman Jakobson عندما قال بأن الرموز Ò... تسمح بالتعبير عن شيء ما مجرد (شيء من العالم المعنوي مثل الموت، الثروة) بواسطة شيء ملموس وقابل للإدراكÓ25، فإن رمز البحر هنا تعبير عن مجرد هو العطاء أو المنح.
الرمز اللساني:
يصوغ يوري لوتمان Lotman Youri مفهوم سيمياء الكون، بأنه Òفضاء سيميائي ضروري لوجود ولاشتغال اللغات المختلفة، فسيمياء الكون لها وجود سابق على هذه اللغات وتوجد في حالة تفاعل دائم معهاÓ26؛ فسيمياء الكون بوصفها فضاء سابقاً على اللغات، وكل فعل لإنتاج الخطاب، غير أنها تعد ضرورية لوجود هذه اللغات ولاشتغالها؛ فاللغة تشكل مع الفضاء السيميائي منظومة رمزية رحبة حيث تقوم بدورها الرمزي لإنتاج الخطاب وتشكيله؛ إذ نجد أن اللغة (الميثيم)حاضرة في مسيرة النيروز وهي تصاحب الرمز غير اللساني وتسانده في إيصال الرسالة من ذلك :
Ò وسيحنواااا النارجيله
ويــا حمــامـــة يــا سفـرجله
وأذا الجبل ما رمت أطلعه
هوك هوك فيه سلا وفيه شوكÓ27
فهذه الرموز اللسانية هي رموز تتعانق مع الطبيعة والكون من حيث كونها علامات اعتباطية تشير إلى علامات مادية كونية هي: (النارجيل)، و(السفرجل)28، و(الجبل)، و(الشوك) ...
كما أن الأفعال (سيحنوا)29، و(ما رمت)30، و(اطلعه). كلها رموز ترسخ العلاقة بين الإنسان الكون فالفعل (سيحنوا) يبرز العلاقة بين الإنسان والبحر / الكون فهو دال على خوض البحر، والفعل ( ما رمت) يكشف عن العجز وعدم القدرة على المضي قدماً في الحياة وكذا الفعل (أطلعه) الذي يرسخ هذا المعنى ويقويه.
ليشكل هذا النمط اللساني الرسالة التي توجهها المسيرة للمتلقي في القصدية الإبلاغية التي تنشدها، ونحن نجد ذلك واضحاً في الرسالة النهائية التي ستنشدها عندما يبدأ المشهد الختامي في التشكل وهي:
Ç ساح ساح .. ساح نيروزنا
ساح ساح .. ساح بالعندق31
ساح ساح .. ساح بالسهوة
ساح ساح .. ساح بالكنعـد
ساح ساح .. ساح بالجيذر ...È32
فهي أوج الرسالة اللسانية الكاشفة عن رمزية المسيرة في تكونها والغاية من تمحورها نحو الفضاء الكوني المنتهي عند البحر الذي يمثل نهاية هذا الفضاء من الناحية البصرية الأرضية فالفعل (ساح) لا يؤدى إلاَّ عند دخول الحيوان/الخرافة البحر ورمي النبات فيه، مما يجعلنا نقول إنه فعل دال على نهاية الاحتفال أولاً، ونهاية توهج الرسالة ثانياً. فهذه النهاية تظهر أولاً في قول الباثون:
Çساح ساح ..ساح نيروزناÈ
أي بلغ منتهاه ، إلاَّ أننا لا نجد هذه الدلالة للفعل نفسه في المقاطع الأخرى:
ساح ساح .. ساح بالعندق
ساح ساح .. ساح بالسهوة
ساح ساح .. ساح بالكنعد
ساح ساح .. ساح بالجيذرÈ33
فـ (ساح) هنا تمثل رمزاً آخر مختلفا هو العطاء الذي ستقدمه الطبيعة Ð كونها متلقياً - للإنسان Ð كونه باثاً للرسالة- فهو ردة الفعل والاستجابة التي ينتظرها الباث ؛ فهذا الاحتفال يمثل قانون الطبيعة الذي يفهمه الإنسان الذي يمكن تلخيصه في: (عطاء = عطاء)
حيث تشكل المسيرة برمزيتها اللسانية وغير اللسانية عطاءً موجهاً للكون / الطبيعة، وفي انتظار أن تمنح هذه الطبيعة خيرها للإنسان المتمثل في رموز منها ( العندق، السهوة، الكنعد، الجيذر)، وكلها رموز تشكل العطاء المُنتظر من الطبيعة.
وعلى الرغم من وجود أسباب جوهرية تجعل المعنى لا يتكرر تماماً في العبارات، وتجعل العبارات حاملة لدلالات مقيدة وغير تامة وهو ما يسميه دريدا Jacques Derrida(المحمولات الكلية )34 فإن غاية العبارة الكاملة هو التئام كلية المعنى المعطى إلى الحدس بالفعل على هيئة الحضور الذي تمثله هذه العبارات مجتمعة .
العلاقات التواصلية بين الإنسان والكون في فن النيروز :
إن النظرية الاجتماعية للعلامة تفترض حضور الشخصية داخل العلامة؛ ذلك أنها Ð وهي غير ثنائية - هي نفسها السيرورة السيميائية التي يجد الإنسان نفسه مندمجاً فيها كونه جزءاً فاعلاً فيها فهي باعتبارها ثالثة قابلة للوصف. وإذن Çفالإنسان لا يستطيع أن يكون له موقع إلاَّ ذلك الموقع الذي يعود إليه حقاً داخل النموذج السيميائي، أي موقع العلامة، أو بدقة أكثر موقع الرمزÈ35، فالإنسان هنا -كونه علامة - دال داخل السيرورة السيميائية التواصلية وهو متفاعل ومشترك ضمن هذه السيرورة مع عناصر كونية أخرى من أجل إنشاء علامات جديدة دالة. وإذا ما كانت Ç كل معرفة تهدف في الواقع إلى بناء نسق من العلاقات بين العناصر المكونة لحقل التجربةÈ36، فإنه لابد أن تعطي هذه العلاقات دلالات ومعاني ضمن النسق التواصلي الذي تبني فيه تلك العلاقات. وعلى ذلك فإننا نجد الإنسان يتواصل مع عناصر الفضاء / الكون ضمن سيرورة أنموذج النيروز ليشكل معها وبها رسائل قصدية ضمن علاقات تواصلية تمر بمرحلتين هما:
في هذه المرحلة ليس هناك تواصل بين أعضاء مسيرة الاحتفال فلا نجد تواصلاً بين الأطفال أو النساء أو الرجال فهم يشكلون لوحة أدوات من حيث هم أجساد، ويشكلون فكر الاحتفال ومسيرته من حيث هم مبدعون، بينما يشكل الحيوان / الخرافة بؤرة العملية التواصلية المادية والرمزية، حيث يمثل التمركز الرمزي والتواصلي فهو في مقدمة المسيرة الاحتفالية بالنيروز، لذلك نجد أنه لا نيروز دون الحيوان/ الخرافة كونه يمثل عمق الرسالة التي تحملها القصدية الإبلاغية إلى الفضاء/ الكون، وهو على ذلك لن يشكل العملية التواصلية دون تواصل مع الآخر الإنسان (باث، متلق/ جمهور).
فاللوحة التي تشكلها المسيرة من مكوناتها إنما هي تمثل باثاً مكتملاً تتوجه برسالة إلى المتلقي (الفضاء / الكون)؛ هذه الرسالة ذات تأويلات وأبعاد معرفية وثقافية عدة. لينتهي تشكل ورسوخ هذه الرسالة في لوحتها المكتملة إلى منتهى الفضاء / الكون (البحر) في المرحلة الثانية:
فهنا تبدأ اللوحة / الرسالة في الانقسام والاتحاد مع الغاية التي تنشدها وهي الفضاء / الكون (البحر) فيُقاد البؤرة الحيوان/ الخرافة إلى منتهاه لكن ليس بمفرده وإنما بصحبة الإنسان والنبات، لتتشكل صورة جديدة هي ذلك الاتحاد الكوني بين الإنسان والفضاء من حوله بمكوناته المختلفة لتتماهى هذه الصورة في الفضاء المائي.
إن ما يلاحظ في هاتين العمليتين التواصليتين هو إقصاء الجمهور من العملية التواصلية إذ لا تواصل يذكر بين لوحة المؤدين والجمهور إلاَّ في نطاق الرؤية أو الاستمتاع. ولعل هذا الإقصاء يثبت كون المسيرة الاحتفالية تحمل قصدية إبلاغية نحو ملتقٍ بعينه هو (البحر) المُتوجه إليه بالرسالة.
وعلى ذلك فإنه خارج السيرورة التواصلية الكونية لا يمكن أن يكون هناك أي تواصل. وعليه نستطيع أن نتخيل أن نسقاً من نمط النيروز يعد اصطناعياً في ظروف طبيعية تم توليفه كونه رسالة من الإنسان إلى الطبيعة لينتظر بعدها استجابة الطبيعة - بالمعنى الفلسفي لا الديني Ð لهذه الرسالة الذي يتم تخيله بأنه سيأتي في هيئة خصب ووفرة عطاء .
تحليل الخطاب الأسطوري لفن النيروز:
النيروز نظاماً من العلامات:
إن لكل علامة قيمة استعمال مقننة، وقيمة تبادل وحضور. هاتان القيمتان يمكن أن يكونا بكيفية تناوبية أو تزامنية، فجريان الأشياء والعلامات في المحيط الاجتماعي والثقافي والأيديولوجي والسياسي الإنساني يمثَل بقيمة التبادل والاستعمال الغريزي والنفسي للإنسان؛ فالإنسان ينتج الأشياء والعلامات في الواقع. وÈقيمة الاستعمال ليست إلاَّ ذريعة بقيمة التبادل، وتطابق القيمتين هو الذي يجعل النظام (نظام الأشياء والعلامات) يشتغل في العالم الغريزي...È37، وقيم التبادل والتناوب هنا هما المسؤولتان عن إبداع هذا النظام بكيفية معينة مسننة ويسهمان في إبداع علامات جديدة مبتكرة من حيث القيمة والدلالة وهذا ما نجده في الخطاب الأسطوري في النيروز كونه خطاباً مقنناً له نظامه الخاص من حيث اللغة و الأداء والأسلوب بل من حيث زمنه ومكانه وأفقه الذي يدور فيه، وهو يدور في المحيط الاجتماعي لينتج علامات متجددة كلما قام بعمليتي التبادل والتناوب.
وإذا ما تذكرنا تمييز دو سوسير في اللغة بين اللسان والكلام38 على أساس أن الأول اجتماعي خاضع لنظام زمني قابل للارتداد فهو بنيوي تزامني، وأن الثاني فردي إحصائي خاضع لزمن غير قابل للارتداد فهو تاريخي تزامني، فإننا لا نستطيع أن نسجل الخطاب الأسطوري في مستوى اللسان وحده، ولا في مستوى الكلام وحده لسبب واضح يكمن في كون الخطاب الأسطوري خاضعاً لنظام زمني مركب يعبر عن ذاته في مضمون يتكون من أحداث وأفعال تتعاقب وتتوالى بين سابق ولاحق في ماضٍ سحيق، كما يعبر عن ذاته أيضاً في انتظام تلك الأحداث والأفعال في بنية ثابتة تفسر الماضي والحاضر والمستقبل على نحو لا تتحدد معه في تعاقبها وتعالقها بالآخر. ففي الخطاب الأسطوري Çتختلط الأزمنة وينهَّد الفارق بين الكلام واللسان، ويتساكن التاريخي مع البنيوي، ويتوحد المضمون بالشكل ولا ينفصلانÈ39، وينتج عن هذا التوحد والاندماج بنية خطاب جديد مستقل بذاته لا ينبني على اللسان أو الكلام أو الأحداث بل إننا نجد في النيروز توحداً واندماجاً يتحول إلى أداء حركي، وصوتي، وبصري، مع بروز الفكر الثقافي للأسطورة الذي يمثله هذا الأداء ليكون (النيروز) علامة تنتج علامات جديدة ذات تأويلات متشعبة، وعلى ذلك يمكن التعبير عن ثلاثية هذه العلامة كما في الخطاطة الآتية :
إذ يمثل النيروز (بكل مسيرته وعناصره) العلامة التي تشتغل ضمن سيرورة تواصلية مع الأنا (عناصره) ومع الآخر المتلقي (الجمهور، والطبيعة)، ولتدل هذه العلامة عبر موضوعها على الفكر الأسطوري والمعرفي الذي انطلقت منه إلى تأويلات متعددة بتعدد المؤولين؛ فتعدد المؤولين ينتج تنامياً في التأويل ما بين التأويل المباشر و الدينامكي والنهائي، فيمكن أن نقول أن من بين التأويلات التي سوف ينتجها المؤولون:
تأويل مباشر = الاحتفال .
تأويل ديناميكي = الاعتقاد، أو الأسطورة، أو التنبأ، أو التقرب إلى الطبيعة، أو استقبال الموسم، أو توديع الموسم...
أما التأويل النهائي فلكي نصل إليه لابد أن نختبر التأويلات الديناميكية كلها ثم لابد أن نسبر زمان (تمام الحول) ومكان النيروز (من المزارع إلى البحر)، ونكشف عن الباثين الأصلين فيه (المؤدين) عندها يمكن أن نتوصل إلى تأويل نهائي لعلامة (النيروز) كونها ذات دلالة على المستوى المعرفي الثقافي.
ومن ناحية أخرى يجب أن نقول أن المؤول النهائي التي ستفضي إليه هذه التأويلات الديناميكية وهذا السبر والكشف في السيرورة التواصلية التي تمثل العلامة في (النيروز) وتقع فيها عندما يقف المؤول أمام منطوق الخطاب الأسطوري الذي يمثل العلامة فإنه قد يندهش من لا معقوليته وعبثيته وخلوه من أي معنى يمكن أن يركن إليه العقل، غير أنه سرعان ما يلاحظ أن هذا الخطاب نفسه وإن اكتسى صيغة أخرى تبدو مختلفة في الظاهر يتكرر ظهوره في ثقافات أمم مختلفة متباعدة ولم يسبق لها أن التقت ببعضها أحياناً فهذا الخطاب موجود في أكثر من بلد عربي وإسلامي على الرغم من بعض الاختلافات التي قد نجدها ربما في الأداء العام، غير أن هذا التكرار وحده كافٍ للدلالة على أن هناك نظاماً يثوي وراء هذه الفوضى الظاهرة في الخطاب، وإن هناك عقلاً وراء لا معقوليته، ومعنى منسجم وراء عبثيته ولا معناه الظاهر؛ Çفالنظام والمعنى مترابطان ترابطاً يستحيل معه تصور أحدهما من دون الآخرÈ40، وعليه فإن التأويل سيأخذ أبعاداً ورؤىً قد تكون غير متسقة أو منسجمة مع بعضها وقد تكون خيالية أو غير قابلة للتخيل أو قد تكون مقبولة وعقلانية عند بعض المؤولين فسيرورة العلامة هنا سيرورة غير منتهية إلاَّ بموت العلامة (النيروز).
التشكل الفضائي للنيروز:
إن الإنسان سابح داخل فضاء واقعي، والوعي الإنساني ينجز نماذجه انطلاقاً من ثوابت مثل دورة الأرض (مسار الشمس في الأفق) حركة النجوم، الدورة الطبيعية للفصول. فهي ثوابت فيزيولوجية مهمة تحدد أنواع العلاقات التي يقيمها الإنسان مع العالم الخارجي. وكون الفضاء الكوني لا يمكن أن يُفهم إلاَّ بطريقة نظرية وبمساندة جهد عقلي خارق فإن Çالتعالق بين الوزن المتوسط لكائن بشري قوة الجاذبية والوضع العمودي للجسم أنتج مفهوماً كونياً حاضراً في كل الثقافات البشرية .. ..È41، وعليه فإن هذا الحضور نجده بارزاً في النيروز بوصفه أداء واعيا في التعامل والاندماج مع الواقع الذي يمثله الفضاء/ الكون؛ حيث يشكل نواة الالتقاء والانبعاث المطرد نحو الآخر، فنجده يتواصل مع الفضاء / الكون في زمانه المتشكل عبر دورة الكوكب حول نفسه والآخر، وعبر مكانه المسنن له والمتوارث عبر حقب زمنية، إنه مكان متصل من اليابسة إلى البحر، من الخضرة إلى الزرقة . ونجده يتواصل عبر هذا الواقع للولوج إلى عالم خيالي آخر يمثله الحيوان / الخرافة في تجلٍ يتضح ملياً حينما يتَّحد الواقع بالخيال ويمتزج في عالم واقعي واحد يمثله (النيروز).
يمكن أن نتبن هذا التشكل الفضائي للنيروز كما في الخطاطة السابقة:
إن الحياة البشرية الواعية أي الحياة الثقافية تفرض البنية المكانية Ð الزمانية الخاصة؛ لأن ثقافة ما تنتظم داخل إطار ينتمي لمكان وزمن خاصين، ولا يمكن أن يوجد خارج إطار هذه الحياة الواقعية. هذا التنظيم يتحقق مادياً في النيروز كما يقوم في الوقت نفسه بإنتاجه؛ فالعالم الخارجي الذي يجد الإنسان نفسه منغمساً داخله يعد موضوعاً لسيرورة سيميائية يبتكرها في هذا النوع من الفنون لكي يصبح عاملاً ثقافياً ذا تأويل وهو بناءً على ما تقدم يقسم إلى فضاءين فضاء مرئي واقعي، وفضاء غير مرئي خيالي يفترض أن يكون خارج نطاق الرؤية (في السماء، أو في البحر) إنه فضاء خيالي خالص.
وعليه فإن الصورة البارزة التي تنبثق من هذا التصور المزدوج تسهم في سيرورة توحيد سيمياء جديدة يشكلها النيروز كونه علامة، وبمساعدة الأداة الميتابنيوية التي تعد خاصة بها، فإنها Ð أي العلامة (النيروز) - تحصل على حق الحديث باسم الثقافة في كليتها؛ فهي ثقافة خاصة من حيث خصوصية تشكلها عبر الزمان والمكان، وعبر الباثين (المؤدين له)، بحيث تصبح هذه الثقافة تعبيرا جمعيا متفقا عليه ضمن سيرورة اجتماعية معينة في إطار نسق عام من المرجعيات على طول محور زمني (يتضمن الماضي، والحاضر ، والمستقبل)، ومحور مكاني (يتضمن الفضاء الداخلي، والفضاء الخارجي، والحد بين الاثنين) . وعلى ذلك فإن الواقع الفضائي بمكانه وزمانه الخاصين به يكون مسنناً ومقنناً داخل هذا النسق ليكون قادراً على أن يصبح محتويا لنص النيروز الذي يتشكل به ومنه .
في الثقافات الشعبية يهيمن الزمن الدائري كما رأينا من خلال العرض السابق لذا فإن النصوص المبدعة باتفاق مع قوانين الزمن الدائري لا تعد بالمعنى نصوصاً ذات حبكة Ð بالمعنى الأدبي- وبصفة عامة من الصعب وصفها في إطار المقولات التي تعد مألوفة لدى المتلقي العام . إذ يتم تصور النص بصفته نسقاً يتكرر باستمرار وبطريقة متزامنة مع السيرورات الدائرية للطبيعة؛ أي مع توالي الفصول في السنة وتعاقب الليل والنهار وغيرها من السيرورات المنتظمة في الفضاء / الكون. لذلك فإن العلامة (النيروز) يمكن وصفه بأنه نسق يتكرر إلى ما لا نهاية وهذا التكرار السنوي أو الدوري يفقده الحبكة والتشويق إلاَّ إذا تغير المتلقي العام إلى متلقٍ جديد لا يعرف سيرورة العلامة (النيروز) ضمن هذا النسق الفضائي .
حوار المشاركين في النيروز :
إن المساهمين في العملية التحاورية ضمن سيرورة العلامة (النيروز) توقفوا على تشكيل كائن واحد هو ما يشكل العلامة نفسها. غير أنهم ليسوا منفصلين تماماً فالعلاقة تبرز أن الحاجة للحوار ضمن هذه المنظومة منعدم ؛ فلكل عنصر من عناصر هذه المنظومة لغته وهيئته في إطار تشكل منظومة العلامة وليس خارجها ؛ إذ قد يحدث حوار خارج هذه المنظومة وهو لا يدخل هنا ضمن سيرورة العلامة (النيروز) ولا حتى في العملية التواصلية في هذه السيرورة .
هناك شرط ضروري للحوار في أية عملية تواصلية هو الانخراط المتبادل للمشاركين في التواصل وقدرتهم على تجاوز الحواجز السيميائية التي لا يمكن تجنب انبثاقها، هذا الشرط قد لا يصعب تحققه في سيرورة العلامة (النيروز) فلكل عنصر من العناصر دوره المستقل عن الآخر شكلاً والمكمل له مضموناً ولعل السبب في ذلك يعود إلى الجمود النسبي لبنية العلامة (النيروز) كونها بنية لها منظومة خاصة بها داخلياً وهي لا تُشرك الآخر (الخارجي / الجمهور) في هذه المنظومة من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذه البنية مرت بسيرورة متغايرة عبر الأزمنة؛ حيث مرت بوقت هدوء في تدفق النصوص القادمة من بنيات مرتبطة وهي توجد في مرحلة من النشاط الفعلي بعد ذلك تأتي مرحلة الإشباع على مر الأزمنة فتصبح اللغة مضبوطة، والنصوص مدمجة من الناحية البنيوية. فمولد النصوص يعد مؤطراً داخل هذه البنية في حين أن المتلقي / الجمهور يوجد في الهامش حينما يبلغ الإشباع عتبة معينة فإن البنية المتلقية تشغل آليات داخلية لإنتاج النص .
ولعل مثل هذه النصوص الشعبية ستتحول إلى حالة يقظة تبدأ في إنتاج نصوص جديدة تتصف ببنيات أخرى بما فيها البنية التي ولدتها هذه السيرورة حيث يمكن أن توصف بأنها نقل للمركز نحو الهامش لينتج المتلقي/ الجمهور نصوصاً أخرى ذات بنيات جديدة مستمدة من طاقة النسق السيميائي الأصيل الذي يشكل العلامة الأولى؛ فالنيروز بوصفه علامة قد تشكل عبر الأزمنة ليصبح نصاً ذا بنية مغلقة من حيث التواصل والتحاور مع الآخر / الجمهور.
وعلى الرغم من انغلاق هذا النسق التواصلي في شكله الظاهر إلاَّ أنه يحدث تواصلاً مع الآخر الفضاء/ الكون يتمثل هذا التواصل ضمن نسق البنية نفسها واتجاه العلامة في توليد رسالتها نحو هذا الآخر دون غيره، فالبنية اللسانية وغير اللسانية كما رأينا في تحليل العملية التواصلية تتجه مباشرة برسالة تبدو واضحة إلى متلقٍ صريح هو (البحر)، لتنتج عملية تواصلية تحاورية ضمن هذا النسق البنائي الموروث. فالباث يتوجه بالرسالة عن طريق العلامة (النيروز) بشكل إرادي أو غير إرادي فهو أداء ليس خاصاً بهذا الباث دون غيره وإنما هو نسق مغلق يؤديه وقد يؤديه غيره من الباثين ضمن سيرورة هذه العلامة ، على الرغم من ذلك فإنه لابد أن نقول أن هذه الفئة من الباثين لهم قدرة على مثل هذا التواصل أكثر من غيرهم لأنهم منطلق تشكل هذه العلامة وهم الأقدر والأجدر على إتمام سيرورتها التواصلية بما يتميزون به من موهبة وإبداع ليوصلوا رسالة هذه السيرورة إلى المتلقي المقصود.
الصوت والآخر في النيروز :
إن العلامات الصوتية هي مسموعة عند الذات التي تحدثها في الدنو المطلق لحاضرها. وليس للذات أن تخرج عن نفسها حتى تنفعل فوراً بنشاطها التعبيري فكما يقول دريدا: Çأحاديثي (حية) لأنها لا تفارقني؛ لا تقع خارجاً عني ، خارج نفسي، في بعد منظور؛ ولا تنقطع عن الانتماء إلي وعن أن تكون في متناولي (بلا تنميق)È42، وهي بعد ذلك مسموعة لدى الآخر المتلقي وهو متفاعل معها كما يتفاعل معها منتجها؛ ونحن نجد في النيروز شاهداً على هذا التفاعل؛ حيث يتفاعل المتلقي مع النغم الإيقاعي الذي تصدره الطبول (المسندو، والرحماني، والكاسر)43 التي تمثل جانباً مهماً وأساسياً من جوانب التواصل الصوتي في سيرورة هذه العلامة؛ حيث يقوم عليها مؤدون ذوو خصائص منتقاة من حيث القدرة الأدائية والخبرة الوظيفية في مثل هذا التواصل. إنهم قادرون على التواصل الصوتي بكفاءة عالية؛ لذا فإنهم سيشكلون سيطرة سمعية على المستوى التواصلي؛ إذ سيسيطر الصوت على عناصر سيرورة العلامة بشكل لافت وستظهر هذه السيطرة على الأداء الحركي للباثين والمتلقين عامة .
هذا التعالي الظاهر للصوت الإيقاعي ضمن منظومة العلامة (النيروز) سنجده متواصلاً مع النغم اللساني الذي يُصدره الباثون (المؤدون) من حيث الصوت الإيقاعي للأداء من ناحية، والإيقاع اللفظي من ناحية أخرى؛ فالأداء الصوتي الذي يقوم به الباثون هو نغمي إيقاعي مسنن ومقنن، تم تشكله عبر سيرورة العلامة (النيروز) الزمنية فله نوتة إيقاعية معرَّفة. أما الإيقاع اللفظي فهو إيقاع يظهر في المنظومة اللسانية للعلامة من حيث الإيقاع العروضي، والمحسنات اللفظية التي تنسجم مع الأداء الصوتي من جهة والإيقاع الطربي من جهة أخرى. وهنا يتَّحد الصوت مع الأداء النغمي والحركي في تشكيل الإيقاع الذي ينظم العملية التواصلية من الناحية الصوتية ليكون واحداً من أهم موجهات هذه السيرورة نحو الهدف التواصلي.
التشكل اللوني في النيروز:
إن تطور الفضاء الحدودي إلى المركز يمكن أن يلاحظ في معايير اللون وأسلوب الملابس والأردية التي تستخدم في تشكيل العلامة (النيروز)، لنأخذ بعين الاعتبار لباس الحيوان/ الخرافة مثلاً (الرداء الأخضر) المزركش بأصناف من النقوش والتطريز. إنه لباس خاص. واختيار هذا اللون المتسق مع ألوان الأغصان والنباتات يمثل قيمة ثقافية للون الأخضر في مسيرة هذه العلامة دون غيره من الألوان .
وبعيداً عن التأويلات التي يمكن أن تؤول للون الأخضر في تشكل هذه العلامة فإننا سنجد أن هذا اللون يصبح لاحقاً محايداً وأن التمازج بينه وبين اللون الأزرق الذي يمثله (البحر) سيشكل قيمة دلالية جديدة وذلك في نهاية مسيرة العلامة. وسيصبح هذا التمازج السمة الأكثر أهمية للنسق السيميائي المركزي. هكذا فإن انتصار هذا النسق السيميائي سيتضمن تحوله نحو المركز وفقدانه للونه الخالص Ð من الناحية السيميائية Ð إذ ستكون العلامة الجديدة هي تمازج اللونين (الأخضر والأزرق) وأهميتهما في هذه العلامة (النيروز).
ثم إن هذه العلامة البصرية المتشكلة من تشكيلات الألوان (الأخضر، والأزرق) اللذين يمثلهما النبات والبحر في سيرورة العلامة (النيروز) سنجد أنهما يشكلان رموزاً على المستوى الدلالي كما رأينا سابقاً بالإضافة إلى كونهما ألوانا لها دلالات مستقلة بوصفهما ألوانا خاما قبل تشكلهما في علامات (النبات ، والبحر).
المسافة / التجاورية :44
إن المسافة التي تفصل عناصر العلامة (النيروز) تشكل نظيراً إشارياً له دلالات؛ فعلى الرغم من أن هذه المسافة لا تكون واضحة بشكل كافٍ إلاَّ أنها تبرز في التقسيم المنفصل أو شبه المنفصل بين الذكور والإناث والأطفال كونهم عناصر مؤسسة للعلامة من جهة، والجمهور من جهة أخرى.
إن التجاورية هي الفضاء الفاصل الذي يكون بين المتواصلين إذ يشكل Òفائضاً مضمونياً يشير إلى دلالة جديدة تُضاف إلى العلامة اللسانية . مثال ذلك حجم المسافة الفاصلة بين متخاطبين يخبر عن طبيعة العلاقة بين المنخرطين في عملية الإبلاغ ؛ وهو ما ينعكس على الصوت ونبرته وتنغيمه (الهمس، الوشوشة، الكلام المسموع، الصراخ...) وهو ما يطلق عليه Ò العوالم الحسية المرافقة لكل فعل لفظيÓ 45؛ فالمسافة التي تفصل عناصر العلامة (النيروز) هنا هي مسافة مقننة اجتماعياً تعكس الثقافة المجتمعية لدى المتواصلين في هذه العملية التواصلية ويؤثر دلالياً على مستوى التأويل في الأداء الصوتي والحركي على السواء.
الخاتمة
إن جمعيات الخطاب تنجز وظيفتها بشكل مختلف جزئياً ووظيفتها هي الحفاظ على الخطابات أو إنتاجها لكنها تفعل ذلك لكي تجعل هذه الخطابات تتدوال في مجال مغلق، ولئلا توزعها إلاَّ وفق قواعد مضبوطة وبدون أن يؤدي هذا التوزيع نفسه إلى تجريد أصحابها منها. إن أحد النماذج القديمة قد قدم لنا من طرف مجموعة من المنشدين الذين كانت لهم خبرة بالأشعار التي ينبغي سردها أو تنويعها أو تحويلها؛ لكن هذه الخبرة التي لم يكن لها مع ذلك من هدف سوى السرد الطقوسي ، كانت خبرة محمية ومدافعاً عنها ومحفوظة ضمن جماعة معينة بواسطة تمرينات الذاكرة التي تقتضيها والتي هي في الغالب تمرينات معقدة؛ Çفالتعلم يجعل المرء يدخل في نفس الوقت في الجماعة وينخرط في السر الذي تعبر عنه عملية السرد لكنها لا تذيعه فالأدوار بين الحديث والاستماع لم تكن قابلة للتبادلÈ46
يرى بارت Roland Barthes وليفي ستراوس Claude Levi Strauss كما رأينا من خلال هذا البحث أن الأساطير تطبع الثقافة أو بتعبير آخر تجعل القيم الثقافية والتاريخية والمواقف والمعتقدات تظهر طبيعية وسويَّة وبديهية وخارج الزمن ومن الفطرة السليمة البيِّنة، لتبدو موضوعية وتعكس طريقة وجود الأشياء في حقيقتها؛ وعلى ذلك يمكن التوصل إلى نتائج عدة منها:
أن الأسطورة ككل كائن لغوي مكونة من وحدات مؤلفة وهذه الوحدات لغوية وسيميائية متعددة وهذا التعدد هو ما يشكل هذه البنية.
أن الأساطير تنطوي على معاني ودلالات فلا يمكن أن يتعلق هذا المعنى بعناصر معزولة تدخل في تكوينها بل بطريقة تنسيق هذه العناصر التي تشكل العلامة (الأسطورة).
إن خصائص الأسطورة ذات طبيعة معقدة وللكشف عن هذه الطبيعة لابد من تحليل عناصرها المشكلة لها بوصفها علامة لسانية وغير لسانية .
يشكل النيروز أنموذجاً فاعلاً للأساطير المتوارثة عبر الحقب التاريخية والتي تتميز بكونها نصاً أدائياً يحمل فكر الأسطورة.
أن النيروز كونه علامة فهو يشتغل ضمن سيرورة تواصلية متشعبة مع الآخر (الفضاء، الجمهور) ومع ذاته (من خلال عناصر تشكله) ضمن قصدية إبلاغية.
أن النيروز كونه نصاً متوارثاً فإنه قد لا يمثل حبكة أدبية أو سرداً إلاَّ ضمن مستويات تواصلية معينة.
ملحق تعريفي بالنيروز:
النيروز Ò التسييحةÓ: وهي عادة سنوية تؤدى بعد عودة أهل السواحل من قضاء الصيف في المنطقة المرتفعة والمزارع . يتم الاستعداد للنيروز من قِبل جميع أفراد القرية من كبار وصغار ومن بين هذه الاستعدادات :
تجهيز الطبول : إذ يستعد الرجال بتجهيز الطبول و تغيير جلودها إن كانت قديمة أو مهترئة ومن ثم تحمى على النار .
تزين وتجهيز Ò أدمبوشهÓ idampo:seh وهي على شكل الخيل المزينة بالملابس والشراشف بحيث يدخل فيها ثلاثة من الرجال أحدهم يقف في المقدمة والآخران يمسكان به من الخلف ليمثلا ظهر الخيل ومؤخرتها ، يهتم الرجال والنساء بها ويلبسونها الملابس الفاخرة ، ويجهزون القناع الذي يوضع على الوجه باستخدام عناصر البيئة المختلفة كسعف النخيل ، أما في الوقت الحاضر فيضعون لها قناعا صناعيا .
يتم زراعة ما يسمى بـ Ò ثمر النيروزÓ وهي ثمار صغيرة تتميز بسرعة نموها كـ Ò ثمار الحبوب والبقوليات المتوفرة Ó ، تقوم النساء بزراعتها في أوعية صغيرة باستخدام الرمل والطين ثم يقمن بسقيها والعناية بها إلى أن يحين موعد النيروز .
النيروز أربع عشرة يوماً يبدأ بزفة النيروز إذ يتجمع الناس كباراً وصغاراً عند الوادي فتكون Òالدمبوشه Ó في المقدمة خلفها الرجال بالطبول والغناء ، خلفهم النساء يرفعن الغصون الخضراء وخلفهن البنات الصغار يحملن أوعية زراعة النيروز كرمز للخصب .
تسير هذه المسيرة بالغناء من قِبل الرجال والنساء ومن بين الأغاني التي تغنى في النيروز:
Ò يا بنات الهنود، وسيحنوه النارجيله، ويا حمامة يا سفرجله، وأذا الجبل ما رمت أطلعه هوك هوك فيه سلا وفيه شوك Ó
والرجال في المقدمة يقودون خيل النيروز Ò الدمبوشه Ó إلى أن يصلوا بها إلى الساحل.
وما أن يصلوا إلى الساحل حتى يتوقفوا للاحتفال فيقرعون الطبول ويغنون وينشدون، والجماهير ملتفة حولهم مستمتعين بما يشاهدون، حتى إذا ما انتهوا خاضوا البحر بالدمبوشه وأنشدوا :
Ò ساح ساح ساح نيروزنا ، ساح ساح ساح بالعندق ، ساح ساح ساح بالسهوة، ساح ساح ساح بالكنعد ، ساح ساح ساح بالجيذر...Ó،
ثم ترمي النساء بالغصون الخضراء في عرض البحر، خلفهن ترمي الفتيات بالأوعية التي تحوي زراعة النيروز .
وهنا ينتهي توصيل النيروز، ولم يبق سوى إنشاد الإياب فيرجعون وهم يغنون:
Ò يونية يا نيناÓ.
يحرص أهالي هذه المناطق على موسم النيروز ذلك لأنهم يعتقدون به طلباً للرزق ووفرته في البر والبحر ، كما يعتبر موسم النيروز من المواسم التي يستشفى بها ؛ إذ يأتي الناس ممن يعانون من أمراض جلدية من كل حدب وصوب يقصدون البحر في هذا الموسم فيستحمون فيه مرات عديدة طلباً للشفاء.47
ملاحظات ومراجع
1: حيمر.عبد السلام، في سوسيولوجيا الخطاب ( من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل) . مرجع سابق . ص 21 .
2: إيكو ، العلامة (تحليل المفهوم وتاريخه) ، مرجع سابق . ص 273 .
3: تشاندلر، دانيال، أسس السيميائية ،ترجمة د. طلال وهبه. المنظمة العربية للترجمة ، بيروت ، 2008م. ص 246 .
وانظر :
Sless . David,In Search of Semiotics . British Library Cataloguing in Publication Data ,1986 . P46 .
4: Barthes . Roland , Mythologies . Hill & Wang , New York . P109 .
5: تشاندلر ، أسس السيميائية، مرجع سابق. ص 247 ، وانظر :
Sless ,In Search of Semiotics .Ibid . P43 .
6: Sless ,In Search of Semiotics . Ibid . P43
وانظر
Barthes , Mythologies Hill & Wang , New York . P110-112 .
7: ستراوس. كلودليفي، الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة د. مصطفى صالح. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977م . ص 248 .
8: تشاندلر ، أسس السيميائية، مرجع سابق . ص 250 .
9: المرجع السابق نفسه . ص 206 .
10: حيمر، في سوسيولوجيا الخطاب ( من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل) ، مرجع سابق . ص 47 .
11: Deledalle. Gerard, Semiotics and Pragmatics. Copyright , 1983 . p 45 .
12: بنكراد . سعيد ، السيميائيات (مفاهيمها وتطبيقاتها) . منشورات الزمن ، الدار البيضاء ، 2003م . ص 60-61 .
وانظر :
Lidov . Daid,Elements of Semiotics . Macmilian Press , London ,1999 . P91 .
13: دي سوسير . فرديناند ، محاضرات في علم اللسان العام ، ترجمة عبد القادر قنيني . أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 2008م . ص 29.
14: تشاندلر ، أسس السيميائية ، مرجع سابق . ص 366
وانظر:
.Spinks,Jr.C.W, Semiosis,Marginal Signs and Trickster .Macmillan,1991. p55
وانظر:
Buchler . Justus . philosophical Writings of Peirce . Dover Publications , INC . New York . p 98 .
15: ستراوس ، الأنثروبولوجيا البنيوية ، مرجع سابق . ص 246 .
16: تشاندلر ، أسس السيميائية ، مرجع سابق . ص 248 .
17: Roland , Mythologies . Ibid . P142 .
18: تشاندلر ، أسس السيميائية ، مرجع سابق. ص 204 .
19: قاري . محمد ، سيميائية المعرفة المنطقية (منهج وتطبيقه) . مركز الكتاب للنشر ، القاهرة ، 2002م . ص 66 .
20: حيمر ، في سوسيولوجيا الخطاب ( من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل) مرجع سابق ، ص 75 .
21: المرجع السابق نفسه . ص 20 .
22: إيكو ، العلامة (تحليل المفهوم وتاريخه) ، مرجع سابق . ص 203 .
23: المرجع السابق نفسه . ص 204 .
24: المرجع السابق نفسه. ص 314 .
25:جاكبسون، مونان وآخرون، التواصل(نظريات ومقاربات)، ترجمة عز الدين الخطابي، وزهور حوتي. منشورات عالم التربية ، الدار البيضاء، 2007م . ص 194 .
26: لوتمان. يوري، سيمياء الكون، ترجمة عبد المجيد نوس. المركز الثقافي، الدار البيضاء، بيروت، 2011م، ص 15.
27: قريات عبر التاريخ ، حصاد الندوة التي أقامها المنتدى الأدبي في 25-26 ديسمبر 2006م. المنتدى الأدبي، سلطنة عمان، 2008م. ص 130.
28: السفرجل: ثمار من الحمضيات .
29: سيحنوا : هي من مادة (س ي ح ) والأصل (سيحنا) والواو آتية من الضم الشائع في اللهجة ثم تحول هذا الصائت القصير إلى صائت طويل .
والمعنى المقصود هو (خاضنا).
30: ما رمت : أي ما استطعت .
31: العندق ، والسهوة ، والكنعد ، والجيذر : من أجود أنواع الأسماك المعروفة في السلطنة .
32: المرجع السابق نفسه . ص 130 .
33: المرجع السابق نفسه . ص 130 .
34: دريدا. جاك، الصوت والظاهرة (مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل) ، ترجمة د . فتحي إنقزو. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 2005م . ص 124 .
35: دولودال . جيرار و ريطوري . جوويل ، السيميائيات أو نظرية العلامات / مدخل إلى سيميوطيقا شارل س . بيرس، ترجمة /عبد الرحمن بوعلي .ب ب ، ب ت.. ص 132 .
36: قاري ، سيميائية المعرفة المنطقية (منهج وتطبيقه) . مرجع سابق 2002م . ص 71 .
37: توسان . برنار، ما هي السيميولوجيا ، ترجمة محمد نظيف . أفريقيا الشرق، الدار البيضاء ، 2000م. ص93 .
38: دي سوسير ، محاضرات في علم اللسان العام ، مرجع سابق. ص 34-35 .
39: حيمر ، في سوسيولوجيا الخطاب ( من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل) . مرجع سابق. ص 49 .
40: المرجع السابق نفسه.ص 50.
41: لوتمان، سيمياء الكون، مرجع سابق ، ص 38 .
42: دريدا ، الصوت والظاهرة (مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل) ،مرجع سابق. ص 125 .
43: أنواع من الطبول معروفة في سلطنة عمان .
44: Knapp .L . Mark ,Nonvarbal Communication in Human Interaction , Edition 2 . Copyright .Holt , Rinehart and Winston . 1972 . P 70.
وانظر
. Spinks,Jr . C . W, Semiosis,Marginal Signs and Trickster . Macmillan, 1991 . p35-37 .
45: بنكراد . سعيد ، استراتيجيات التواصل / من اللفظ إلى الإيماءة . علامات / مجلة ثقافية محكمة ، عدد 21 ، الرباط ، 2004 . ص 11 ، و
G.Harper . Non verbal Communication: The State of the art. Ibid . p250
46: فوكو.ميشيل، نظام الخطاب، ترجمة د . محمد سبيلا . دار التنوير للطباعة والنشر ، بيروت ، 2007م . ص30 .
47: قريات عبر التاريخ ، . مرجع سابق. ص 130. ووحدة التراث والأدب لليمن ودول الخليج العربي، مجموعة من الباحثين ، الكتاب1 . مؤسسة دار الكتاب الحديث، بيروت ، ودار الثقافة العربية، الشارقة . 1996م . ص 272-273